بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 نوفمبر 2025

"قصائد عشق يابانية".. جريمة أدبية متكاملة بقلم: ميسرة عبد الراضي عفيفي

"قصائد عشق يابانية".. جريمة أدبية متكاملة

بقلم: ميسرة عبد الراضي عفيفي 

نشرت مجلة نزوى العُمانية بتاريخ 1 يوليو 1998 مجموعة من النصوص الشعرية بعنوان «قصائد عشق يابانية»، تعريب عبد الكريم الحنكي، الشاعر والمترجم اليمني، وفي التصدير الذي كتبه الحنكي جاء ما يلي:

«هذه مجموعة من قصائد الشاعرة اليابانيه المعاصرة ماريتشي كو، ننقلها الى العربية، عبر الانجليزيه التي نقلت اليها عن الأصل الياباني، مع إدراكنا ما يكتنف ذلك من محاذير.»

ثم أضاف:

«بقي أن أشير الى أن هذه القصائد معربة عن مجموعة للشاعـر الأمريكـي كنـث ركسرث (1905-1982) تضم عددا من قصائده وترجماته الشعرية التي أنجزها أثناء إقامته في مدينة كنوتو في اليابان ما بين 1974-1978 وأصدرها بعد ذلك.» (الفقرتان منقولتان بحروفهما من موقع مجلة نزوى على الإنترنت).

فما هي إذن حكاية كينيث ركسروث و«قصائد عشق يابانية لماريتشيكو»؟ ومن هي ماريتشيكو؟

لنبدأ من التعريف بالشاعر الأمريكي كينيث ركسروث (Kenneth Rexroth):

كينيث تشارلز ماريون ركسروث (22 ديسمبر 1905 – 6 يونيو 1982) شاعر ومترجم وكاتب المقالات النقدية، وُلد في ولاية إنديانا، لبائع أدوية، عانى في طفولته من إدمان والده على الكحول ومرض والدته المزمن. توفيت والدته عام 1916 ووالده عام 1919، فانتقل للعيش مع عمته في شيكاغو والتحق بمعهد شيكاغو للفنون. تعلّم ركسروث ذاتيًا عدة لغات وترجم قصائد من الفرنسية والإسبانية والصينية واليابانية. وفي سن التاسعة عشرة، سافر عبر البلاد متنقلًا بين الوظائف. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، ارتبط ركسروث بالموضوعيين ثم أُدرج اسمه في عدد عام 1931 من مجلة الشعر المخصص للشعر الموضوعي، وفي مختارات «الموضوعيين» لعام 1932. يمكن تصنيف الكثير من أعمال ركسروث على أنها «إيروتيكية» نظرًا لشغفه العميق بالحب المتسامي. إذ يتجلى شعر ركسروث بشكل كامل في الشعر الإيروتيكي. انخرط ركسروث في شبابه في شيكاغو، في الحركة الأناركية وكان ناشطًا في اتحاد العمال الصناعيين في العالم. وعرّف نفسه بأنه أناركي فلسفي.

كان ركسروث من دعاة السلام، فعارض الخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، وعُرف عنه مساعدته للأمريكيين من أصل ياباني الذين قُبض عليهم ووضعوا في معتقلات إيواء طوال سنين الحرب. في العام السابق لوفاته، اعتنق ركسروث الكاثوليكية الرومانية.

ترجمات ركسروث من اللغة اليابانية:

  • مئة قصيدة من اليابان 1955
  • مئة قصيدة أخرى من اليابان 1976
  • القلب المحترق – قصائد شاعرات من اليابان 1977
  • مختارات من قصائد الشاعرة كازوكو شيرايشي 1978
  • نجم الصباح وقصائد عشق يابانية لماريتشيكو 1978

ننتقل الآن للتعريف بالإلهة ماريشيتن:

الإلهة ماريشيتن (ماريشي تعني «الجلال» أو «ضباب الحرارة») هي إلهة سماوية تحمي البوذية. يُقال إنها تمنح الحيوية والقوة والثروة لمن يحجون للصلاة، وتدفع عنهم البلاء، وتجلب لهم الحظ السعيد. ويُقال إنها الإلهة الحارسة الأكثر إعجازًا بين جميع آلهة السماء والخير.

انتشر الاعتقاد بماريشيتن، الإلهة الحامية للساموراي، في اليابان منذ العصور الوسطى، إذ كان يُعتقد أن كل من عرف اسمها ودعا إليها نجا من كل مكروه ونال فضل النصر. وباعتبارها إلهة حماية للمحاربين الذين صدّوا الشدائد وقادوهم إلى النصر، انتشرت عبادة ماريشيتن بين عامة الناس منذ منتصف عصر إيدو حتى الآن، فيأتي الناس من جميع أنحاء البلاد للصلاة ليس فقط من أجل الحظ السعيد والحماية من المصائب والكوارث، ولكن أيضًا من أجل سلامة عائلاتهم والازدهار في الأعمال، وأولئك الذين يعملون في السياسة والترفيه والرياضة للصلاة من أجل النصر وتحقيق أمانيهم.

***

والآن إلى التعريف بتاريخ قصائد عشق يابانية التي عُرفت في اليابان بعنوان «قصائد عشق ماريتشيكو». وفيما يلي ملخص لبحث أكاديمي كتبه الباحث الياباني شونئتشيرو أكيكوسا بعنوان: «Lost In Mistranslation – حول ترجمة كينيث ركسروث الزائفة لقصائد عشق ماريتشيكو» (Lost in Mistranslation: On Kenneth Rexroth's Pseudo-translation, The Love Poems of Marichiko) ونشره باللغة اليابانية بتاريخ أبريل من عام 2014.

ظهرت قصائد عشق يابانية لماريتشيكو لأول مرة ضمن مختارات من الشعر في مجلة الاتجاه الجديد الأمريكية الصادرة في عام 1974 حيث ظهرت خمس قصائد من ترجمة ركسروث، ثم أضاف إليها سبع قصائد أخرى ونشر 12 قصيدة في مجلة الشعر الجديد من نفس العام. ثم في عام 1976 وضمن كتاب مئة قصيدة أخرى من الشعر الياباني ظهرت ست قصائد لماريتشيكو. وبعد هذا الظهور لماريتشيكو صدر كتاب صغير بعنوان «قصائد عشق ماريتشيكو» في عام 1978 من دار نشر كريستوفر بوكس في سانت بربارة بعدد محدود من النسخ لم يتجاوز الألف نسخة، (نشر الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في الرياض في نفس العام، أي عام 1978 ست قصائد تحت عنوان «أشعار حب يابانية» ذاكرًا أنها مترجمة عن الإنجليزية، ونص القصيبي المترجم هذا مختلف عن العمل الذي نحن بصدده وإن كان الجو العام متشابه، ولا ندري هل اختار القصيبي ست قصائد من هذا الكتيب الصغير وترجمها أم لا؟) وقد ضم الكتاب ستين قصيدة منها جميع القصائد التي نشرت من قبل وسبق ذكرها. وفي العام التالي 1979 عندما نشر كينيث ركسروث ديوانه «نجمة الصباح» أضاف إليه هذه القصائد الستين في آخر الكتاب بنفس العنوان ذاكرًا أنها من ترجمته.

