بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 5 مايو 2013

معضلات السياسة الخارجية لليابان وكيفية حلها


معضلات السياسة الخارجية لليابان وكيفية حلها

 

كتب: ميسرة عفيفي

تتكون دولة اليابان من أرخبيل من الجزر التي يفوق عددها ستة آلاف جزيرة. وهي بذلك منعزلة عن باقي دول الجوار ولا يوجد تواصل جغرافي بينها وبين ما حولها من دول. وهذه العزلة الجغرافية في المكان خلقت نوعا من العزلة النفسية ونشأ حاجزا روحيا بين اليابانيين وباقي شعوب العالم، خاصة وأن عبور البحار والمحيطات التي تعزل اليابان لم يكن بالشيء السهل أو الهين في قديم الزمان قبل اختراع وسائل النقل والمواصلات الحديثة.

أقرب البلاد إليها هي شبه الجزيرة الكورية والصين ثم في الشمال روسيا. (ولديها بالمناسبة مشاكل حدودية معهم جميعا). وعلاقة اليابان التاريخية بدأت مع تلك الدول القريبة وخاصة الصين وكوريا. ولأن الصين هي إحدى الإمبراطوريات العظمى في العالم القديم فقد كانت العلاقات اليابانية بها هي علاقة تأثر في اتجاه واحد من الصين إلى اليابان، تنقل اليابان من الصين مباشرة أو عبر شبه الجزيرة الكورية بعض من حضارتها وثقافتها وفنونها .. إلخ. فتأثرت اليابان بشكل كبير بالصين رغم أنه من المتعارف عليه هو الاختلاف الكبير بين سكان الدولتين. أخذت اليابان في القرن الخامس الميلادي عن الصين حروف الكتابة "الكانجي" التي لا زالت تستخدمها حتى الآن، وفي القرن السادس دخلت الديانة البوذية إلى اليابان كذلك عن طريق الصين. وأيضا تأثرت اليابان كثيرا بتعاليم كونفوشيوس، خاصة في الأخلاقيات العامة وكذلك الشئون السياسية، ولكن في كل تلك الحالات نجد أن زمام المبادرة كان من اليابان نفسها فهي التي كانت تلجأ إلى جارتها الكبرى الصين لتأخذ منها ما تحتاج إليه. حتى في مجال الدعوة الدينية فمجئ البوذية إلى اليابان كان بطلب من الإمبراطور الحاكم لليابان وقتها الذي دعا أشهر رهبان البوذية الصينيين "غانجين" للمجئ إلى اليابان والتبشير بالبوذية.

أما تعامل اليابان مع الغرب فكما شكلت المياه المحيطة باليابان حائطا يحجزها عن التواصل البشري مع الآخرين إلا أنها كانت كذلك حصنا يحميها من طمعهم وغزوهم لها. ومن هنا بدأت ما يمكن أن نطلق عليها عقدة اليابان الدبلوماسية. فعلى مدار التاريخ كلما حاولت اليابان أن تنفتح على العالم وتطبع معه علاقتها، كلما وقعت في ورطة أو كارثة بسبب اختلاف طريقة التفكير واختلاف الكثير من القيم والمفاهيم، وتجد نفسها في النهاية أمام دول قوية عملاقة تطمع فيها.

بدأت علاقة اليابان مع الغرب الأوروبي في منتصف القرن السادس عشر تقريبا عندما جاء الراهب اليسوعي فرانشيسكو دي زافيير إلى اليابان ومكث فيها حوالي عامين ونجح إلى حد كبير في تعميد عدد لا بأس من اليابانيين وإدخالهم في المسيحية. ولكن كانت تلك الواقعة سببا رئيسيا في تبني حكام اليابان العسكريين (الساموراي) فيما بعد لسياسة الإنغلاق والإنعزال التام عن العالم ومنع دخول وخروج أحد منها وإليها لفترة تقترب من الثلاثة قرون من منتصف القرن السادس عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر.

