بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 14 سبتمبر 2018

#مصطلحات_يابانية


#مصطلحات_يابانية
螺子を巻く
ねじをまく
neji wo maku
نيجي أو ماكو
يُدير اللولب - يلف الزنبرك
يشد المرتخي
يُعيد الأمور إلى نصابها
wind up a screw



#مصطلحات_يابانية
唸る
うなる
unaru
أونارو
يعوي - يتأوه - يزمجر
Growl


هل يكتب هاروكي موراكامي سيرة ذاتية في أعماله

يجد قراء الروائي الياباني هاروكي موراكامي في أبطال قصصه أو رواياته بعض من صفاته وربما ما يوحي بسيرة ذاتية ما. ولكن موراكامي في كافة الحوارات والمقالات التي يتحدث فيها عن ذلك ينفي تماما أنه كتب أي سيرة ذاتية في قصصه ورواياته وينفي أن أي من أبطاله يمثله شخصيا.
إذن كيف يقع ذلك اللبس؟
يشرح موراكامي الأمر في حوار طويل مع الأديبة مييكو كاواكامي نُشر في كتاب كامل مستقل بعنوان "البومة القرناء تغادر وكرها في المساء" الذي صدر بمناسبة صدور رواية "مقتل الكومنداتور"؛ يشرح الأمر بالقول إنه في حياته قابل مفترقات طرق عديدة، وأنه كان عليه الاختيار أكثر من مرة بين خيارين إما الذهاب يمينا أو يسارا، فيختار ما يراه ويمضي في حياته.
ويقول موراكامي إن ما يفعله في رواياته أنه يتخيل حياته لو أنه اختار في أحد المرات ما لم يختره في الواقع، كيف ستكون حياته وماذا سيفعل وهكذا. ولذا في بعض الأحيان يشبه البطل موراكامي نفسه في فترة ما حياته من حيث صفاته الشخصية أو عمله أو طريقة تفكيره ولكن الوقائع والأحداث التي يمر بها كلها من خيال موراكامي وليست سيرة ذاتية أو تسجيل لأحداث حدثت بالفعل.



الخميس، 23 أغسطس 2018

مشاكل الترجمة


في الصفحة 559 من النسخة العربية لرواية "كافكا على الشاطئ" للروائي الياباني هاروكي موراكامي ترجمة إيمان حرز الله يقول بطل الرواية:  
"هذا أيضا واحد من الأفلام القليلة التي شاهدتها في طفولتي. كنت في الصف الخامس حينها ولفت نظري عنوان الفيلم فأخذت القطار بمفردي حتى إيكيبوكورو وشاهدت الفيلم وعدت"
فتسأل نفسك ما الذي لفت نظر طفل في العاشرة من عمره يجعله يذهب من بيته لمسافة بعيدة حتى إيكيبوكورو وهي مسافة لا يسمح بها الأهل عادة للأطفال في ذلك العمر والأدهى لمشاهدة فيلم؟ خاصة وأن ما لديك من معلومات عن اسم الفيلم هو "الأربعمئة ضربة" ولا يمكن أن يكون سببا معقولا للفت انتباه طفل.
فتبحث عن الفيلم تجده فيلما فرنسيا وأن عنوانه (Les Quatre Cents Coups) وترجمته الحرفية فعلا الأربعمئة ضربة إلا أنه مصطلح يطلق بمعنى "عِش حياتك طولا وعرضا" (حتى وإن تلقيت أربعمئة ضربة) فتظن أن هذا سبب معقول للفت نظر طفل صغير، ولكنه غير كافي مئة بالمئة لكي يريح بالك.
فتبحث عن العنوان الذي عُرض به الفيلم في اليابان لأنه هو المتهم الرئيس الذي لفت نظر الطفل، فتجد أن اليابان كما تفعل عادة قد غيّرت اسم الفيلم تماما وأنه عُرض في اليابان تحت اسم "الكبار لا يفهموني" على لسان طفل.
وعندها تهدأ رغبة البحث لديك وتعرف أن ذلك العنوان هو الذي لفت انتباه الطفل وليس اسم "الأربعمئة ضربة" أو "عِش حياتك"، لأن هذه هي مشكلة البطل منذ طفولته أي عدم تفاهمه مع والده. 
وتظل المشكلة هي كيفية الموائمة بين اسم الفيلم الذي يعرفه العالم ومن ثم العرب وبين الاسم الذي تغير في اليابان واستُخدم في الرواية ليشير إلى الموضوع الأهم والأكبر في نفسية البطل منذ صغره وهي مشكلة عدم التفاهم والتواصل مع والده إلى الحد الذي يصل به إلى قتله، سواء كان قتله في الواقع أو في الخيال.