لنَعُد إلى قصائد عشق ماريتشيكو فنجد بعد البحث المضني، أنه بالطبع لم يسبق أن نُشر أي عمل شعري باللغة اليابانية يحمل اسم شاعرة بهذا الاسم التي لم تعتاد عليه الأذن اليابانية. وفي ملاحظات المترجم يذكر ركسروث نفسه: «ماريتشيكو هو اسم مستعار لفتاة معاصرة تعيش بالقرب من معبد بوذي مخصص لعبادة الإله ماريشي بن في كيوتو» ولكن ماريتشي هو النطق الإنجليزي لاسم ماريشي بن ولا يُعرف كيف يُكتب باللغة اليابانية. ولكن من هي تلك الفتاة الغامضة؟ طبقًا للباحثة الأمريكية ليندا هاماليان في كتابها حياة كينيث ركسروث وهو سيرة للشاعر تقول إن ركسروث صرح في إحدى حفلات إلقائه لشعره أن ماريتشيكو هي عشيقته اليابانية مما سبب استياء واسعًا من الجمهور.

أغلب من كان لهم علاقات وطيدة بالشاعر ركسروث من اليابانيين التزموا الصمت التام إزاء هذا السؤال. على سبيل المثال سانيهيدي كوداما هرب من مناقشة موضوع قصائد عشق ماريتشيكو في بحثه الذي ناقش فيه تأثر شعر ركسروث بالأدب الياباني، وقال إنه يتنازل عن الحديث عن هذا العمل لغيره من الباحثين. إلا أن الشاعر والباحث الأمريكي في الأدب الياباني مورجان جيبسون في كتابه: «ركسروث الثوري – شاعر الحكمة الشرق-غربية»، يفضح حقيقة العمل قائلًا إن ركسروث كان يعاني الأمرين من إلقاء هذه القصائد في حفلات الإلقاء إلا أنه صرح لبعض الخاصة من أصدقائه أنه في الحقيقة مؤلف هذه القصائد.

بمعنى أن ماريتشيكو ذاتها كانت خيالًا مثلها مثل قصائدها. ولنا أن نسأل كم قارئًا انخدع بهذه القصائد وتلقاها على أنها عمل ياباني؟ على الأقل كل الأبحاث التي ناقشت هذه القصائد بعد ذلك تنطلق من هذه البديهية وهي أنه لا وجود لشاعرة باسم مستعار هو ماريتشيكو وأن هذه القصائد من تأليف (تزييف؟) كينيث ركسروث. إلا أن هذا الأمر استمر منذ صدور القصائد وانتشارها سرًا لا يعرفه أحد، ثم تُرجم النص إلى لغات أخرى على أنه قصائد عشق يابانية. والسبب في ذلك هو محتوى العمل كما سنرى فيما يلي.

من خلال عنوان «قصائد عشق ماريتشيكو» نعلم أن القصائد لفتاة اسمها ماريتشيكو تعيش في كيوتو تتحدث فيها عن علاقتها مع حبيبها بجراءة مدهشة. ولكن يُلاحظ أن جنس المعشوق به بعض الغموض فهو مذكر على الأغلب ولكن أحيانًا يكون مؤنثًا وقد أشار ركسروث إلى ذلك في ملاحظاته التي ذيّل بها القصائد (من العجيب أن المعرب فهم ذلك الغموض فهمًا شاذًا جدًا إذ علّق قائلًا: أما إشارة المترجم الأخيرة الى غموض جنس المعشوق، وما تنطوي عليه من إلماع الى مثلية جنسية محتملة، فلا أرجحها، فالأحوال التي تصورها هذه القصائد لا تدل على ذلك، كما أنها تشير الى المعشوق – وحسب ترجمته – بضمير الغالب المذكر He الذي لا يحتمل اللبس. ولو قد كان الأمر كذلك، لما عدمت شاعرتنا الجرأة في التصريح به). وكذلك هناك غموض في هل ماريتشيكو شابة كما ذكر ركسروث في ملاحظاته، أم أنها في منتصف العمر كما تقول القصيدة 48:

Now the fireflies of our youth

are all gone,

thanks to the efficient insecticides

of our middle age.

الآن اختفت جميع يراعات شبابنا،

وذلك بفضل المبيدات الحشرية الفعالة

في منتصف أعمارنا.

إن مثل هذه الألغاز وهذا الغموض هو السمة الأساسية لتلك القصائد.

فصورة ماريتشيكو التي لا يمكن تخيلها تعكس بشكل غامض صورة ركسروث نفسه. فقد زار ركسروث اليابان لأول مرة في عام 1967 بعد اشتياق شديد لتلك الزيارة، ونشر تجربته تلك في عمله «حدائق القلب وقلب الحدائق» ويذكر أنه شُرح له في أثناء زيارته لمعبد ماريشي تن أن ماريشي هي إلهة الفجر، غانية وجيشا. وفي ملاحظاته على القصائد يقول ركسروث إن الإلهة ماريشي تن لها ثلاث أوجه أحدها هو وجه الخنزير والآخر وجه امرأة في حالة نشوة جنسية والثالث للفجر. وشرح ركسروث هذا يختلف اختلافا تامًا لما تعارف عليه في اليابان عن الإلهة ماريشي تن بصفتها الإلهة الحامية للساموراي، ولا ندري من أين استقى ركسروث معلوماته تلك. إلا أن محتوى قصائد العشق التي لدينا تعتمد بشكل أساسي على هذه المعلومات المضللة. على سبيل المثال القصيدة رقم 24:

I scream as you bite

my nipple. And orgasm

drains my body, as if I

had been cut into two.

أصرخُ وأنتَ تعضّ حلمتيّ.

والنشوةُ تُرهِقُ جسدي،

كما لو أنني قُطِّعتُ إلى نصفين.

علاوة على ذلك فالمنتشر في كل أنحاء القصائد هو الوله الياباني على نحو استشراقي يجعل أي ياباني يجذع من مجرد سماعه وليس تأليفه. فعلى سبيل المثال تقول القصيدة رقم 23:

I wish I could be

kannon of eleven heads

to kiss you. Kannon

of the thousand arms

to embrace you forever.

أتمنى لو أستطيع

أن أكون كانونًا

ذات أحد عشر رأسًا لأقبلك.

كانونًا ذات ألف ذراع

لأحتضنك للأبد.

ومثل كلمة كانون تُستخدم في القصائد كلمات يابانية كما هي مثل العندليب والباب المنزلق والسيدة شيزوكا وهذه الكلمات تعبر عن اليابان العتيقة التقليدية. إلا أنه ينتقل إلى العصر الحالي فجأة في القصيدة 53 فيقول:

Without me you can

live at random only like

a falling pachinko ball.

بدوني يمكنك

أن تعيش بشكل عشوائي

مثل كرة باتشينكو متساقطة

ولننظر إلى الهامش الذي وضعه ركسروث كمترجم على كلمة باتشينكو:

«الباتشينكو: نسخة عمودية من لعبة الكرة والدبابيس، وفي جميع أنحاء اليابان تنتشر صالات باتشينكو عملاقة تمتلئ بأناس في حالة جذب. إنها رمز من رموز الانغماس الكامل في عالمٍ خالٍ من الوهم والجهل والمعاناة والجشع».