السبب الرئيسي في ذلك هو أن تلك الفترة كانت فترة الاستعمار الأوروبي لدول العالم المختلفة في أفريقيا وأسيا والأمريكتين. ووجد الساموراي اليابانيين أن دخول التبشير المسيحي لبلد يسبق دخول الاستعمار إليه، ونجاح الراهب اليسوعي زافيير في خلق جماعات مسيحية يابانية، هددت سلطة الساموراي وسببت لهم الكثير من المشاكل الداخلية والخارجية مما داعى الحاكم تويوتومي هيديوشي إلى إصدار قرار بمنع المسيحية وبدأ في اضطهاد وقتل المسيحيين في اليابان إلى أن جاء الحاكم توكوغاوا الذي انفرد بحكم اليابان في عام 1603 بعد حروب أهلية طاحنة، فأتم هو وعائلته من بعده القضاء التام على المسيحية في اليابان وتنفيذ سياسة الانغلاق بشكل كامل وتحريم التجارة الخارجية إلا مع هولاندا "البروتستانتية" التي وافقت على علاقات تجارية بحتة مع اليابان بدون نشاط تبشيري. ويقال إن تلك السياسة هي التي حمت اليابان الدولة الصغيرة التي تقع في أطراف العالم من الوقوع في براثن الاستعمار الأوروبي الذي احتاج العالم كله أو أغلبه، حتى أن "شمس الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب" كانت تغيب في اليابان. ولكن من جانب آخر أدت سياسة الانغلاق تلك التي طالت كل هذه الفترة إلى بطء التطور في اليابان وسبب الانعزال في تأخر وتخلف اليابان علميا وتقنيا عن العالم الغربي، مما أدى إلى حدوث الصدمة التالية في علاقات اليابان الخارجية، وهي ما يسمى في التاريخ الياباني "حادثة السفن السوداء".

السفن السوداء هي كناية عن الأسطول الأمريكي بقيادة ماثيو بيري الذي اقتحم المياه الإقليمية اليابانية عنوة، وهدد حكام اليابان إما عقد اتفاقية تجارية مع أمريكا أو استخدام القوة العسكرية وفرضها عليهم. وقتها كانت أمريكا تبحث لها عن مكان بين الإمبراطوريات الأوروبية التي تحتل العالم فلم تجد إلا جنوب شرق أسيا لتقوم باستعمار جزء منها الفلبين وبعض جزر المحيط الهادئ، وكانت موانئ اليابان بالنسبة لها محطة هامة للغاية للتزود بالمواد التموينية من مياه وفحم وأطعمة وخلافه لمواصلة طريقها من الساحل الغربي الأمريكي إلى شرق وجنوب شرق أسيا. ولكن سياسة الانغلاق اليابانية كانت لا تسمح إلا لسفن دول محدودة جدا بالدخول إلى موانئ اليابان. وبالطبع لم يكن من ضمنها أمريكا.

بعد ذلك توالت الدول الأوروبية الكبرى على اليابان تعقد معها اتفاقية ثنائية على الطريقة الأمريكية أغلبها يتميز بعدم المساواة وتفضيل الجانب الأجنبي بسبب قوته العسكرية.

وسببت تلك الأحداث صدمة حضارية هائلة لليابانيين، وخاصة صغار الساموراي الذين تربوا على أخلاق الساموراي وأخلاق الفروسية في الكرامة والكبرياء وعدم السكوت على الضيم. فقام صغار الساموراي بعمل ثورة هائلة أدت في النهاية إلى إنهاء الحكم العسكري ذاته، حكم الساموراي عام 1868 وتحولت اليابان إلى دولة مدنية عصرية حديثة تحت قيادة إمبراطور البلاد "الإمبراطور ميجي" تحت شعار يجب اللحاق بالغرب. والقصد هو اللحاق بهم حضاريا وعلميا وعسكريا.

وضعت حكومة ميجي دستورا عصريا لليابان على النهج الأوروبي تحت اسم "دستور إمبراطورية اليابان العظمى"، وقررت أن تصبح مثل الدول الأوروبية الكبرى في عالم لا يعترف إلا بالقوة العسكرية، إن لم تكن آكلا فأنت بالضرورة مأكول. وكان الانفتاح الإيجابي نحو العالم الخارجي الذي أدى في النهاية إلى تلقي اليابان صدمة جديدة في علاقاتها الخارجية.

