بحث في هذه المدونة الإلكترونية
د. مايوكو أوكاوا
ترجمة: ميسرة عفيفى
تغوص «تغريبة القافر» للأديب زهران القاسمى فى خضم علاقة الإنسان بالماء،
وتنفتح على عوالم المعتقدات التى شكلها العرف والتقاليد العتيقة.
إنها رواية من سلطنة عُمان ذلك البلد القابع على أطراف الجزيرة العربية،
والذى ما زال مجهولًا لدى اليابانيين.
ترسم الرواية ملامح البيئة الطبيعية العُمانية المتفرّدة، وتغوص فى تفاصيل
المجتمع القروى التقليدى، مانحةً القارئ اليابانى فرصة نادرة للتعرّف على
هذا العالم مباشرةً بلغته.
مسرح الأحداث وخلفيتها التاريخية
نستشف من معطيات الرواية أن أحداثها تدور على الأرجح فى النصف الأول من
القرن العشرين، فى الحقبة التى سبقت انطلاق النهضة الحديثة فى عمان عام
1970 وتُستمدّ هذه القراءة من إشارتين بارزتين وردتا فى الرواية: الأولى
تتعلق بتنقل العمانيين بين وطنهم والساحل الشرقى لأفريقيا، والثانية بذكر
استخدام عملة القروش.
لقد كانت القروش متداولة منذ النصف الثانى من القرن 19 حتى منتصف القرن 20،
بوصفها عملة مكمّلة للروبية الهندية وروبية زنجبار، قبل أن تبدأ عمان بسكّ
عملتها الوطنية المستقلة لاحقًا.
فى تلك الفترة، كانت البلاد تخضع لحكم السلطان سعيد بن تيمور (الذى امتد من
عام 1932 إلى 1970)، وفرض عزلة على عمان، مصحوبة بقيود على حركة الدخول
والخروج، استمرت لأكثر من 30 عامًا. وخلال تلك العقود، غرقت البلاد فى فقر
مدقع، وظلّ ذلك الحال قائمًا حتى اكتشاف النفط فى عام 1962.
كان معظم السكان يعيشون حياة تقليدية بسيطة وسط بيئة طبيعية قاسية، ويقيمون
فى بيوت مشيّدة من الطوب اللبن، تفتقر إلى شبكات الكهرباء والمياه.
عند مشارف عام 1970، قبيل تولّى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم وبداية
النهضة المعاصرة المعتمدة على موارد النفط، كانت البلاد لا تضم سوى ثلاث
مدارس ابتدائية، ومستشفى واحد فقط، ولم يتجاوز طول الطرق المعبّدة بالأسفلت
عشرة كيلومترات.
لقد بدأت علاقتى الشخصية بعُمان قبل نحو 30 عامًا، ومنذ ذلك الحين وأنا
ألحظ سرعة التحولات الاجتماعية التى كانت تبهرنى فى كل زيارة.
لم تعد مظاهر الحياة التقليدية التى تصفها الرواية مشهودة حتى فى القرى،
رغم أنّ الفجوة ما تزال قائمة بين المدن والريف.
ويظهر هذا التفاوت لا فى لهجات اللغة العربية فحسب، بل فى الملبس والمأكل
وأنماط المعيشة والعلاقات الاجتماعية أيضًا.
فعلى سبيل المثال، العباءة السوداء الطويلة التى يرتديها كثير من النساء فى
المدن اليوم زى مستحدث نسبيًا، أما اللباس العمانى التقليدى للنساء فكان
يتكوَّن من لبس قصير ملون بألوان زاهية تصل إلى الركبة، وسروال طويل، وغطاء
رأس قطنى كبير.
فى حين ما زالت الدشداشة الرجالية وغطاء الرأس المطرّز المعروف باسم
«الكُمة» والتى قد تُستبدَل بقطعة قماش مزركشة يُلفُّ بها الرأس تُسمى
«المصر» يعتبر الزى الرسمى ويعد لزامًا ارتداؤه لموظفى الجهات والوحدات
الحكومية – ورد ذكرهما فى الرواية – ويُعدّان من الملامح الثابتة للزى
الوطنى الرجالى المتوارث حتى اليوم.
أشار المؤلف إلى أن قرية «المسفاة»، مسرح الرواية، ليست هى نفسها
«المسفاة» الحالية الواقعة فى الداخل العمانى.