لعبة الباتشينكو وهي إحدى المشاكل الاجتماعية الكبرى في المجتمع الياباني بوصفها مسببة لمآسٍ إنسانية كثيرة بسبب الإدمان عليها، تتحول على يد ركسروث لتُعرف إلى العالم الغربي على أنها إحدى الوسائل التي تقود الناس إلى حالة النيرفانا الروحية للديانة البوذية. (أتذكر أنني رأيت إحدى حلقات برنامج العلم والإيمان من تقديم الدكتور مصطفى محمود عليه رحمة الله يقدم فيها صالات الباتشينكو في اليابان على أنها وسيلة من وسائل إفراغ الذهن من مشكلات العصر). من خلال هذه السخافات الكثيرة يتضح للقارئ الفطن أن قصائد ماريتشيكو عبارة عن تزييف واضح وفاضح للشعر الياباني.

تقول القصيدة رقم 57:

Night without end. Loneliness.

The wind has driven a maple leaf

against the shoji. I wait, as in the old days,

in our secret place, under the full moon.

The last bell crickets sing.

I found your old love letters,

full of poems you never published,

did it mind? They were only foe me.

ليلٌ بلا نهاية. وحدة.

تعصف الريح بأوراق القيقب تجاه الباب.

أنتظرُ، كما في الأيام الخوالي،

في مكاننا السري، تحت البدر.

آخر صرار ليل ينق.

وجدتُ رسائل حبك القديمة،

مليئة بقصائد لم تنشرها قط،

هل انزعجتَ؟ إنها لي وحدي.

إن الشعر الياباني به حساسية مفرطة تجاه عناصر الطبيعة؛ من الفصول الأربعة إلى الحشرات والزهور والأشجار ووصولًا إلى الشمس والقمر، ويهتم الشاعر الياباني بإبراز ملمح من ملامح الطبيعة يدل على الفصل الذي تدور فيه أحداث القصيدة فمثلا البدر من كلمات فصل الخريف لأن الشهر الأوسط من أشهر الخريف اسمه في اللغة اليابانية القديمة البدر، أما عصف الرياح بأوراق الأشجار لتتساقط فهي من كلمات الشتاء وصرار الليل أو الجدجد من كلمات أواخر الصيف لأنها تموت عن آخرها قبل بداية الخريف. فمن المستحيل بشكل قاطع على أي شاعر ياباني أن يأتي بكل هذه العناصر المتنافرة من فصول متباينة في قصيدة واحدة.

إعادة إحياء النص الأصلي للترجمة المزيفة؟

من هنا يتضح أن قصائد عشق ماريتشيكو لا تعدو أن تكون أحد الأمثلة التقليدية لجرائم «الترجمة المزيفة» ولكن بعد نشر العمل حدثت تطورات لم تكن تخطر على بال أحد. ومنها أن الشاعر الياباني يوزورو كاتاجيري (1931 – 2023) قام بمحاولة لإعادة إحياء شعر ماريتشيكو هذا إلى اللغة اليابانية! ففي العام الذي صدرت فيه «قصائد عشق لماريتشيكو» أي عام 1978 أصدر كاتاجيري نسخة ذاتية غير معلنة تحت اسم «محاولة إعادة إحياء قصائد عشق ماريتشيكو التي ترجمها كينيث ركسروث – إلى اللغة اليابانية بواسطة يوزورو كاتاجيري». وفي ختام محاولته تلك ذكر كاتاجيري الدافع الذي دعاه إلى إعادة إحياء القصائد قائلًا:

«في عام 21 أبريل من عام 1978 وفي حفل الإلقاء بالمركز الأمريكي بكيوتو، الذي أقيم احتفالا بالفائزات السبع لجائزة ركسروث للشاعرات الشابات، ألقى ركسروث قصائد ماريتشيكو الستين هذه دفعة واحدة، فتأثرتُ بها تأثرًا شديدًا مما دعاني إلى محاولة إعادتها إلى لغتها اليابانية الأصيلة»

نلاحظ هنا أن كاتاجيري يختار كلماته بحرص شديد، إذا أنه رغم معرفته بأن قصائد ماريتشيكو ترجمة مزيفة فهو مع ذلك يصرح أنه حاول إعادتها إلى لغتها الأصلية. فمن الأصل لم تكن قصائد ماريتشيكو قصائد عتيقة بالغة القدم فُقدت أصولها، بل للدهشة إنها لشاعرة شابة معاصرة على قيد الحياة على الأقل حتى عام 1978 كما ذكر ركسروث في ملاحظاته. فلماذا يا تُرى يتم إعادة إحياء الأصل عن طريق الترجمة العكسية؟ لم لا يُطلب الأصل الياباني من الشاعرة ويُنشر على الملأ؟ بل يقوم كاتاجيري بهذه المحاولة دون حتى الحصول على إذن تلك الشاعرة المزعومة! لقد ترُجمت «قصائد عشق يابانية» إلى لغات عديدة على أنها من تأليف ماريتشيكو، ولكن محاولة «إعادة إحيائها» إلى اللغة اليابانية على يد كاتاجيري دون حتى محاولة كشف سرها هذا، تُعد حدثًا نادرًا وربما ليس له مثيل في تاريخ الترجمة العالمي كله.

وإذا كانت الترجمة المزيفة من ركسروث عبارة عن مزاح ثقيل الظل كما تقول إيميلي أبتر في كتابها «منطقة الترجمة: أدب مقارن جديد» فإن محاولة كاتاجيري إعادة إحيائها تُعد ردًا على هذا المزاح بمزاح يفوقه في ثقل الظل!

لقد تناولتُ الحديث حتى الآن وكأنَّ «قصائد عشق ماريتشيكو» ليست سوى ترجمة زائفة، وأنّ ركسروث هو المؤلف الحقيقي لا المترجم، غير أنّ بعض الشكوك تظل عالقة ولا يسهل التخلّص منها تمامًا. ويعود سبب ذلك إلى أنّ بعض هذه القصائد حين نُشرت منفردة في بداياتها، أُرفقت معها نصوص يابانية قُدِّمت على أنها الأصول التي تُرجمت عنها. فعلى سبيل المثال، حين ظهرت خمس قصائد منسوبة إلى ماريتشيكو عام 1974 في مجلة الاتجاه الجديد، وُضع تحتها الأصل الياباني مكتوبًا بحروف لاتينية. وكذلك الأمر مع ست قصائد أخرى وردت ضمن ديوان مئة قصيدة أخرى من الشعر الياباني.

تُرى من الذي كتب تلك القصائد؟

يتفق الباحثون في ترجمات ركسروث على أنه لم يكن ليستطيع الترجمة عن اللغة اليابانية، وعن اللغة الصينية كذلك إلا بوجود شريك له لغته الأم اليابانية أو الصينية يعاونه في ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون هذا الشعر الياباني كتبه هذا المتعاون الياباني بناء على الشعر الإنجليزي الأصلي؟ ولذلك نستطيع افتراض التالي؛ لا وجود لشاعرة شابة يابانية تُسمى ماريتشيكو سواء كان اسمًا حقيقيًا أم مستعارًا، ولكن قصائد عشق ماريتشيكو كُتبت (على الأقل في البدايات) بالتعاون مع شخص ياباني.