الأحد، 29 يوليو 2018

من الأرشيف: يوكيو ميشيما وأزهار الكرز*

الفتى الذي كان يكتب الشعر فصار أحد أكبر روائيي اليابان

بقلم: ميسرة عفيفي
زهرة الكرز (الساكورا) هي الزهرة المفضلة لدى اليابانيين، ولذا يعتبرها الكثيرون معلما من معالم اليابان، رغم أن وجودها لا يقتصر على اليابان فقط.
وتعتبر أشجار الكرز التي تتميز بزهرتها تلك نوعا عجيبا من الأشجار، فهي من الأشجار المعمرة التي تعيش لعدد كبير من السنين، ولكن العجيب فيها هو أن زهورها تظهر قبل أوراقها. ففي بداية الربيع تكون الزهرة هي أول ما ينبت فوق الأغصان الجافة التي قضت شتاءً طويلا عارية من الأوراق. ولكن لا تلبث تلك الزهور أن تتساقط سريعا بعد أن تصل إلى أوج تفتحها وجمالها وقبل أن تظهر أوراق الشجرة. ولا تتعدى الفترة من ظهور زهرة الكرز إلى سقوطها مدة الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع هي ذروة فصل الربيع في اليابان. وبعد سقوط الأزهار أو تقريبا في ذات الوقت تنبت الأوراق، ثم في الصيف تبدأ الثمار (في النوع المثمر منها حيث أن أشجار الكرز يزيد أنواعها على الأربعمئة نوع وأغلبها للزينة فقط غير مثمر)، وهي فاكهة الكريز في النضوج، حتى يأتي الخريف فتسقط الأوراق لتصبح أجمل الأشجار عجفاء يابسة، لا تحتوي إلا على أغصان جافة طوال فصل الشتاء ومع بداية الربيع تعيد الحياة دورتها مع أشجار الساكورا.
جمال زهرة الساكورا وتفردها ليس هو فقط ما يعشقه اليابانيون فيها. بل أحد الأشياء التي تسحر ألبابهم هي عمرها القصير، ففي خلال عدد بسيط من الأيام يتراوح ما بين العشرة أيام والعشرين يوما، تنبت زهرة الساكورا وتصل لقمة جمالها فتسعد البشر وتعطيهم أقصى ما يمكن من متعة ثم في غمضة عين تختفي.
وهذا أيضا ما يميز شيئا آخر يعشقه اليابانيون أكثر من أي شعب من شعوب العالم، ألا وهو الألعاب النارية (هانابي). ففي دول العالم المختلفة تُطلق الألعاب النارية احتفالا بشيء ما. أما في اليابان وخاصة في الصيف فتقام مهرجانات الألعاب النارية في طول البلاد وعرضها من أجل الألعاب النارية فقط ولمجرد التمتع برؤيتها. تلك القذيفة التي تنطلق إلي عنان السماء مستغرقة الكثير من الوقت والجهد والمال، لتنيرها لمدة ثوان بأشكال وألوان رائعة الجمال، ثم فجأة تختفي في لمح البصر بعد أن تحدث أثرها في قلوب عشاقها اليابانيين، الذين يجتمعون من كل’صوب وحدب في أزياء تقليدية وزينة تراثية جميلة ليتمتعوا بهذه اللحظة شديدة الجمال، كثيفة المعنى، سريعة الزوال.
هناك شيء آخر يتشابه مع الساكورا والهانابي وإن كان ربما لا يكون مثلهما في الجمال، وربما كذلك لا يحوز على حب اليابانيين وسحرهم به، ألا وهي حشرات الزيز (سْيمِي) التي تظهر في فصل الصيف في جميع أنحاء اليابان، معلنة عن انتهاء موسم الأمطار وبداية صيف حار رطب كريه عند اليابان. حشرات الزيز كذلك تمتاز بقصر حياتها لدرجة مذهلة. فرغم أن دورة حياتها الكاملة من بيضة لدودة أو يرقة ثم شرنقة أو عذراء حتى تصل إلى حشرة كاملة، طويلة للغاية يقال إنها تتراوح بين الثلاثة أعوام إلى العشرة أعوام وقد تصل أحيانا إلى العشرين عاما في بعض الحالات النادرة إلا أن حياتها بعد أن تصبح حشرة كاملة قصيرة للغاية تتراوح بين الثلاثة أيام والأسبوع تقضيها كلها في الصراخ والزعيق بصوتها الحاد المزعج الذي يكرهه أغلب اليابانيون. فتلك الحشرة في النهاية تريد أن تعلن وجودها للعالم، وتود أن تخبره بما عانته من فترة مخاض طويلة للغاية حتى تظهر فوق ظهر البسيطة، ولكن للأسف لن تستمر على قيد الحياة إلا أياما معدودة، فانتبه لي أيها العالم وانظر لي أيها الإنسان.
يعتبر يوكيو ميشيما (1925 ـ 1970) أكثر كاتب ياباني نال شهرة عالمية رغم عدم حصوله على جائزة نوبل للآداب التي تعتبر بوابة الانتشار العالمي خاصة لأدباء اللغات غير ذات الانتشار العالمي، فاللغة اليابانية لا تتحدث بها إلا دولة واحدة فقط. ويقال إن كتب ميشيما قد بِيْعَ منها أكثر من مئتي مليون نسخة في دول العالم المختلفة وبمختلف اللغات الحية، وكذلك يعتبر يوكيو ميشيما أكثر كاتب ياباني تُرجمت أعماله إلي اللغة العربية.