بعد أن استلهمت اليابان التجربة الأوروبية بدأت في التحول إلى إمبراطورية قوية وبدأت تبحث لها عن مكان تحت شمس الاستعمار فبدأت في احتلال دول وفرض وصايتها على دول أخرى وأصبحت قوة هائلة ذات بأس في شرق وجنوب شرق أسيا ونطاق المحيط الهادئ مما أدى لصدامها مع الدول الكبرى ولكنها ظلت تحقق انتصارا وراء آخر، من الفوز على الصين إلى الفوز على الإمبراطورية الروسية القيصرية إلى خروجها منتصرة في الحرب العالمية الأولى وهكذا وضعت لها قدم في نطاق الدول الكبرى التي لابد أن يُحسب لها حساب. حتى وصل الأمر إلى استعداء الدول الأوروبية وأمريكا ودخولها الحرب العالمية الثانية ضد دول الحلفاء، مما أدى إلى النهاية المأسوية التي انتهت بها تلك الحرب من هزيمة منكرة واستسلام تام وكامل بلا شروط. وتدمير كامل وتام للدولة العصرية الحديثة التي تم بناءها في خلال ما يقرب من قرن كامل وتحويلها إلى أنقاض بعد ضربها بقنبلتين ذريتين في هيروشيما ونجازاكي، وتحويل كل المدن اليابانية الكبرى مثل طوكيو وأوساكا وناغويا ويوكوهاما وفوكوأوكا وكاواساكي وأوموري وكوتشي وأوكاياما ... إلخ، إلى أطلال مدمرة من خلال خطة "القصف الجوي السجادي" التي نفذتها القوات الأمريكية انتقاما من تدمير اليابان لميناء بيرل هاربر العسكري. وأدت الحرب إلى وقوع اليابان تحت الاحتلال الأجنبي لأول مرة في تاريخها المعلوم الذي يصل إلى أكثر من ألفي عام.

وتحت الاحتلال وضعت اليابان ثاني دستور في تاريخها تحت اسم "دستور دولة اليابان"، وهو الدستور الحالي الذي صدر عام 1946 وتم تطبيقه في العالم التالي، ولا زال هو المطبق في اليابان حتى الآن، ولم يتغير منه حرف حتى بعد انتهاء الاحتلال الذي استمر لمدة سبعة أعوام في عموم اليابان ولمدة أكثر ربع قرن (من عام 1945 إلى عام 1972) في إقليم أوكيناوا. وينص الدستور في المادة التاسعة منه على بندين الأول هو التخلي عن الحرب أو أية أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية، والبند الثاني هو عدم امتلاك أية قوات برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوة العسكرية ولا تعترف الدولة بحقها في خوض الحروب.

بسبب تلك المادة المثيرة للجدل وبغض النظر عن إشكالات وضعها بشكلها هذا في الدستور هل هو بناء عن رغبة يابانية ذاتية أو كان بإيحاء من جيش الاحتلال، إلا أن النتيجة النهائية هي اعتماد اليابان كلية على قوة الولايات المتحدة التي تزعمت العالم الغربي بعد الحرب، في حماية أراضيها. وتبعا لذلك أصبحت علاقات اليابان الخارجية تدور في فلك المصالح الأمريكية ولا تبعد عنه إلا بمقدار محسوب وفي معظم الأحوال مرضي عنه من الطرف الآخر وهو الأمريكان.

ولكن بفضل مظلة الحماية الأمريكية تلك، استطاعت اليابان وبمساعدة القوى الغربية إعادة إعمار الدولة المنهارة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بل إنها في المجال الاقتصادي حققت معجزة اقتصادية بهرت العالم كله وتحولت من الحضيض إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة وتخطت دول كبرى منتصرة ومنهزمة في الحرب على السواء غربية أو شرقية، مثل الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وألمانيا .. إلخ. ولكن اليابان رغم أنها أصبحت عملاقا اقتصاديا ينازع القمة على مستوى العالم إلا أنها من الناحية السياسية لم تكن لها ذلك التأثير في السياسية الدولية الذي يتناسب مع وضعها الجديد. ويعود ذلك بالأساس إلى ما يمكن أن نسميه فقر اليابان في السياسة الدولية.