لقد سبق أن ذكرت أن ركسروث صرح في إحدى حفلات الإلقاء أن ماريتشيكو هو الاسم المستعار لعشيقته اليابانية (بالمناسبة تزوج ركسروث أربع مرات) فإذا كان ركسروث هنا يشير إلى الشخص المتعاون معه، بهذه الحالة لا يحدث أي تناقض في افتراض أن قصائد عشق يابانية ترجمة مزيفة ألفها ركسروث نفسه.

ومع قول ذلك فهذه النصوص «اليابانية» بها العديد من العيوب فعلى سبيل المثال القصيدة رقم 20:

Who is there? Me.

Me who? I am me; you are you.

But you take my pronoun

and we are us.

من هناك؟ أنا.

أنا من؟ أنا أنا، وأنت أنت.

لكنك أخذت ضميري،

فأصبحنا نحن.

تقول إيميلي أبتر عن هذه القصيدة إنها تأليف مشترك بين ركسروث وماريتشيكو. ولكن كل من له إلمام بسيط باللغة اليابانية يعلم أنها لا تعرف الضمائر كما تعرفها اللغة الإنجليزية، وبالتالي لا يمكن تصور وجود قصيدة «شعر ياباني أصيل» تلعب على بديهية ضمائر المتكلم والمخاطب والجمع هكذا، فهذه القصيدة لا يمكن تصور إلا أنها كُتبت باللغة الإنجليزية ابتداء.

والأدهى والأمر أن هذه القصيدة من قصائد البدايات التي لها نص «ياباني» مكتوب بحروف لاتينية. وكلمة أخذتَ ضميري مكتوبة هكذا watashi ni tatte والتي من المرجح أن تكون خطأ مطبعيًّا إذ معناها قف لي أو قف أمامي، وهو ما لا معنى له ولا يُفهم فلا هي watashi ni totte بمعنى بالنسبة لي ولا هي watashi wo totte بمعنى حذفتني، ربما كانت خطأ مطبعيًّا وهي watashi ni totte ولكنها مع ذلك لا محل لها من الإعراب في وسط الكلام السابق ولا تعد لغة يابانية أصلًا، وحتى لو كانت القصيدة تنتهي بقول: «ولكنك حذفت الأنا فأصبحنا نحن» فهو مما لا يُقال هكذا باللغة اليابانية.

والسؤال لماذا أضاف ركسروث على ترجمته المزيفة التي ألفها بنفسها نصًا يابانيًّا بهذا الشكل المفضوح؟ الإجابة هي أنه أراد بالتأكيد إعطاء مصداقية لعمله المزيف هذا لجعله يبدو كأنه قصائد شعر يابانية حقيقية خاصة أمام القراء الأجانب الذين لا معرفة لهم باللغة اليابانية وأسرارها. ويتضح هذا بشكل مؤكد من إضافة تلك القصائد إلى ديوان أشعار يابانية حقيقية لشعراء وشاعرات معروفين ومعروفات وأشعارهم وأشعارهن المنشورة ملء السمع والبصر. إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، فأولًا لم يستمر ركسروث على هذا المنوال في إرفاق شعر ياباني مع ترجماته المزيفة، ربما لأن المتعاون معه توقف عن التعاون، وثانيًا إرفاق نصوص يابانية مع الترجمات أوضح بما لا يدع مكانًا للشك أنها ليست أشعارًا يابانية أصيلة، فربما قرر ركسروث التخلص من هذه المقارنات المزعجة له التي توضح البون الشاسع بين ما يورده من أشعار يابانية وبين الأشعار اليابانية الحقيقية.

يقول مورجان جيبسون في كتابه ركسروث الثوري السابق الإشارة إليه: «أقام ركسروث في بيتنا القريب من جامعة أوساكا، واستعان بشاعرة يابانية شابة اسمها ياسويو موريتا لترجمة قصائد عشق ماريتشيكو إلى اللغة اليابانية ولكنهما لم يتوصلا إلى نتائج مُرضية فتوقف المشروع دون اكتماله، ولكنني أحتفظ ببعض تجارب ذلك المشروع في شريط صوتي لهما».

أي أن ركسروث حاول في البداية في عامي 1974 و1976 إرفاق أشعار يابانية مع «ترجماته» ولكنها لم ترق إلى أن تقنع أحدًا بأنها الأصل، فذهب إلى اليابان وتعرف على شاعرة شابة وحاول أن يتعاونا معًا في إنتاج أشعار يابانية عظيمة ولكن المحاولة باءت بالفشل.

يقول ركسروث في مقاله «الشاعر مترجمًا»: «إن ترجمة الشعر في صيغة شعر لا يمكن أن تتم إلا من خلال الاندماج العاطفي. بمعنى أن تجعل الشاعر الآخر جزءًا منك، ثم تُحول كلماته لتكون كلماتك».

إن قصائد عشق ماريتشيكو عبارة عن أن ركسروث زيّف شاعرة خيالية اسمها ماريتشيكو ثم قوّلها ما يراه هو نفسها في المرأة اليابانية وجعلها تجسّد أفكاره المختلقة عن العشق الياباني. ثم في أثناء اندماج ركسروث في هذه العملية الإبداعية من وجهة نظره تطور حلمه إلى إعادة إحياء ماريتشيكو أصيلة، أي أنه حاول أن يجعل الكذبة التي اختلقها، حقيقة واقعية.

لقد ذكرت مثال الباتشينكو ولكن ركسروث صال وجال في ملاحظاته في نهاية القصائد ليعيث فسادًا في شرح وتوضيح المصطلحات اليابانية بطريقة بعيدة كل البعد عن أصولها الحقيقية (والتي لم يغفل المعرب بالطبع إثباتها وتأكيدها بصفتها صادرة عن قطب من أقطاب المعارف اليابانية وأحد الضالعين بالفكر والشعر والثقافة اليابانية) ولكن هذه الملاحظات وهي منشورة بصفاتها صادرة عنه وهو مسؤول مسؤولية تامة عنها هي الدليل الدامغ على أنه هو المتحكم والمسيطر تمامًا على ما تبثها هذه القصائد من أفكار وصور عن اليابان. وأنها عمل يوضح طيش ركسروث وتهوره في تنصيب نفسه العارف بأمر الشعر والثقافة اليابانية.