في حديث مرئي لإحدى القنوات التلفزيونية يتكلم ميشيما عن تسونتومو ياماموتو (1659 ـ 1719) أحد أبطاله العظام وهو محارب أو ساموراي من عصر ايْدو (1603 ـ 1878) مؤلف كتاب ’هاجاكوريه’ الذي يشرح فيه أخلاق الساموراي والذي تم إعادة استنساخه مرات عديدة أشهرها كتاب طريق المحارب ’بوشيدو’، ويبدي ذلك الساموراي استياءه من العصر الذي ولد فيه، وهو نفس ما يعنيه ميشيما، فالساموراي وكما هو معروف يتم تدريبه وتربيته تربية صارمة على قواعد القتال والنزال ولكن بشرف وفروسية وأخلاق يتميز بها عن غيره من عامة الشعب، وإذا وضع في موقف صعب وكان عليه الاختيار بين الموت والحياة فإنه يختار الموت على الفور دون تردد أو رهبة. ولكن ياماموتو ولد في عصر قد استقر فيه الوضع السياسي لأسرة توكوجاوا الحاكمة وانتهت معارك الحرب الأهلية بل وقد أعلنت حكومة توكوجاوا سياسة الانغلاق التام عن العالم، مما أعدم أي احتمال لخوض اليابان حروب مع الدول الأخرى سواء دفاعية أو هجومية، لتعيش اليابان في فترة سلام تام واسترخاء عسكري لفترة تقترب من الثلاثة قرون. يحكي ياماموتو في مؤلفاته عن معاناته تلك في عدم وجود الهدف الذي يعتبر نفسه خُلق له وهو القتال والنزال مع العدو بكل شرف وفروسية وأخلاق عالية ليكون قذيفة نور تضيء ظلام السماء ثم يختفي في التو والحال تاركا المجال لمن يأتي بعده من أبطال عظام. هكذا كان يتمنى أن يعيش وهكذا تم تنشئته. لكنه يفاجئ بعد بلوغه مرتبة الساموراي، أن عمله هو عمل إداري كموظف حكومي يسيّر شؤون الدولة من خلال الأعمال الروتينية اليومية. فيقرر في النهاية ترك مهنة الساموراي ويعتزل العالم ويتحول إلى راهب بوذي زاهد يعيش في الجبال.
ولد ميشيما في أسرة شبه أرستقراطية وتربى على يد جدته لوالده (ناتسو ناجاي) التي تعود أصولها إلى عائلة محاربين ساموراي تنتمي مباشرة إلى سلالة إيياسو توكوجاوا الحاكم العسكري القوي الذي وحد اليابان بعد حروب أهلية طويلة ومريرة وحكمها هو وعائلته من بعده لمدة تزيد على القرنين والنصف القرن. حيث عاشت اليابان تلك الفترة في حالة سلام داخلي (في فترة الحكم العسكري كان الإمبراطور موجودا في كيوتو والحاكم العسكري يخضع له روحيا ويتولى سلطاته بمباركة الإمبراطور وموافقته بشكل ظاهري فقط).
قامت ’ناتسو’ جدة ميشيما بتربيته وتنشئته على أخلاق المحاربين الساموراي، ولكنه يفاجئ مثل ياماموتو باختلاف الواقع المعاش عن المتخيل المأمول خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان واحتلالها من قبل قوات الحلفاء ممثلة بجيش الولايات المتحدة التي أنشأت مقرا لها في مواجهة قصر الإمبراطور أطلقت عليه مركز القيادة العامة حكمت من خلاله اليابان بشكل مباشر لمدة سبع سنوات كاملة من عام 1945 إلى عام 1952. وحتى بعد انتهاء مهمة مركز القيادة العامة وتقلص الجيش الأمريكي في قواعد عسكرية في أوكيناوا وغيرها من المدن البعيدة عن أعين غالبية اليابانيين، إلا أن ميشيما كان يعتقد أن وضع الاحتلال والتبعية لم يتغير وأنه يجب على اليابانيين استلهام روح الساموراي بداخلهم والقيام بما ينبغى عليهم فعله من هبة قتال وفناء كقذيفة الهانابي لتنير سماء اليابان ولو لثوان ليأتي من بعدهم من يواصل المسيرة. ولكن لا يجد ميشيما من يستمع له أو يحقق مراده.
في قصته القصيرة ’فتى يكتب الشعر’ التي كتبها ميشيما في عام 1954 وهو على مشارف الثلاثين من عمره يحكى فيها تجربته مع الشعر عندما كان في عمر الخمسة عشر ربيعا، وتعتبر تلك القصة قصة محورية في أدب ميشيما توضح بعض من أفكاره وجزء من سيرته الذاتية وسبب تحوله من شاعر إلى روائي وقاص، يتحدث ميشيما عن أبطاله العظام من الشعراء. أبطال ميشيما هم بالضرورة الشعراء الذين ماتوا في ريعان الشباب. يقول ميشيما في تلك القصة:
’كان الفتى يهتم كثيرا بحياة الشعراء القصيرة. يجب على الشاعر الحق أن يموت مبكرا. ولكن حتى لو قلنا الموت مبكرا، فالنسبة للفتى ذي الخامسة عشر ربيعا، كان الأمر لا زال بعيدا جدا، وبسبب ذلك الآمان الحسابي، ظل الفتي يفكر في الموت المبكر بمشاعر سعيدة. (.....) لقد كان الفتى يؤمن بالتوافق القدري. التوافق القدري لسير حياة الشعراء. إيمانه بذلك وإيمانه بعبقريته كانا شيئا واحدا بالنسبة للفتى.