ومع ذلك، فإن المسفاة المعاصرة تعدّ واحة زاخرة بالخضرة والنباتات، وتعتمد
فى ريّها على مياه الأفلاج، ولا تختلف كثيرًا فى ملامحها عن الصورة التى
رسمتها الرواية.
وما زلت أتذكر بوضوح ذلك اليوم من أواخر القرن الماضى حين زرتُ القرية،
وذهبت برفقة بنات الأسرة المضيفة إلى الفلج، حيث قضينا وقتًا ممتعًا نلهو
ونلعب فى مياهه.
أفلاج عمان وإدارة الموارد المائية
سالم بطل الرواية شخصية فريدة بموهبته النادرة فى اكتشاف مسارات المياه
المختبئة فى باطن الأرض، ومع ذلك تنهال عليه المصائب المرتبطة بالماء. إذ
تلقى والدته حتفها غرقًا فى بئر، فيما يُفقد والده حياته إثر انهيار أحد
الأفلاج.
تنسج حياة سالم، التى تعتمد على الماء وتُكابد بسببه أيضًا، علاقة وثيقة
وعميقة بالبيئة الطبيعية لعُمان، وتُعدّ الأفلاج التعبير الرمزى الأبرز
لتلك العلاقة.
فى سلطنة عمان، حيث تكاد الأمطار تنعدم باستثناء المناطق الجنوبية، تؤدى
الأفلاج دورًا بالغ الأهمية فى الحياة اليومية، إذ تُعد من أهم أنظمة الرى
التقليدية التى تنقل المياه من باطن الأرض والينابيع الجبلية لتوزّعها بين
الحقول الزراعية والمساكن.
تحتضن عمان ما يناهز ثلاثة آلاف فلج، ولا توصل المياه مباشرة إلى الأراضى
والبيوت، بل تُجمع أولًا فى حوض مائى يُعرف باسم «الشريعة»، يُستخدم لتنظيم
توزيع المياه وإدارتها. ومن خلال هذا التنظيم، يمكن توفير كميات المياه
اللازمة فى الوقت المناسب. وتُعدّ الأفلاج جزءًا جوهريًا من البنية التحتية
التى يُبنى عليها استقرار التجمعات السكنية، لذلك فإن إدارتها تتم بصورة
جماعية على يد سكان القرى.
فى كل قرية ثمة جداول زمنية دقيقة لاستخدام المياه، يضعها شيوخ القرية، وهم
من زعماء القبائل وأعيان البلدة. ويحق لكل من تشملهم خدمات الفلج استخدام
مياهه فى حياتهم اليومية، سواء للشرب أو للنظافة أو لسقى الأنعام.
أما حين يتعلق الأمر برى الأراضى الزراعية، فثمة حقوق خاصة باستخدام المياه
تُحدد من خلال جداول دقيقة توزّع أوقات الرى بين الأسر المالكة لحقوق
المياه. وهذه الحقوق يُمكن بيعها أو تأجيرها، كما تنتقل وراثةً ضمن التركة
من جيل إلى جيل.
تقوم البنية الاجتماعية فى سلطنة عمان على نظام عشائرى تقليدى، تتصدر فيه
القبائل موقعًا محوريًا، ولا سيّما فى القرى الريفية حيث لا يزال تأثير
شيوخ القبائل والعشائر حاضرًا بقوة ونفوذهم قائمًا. وقبل ترسيخ سلطة الدولة
المركزية، أى قبل عام 1970م، كانت القبائل والعشائر تضطلع بدور حاسم فى
مختلف مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ كانت تتولى إدارة
شؤون الحكم المحلى وتنظيم حقوق المياه، بحسب التقسيمات القبلية لكل منطقة.
وقد ظلت القبائل القوية والأسر ذات النسب العريق تحتفظ بتأثير اجتماعى
واسع، لا سيما عبر سيطرتها على موارد المياه التى تشكّل عنصرًا حيويًا فى
حياة السكان. وعلى الرغم من أن رواية تغريبة القافر لا تُشير إلى أسماء
قبائل أو عشائر بعينها، إلا أن الواقع العمانى يُظهر أن اسم القبيلة يكشف
فى الغالب عن أصول الشخص، وما إذا كان منحدرًا من أصول عربية أم لا، ويُشير
كذلك إلى ولايته التى ينتمى إليها، بل وإلى مكانة قبيلته بين القبائل
الأخرى.
ويُولى المجتمع العمانى أهمية بالغة للروابط العائلية والعشائرية، حيث تحظى
العلاقات الأسرية والزواج بأهمية كبرى فى إطار هذه البنية الاجتماعية، ما
يجعل زواج الأقارب، كأبناء العمومة والخؤولة، أمرًا شائعًا ومقبولًا
اجتماعيًا.