أعتقد أن أغلب دول العالم تريد من اليابان أن تضطلع بدور إيجابي في المجتمع الدولي وتكون على قدر قامتها الاقتصادية، لتخلق بذلك نوعا من التوازن الدولي المفقود بعد انهيار الكتلة الشيوعية السابقة وهيمنة الولايات المتحدة بشكل شبه منفرد على المجتمع الدولي.

ولكن اليابان حاليا واقعة بين نارين. فكما سبق أن ذكرت دستورها ينص على عدم امتلاك قوة عسكرية تحمي بها نفسها من الطامعين، ويفرض عليها التنازل على خيار الحرب. وتعتمد على حماية نفسها على القوات الأمريكية التي توجد على أراضيها في قواعد عسكرية في أوكيناوا وغيرها من مدن اليابان. ففرضا إذا أعلنت اليابان تخليها عن أمريكا كحليف، فليس أمامها إلا التحالف مع الصين مثلا، لتعوض القوة العسكرية الأمريكية التي كانت تحميها. وبالتالي سيكون عليها أن تدور في الفلك الصيني هذه المرة ولن تستطيع أن تبعد عنه. واليابان جربت بالفعل الدوران في فلك المصالح الغربية والأمريكية على وجه التحديد، وحصلت منه على ما يناسبها، تقدم علمي واقتصادي وتكنولوجي من جهة، ومن جهة أخرى سلام داخلي وخارجي دائم وعدم خوض أي حروب وعدم تكبّد أية خسائر مادية أو بشرية. فالتحول عن ذلك المسار لا يعني إلا الدخول في المسار المضاد الذي لا يُعرف محتواه ولا مآله. أما المسار الثالث وهو أن تكون اليابان دولة طبيعية مستقلة ذات سيادة لديها القدرة على حماية نفسها بنفسها، فدون ذلك خرط القتاد كما كان يقول أجدادنا العرب. فلا الغرب ولا الشرق ولا أمريكا ولا الصين ولا روسيا ولا أية دولة ذات شأن ستسمح وتوافق على ذلك. بل قبل ذلك اليابانيون أنفسهم، سترفض الأغلبية ذلك، والدستور الحالي يُحرّم ذلك.

لذلك فكما هو موضح أعلاه في العنوان، تمثل السياسة الخارجية معضلة عويصة للسياسيين والدبلوماسيين اليابانيين.

ولكن رأيي المتواضع أن اليابان تستطيع عمل تغيير حاسم في سياستها الخارجية دون التحول إلى أي من المسارين السابق ذكرهما، وهما العدول عن التحالف مع الولايات الأمريكية والتحالف مع الصين مثلا، أو تغيير الدستور وتكوين جيش قوي يحمي مصالحها ويحميها من الاثنين.

فاليابان وعلى مدى ما يقرب من سبعة وستين عاما لم تشارك في أي حروب ولم تعتدِ على أية دولة ولم تقتل أي إنسان من دولة أجنبية، بل لم تطلق رصاصة واحدة من بنادقها في أي نزاع. وباستنثاء فترة صغيرة للغاية لا تزيد على العقدين في تاريخها الطويل لم تقم اليابان باحتلال أية دولة أو العدوان على أراضي الغير، والجرائم التي قامت بها العسكرية اليابانية في أثناء الحرب العالمية الثانية (وبالطبع ليس في نيتي التقليل أو التهوين من تلك الجرائم البشعة بحال من الأحوال) هي بنت عصرها وكما ذكرت في بداية الكلام دُفعت اليابان دفعا إلى هذه الطريق في عالم متوحش لا يرحم، وإلا فاليابان كانت منعزلة عن العالم منغلقة على نفسها كافية خيرها شرها، والقوة العسكرية هي التي أجبرتها على الانفتاح والدخول في صراعات هذا العالم، الذي أتقنت اليابان إلى حد ما تقليد الغرب فيه وتغلبت عليه إلى حين، حتى أتاها اليقين بالقنابل الذرية، وإنها لا يجب أن ترفع أعينها فوق أعين الأسياد.