وكان ممتعا له أن يفكر في محتوى نعي طويل يكتبه لنفسه، أو في مجده بعد الموت، ولكن عندما يفكر في جثته، تكون نهاية الأفكار سيئة نوعا ما. كان يحدث نفسه بقوة وحماس قائلا لها: ’يجب عليّ أن أحيا كالألعاب النارية. أبذل كل جهدي في تلوين سماء الليل في لحظة، ثم أختفي في الحال’.
كان يفكر في أشياء متعددة ولكنه لم يستطع تخيل طريقة للحياة غير ذلك. ولكنه كان يكره الانتحار. لذا فالتوافق القدري سيسدي له معروفا ويقتله في الوقت المناسب بشكل ملائم.’ (انتهى الاقتباس من قصة ’فتى يكتب الشعر’ ترجمة كاتب هذه السطور).
هذه هي أفكار ميشيما في فترة المراهقة عن البطولة حتى لو في مجال الشعر وظلت تلك الفكرة مسيطرة على ميشيما طوال حياته (45 عاما) التي تعتبر قصيرة نوعا ما مقارنة باليابانيين الذين يشتهرون بطول العمر، خاصة وأنه قد أنهاها بنفسه على طريقة الهاراكيري أو السيبّوكو متمتثلا فيها روح الساموراي العظماء الذي يطبقون المثل العربي الأصيل في الفروسية ’بيدي لا بيد عمرو’.
في حديث مع الأديب الياباني الصديق كيئتشيرو هيرانو وهو من أبرز الأدباء المعاصرين الذين تأثروا بشدة بأدب ميشيما ويعتبر أحد أهم أدباء اليابان حاليا، قال لي: ’إن حصول الأديب ياسوناري كاواباتا على جائزة نوبل للآداب في عام 1968 كان أحد الأسباب التي عجلت بإقدام ميشيما على’الانتحار’
فميشيما ظل مرشحا لنيل الجائزة لعدة أعوام، وكل عام كان ينتظر بفارغ الصبر إعلان الفائز بالجائزة ويُعد نفسه لعقد مؤتمر صحافي يتحدث فيه عن مشاعره بعد فوزه بتلك الجائزة العظيمة، ولكن بعد فوز كاواباتا بها، يئس ميشيما من الحصول على تلك الجائزة التي تعتبر قمة المجد في الأدب العالمي، لمعرفته باستحالة حصول أديب ياباني آخر على ذات الجائزة إلا بعد مرور سنوات وربما عقود طويلة ’وهو ما حدث بالفعل فلم يحصل أديب ياباني على جائزة نوبل إلا بعد مرور حوالى ثلاثة عقود وهو كينزابورو أويه في عام 1994). ربما يظن البعض أن ربط انتحار ميشيما بعدم حصوله على جائزة نوبل يعني أن الانتحار كان بسبب الإحباط أو اليأس من التحول إلى أديب عالمي شهير. ولكن الأمر في رأيي على العكس، فكما ذكرت قول هيرانو منذ قليل، حصول كاواباتا بجائزة نوبل ’عجّل’ فقط بانتحار ميشيما ولم يكن سببا من أسباب الانتحار نفسه، ففكرة الانتحار كانت هي الفكرة الأساسية والمحورية التي دار في فلكها ميشيما أثناء حياته كلها، وفي حديث ميشيما المتلفز الذي سبق الإشارة له، يتحدث ميشيما عن عدم تخيل حياته وقد بلغ من الكبر عتيا وأصبح عبئا على نفسه وعلى الآخرين. ربما كان ميشيما يرسم سيناريو مخالفا لنهايته يتمثل في الحصول على جائزة نوبل للآداب والتألق في سماء الأدب العالمي ليصبح اسمه على كل لسان في العالم أجمع كقيمة فكرية وأدبية عظيمة ملأت الأفاق متعة وجمالا، ثم في ذات لحظة التألق وفي ذروة الشهرة ولفت الأنظار يقوم بإنهاء حياته بنفسه، كزهرة ساكورا أنهت مهمتها في إمتاع الأبصار، وكقذيفة هانابي أضاءت سماء الكون لثوانٍ لتنطفئ بعدها على الفور.
هامش: حادث انتحار ميشيما
في 25 نوفمبر من عام 1970 توجه ميشيما مع أربعة من أعضاء جماعته ’جماعة الدرع’ بزيهم العسكري إلى مقر قوات الدفاع الذاتي اليابانية في إيتشيجايا بوسط طوكيو بعد أن أخذوا موعدا مع القائد العام للقوات، وأثناء لقائهم مع القائد العام قام ميشيما ورفاقه بأخذه كرهينة، وطالبوا بجمع كل أفراد قوات الدفاع الذاتي الموجودين في المقر ليلقي عليهم ميشيما خطابه الذي أعده لهم لكي يحثهم على الثورة والانقلاب ضد الوضع الحالي وتغيير الدستور لكي يتم إعادة كل السلطات للإمبراطور ولكي تعود قوات الدفاع إلى ما كانت عليه من جيش قوي يحمي البلاد. ولكن لم يستطع ميشيما خلال عشرين دقيقة تقريبا من حديثه لهم من فوق شرفة غرفة القائد العام إقناع الجنود بأي شيء وسط تذمرهم وشوشرتهم على حديثه وعدم سماعهم لما يقوله بسبب عدم استخدامه مكبرا للصوت ووجود طائرات هيلوكوبتر تابعة لوسائل الإعلام تحوم فوق المكان. يئس ميشيما من الجنود فعاد إلى غرفة القائد العام لينهي حياته بنفسه بطريقة الهاراكيري المقدسة ببقر بطنه بخنجر صغير وليطير مساعده المخلص رأسه من على جسده في ذات اللحظة