وفى أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة، حين كنتُ أُجرى بحثًا ميدانيًا
فى المناطق الشرقية من عُمان، كانت الأفلاج تُستخدم على نطاق واسع، وتشكل
أحد الأعمدة الأساسية للحياة اليومية. ,بالإضافة إلى دورها فى رى مزارع
النخيل وتوفير مياه الشرب وسقى الأنعام، كانت تُستخدم أيضًا لاستحمام
الأطفال. وفى عيد الأضحى، يذبح الأهالى الأضاحى من الماعز ويقيمون الولائم
التى تمتد لأيام، وتُشاهد آنذاك مشاهد تقطيع اللحوم وغسلها بجوار مجرى
الفلج.
وفى المناطق التى تمر فيها الأفلاج فى أنفاق تحت الأرض، تُبنى سلالم تؤدى
إليها، وتُستخدم كمرافق للاستحمام، وتجد النساء فى تلك الأماكن خصوصية تتيح
لهن الاستحمام بأمان، إذ تحيط بهن الجدران من جميع الجهات.
أما اليوم، فقد امتدت شبكات المياه إلى المنازل، وشهدت تطورًا ملحوظًا، ما
جعل مشهد غسل الأوانى أو الملابس فى الأفلاج من الأمور النادرة.
ومع ذلك، ما تزال الأفلاج تحتفظ بدورها المحورى فى القرى، سواء فى الحفاظ
على نمط المعيشة التقليدى أو فى رى الحقول الزراعية.
وفى السنوات الأخيرة، ظهرت استخدامات جديدة للأفلاج، كغسل السيارات، مما
يُشير إلى استمرار تكيف هذه المنظومة القديمة مع متطلبات الحياة الحديثة.
وفى عام 2006، تم تسجيل نظام الأفلاج العمانى ضمن قائمة التراث العالمى لدى
منظمة اليونسكو، ما أضفى عليها قيمة ثقافية وتاريخية إضافية.
السحر والاعتقادات الشعبية
يُقال عمومًا إن الجزيرة العربية تُعدّ من أكثر المجتمعات الإسلامية
التزامًا بتعاليم الدين التزامًا صارمًا، حيث يشتهر سكانها، فى الغالب،
بحماسهم الدينى وتمسكهم بالإيمان.
وتُغطى معظم النساء رؤوسهن بالحجاب، ما يعكس الصورة النمطية التى غالبًا ما
تنقلها وسائل الإعلام عن المجتمعات الإسلامية.
غير أن هذا الالتزام الظاهرى لا ينفى وجود معتقدات شعبية متجذّرة فى الوعى
الجمعى، تُؤمن بوجود أرواح غير إلهية، تُنسب إلى ما يُعرف بالجن.
وتنتشر هذه المعتقدات على نطاق واسع فى سلطنة عمان، ويُعرف المجتمع هناك
بإيمانه الراسخ بوجود الجن، حتى إن البلاد تُعدُّ، فى نظر جيرانها، من
المناطق التى لا تزال الخرافات والسحر تلعب فيها دورًا ظاهرًا.
وتُعد مدينة بهلاء، الواقعة فى عمق الداخل العمانى وتحتضن قلعة بهلاء
التاريخية المُدرجة ضمن قائمة التراث العالمى لدى منظمة اليونسكو، من أبرز
الأمثلة على ذلك، إذ اكتسبت شهرة بأنها معقل للسحر.
وقد بدأت المدينة فى السنوات الأخيرة الاستفادة من هذه السمعة، مستثمرةً
إياها فى تنشيط حركة السياحة والسفر إليها.
يُؤمن أهل عمان إيمانًا واسعًا بقوة السحر، حيث يُنظر إليه باعتباره وسيلة
مزدوجة الأوجه؛ فمن جهة يُستخدم فى التداوى من الأمراض، وجلب المحبة، ودفع
الشرور، ومن جهة أخرى يُستعمل للانتقام، والثأر، وإيقاع اللعنات.
ومن أبرز المعتقدات التى تشكّل أحد المحاور الجوهرية فى رواية تغريبة
القافر هو الاعتقاد بالحسد. فالحسد، كما يُتصور فى المعتقد الشعبى، قوة
خفية تفوق قوانين الطبيعة، تجعل من نظرة الحاسد الشريرة كافية لهدم سعادة
الآخرين وتعكير صفو حياتهم.