ما أريد أن أقوله هو أن تاريخ اليابان باستثناء سنوات قليلة ومع دول قليلة، هو تاريخ السلام والعلاقات الودية. فمثلا نحن في المنطقة العربية لا نحمل تجاه اليابان أي مشاعر كره أو غضب، ولا يوجد بيننا أي تاريخ سلبي ولا أية صراعات أو حروب. فيجب أن تكون العلاقات العربية اليابانية أكثر قوة وفاعلية مما هي عليها الآن، أي العلاقات الحالية جيدة والتعاون بين العرب واليابان تعاونا وثيقا وقويا، ولكن أعتقد أنه من الممكن تطوير ذلك التعاون وخلق تعاون استراتيجي قوي بعيد عن أي تجاذب وتنافر بين القوى العالمية الكبرى. نحن العرب واليابان متشابهون إلى درجة كبيرة في عادتنا وتقاليدنا العريقة، حتى ما سبق أن ذكرته من أخلاق الساموراي تشبه كثيرا أخلاق الفروسية العربية الأصيلة.

أعتقد أن على اليابان تقوية علاقاتها الخارجية مع دول العالم كافة، والخروج من حالة الاستقطاب الحالية إما أمريكا أو الصين، وعليها محاولة خلق تعاون استراتيجي جديد. وقد ضربت مثلا بالمنطقة العربية ولكن أيضا هناك المجال الأفريقي وأمريكا اللاتينية ودول أسيا الوسطى وجنوب غرب أسيا. يجب على اليابان التعافي من "الديلما" (Dilemma) التي وقعت فيها بسبب تجاربها المريرة في التعامل مع العالم على مدار تاريخها وكما ذكرته ملخصا فيما سبق.

أعتقد أن اليابان في الوقت الحالي وبسبب علاقتها القوية مع دول العالم المختلفة التي تأسست بعد الحرب وبناء دستور السلام الياباني، على السلم والتعاون والمصالح المشتركة، خاصة علاقتها المتينة مع الدول النامية من خلال مساعدات اليابانية الإنمائية الرسمية (ODA) تستطيع أن تؤسس لنهج جديد في السياسة الخارجية التي لا تعمد على قوة عسكرية ولا تعتمد على الردع ولا الخوف المتبادل.

على اليابان أن تستعيد ثقتها في نفسها وفي قدرتها على إقامة علاقات خارجية لها تعتمد على السلم والتعاون وتبادل المصالح بدون خوف أو ردع.

 

 

 

السبت، 4 مايو 2013

رواية الأديب الياباني الشهير كيئتشرو هيرانو "الكسوف"