* نُشرت في جريدة القدس العربي بتاريخ 28 مارس 2013م

الثلاثاء، 10 يوليو 2018

فاوست العربي في اليابان


فاوست العربي في اليابان
ميسرة عفيفي

من الحوادث العجيبة التي حدثت لي في اليابان.
كنتُ أعمل منسق برامج في إحدى المؤسسات الحكومية اليابانية التي تستضيف وفودا من دول العالم للاطلاع على التجربة اليابانية في مختلف المجالات. بالطبع كنتُ أعمل في تنسيق ومرافقة الوفود العربية فقط.
وفي أحد الأعوام (تقريبا عام 2003 على ما أتذكر) انتشر في العالم مرض غريب غير واضح المعالم يسبب ارتفاعا في درجة الحرارة وقد اُصطلح وقتها على تسميته حُمّى السارس. وكان من دواعي الوقاية التي اتبعتها المؤسسة أن يتم قياس درجة حرارة كل ضيف في اليوم الأول من بداية الزيارة أثناء المقدمة التعريفية، لكي يتم التعامل سريعا مع أية حالة اشتباه في الإصابة بحمى السارس في وقتها. لم تحدث طوال عملي والحمد لله أية حالة اشتباه من أي نوع. ولكن حدث ما يلي أثناء عملي مع وفد من إحدى الدول العربية وبه ما يزيد قليلا عن عشرة أفراد.
وهو أن جميع الضيوف كانت درجات حرارتهم طبيعية ولا مشكلة فيها. ولكن قابل فرد واحد فقط، في الخمسينات من العمر، مشكلة عكسية. فمن المعروف أن درجة حرارة الإنسان الطبيعية تدور حول رقم 37 درجة مئوية. في اليابان تقل قليلا حيث يعدون الدرجة الطبيعية أقل قليلا من 37 درجة مئوية تقريبا 36.5 أو 36.6 درجة مئوية مثلا. ولكن ذلك الرجل كانت درجة حرارته أقل من الطبيعي بشكل كبير، إذ أنها كانت في حدود 33 أو 34 درجة مئوية، ومهما أعادنا القياس وغيرنا جهاز القياس كانت النتيجة لا تتغير (كانت هناك خمسة أو ستة أجهزة قياس كلها تعمل جيدا وقاست درجات حرارة باقي الوفد بلا مشاكل). انزعجت الممرضة التي تقيس وهمست لي سرا إن هذا الرجل ميت، في حين كان يضحك هو وزملائه من النتيجة، وكلما زاد هو من مزاحه نزداد أنا وزملائي اليابانيون قلقا وريبا من هدوئه. في النهاية انتهى القياس دون أن نصل إلى معرفة سبب هذه المعضلة، وحيث أن الغرض من القياس كان استكشاف من لديه اشتباه في الحمى، فلم تكن هناك مشكلة من أن تكون درجة الحرارة منخفضة. وسُجّلت الدرجة كما هي، ومر الأمر بسلام، خاصة وأن الرجل أمامنا في كامل صحته يضحك ويمزح وليس به أي ما يسبب القلق.
وكنتُ أثناء الزيارة التي استمرت حوالي ثلاثة أسابيع، أبدي اهتماما زائدا بذلك الرجل مخافة أن يكون بصحته شيء ما خفي عليه وعلينا، ولكنني اكتشفت أمرا آخرا لا علاقة له بصحة الرجل.
كان ذلك الوفد مرسلا من حكومة تلك الدولة لبحث موضوع متعلق بأحد مشاريع البنية التحتية، وكان من ضمن الوفد وكيل وزارة يحمل درجة الدكتوراه هو رئيس الوفد. ولكني اكتشفت أن الرجل الخمسيني إياه هو رئيس الوفد الفعلي وهو الذي يصدر القرارات وهو الذي يتحدث باسم الحكومة عندما يكون هناك حاجة لذلك، أي أنه كان رئيس الوفد الخفي رغم أن منصبه الرسمي الذي جاء به وخبرته وعلمه أقل كثيرا ممن معه من أعضاء الوفد وخاصة الأستاذ الدكتور رئيس الوفد. إلا أن رئيس الوفد نفسه كان متفهما للموقف وكان يترك لصاحبنا القرار والحديث كما يحلو له دون اعتراض ظاهر.
ثم عرفت السبب أن صاحبنا ذلك هو عضو قيادي في الحزب الحاكم لتلك الدولة، وأن منصبه الحزبي وإن – كنت لا أعلم منصبه الحزبي هذا معرفة دقيقة – كان هو الذي يخوّل له تلك السلطات التي كانت أعلى بكثير من قدراته وخبراته وعلمه. وكان من الممكن أن يتسبب في كوراث كثيرة لجعله هو صاحب القرار رغم وجود من هو أفضل منه خبرة وعلما.
لا أدري لماذا تخيلت أن هؤلاء الذين يسيطرون على مقدرات الشعوب بجهلهم وتخلفهم، بحجة واحدة فقط هي أنهم أصحاب الثقة، هم في الواقع من الموتى الذين عقد معهم الشيطان عقدا يعطيهم به سلطة الحكم والقرار ويسلب منهم حرارة القلب ودفء المشاعر والروح، وإننا لو قسنا درجات حرارة هؤلاء بجهاز قياس حرارة "ياباني" لأوضح لنا أنهم باردون، ميتون، ليس لهم قلب ولا مشاعر.