***

تدافع إيميلي أبتر عن ركسروث في كتابها منطقة الترجمة سالف الذكر بقولها:

«عند التمعن في قراءة قصائد ماريتشيكو يتضح لنا أنها من المستحيل تقبلها على أنها صادرة عن شاعرة يابانية شابة. ولكننا إذا نظرنا إلى هذه القصائد بصفتها عملًا إبداعيًا مستقلًا ألفه ركسروث، فما هي المشكلة؟ أليس الأمر هو نفسه؟ ماذا يهم إن كان النص من تأليف ماريتشيكو وتُرجم إلى اللغة الإنجليزية أم كان ترجمة زائفة كتبت من خلال النظرة الغربية الاستشراقية إلى اليابان؟ فلقد استخدم ركسروث هذه الترجمة الزائفة مثل كثيرين غيره استخدموا الاستشراق الأدبي كمنصة انطلاق إلى الحداثة، وهو ما يمكن غض الطرف عنه لما يمثله عمل هؤلاء من قيمة أدبية وإبداعية خالدة»

يعلق أكيكوسا على دفاع أبتر هذا عن ركسروث قائلًا: «إن الهدف منه في الأصل هو كشف كذب المؤلف وتوضيح أن العمل عبارة عن ترجمة زائفة وليس عملًا يابانيًا أصيلًا لذلك لا أعترض كثيرًا على كلامها، ولكنني عندما أرى نفسي وقد بتُّ تحت أقدام الغرب ويستخدموني منصة وثب فلن أشعر بالرضا أو الارتياح»

ثمة بعض الأعمال الأدبية التي حاول مؤلفوها إيهام القراء بأنها ليست أعمالًا خيالية بل هي حقائق واقعية عبر مقدمات أو «تصديرات» يمنح العمل قوة إيهام بالواقعية. فعلى سبيل المثال تبدأ رواية الكسوف للروائي الياباني كيئتشيرو هيرانو، بتصدير لاعتراف من البطل الراهب نيقولا، يؤكد أن ما سنقرأه ليس سوى يومياته الصادقة التي يقسم أمام الرب أنه لم يزوّر فيها شيئًا. ثم يتكرر الأمر نفسه في رواية الموسيقى للياباني الأشهر يوكيو ميشيما التي صُدّرت بكلمة من الناشر يوضح أن النص هو تقرير كتبه طبيب نفسي عن إحدى المريضات. ثم هناك عزازيل، رواية يوسف زيدان الشهيرة، التي صُدّرت بمقدمة من المترجم الذي ادعى أنه عثر على مخطوطات قديمة في إحدى الخرائب قام بترجمتها من لغتها الأصلية. وانخدع الكثيرون الذين لم يلحظوا كلمة رواية التي كُتبت بخط صغير على الغلاف، حيث أن الدكتور يوسف زيدان تخصصه المخطوطات وكان يرأس إدارة المخطوطات في مكتبة الإسكندرية.

أما في الأدب الغربي فنجد مثالًا آخر في قلعة أوترانتو (بالإنجليزية: The Castle of Otranto) وهي رواية نشرت عام 1764 بقلم هوراس والبول، وينظر إليها باعتبارها أول رواية قوطية وقد نُشرت في البداية على أنها مخطوطة قديمة مكتشفة، قبل أن يُكشف عن أنها خيال محض. ونفس الحال مع رواية جاك كازوت اللورد المرتجل عام 1767 (Lord impromptu).

ثم يأتي الروائي الروسي المعاصر أندريه ماكين الذي عندما حاول نشر أعماله باللغة الفرنسية لأول مرة في فرنسا، رُفضت من كل الناشرين بحجة أنها مؤلفات بالفرنسية لكاتب روسي مجهول، فقدّم ماكين أعماله إلى الناشرين على أنها ترجمات من اللغة الروسية، وبهذا نجح أخيرًا في نشر أعماله الأولى. ثم تم الاعتراف به لاحقًا كروائي روسي يكتب بالفرنسية، فبدأ ينشر أعماله على هذا الأساس.

ولكن هل كان كينيث ركسروث في حاجة إلى ذلك من عمله في تزييف قصائد عشق ماريتشيكو؟

منذ أن دشّن إدوارد سعيد أطروحته الشهيرة «الاستشراق» عام 1978، بات من الصعب قراءة أي تمثيل غربي للشرق – سواء كان أدبًا أو فنًا أو فلسفة – خارج إطار الشك في الخلفيات التي تصوغه. فالشرق في المخيال الغربي لم يكن يومًا حقيقة موضوعية، بل صورة مصنوعة، أو كما وصفه سعيد: «اختراع أوروبي» يخدم رغبات السلطة، الاستعمار، والهيمنة. وفي هذا السياق تأتي قصة «قصائد عشق يابانية» المنسوبة إلى شاعرة وهمية تدعى ماريتشيكو، والتي ترجمها الأمريكي كينيث ركسروث، ليكشف لنا كيف أن اليابان – بوصفها بلدًا آسيويًا خرج من عزلة طويلة – قد وقعت بدورها في فخ النظرة الاستشراقية، رغم حداثتها وتطورها.

فليس من قبيل الصدفة أن ترتبط «ماريتشيكو» بصورة المرأة اليابانية الجيشا: كائن غامض، نصف واقعي نصف أسطوري، مزيج بين الرغبة الجنسية والقداسة الروحية. هذا الخلط المتعمد يعكس الذهنية الاستشراقية التي تبحث في الشرق عن «أنوثة متخيَّلة»، جسد طيع يحمل رمزية عميقة للغربي الباحث عن المختلف. فالقصائد المنسوبة لماريتشيكو تنضح بالإيروتيكية، وفي الوقت ذاته تُغلف بغلالة من الروحانية الشرقية. هنا يتم تطويع الرموز الدينية والثقافية اليابانية لخدمة مخيلة غربية تبحث عن غرابة مثيرة. إنها عملية تشيئ للثقافة اليابانية تمامًا كما شُيّئت صورة «الحرملك» و«الغلمان» في الأدب الاستشراقي العربي.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن «قصائد عشق يابانية» لم تكن إلا إعادة إنتاج لصورة نمطية: المرأة الشرقية المجهولة، المحبة، الإيروتيكية، الروحانية، الخاضعة في النهاية لعين الرجل الغربي. بهذا يصبح النص مثالًا واضحًا على النظرة الدونية التي تصادر حق الشعوب غير الغربية في التعبير عن ذاتها.

إن مأساة «ماريتشيكو» أنها لم تكن موجودة أصلًا، لكنها مع ذلك عاشت حياة كاملة في مخيلة القراء، وأثّرت في النقد الأدبي، وتُرجمت إلى لغات عدة. هذه الحقيقة تكشف عن عمق الهيمنة الاستشراقية: فحتى حين لا يتحدث «الشرق»، يُخترع له صوت بديل يعبّر نيابة عنه. ومن هنا فإن مسؤولية الباحثين العرب واليابانيين وغير الغربيين اليوم ليست فقط في فضح هذه الممارسات، بل أيضًا في إعادة كتابة تاريخ الترجمة والأدب العالمي من منظور نقدي يرفض هذه التمثلات الزائفة.

إن قصة «قصائد عشق يابانية» إذن ليست مجرد خدعة أدبية، بل مرآة تعكس علاقة مختلة بين الشرق والغرب، حيث يُنظر إلى غير الغربي دومًا بوصفه مادة للتشيئ، غريبًا أو عجيبًا، لا ذاتًا فاعلة متساوية. وربما هنا تكمن المفارقة الأكبر: أن الاستشراق لا يزال حيًا حتى حين نظن أننا قد تجاوزناه.