كيئتشرو هيرانو روائي ياباني من مواليد عام 1975. نشر أول رواياته "الكسوف" عام 1998 وهو مازال طالباً في العام النهائي من كلية القانون بجامعة كيوتو اليابانية. نالت الرواية إحدى أكثر الجوائز اليابانية شهرة في الأدب في العام التالي وهو عام 1999 التي تسمى جائزة "أكتاغاوا".
وأثارت الرواية جدلاً كبيراً في الأوساط الأدبية اليابانية لعدة أسباب، أولها أن الكاتب رغم أنها أول رواية له، ورغم أنه مازال طالباً جامعياً حصل بها على هذه الجائزة العريقة في اليابان. وثاني الأسباب هو موضوع الرواية، فالرواية ليس لها أي علاقة من قريب أو من بعيد باليابان، أحداثها تدور في أوربا آبان عصور الظلام ومحاكم التفتيش، وتحكي عن تسلط الكنيسة على مقدرات الأمور في آواخر القرن الخامس عشر. ثالث أسباب حصول الرواية على الإهتمام الكبير من المختصين وغير المختصين هو طريقة كتابتها.
فهذا الشاب الذي لم يتخرج بعد من الجامعة، يكتب عن الصراع الفكري الذي دار في أوروبا أثناء العصور الوسطى، مستخدماً اللغة اليابانية التي كانت تستخدم في نفس العصر تقريباً!!
أي أنه استخدم الكلمات والمصطلحات القديمة جداً التي لم تعد تُستخدم أغلبها الآن في كتابة اللغة اليابانية. لذلك لا يستطيع القارئ العادي، بل والمتخصص قراءتها دون الاستعانة بالمعاجم والقواميس التي تشرح معنى وطريقة قراءة كلمات الرواية. وقيل أن بعض أعضاء اللجنة التي قررت منح الرواية جائزة "أكتاغاوا شو" لم يستطع قراءتها دون العودة إلى المعجم من حين إلى أخر.
تقع الرواية في 189 صفحة من القطع المتوسط، وصدرت لأول مرة في أكتوبر عام 1998 عن دار "شين تشو للنشر". تبدأ الرواية بمقدمة "إبيلوغ" عبارة عن سطر اقتبسه المؤلف من "لاكتانتيوس" يقول فيه: < لقد طرد الله الإنسان من الجنة، وحتى لا يعود لها ثانيةً أحاطها بجهنم > يقول ناقد ياباني إن هذه العبارة هي خُلاصة ما يريد هيرانو إبلاغه من هذه الرواية.
تدور الرواية على لسان ضمير المتكلم، وهو هنا بطل الرواية القس نيقولا طالب علم اللاهوت في جامعة باريس على شكل مذكرات يكتبها بعد فترة من انتهاء أحداثها. ويخصص البطل أول صفحات المذكرات في كتابة شرح لها يقول فيه: < سأبدأ من الآن في تسجيل ذكريات ذاتية، أو الأصح أن نطلق عليها اسم اعترافات. ولكونها اعترافات، فقد أخذت عهداً على نفسي ألا أكذب، وأن أقول الحقيقة فقط ، في البداية أقسم باسم الرب على ذلك. >
ثم يشرح أن سبب إعلانه هذا العهد هو خوفه من عدم تصديق القرّاء له، لما تحتويه المذكرات من أحداث غير معقولة. وخوفه أيضاً من النفس الأمارة بالسوء أن تجنح إلى الكذب، أو إلى الخيال لإكمال ما لم يتم في الواقع. أو أن تجنح إلى إخفاء ما لا ينبغي إخفاءه. ثم بعد ذلك يبدء في تسجيل وقائع حدثت له أثناء رحلته من مدينة باريس إلى مدينة ليون في بداية عام 1482 للحصول على أحد الكتب التي كانت نادرة في ذلك الوقت. وبعد وصوله إلى ليون يقابل أسقف المدينة الذي يقترح عليه الذهاب إلى مدينة فلورانسا، لا لكي يحصل على الكتاب المذكور فالأسقف نفسه معه نسخة من الكتاب، ومستعد لإعطاءه إياها، ولكن لكي يشاهد على أرض الواقع ما يحدث في تلك الأرض التي يقول عنها: < يوجد في جنوب جبال الألب عالم يختلف تماماً عن عالمنا، قولي هذا ربما يوحي أنه عالم سحري ورائع، لكنني لست متأكداً من كونه عالماً جيداً أم على العكس عالماً سيئاً. ولا أستطيع القول ببساطة، هل جبال الألب هي حصن يحمي عالمنا، أم هي حامية تحرس ذلك العالم الجديد. لذلك أريدك أن تذهب إليها، وتتأكد من ذلك بنفسك. >
ثم يقترح عليه أيضاً أن يعرج في طريقه على قرية صغيرة قريبة من مدينة ليون، يوجد بها رجلٌ يسمى بيير يحاول صناعة الذهب الخالص مستخدماً العلوم الحديثة من كيمياء وفيزياء، ويدعوه لمقابلته للتعرف عليه وعلى التجارب التي يقوم بها. فيذهب نيقولا بالفعل إلى القرية التي يبقى فيها إلى نهاية الرواية تقريباً.
هذا هو الإطار العام للرواية التي تمتلئ بنقاشات عديدة عن الفلسفة واللاهوت والعلوم الحديثة. وتبرز الرواية الصراعات التي كانت دائرة على أشدها بين المتزمتين، وبين أصحاب العقول المتحررة الذين يحاولون الأخذ من العلم بما لا يتعارض مع الدين. وتحكي كيف حوّل أنصار التخلف الصراع الفكري إلى وجهة أخرى هي صيد الساحرات، ومحاكم التفتيش، وإطلاق تهمة الهرطقة على كل من يخالفهم في الرأي حتي لو كان عالماً لاهوتياً كبيراً.
اللافت للنظر في الرواية أن الكاتب يقرر ولكن بطريق غير مباشرة أن الأفكار العلمية المتحررة وفلسفة اليونان القديمة، انتقلت إلى الغرب عن طريق المسلمين. بدليل ذكره لمدينة فلورانسا وإنتشار الآراء المستنيرة فيها بسبب قربها من البلاد الإسلامية، وإزدهار التجارة بينها وبين دول شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط.
وكذلك ذكره أيضاً لإبن رشد وتأثيره على الفكر الأوروبي بوجه عام، إلى حد أن تكون هناك طائفة علمية يطلق عليها إسم "الرشديين". وذكره أن بيير الخيميائي في القرية النائية، الذي يحاول صناعة الذهب الخالص يعتمد ضمن مؤلفات عدة، على كتاب "الكيمياء" لجابر بن حيان. إلى غير ذلك من الشواهد التي لا يتم التركيز عليها وإنما تُذكر بشكلٍ عابرٍ.
تنتهي الرواية بالقبض على بيير الخيميائي، الذي يعتبر بطل الرواية الحقيقي، بتهمة الزندقة وممارسة السحر الأسود. في حين يعود نيقولا إلى عمله في السلك اللاهوتي بعد أن يحصل على جميع كتب بيير بناء على وصية الأخير. ثم بعد ثلاثون عاماً يبدء نيقولا في إتمام ما بدءه بيير من تجارب كيميائية بعدما علم بطريق الصدفة أن بيير قد مات بعد القبض عليه مباشرةً أثناء التحقيقات التي جرت معه.
 