الأحد، 3 يونيو 2018

فصل من أول رواية كتبها هاروكي موراكامي :اسمع أغنية الريح


كان ديرك هارتفيلد لا يتكلم إلا نادرا جدا بشكل مباشر عن الحياة والحب والحلم رغم هذا الكم الهائل من الأعمال التي كتبها. وقد كشف هارتفيلد في عمله الجاد (الجاد هنا تعني فقط عدم ظهور كائنات فضائية وأشباح إلخ) المسمى "دورة ونصف دورة حول قوس قزح" (1937)، وهو العمل الذي يُعد شبه سيرة ذاتية له، كشف بقدر ضئيل جدا عن مكنونات نفسه في كلمات مختصرة، وهو يصرف الانتباه عنها بالسخرية والشتائم والمزاح.

"أقسم على أقدس كتاب في هذه الغرفة، أي على دليل أرقام الهواتف المرتب حسب حروف الهجاء، أن أحكي الحقيقة فقط. وهي أن الحياة فارغة تماما. ولكن بالتأكيد ثمة نجاة. والسبب أنها لم تكن فارغة تماما في بدايتها الأصلية. إننا في الواقع عانينا معاناة بعد معاناة وبذلنا كل ما في وسعنا من جهد لكي نجعلها تتآكل تدريجيا من محتواها وأخيرا نجحنا في أن نجعلها فارغة تماما. ولن أكتب هنا كيف بذلنا ذلك الجهد ولا كيف جعلناها تتآكل. لأنه أمر شاق. ومن يريد أن يعرف مهما كان الأمر، عليه بقراءة رواية "جان كرستوف" تأليف رومان رولان. ففيها كُتب كل شيء بالتفصيل"

وكان سبب إعجاب هارتفيلد الشديد برواية "جان كرستوف"، أنها تصف حياة أحد البشر من ولادته إلى موته بالترتيب وبعناية شديدة، وكذلك أنها رواية طويلة طولا مرعبا جدا. فقد كان رأيه الشخصي أن أي رواية بحكم أنها معلومات لا بد أن يكن عمل جداول ورسوم بيانية منها، ولأنه كان يرى كذلك أن دقتها يجب أن يقارن بحجمها.
ولكنه كان يتخذ موقفا نقديا شديدا تجاه رواية "الحرب والسلام" لتولستوي. يقول هارتفيلد إنه بالتأكيد لا يوجد مشكلة في حجمها. ولكن مفهوم الكون فيها ناقص، ولذا تعطي الرواية في الواقع انطباعا بالتناقض. عندما يستخدم هارتفيلد كلمة "مفهوم الكون"، فهو في الأغلب يقصد "الجدب".
إن أكثر رواية أعجبته هي رواية "كلب فلاندرز". قال: "اسمع يا أنت. هل يمكنك أن تصدق أن كلبا يموت بسبب لوحة؟"

سأل صحفي هارتفيلد في حوار معه ما يلي:
"لقد مات بطل روايتك مرتين في المريخ ومرة في الزُهرة. ألا يُعد ذلك تناقضا؟"
فأجاب هارتفيلد بما يلي:
"هل تعلم أنت كيف يمر الوقت في كواكب الفضاء؟"
رد الصحفي قائلا: "كلا. ولا أحد يعرف شيئا عن ذلك"
"وما المعنى من كتابة أشياء يعلمها الجميع في رواية؟"


هناك ضمن أعمال هارتفيلد قصة قصيرة بعنوان "بئر في المريخ" تختلف في طبيعتها عن باقي أعماله، وكأنها تتنبأ بظهور راي برادبري. لقد قرأتها مرة واحدة في الماضي البعيد لذا نسيت التفاصيل الدقيقة، ولكنني سأكتب فقط الخطوط الرئيسة لها.