وتُعدّ أشياء كثيرة عرضة لهذا الحسد، مثل المولود الجديد، لا سيما إذا كان
ذكرًا، والبيت الجديد أو السيارة، والنجاح التجارى، وحتى أداء فريضة الحج
إلى مكة. وفى الرواية، بعد أن فقدت آسية بنت محمد أبناءها الرضَّع الواحد
تلو الآخر بسبب المرض، لجأت إلى تسمية مولودتها باسم مشين درءًا للحسد
وحمايةً لها من عيون الحاسدين.
وعند إصابة شخص بمرض أو جرح أو موت مفاجئ، فالشكّ لا يتجه بدايةً إلى
الأسباب الطبية، بل يُعزى غالبًا إلى أثر الحسد. ولهذا الغرض وُجدت وسائل
يُعتقد أنها تقى من «العين»، منها الأحجبة المكتوب عليها آيات من القرآن
الكريم، ومنها أيضًا التمائم والميداليات على هيئة عين، يُقال إنها ترد
نظرات الحاسد بنظرات مضادة تصدّها وتكبح أذاها.
كما تُرى فى بعض القرى العمانية رسومات لكفّ يد بشرية على أبواب البيوت،
يُعتقد أنها تمسك بنظرات الحسد وتحول دون دخولها إلى الدار.
وإلى جانب الحسد، يُعد الإيمان بالجنّ اعتقادًا شائعًا فى أوساط العامة فى
المجتمعات الإسلامية. ويُقسَّم الجن إلى صالح وفاسد، ويُخشى من الأخير الذى
يُعتقد أنه من الشياطين.
ويُعتقد أن الجن يسكن الأماكن المظلمة والرطبة، مثل الحمامات، والمراحيض،
والآبار، والمقابر، ومنابع المياه، والكهوف، وغيرها. وفى القرية التى
أجريتُ فيها أبحاثى، كان يُمنع الصغار من اللعب قرب الفلج بعد غروب الشمس.
وتعكس الرواية هذه المعتقدات بوضوح، حيث تموت مريم، والدة سالم بطل
الرواية، غريقة فى بئر، ويفقد والده حياته جرّاء انهيار قناة فلج.
ويُنظر إلى سالم نفسه نظرة مشؤومة، إذ وُلد من أم غرقت فى الماء، وتُقابل
قدرته الفريدة على اكتشاف مسارات المياه فى باطن الأرض بالخوف، بوصفها «قوة
ملعونة».
ويُعدّ الاعتقاد بأن الغرق والمرض من فعل الجن قاعدة راسخة لدى أهل القرى،
لم تتغير مع مرور الزمن.
فالماء، على الرغم من كونه عنصرًا مقدّسًا فى البيئة الصحراوية العمانية،
إلا أنه، وبسبب ندرته وقيمته، يُعتقد أيضًا أن منابعه مأهولة بالجنّ.
يحيا الناس فى حياتهم اليومية وهم يستبطنون حضور السحر فى وعيهم الجمعى،
ويُعتقد على نطاق واسع أن النساء والأطفال هم الأكثر عرضة لتأثيراته.
ويُشاع كذلك أن النساء، على وجه الخصوص، هنّ الأكثر لجوءًا إلى استخدام
السحر، نظرًا لما يعتقده كثير من الناس من أن الحمل والإجهاض من الأمور
التى تتأثر بالحسد وأعمال السحر.
وفى القرية التى أجريت فيها أبحاثى، شاعت حادثة كانت مدار حديث الناس،
مفادها أن خطيب إحدى الفتيات قد فسخ خطبته منها وتزوج بغيرها، فتناقل
الأهالى أن الفتاة التى فُسخت خطبتها وأسرتها لجأوا إلى السحر للتفريق بين
الزوجين ومنع الزوجة من الإنجاب. وقد أبدت الزوجة المعنية قدرًا من
اللامبالاة، غير أن النساء المحيطات بها أبدين تعاطفًا صادقًا، ونصحنها
باتخاذ التدابير اللازمة لدرء آثار السحر، من خلال حمل التمائم والأحجبة.
وفى تغريبة القافر، تنعكس مثل هذه المعتقدات بوضوح، حيث نرى نساء القرية
ينصحن مريم، والدة بطل الرواية، التى طال تأخر حملها، بأن تحرق البخور
والصمغ لطرد النحس، خاصة وأن بيتها يقع بمحاذاة المقبرة، وهو موقع يُنظر
إليه على أنه مشؤوم.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المعتقدات الشعبية كانت سائدة فى الجزيرة العربية
منذ ما قبل ظهور الإسلام، غير أنها مع مرور الزمن اقترنت بالدين، من خلال
إدماجها بآيات القرآن الكريم التى تُستخدم لدرء الأذى، أو باستدعاء شيخٍ
يقرأ الرُقى والتعاويذ.