الخميس، 2 مايو 2013

الترجمة من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية


الترجمة من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية

بقلم: ميسرة عفيفي

هذه التدوينة هي تلخيص لمحاضرة قمت بإلقائها باللغة اليابانية على عدد من الأدباء وأساتذة الأدب ومترجمين ومهتمين بالأدب من أعضاء "جماعة إييدا باشي الأدبية" والتي أشرف أن أكون عضوا مؤسسا فيها.

المحاضرة كانت بغرض التعريف باللغة العربية والأدب العربي، ثم التعريف بدور الترجمة في وضع أسس النهضة الحضارية والعلمية التي قامت إبان ازدهار الدولة الإسلامية، بعد ترجمة ما وصل إلينا من تراث القدماء إلى اللغة العربية وخاصة تراث اليونان، ومن ثم نقل هذا الإرث الإنساني إلى اللغات الأوربية فساعد في تطور البشرية في العصور الحديثة، وفي نهاية المحاضرة تكلمت عن الوضع المأسوي الذي أصبحت عليه حالة الترجمة إلى اللغة العربية الآن ضاربا المثال بحال الترجمة من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية، وهو ما أركز عليه في السطور التالية.

قمت بعمل بحث عن الكتب اليابانية التي تُرجمت إلى العربية سواء ترجمة مباشرة أو من خلال لغة وسيطة، كانت في الأغلب هي اللغة الإنجليزية، وقد اعتمدت بشكل أساسي على إحصائية رسمية لجهة يابانية شبه حكومية وهي "مؤسسة اليابان" أو (Japan Foundation)، التي تعتبر وسيلة الحكومة اليابانية في نشر لغتها وثقافتها في دول العالم المختلفة، بدعمها لنشاطات ثقافية وأدبية وفنية من خلال مكاتبها المنتشرة في عشرين دولة من دولة العالم أجمع، ومكتبها الوحيد في الشرق الأوسط مقره في القاهرة، وهو المكان الذي بدأتُ فيه أنا تعلم مبادئ اللغة اليابانية منذ ما يقرب من ربع قرن من الآن، ولا زال حتى الآن يقوم بتدريس اللغة اليابانية، والعمل على نشر الثقافة والأدب والفنون اليابانية.