المصادر:

  • قصائد عشق يابانية موقع مجلة نزوى على الإنترنت
  • Lost In Mistranslation – حول ترجمة كينيث ركسروث الزائفة لقصائد عشق ماريتشيكو: شونئتشيرو أكيكوسا
  • كينيث ركسروث واليابان: تتسيا تاغوتشي
  • مبادئ الإبداع لثقافة ما بعد الرجل الأبيض – كينيث ركسروث حياته وشخصيته: تتسيا تاغوتشي
  • صفحة التعريف بالشاعر كينيث ركسروث على موقع ويكيبيديا باللغة الإنجليزية (ومن الملاحظ عدم وجود صفحة له باللغة اليابانية)
  • موقع معبد ماريشيتن في حي أوينو بطوكيو 
* نُشرت على موقع كتب مملة بتاريخ 10 نوفمبر 2025

السبت، 20 سبتمبر 2025

أفلاج عمان وعالم السحر والحسد فى «تغريبة القافر»


 

د. مايوكو أوكاوا

ترجمة:  ميسرة عفيفى

تغوص «تغريبة القافر» للأديب زهران القاسمى فى خضم علاقة الإنسان بالماء، وتنفتح على عوالم المعتقدات التى شكلها العرف والتقاليد العتيقة. إنها رواية من سلطنة عُمان ذلك البلد القابع على أطراف الجزيرة العربية، والذى ما زال مجهولًا لدى اليابانيين. ترسم الرواية ملامح البيئة الطبيعية العُمانية المتفرّدة، وتغوص فى تفاصيل المجتمع القروى التقليدى، مانحةً القارئ اليابانى فرصة نادرة للتعرّف على هذا العالم مباشرةً بلغته. مسرح الأحداث وخلفيتها التاريخية  نستشف من معطيات الرواية أن أحداثها تدور على الأرجح فى النصف الأول من القرن العشرين، فى الحقبة التى سبقت انطلاق النهضة الحديثة فى عمان عام 1970 وتُستمدّ هذه القراءة من إشارتين بارزتين وردتا فى الرواية: الأولى تتعلق بتنقل العمانيين بين وطنهم والساحل الشرقى لأفريقيا، والثانية بذكر استخدام عملة القروش. لقد كانت القروش متداولة منذ النصف الثانى من القرن 19 حتى منتصف القرن 20، بوصفها عملة مكمّلة للروبية الهندية وروبية زنجبار، قبل أن تبدأ عمان بسكّ عملتها الوطنية المستقلة لاحقًا. فى تلك الفترة، كانت البلاد تخضع لحكم السلطان سعيد بن تيمور (الذى امتد من عام 1932 إلى 1970)، وفرض عزلة على عمان، مصحوبة بقيود على حركة الدخول والخروج، استمرت لأكثر من 30 عامًا. وخلال تلك العقود، غرقت البلاد فى فقر مدقع، وظلّ ذلك الحال قائمًا حتى اكتشاف النفط فى عام 1962. كان معظم السكان يعيشون حياة تقليدية بسيطة وسط بيئة طبيعية قاسية، ويقيمون فى بيوت مشيّدة من الطوب اللبن، تفتقر إلى شبكات الكهرباء والمياه. عند مشارف عام 1970، قبيل تولّى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم وبداية النهضة المعاصرة المعتمدة على موارد النفط، كانت البلاد لا تضم سوى ثلاث مدارس ابتدائية، ومستشفى واحد فقط، ولم يتجاوز طول الطرق المعبّدة بالأسفلت عشرة كيلومترات. لقد بدأت علاقتى الشخصية بعُمان قبل نحو 30 عامًا، ومنذ ذلك الحين وأنا ألحظ سرعة التحولات الاجتماعية التى كانت تبهرنى فى كل زيارة. لم تعد مظاهر الحياة التقليدية التى تصفها الرواية مشهودة حتى فى القرى، رغم أنّ الفجوة ما تزال قائمة بين المدن والريف. ويظهر هذا التفاوت لا فى لهجات اللغة العربية فحسب، بل فى الملبس والمأكل وأنماط المعيشة والعلاقات الاجتماعية أيضًا. فعلى سبيل المثال، العباءة السوداء الطويلة التى يرتديها كثير من النساء فى المدن اليوم زى مستحدث نسبيًا، أما اللباس العمانى التقليدى للنساء فكان يتكوَّن من لبس قصير ملون بألوان زاهية تصل إلى الركبة، وسروال طويل، وغطاء رأس قطنى كبير. فى حين ما زالت الدشداشة الرجالية وغطاء الرأس المطرّز المعروف باسم «الكُمة» والتى قد تُستبدَل بقطعة قماش مزركشة يُلفُّ بها الرأس تُسمى «المصر» يعتبر الزى الرسمى ويعد لزامًا ارتداؤه لموظفى الجهات والوحدات الحكومية – ورد ذكرهما فى الرواية – ويُعدّان من الملامح الثابتة للزى الوطنى الرجالى المتوارث حتى اليوم.  أشار المؤلف إلى أن قرية «المسفاة»، مسرح الرواية، ليست هى نفسها «المسفاة» الحالية الواقعة فى الداخل العمانى. ومع ذلك، فإن المسفاة المعاصرة تعدّ واحة زاخرة بالخضرة والنباتات، وتعتمد فى ريّها على مياه الأفلاج، ولا تختلف كثيرًا فى ملامحها عن الصورة التى رسمتها الرواية. وما زلت أتذكر بوضوح ذلك اليوم من أواخر القرن الماضى حين زرتُ القرية، وذهبت برفقة بنات الأسرة المضيفة إلى الفلج، حيث قضينا وقتًا ممتعًا نلهو ونلعب فى مياهه. أفلاج عمان وإدارة الموارد المائية  سالم بطل الرواية شخصية فريدة بموهبته النادرة فى اكتشاف مسارات المياه المختبئة فى باطن الأرض، ومع ذلك تنهال عليه المصائب المرتبطة بالماء. إذ تلقى والدته حتفها غرقًا فى بئر، فيما يُفقد والده حياته إثر انهيار أحد الأفلاج. تنسج حياة سالم، التى تعتمد على الماء وتُكابد بسببه أيضًا، علاقة وثيقة وعميقة بالبيئة الطبيعية لعُمان، وتُعدّ الأفلاج التعبير الرمزى الأبرز لتلك العلاقة. فى سلطنة عمان، حيث تكاد الأمطار تنعدم باستثناء المناطق الجنوبية، تؤدى الأفلاج دورًا بالغ الأهمية فى الحياة اليومية، إذ تُعد من أهم أنظمة الرى التقليدية التى تنقل المياه من باطن الأرض والينابيع الجبلية لتوزّعها بين الحقول الزراعية والمساكن. تحتضن عمان ما يناهز ثلاثة آلاف فلج، ولا توصل المياه مباشرة إلى الأراضى والبيوت، بل تُجمع أولًا فى حوض مائى يُعرف باسم «الشريعة»، يُستخدم لتنظيم توزيع المياه وإدارتها. ومن خلال هذا التنظيم، يمكن توفير كميات المياه اللازمة فى الوقت المناسب. وتُعدّ الأفلاج جزءًا جوهريًا من البنية التحتية التى يُبنى عليها استقرار التجمعات السكنية، لذلك فإن إدارتها تتم بصورة جماعية على يد سكان القرى. فى كل قرية ثمة جداول زمنية دقيقة لاستخدام المياه، يضعها شيوخ القرية، وهم من زعماء القبائل