إنها حكاية فتى غطس في بئر لا قاع له من الآبار المحفورة على سطح كوكب المريخ التي لا عدد لها. كان من المؤكد أن تلك الآبار قد حفرها المريخيون في ماضي سحيق على الأرجح يصل إلى عشرات الآلاف من السنين، ولكن كانت جميع تلك الآبار حُفرت بعناية تامة لتكون معزولة عن شبكة المياه الجوفية. ولا يعرف أحد سبب حفرهم لمثل هذه الآبار. وفي الواقع لم يترك المريخيون شيئا آخرا بخلاف تلك الآبار. ليس هناك حروف ولا بيوت ولا طعام ولا حديد ولا صواريخ ولا مدن ولا آلات بيع ذاتية، ولا حتى قواقع. ليس هناك إلا الآبار فقط. وهذا ما جعل علماء الأرض يعانون في مشكلة أيمكن إطلاق اسم حضارة على هذا أم لا؟ ولكن المؤكد أن تلك الآبار صُنعت في الواقع بمهارة شديدة، ولم ينهار قالب طوب واحد بعد مرور عشرات الآلاف من السنين.
بالطبع لقد دخل عدد من المغامرين والباحثين داخل تلك الآبار. ولكن اضطر هؤلاء الأشخاص الذين رُبطوا بالأحبال إلى العودة من منتصف الطريق بسبب شدة عمق البئر وطول الثقوب الأفقية فيه، والذين لم يُربطوا بالأحبال لم يعد منهم أحد حتى الآن.
في أحد الأيام، دخل فتى يتسكع في الفضاء إلى أحد تلك الآبار. كان قد أصابه الملل من اتساع الفضاء ويأمل في طريقة موت لم يجربها أحد. ومع هبوطه لأسفل البئر، كان يشعر تدريجيا بارتياح نفسي، وأن قوة غريبة بدأت تحيط جسده بحنان. وبعد أن هبط حوالي كيلومترا واحدا، اختار عشوائيا أحد الثقوب الأفقية ودخله، ثم استمر يمشى في ذلك الطريق المتعرج بلا هدف ولا نهاية. ولم يعرف كم من الوقت قد مشى. لأن ساعته كانت قد توقفت عن الحركة. ربما يكون ساعتين أو ربما يومين. فلم يكن يشعر بأي جوع أو تعب، ولا تزال تلك القوة العجيبة التي شعر بها مستمرة في احتوائه.
ثم في أحد الأوقات، شعر فجأة بضوء. كان الثقب الأفقي متصل ببئر آخر. تسلق الفتى ذلك البئر وخرج مرة ثانية إلى السطح. ثم جلس على حافة البئر، يتأمل المراعي البرية التي لا يحجز الرؤية فيها شيء. هناك خطأ ما. رائحة الرياح، الشمس ... إن الشمس مع وجودها في الهواء بدأت تتحول إلى كتلة عملاقة من اللون البرتقالي وكأنها شمس الغروب.
"إن الشمس ستنفجر بعد مئتي وخمسين ألف سنة. ضغطة زر ... OFF. مئتي وخمسين ألف سنة. ليس بالوقت الطويل، أليس كذلك؟"
هكذا وجّه الريح له الكلام.
"لا تقلق بشأني. فأنا مجرد ريح. ولكن إن كنتُ ترغب في ذلك يمكنك أن تدعوني مريخي. فليس له صدى سيئا. ففي الأصل ليس للكلمات أي معنى بالنسبة لي"
"ولكنك تتكلم"
"أنا؟ إنك أنت الذي تتكلم. إنني أعطي لقلبك مجرد تلميحات فقط"
"تُرى ما الذي حدث للشمس حقيقة؟"
"لقد تقدم بها العمر. إنها تحتضر. وليس بيدي ولا بيدك فعل شيء"
"ولِمَ فجأة ...؟"
"ليس فجأة. لقد مر مليار ونصف المليار من السنين أثناء اختراقك البئر. كما تقولون في أمثالكم: في لمح البصر. إن البئر الذي اخترقته أنت حُفر محاذيا لتعرجات الزمن. بمعنى أننا تائهون خلال الزمن. منذ خلق الكون وحتى موته. ولذلك ليس لنا حياة ولا موت. مجرد ريح"
"هل يمكن أن أسأل سؤال؟"
"هذا يسعدني"
"ما الذي تعلمته أنت؟"
اهتز الهواء اهتزازا طفيفا، وضحك الريح. ثم غطى السكون الأبدي سطح المريخ مرة أخرى. أخرج الشاب من جيبه مسدسا ووضع فوهته على صدغه ثم ضغط على الزناد.

السبت، 14 أبريل 2018

فصل من رواية لهاروكي موراكامي لم تُنشر بأية لغة اسمها "المدينة وأسوارها غير المؤكدة