وتصور الرواية مشاهد لهذا التداخل، كتلاوة القرآن لطرد الشياطين، أو قراءة
الشيخ على كوب ماء ليُشرب منه الطفل طلبًا للشفاء.
إن مزج التقاليد الإسلامية بهذه المعتقدات الشعبية المتجذرة فى الوعى
الجمعى أمر متأصل فى الحياة اليومية للمجتمعات الإسلامية، سواء فى الماضى
أو فى الحاضر، ويُعدّ مظهرًا من مظاهر التداخل بين الدين والثقافة الشعبية
فى بنية الوعى الاجتماعى.
الصلات مع ساحل القرن الأفريقى ومصيرها فى ختام الحديث، أود أن أتناول
موضوع ساحل القرن الأفريقى الذى تكرر ذكره فى عدة مواضع من الرواية. ومن
الجدير بالذكر، وهى معلومة قد لا تكون معروفة على نطاق واسع فى اليابان، أن
سلطنة عُمان كانت ذات يوم تبسط نفوذها على الساحل الشرقى للقارة الأفريقية
بأكمله، ما جعل كثيرًا من العمانيين يشدّون الرحال عبر السفن والبواخر إلى
تلك الأصقاع، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكانت
جزر زنجبار، على وجه الخصوص، هى الوجهة الأهم لهم.
وفى الرواية، يفقد والد مريم – والدة سالم بطل الحكاية – حياته غرقًا فى
سفينة كانت متجهة من عُمان إلى جزر زنجبار.
أما والد سالم، عبد الله، فكان محرومًا من أية ملكية زراعية، لا أرض ولا
نخيل، لأن والده الذى رحل إلى الساحل الأفريقى، جُرّدت أسرته من ممتلكاتها،
إذ استولى أهل القرية على ما تركه من ثروة وأرض واقتسموها بينهم.
ولم يكن رحيل العمانيين إلى شرق أفريقيا أمرًا نادرًا، بل كان كثيرون، لا
سيما من ولايات الشرق العمانى، يغادرون الوطن زمن القحط والجفاف، بحثًا عن
المياه والخصب فى أراضى أفريقيا الغنية.
وعندما نقرأ فى الرواية إشارة إلى الرحلة التى انطلقت من ميناء صور الواقع
فى المنطقة الشرقية، يخطر لنا أن قرية المسفاة، التى جرت فيها أحداث
الرواية، لا تبعد كثيرًا عن ذلك الميناء البحرى.
فى نهاية الرواية، نرى البطل وقد وجد نفسه حبيسًا فى قناة الفلج، يقاتل
بعناد ضد الصخور والمياه، فى محاولة مستميتة للنجاة بحياته. وهذا الصراع لا
يعكس فقط علاقة الإنسان العمانى ببيئته القاسية، بل هو تجسيد رمزى للمجتمع
العمانى فى صراعه الأزلى بين التراث والتجديد، بين الماضى والحاضر، بين
الأصالة والمعاصرة. فالماء، هذا العنصر الذى يحمل وجهين متناقضين – العطاء
والتهديد – كان منذ القدم سببًا فى استمرار الحياة، كما كان فى الوقت ذاته
مصدرًا للهلاك.
وفى عالمنا المعاصر، حيث التغيّرات المُناخية وتضاؤل الموارد المائية باتا
من أبرز التحديات، تصبح صورة الإنسان المحاصر بالماء التى ترسمها الرواية،
ليست مجرَّد مشهد من ماضٍ سحيق، بل استعارة رمزية تلخّص الواقع الذى تواجهه
المجتمعات اليوم.
وتضع أمامنا حكاية سالم سؤالًا وجوديًّا ملحًّا: كيف سيقف الإنسان فى
مواجهة الطبيعة وسط هذه التحولات الكونية، وكيف سيصمد ليستمر فى العيش على
وجه هذه الأرض؟
*نُشرت في أخبار الأدب عدد 14 سبتمبر 2025
https://akhbarelyom.com/news/newdetails/4691438/1/%D8%A3%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%AC-%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AD%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D8%AF-%D9%81%D9%89-%D8%AA%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A9-/amp