وأعيان البلدة. ويحق لكل من تشملهم خدمات الفلج استخدام مياهه فى حياتهم اليومية، سواء للشرب أو للنظافة أو لسقى الأنعام. أما حين يتعلق الأمر برى الأراضى الزراعية، فثمة حقوق خاصة باستخدام المياه تُحدد من خلال جداول دقيقة توزّع أوقات الرى بين الأسر المالكة لحقوق المياه. وهذه الحقوق يُمكن بيعها أو تأجيرها، كما تنتقل وراثةً ضمن التركة من جيل إلى جيل. تقوم البنية الاجتماعية فى سلطنة عمان على نظام عشائرى تقليدى، تتصدر فيه القبائل موقعًا محوريًا، ولا سيّما فى القرى الريفية حيث لا يزال تأثير شيوخ القبائل والعشائر حاضرًا بقوة ونفوذهم قائمًا. وقبل ترسيخ سلطة الدولة المركزية، أى قبل عام 1970م، كانت القبائل والعشائر تضطلع بدور حاسم فى مختلف مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ كانت تتولى إدارة شؤون الحكم المحلى وتنظيم حقوق المياه، بحسب التقسيمات القبلية لكل منطقة. وقد ظلت القبائل القوية والأسر ذات النسب العريق تحتفظ بتأثير اجتماعى واسع، لا سيما عبر سيطرتها على موارد المياه التى تشكّل عنصرًا حيويًا فى حياة السكان. وعلى الرغم من أن رواية تغريبة القافر لا تُشير إلى أسماء قبائل أو عشائر بعينها، إلا أن الواقع العمانى يُظهر أن اسم القبيلة يكشف فى الغالب عن أصول الشخص، وما إذا كان منحدرًا من أصول عربية أم لا، ويُشير كذلك إلى ولايته التى ينتمى إليها، بل وإلى مكانة قبيلته بين القبائل الأخرى. ويُولى المجتمع العمانى أهمية بالغة للروابط العائلية والعشائرية، حيث تحظى العلاقات الأسرية والزواج بأهمية كبرى فى إطار هذه البنية الاجتماعية، ما يجعل زواج الأقارب، كأبناء العمومة والخؤولة، أمرًا شائعًا ومقبولًا اجتماعيًا. وفى أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة، حين كنتُ أُجرى بحثًا ميدانيًا فى المناطق الشرقية من عُمان، كانت الأفلاج تُستخدم على نطاق واسع، وتشكل أحد الأعمدة الأساسية للحياة اليومية. ,بالإضافة إلى دورها فى رى مزارع النخيل وتوفير مياه الشرب وسقى الأنعام، كانت تُستخدم أيضًا لاستحمام الأطفال. وفى عيد الأضحى، يذبح الأهالى الأضاحى من الماعز ويقيمون الولائم التى تمتد لأيام، وتُشاهد آنذاك مشاهد تقطيع اللحوم وغسلها بجوار مجرى الفلج. وفى المناطق التى تمر فيها الأفلاج فى أنفاق تحت الأرض، تُبنى سلالم تؤدى إليها، وتُستخدم كمرافق للاستحمام، وتجد النساء فى تلك الأماكن خصوصية تتيح لهن الاستحمام بأمان، إذ تحيط بهن الجدران من جميع الجهات. أما اليوم، فقد امتدت شبكات المياه إلى المنازل، وشهدت تطورًا ملحوظًا، ما جعل مشهد غسل الأوانى أو الملابس فى الأفلاج من الأمور النادرة. ومع ذلك، ما تزال الأفلاج تحتفظ بدورها المحورى فى القرى، سواء فى الحفاظ على نمط المعيشة التقليدى أو فى رى الحقول الزراعية. وفى السنوات الأخيرة، ظهرت استخدامات جديدة للأفلاج، كغسل السيارات، مما يُشير إلى استمرار تكيف هذه المنظومة القديمة مع متطلبات الحياة الحديثة. وفى عام 2006، تم تسجيل نظام الأفلاج العمانى ضمن قائمة التراث العالمى لدى منظمة اليونسكو، ما أضفى عليها قيمة ثقافية وتاريخية إضافية. السحر والاعتقادات الشعبية يُقال عمومًا إن الجزيرة العربية تُعدّ من أكثر المجتمعات الإسلامية التزامًا بتعاليم الدين التزامًا صارمًا، حيث يشتهر سكانها، فى الغالب، بحماسهم الدينى وتمسكهم بالإيمان. وتُغطى معظم النساء رؤوسهن بالحجاب، ما يعكس الصورة النمطية التى غالبًا ما تنقلها وسائل الإعلام عن المجتمعات الإسلامية. غير أن هذا الالتزام الظاهرى لا ينفى وجود معتقدات شعبية متجذّرة فى الوعى الجمعى، تُؤمن بوجود أرواح غير إلهية، تُنسب إلى ما يُعرف بالجن. وتنتشر هذه المعتقدات على نطاق واسع فى سلطنة عمان، ويُعرف المجتمع هناك بإيمانه الراسخ بوجود الجن، حتى إن البلاد تُعدُّ، فى نظر جيرانها، من المناطق التى لا تزال الخرافات والسحر تلعب فيها دورًا ظاهرًا. وتُعد مدينة بهلاء، الواقعة فى عمق الداخل العمانى وتحتضن قلعة بهلاء التاريخية المُدرجة ضمن قائمة التراث العالمى لدى منظمة اليونسكو، من أبرز الأمثلة على ذلك، إذ اكتسبت شهرة بأنها معقل للسحر. وقد بدأت المدينة فى السنوات الأخيرة الاستفادة من هذه السمعة، مستثمرةً إياها فى تنشيط حركة السياحة والسفر إليها. يُؤمن أهل عمان إيمانًا واسعًا بقوة السحر، حيث يُنظر إليه باعتباره وسيلة مزدوجة الأوجه؛ فمن جهة يُستخدم فى التداوى من الأمراض، وجلب المحبة، ودفع الشرور، ومن جهة أخرى يُستعمل للانتقام، والثأر، وإيقاع اللعنات. ومن أبرز المعتقدات التى تشكّل أحد المحاور الجوهرية فى رواية تغريبة القافر هو الاعتقاد بالحسد. فالحسد، كما يُتصور فى المعتقد الشعبى، قوة خفية تفوق قوانين الطبيعة، تجعل من نظرة الحاسد الشريرة كافية لهدم سعادة الآخرين وتعكير صفو حياتهم. وتُعدّ أشياء كثيرة عرضة لهذا الحسد، مثل المولود الجديد، لا سيما إذا كان ذكرًا، والبيت الجديد أو السيارة، والنجاح التجارى، وحتى أداء فريضة الحج إلى مكة. وفى الرواية، بعد أن فقدت آسية بنت محمد أبناءها الرضَّع الواحد تلو الآخر بسبب المرض، لجأت إلى تسمية مولودتها باسم مشين درءًا للحسد وحمايةً لها من عيون الحاسدين. وعند إصابة شخص بمرض أو جرح أو موت مفاجئ، فالشكّ لا يتجه بدايةً إلى الأسباب الطبية، بل يُعزى غالبًا إلى أثر الحسد. ولهذا الغرض وُجدت وسائل يُعتقد أنها تقى من «العين»، منها الأحجبة المكتوب عليها آيات من القرآن الكريم، ومنها أيضًا التمائم والميداليات على هيئة عين، يُقال إنها ترد نظرات الحاسد بنظرات مضادة تصدّها وتكبح أذاها. كما تُرى فى بعض