حقا! نحن جميعا نسير ونحن نجر خلفنا ظلالنا.
لا أملكُ في هذه المدينة ظلا. نحس عندما نتخلى عن ظلنا، لأول مرة بذلك الثقل. لا ريب أن البشر صاروا منعدمين الإحساس تجاه ثقل ظلالهم تماما كما هو حالهم مع الجاذبية.
بالطبع التخلي عن الظل ليس أمرا بهذه السهولة. إن وداع شيء اعتدتَ عليه وألفته لشهور وأعوام طوال، أي كان هذا الشيء لهو أمر على درجة من الصعوبة والمعاناة.
عندما أتيتُ إلى هذه المدينة، كان عليّ إيداع ظلي لدى حارس بوابة المدينة.
"لا يمكن الدخول إلى المدينة وأنت تحمله معك"
قال حارس البوابة ذلك بكل حسم، ثم أضاف: "لا يوجد إلا أمرا من اثنين، إما أن تتخلى عن ظلك، أو أن تيأس من دخول المدينة"
اخترتُ أن أتخلى عن ظلي.
أوقفني الحارس تحت أشعة الشمس وأمسك بظلي.
"لا تقلق، فلا يوجد ألم وسينتهي الأمر سريعا"
قاوم الظل قليلا، ولكنه لم يكن بمقدوره مقارعة حارس البوابة ضخم الجثة، وسرعان ما فقد قوته بعد أن سُحب وسُلخ، فتداعى ساقطا على المقعد الطويل. بدا الظل الذي شُد سلخا من جسمي فقيرا هزيلا على غير ما كنت أعتقدُ وأتوقع. وكذلك بدا عليه التعب والإرهاق الشديدين. سقطت أهميته وصار لا علاقة لوجوده بي من قريب أو بعيد، مثل حذاء قديم خُلع ورُمي، أو مثل ضرس مسوس مخلوع.
"ما رأيك، ألا تحس بشعور غريب بعد انفصال هذا الظل عنك؟"
"هو كذلك"
"مثل هذا الشيء لا نفع له ولا فائدة. ورغم ذلك تجد لسانه حاضرا قويا. قائلا: لا أريد ذلك، أنا أحب هذا. هل أتى على الظل زمنا كان فيه ذا نفع؟ ولو لمرة واحدة؟"
"لا، ولا مرة"
"أليس كذلك؟"
قال حارس البوابة ذلك بكراهية شديدة، ثم أضاف:
"من المؤكد أنك لن تندم على ذلك"
"أتمنى ذلك"
"على كل الأحوال سأحتفظ لك بظلك هذا. ولن أسيئ إليه. ولن أجعله يعاني"
"هل يمكن أن أسألك سؤالا؟"
"بالطبع، تفضل"
"ماذا سيصنع ظلي أثناء غيابي؟"
"مثل الجميع. يمشي، ويفكر، وسأجعله يتريض مرة في اليوم. ثم عند مجيء الشتاء يزداد عملي، فيجب أن يعاونني. في التخلص من الوحوش مثلا"
"التخلص من الوحوش؟"
"أجل. عند مجيء الشتاء أنت أيضا ستفهم ماذا أعني"
"بالمناسبة إذا فكرت أن أستعيده مرة أخرى ماذا يجب عليّ فعله؟"
كان يبدو على حارس البوابة أنه لم يفهم معنى سؤالي.
"تستعيد الظل؟"
"أجل"
عقد الحارس ذراعيه وغرق في تفكير عميق.
"لم يسبق أن حدث مثل هذا من قبل. لم يمر عليّ شخص طالبا استعادة ظله ... إن الظل يعني القلب المظلم الضعيف. من ذا الذي يريد مثل هذا الشيء؟"
قلتُ لا أدري.
"إن العديد من الذباب يتجمع حول ذلك القلب الضعيف المظلم. الكراهية، المعاناة، الضعف، الغرور، الشفقة على الذات، الغضب ..."
أضفتُ أنا قائلا:
"الحزن"
فكرر هو:
"والحزن"
ثم أضاف:
"من الذي يريد مثل هذا الشيء؟"

قلت لكِ: إننا جميعا كنا نسير ونحن نجر ظلالنا. في الوقت الذي توجد فيه أشعة، تلتف الظلال حولنا، وفي الظلام تهجم الأحلام على نومنا.
"لماذا لا يتخلى الجميع عن ظلالهم؟"
"لم يعرفوا طريقة التخلي عنها. ولكن حتى لو كانوا يعرفون ربما لم يكن ليتخلوا عنها"
"لماذا؟"
"لأننا تعودنا على ذلك الثقل. أننا نواصل التعود على أي شيء. كانت تلك هي مدينتي"
يوجد مركب مربوط بحبل في جذع أحد أشجار الصفصاف النهري التي تنبت متفرقة في الجزيرة النهرية، وحول تيار المياه الجارية، يصدر المركب صوتا تشتاق إليه وكأنه من بقايا آثار الصيف.ش
"إين ذهبت ظلالكم أنتم؟"
"لقد نسيتُ ذلك تماما. فالجميع في هذه المدينة قد انفصلوا عن ظلالهم من الصغر. في الوقت الذي تتبدل فيه أسنانهم. ثم تُطرد الظلال إلى خارج أسوار المدينة"
"هل تعيش الظلال بعد ذلك كظلال فقط؟"
"أجل، هذا ما أعتقده. لكن ظلي مات في الربيع منذ خمس سنوات مضت. حارس البوابة وجد ظلا يحتضر خارج الأسوار فحمله إلى الداخل. ومات بعد ثلاثة أيام حسب ما سمعت. ودفنه الحارس في المقابر التي تقع في غابة أشجار التفاح"
"ألم تقابليه؟"
"أقابل ظلي؟"
"أجل"
ضحكتِ ثم قلتِ:
"أوه! ماذا سأقوله له عندما أقابله؟"
رحلت طيور العندليب بالفعل، وغلبت على المكان رياح شهر أكتوبر الباردة.
"علاوة على ذلك، فالقلب المظلم لا بد له من الموت يوما ما"
قمنا ثم صعدنا درجات السلم الحجرية، وعبرنا إلى الضفة المقابلة وكتف أحدنا في كتف الآخر.
قلتِ: "قريبا جدا سيموت ظلك أنت أيضا" ثم أضفتِ: "إذا مات الظل، تموت الذكريات المظلمة. ثم يجيء السلام النفسي"
"ثم تقوم الأسوار بحماية ذلك من أجلنا"
"أجل" قلتِ ذلك ثم أضفتِ: "أصلا، ألم تأت أنت إلى هذه المدينة من أجل ذلك؟"
ربما كان الأمر كذلك، أو ربما لم يكن. لقد أخذتني فجأة الأفكار التي ليس لها ملجأ التي تشبه تجمعات المياه التي تُركت على حافة ضربتها الأمواج. ولكن هذه الأحاسيس، استمررت فقط حتى عبور الجسر.