من خلال إحصائية "مؤسسة اليابان" السالفة الذكر ومن خلال رصدي لغيرها من مصادر، فيما يلي بعض الأرقام عن حالة ترجمة الكتب اليابانية إلى اللغة العربية. والمفاجأة الكبرى هي أن عدد الكتب التي تُرجمت من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية في كل الدول العربية وعلى مر العصور يقل عن الثمانين كتاب، سواء كانت الترجمة مباشرة أو من خلال لغة وسيطة. والعدد الذي وصلت إليه كان 76 كتابا فقط، ربما زاد كتابين هنا أو ثلاثة كتب هناك مما لم أستطع الوصول إليه.

الدول العربية التي قامت بنشر كتب يابانية مترجمة هي كالتالي: مصر 37 كتابا بنسبة 49 % من الإجمالي، لبنان 18 كتابا بنسبة 24 %، الإمارات العربية المتحدة 9 كتب بنسبة 12 %، وسوريا أربعة كتب بنسبة 5 % والعراق والكويت لكل منهما 3 كتب بنسبة 4 % وأخيرا المغرب وعُمان لكل منها عمل واحد. أي أن 8 دول فقط هي التي قامت بالنشر واكتفت باقي الدول الدول العربية بالقراءة، هذا إن وصلت لمرحلة القراءة. أما محتوى تلك الكتب فكان أغلبها أعمال أدبية وهي كالتالي: 56 رواية بنسبة 74 %، 11 كتاب قصص قصيرة بنسبة 14 %، ثلاثة مسرحيات بنسبة 4 %، و6 أعمال في غير تلك من أنواع بنسبة 8 % غير ذلك. أما المأساة فهي نسبة الترجمة المباشرة إلى الترجمة غير المباشرة، أي عن لغة وسيطة كانت هي اللغة الإنجليزية في الأغلب الأعم، الترجمة من خلال لغة وسيطة كانت عددها 54 عملا بنسبة 71 % والترجمة من اللغة اليابانية مباشرة عددها 22 عملا بنسبة 29 % من إجمالي الأعمال المترجمة. أما عن كُتّاب تلك الكتب فيأتي الكاتب يوكيو ميشيما على رأس قائمة الكتاب الأكثر ترجمة للغة العربية بعدد 10 أعمال بنسبة 13 % موزعة بين روايات وقصص قصيرة ومسرحيات، ثم ياسوناري كاواباتا صاحب أول جائزة نوبل في الآداب تعطى لياباني، بعدد 8 أعمال بنسبة 11 % عبارة عن روايات وقصص قصيرة، يليهما أشهر روائي ياباني على قيد الحياة والياباني الأكثر مبيعا في العالم حاليا، هاروكي موراكامي بعدد خمسة أعمال كلها روايات بنسبة 7 % ، يتقاسم المركز الرابع كل من كينزابرو أويه (صاحب نوبل الثانية والأخيرة حتى الآن لليابان في الأدب)، وجونئتشيرو تانيزاكي، وأوسامو دازاي، وريونوسكيه أكوتاجاوا، وكوبو أبيه، بعدد 3 أعمال بنسبة 4 % لكل منهم على حدة.

وهذه الأرقام تدل على كل حال فيما تدل على أن الوضع مزري وبائس إلى حد بعيد، ويحتاج إلى أن ننتبه نحن العرب إلى تلك الأمة التي تقع في أقصى الأرض والتي سقطت سهوا من حسابنا في الترجمة، وأن تقوم حركة ترجمة كبرى تعمل على ترجمة أدب وثقافة وحضارة هذا الشعب بشكل شامل تشترك فيها مؤسسات حكومية كبرى سواء كانت لدولة عربية منفردة أو لتجمع ما من عدة دول عربية.