القرى العمانية رسومات لكفّ يد بشرية على أبواب البيوت، يُعتقد أنها تمسك بنظرات الحسد وتحول دون دخولها إلى الدار. وإلى جانب الحسد، يُعد الإيمان بالجنّ اعتقادًا شائعًا فى أوساط العامة فى المجتمعات الإسلامية. ويُقسَّم الجن إلى صالح وفاسد، ويُخشى من الأخير الذى يُعتقد أنه من الشياطين. ويُعتقد أن الجن يسكن الأماكن المظلمة والرطبة، مثل الحمامات، والمراحيض، والآبار، والمقابر، ومنابع المياه، والكهوف، وغيرها. وفى القرية التى أجريتُ فيها أبحاثى، كان يُمنع الصغار من اللعب قرب الفلج بعد غروب الشمس. وتعكس الرواية هذه المعتقدات بوضوح، حيث تموت مريم، والدة سالم بطل الرواية، غريقة فى بئر، ويفقد والده حياته جرّاء انهيار قناة فلج. ويُنظر إلى سالم نفسه نظرة مشؤومة، إذ وُلد من أم غرقت فى الماء، وتُقابل قدرته الفريدة على اكتشاف مسارات المياه فى باطن الأرض بالخوف، بوصفها «قوة ملعونة». ويُعدّ الاعتقاد بأن الغرق والمرض من فعل الجن قاعدة راسخة لدى أهل القرى، لم تتغير مع مرور الزمن. فالماء، على الرغم من كونه عنصرًا مقدّسًا فى البيئة الصحراوية العمانية، إلا أنه، وبسبب ندرته وقيمته، يُعتقد أيضًا أن منابعه مأهولة بالجنّ. يحيا الناس فى حياتهم اليومية وهم يستبطنون حضور السحر فى وعيهم الجمعى، ويُعتقد على نطاق واسع أن النساء والأطفال هم الأكثر عرضة لتأثيراته. ويُشاع كذلك أن النساء، على وجه الخصوص، هنّ الأكثر لجوءًا إلى استخدام السحر، نظرًا لما يعتقده كثير من الناس من أن الحمل والإجهاض من الأمور التى تتأثر بالحسد وأعمال السحر. وفى القرية التى أجريت فيها أبحاثى، شاعت حادثة كانت مدار حديث الناس، مفادها أن خطيب إحدى الفتيات قد فسخ خطبته منها وتزوج بغيرها، فتناقل الأهالى أن الفتاة التى فُسخت خطبتها وأسرتها لجأوا إلى السحر للتفريق بين الزوجين ومنع الزوجة من الإنجاب. وقد أبدت الزوجة المعنية قدرًا من اللامبالاة، غير أن النساء المحيطات بها أبدين تعاطفًا صادقًا، ونصحنها باتخاذ التدابير اللازمة لدرء آثار السحر، من خلال حمل التمائم والأحجبة. وفى تغريبة القافر، تنعكس مثل هذه المعتقدات بوضوح، حيث نرى نساء القرية ينصحن مريم، والدة بطل الرواية، التى طال تأخر حملها، بأن تحرق البخور والصمغ لطرد النحس، خاصة وأن بيتها يقع بمحاذاة المقبرة، وهو موقع يُنظر إليه على أنه مشؤوم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المعتقدات الشعبية كانت سائدة فى الجزيرة العربية منذ ما قبل ظهور الإسلام، غير أنها مع مرور الزمن اقترنت بالدين، من خلال إدماجها بآيات القرآن الكريم التى تُستخدم لدرء الأذى، أو باستدعاء شيخٍ يقرأ الرُقى والتعاويذ. وتصور الرواية مشاهد لهذا التداخل، كتلاوة القرآن لطرد الشياطين، أو قراءة الشيخ على كوب ماء ليُشرب منه الطفل طلبًا للشفاء. إن مزج التقاليد الإسلامية بهذه المعتقدات الشعبية المتجذرة فى الوعى الجمعى أمر متأصل فى الحياة اليومية للمجتمعات الإسلامية، سواء فى الماضى أو فى الحاضر، ويُعدّ مظهرًا من مظاهر التداخل بين الدين والثقافة الشعبية فى بنية الوعى الاجتماعى. الصلات مع ساحل القرن الأفريقى ومصيرها فى ختام الحديث، أود أن أتناول موضوع ساحل القرن الأفريقى الذى تكرر ذكره فى عدة مواضع من الرواية. ومن الجدير بالذكر، وهى معلومة قد لا تكون معروفة على نطاق واسع فى اليابان، أن سلطنة عُمان كانت ذات يوم تبسط نفوذها على الساحل الشرقى للقارة الأفريقية بأكمله، ما جعل كثيرًا من العمانيين يشدّون الرحال عبر السفن والبواخر إلى تلك الأصقاع، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكانت جزر زنجبار، على وجه الخصوص، هى الوجهة الأهم لهم. وفى الرواية، يفقد والد مريم – والدة سالم بطل الحكاية – حياته غرقًا فى سفينة كانت متجهة من عُمان إلى جزر زنجبار. أما والد سالم، عبد الله، فكان محرومًا من أية ملكية زراعية، لا أرض ولا نخيل، لأن والده الذى رحل إلى الساحل الأفريقى، جُرّدت أسرته من ممتلكاتها، إذ استولى أهل القرية على ما تركه من ثروة وأرض واقتسموها بينهم. ولم يكن رحيل العمانيين إلى شرق أفريقيا أمرًا نادرًا، بل كان كثيرون، لا سيما من ولايات الشرق العمانى، يغادرون الوطن زمن القحط والجفاف، بحثًا عن المياه والخصب فى أراضى أفريقيا الغنية. وعندما نقرأ فى الرواية إشارة إلى الرحلة التى انطلقت من ميناء صور الواقع فى المنطقة الشرقية، يخطر لنا أن قرية المسفاة، التى جرت فيها أحداث الرواية، لا تبعد كثيرًا عن ذلك الميناء البحرى. فى نهاية الرواية، نرى البطل وقد وجد نفسه حبيسًا فى قناة الفلج، يقاتل بعناد ضد الصخور والمياه، فى محاولة مستميتة للنجاة بحياته. وهذا الصراع لا يعكس فقط علاقة الإنسان العمانى ببيئته القاسية، بل هو تجسيد رمزى للمجتمع العمانى فى صراعه الأزلى بين التراث والتجديد، بين الماضى والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة. فالماء، هذا العنصر الذى يحمل وجهين متناقضين – العطاء والتهديد – كان منذ القدم سببًا فى استمرار الحياة، كما كان فى الوقت ذاته مصدرًا للهلاك. وفى عالمنا المعاصر، حيث التغيّرات المُناخية وتضاؤل الموارد المائية باتا من أبرز التحديات، تصبح صورة الإنسان المحاصر بالماء التى ترسمها الرواية، ليست مجرَّد مشهد من ماضٍ سحيق، بل استعارة رمزية تلخّص الواقع الذى تواجهه المجتمعات اليوم. وتضع أمامنا حكاية سالم سؤالًا وجوديًّا ملحًّا: كيف سيقف الإنسان فى مواجهة الطبيعة وسط هذه التحولات الكونية، وكيف سيصمد ليستمر فى العيش على وجه هذه الأرض؟ 

 

*نُشرت في أخبار الأدب عدد 14 سبتمبر 2025

 هنا