بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 نوفمبر 2025

"قصائد عشق يابانية".. جريمة أدبية متكاملة بقلم: ميسرة عبد الراضي عفيفي

"قصائد عشق يابانية".. جريمة أدبية متكاملة

بقلم: ميسرة عبد الراضي عفيفي 

نشرت مجلة نزوى العُمانية بتاريخ 1 يوليو 1998 مجموعة من النصوص الشعرية بعنوان «قصائد عشق يابانية»، تعريب عبد الكريم الحنكي، الشاعر والمترجم اليمني، وفي التصدير الذي كتبه الحنكي جاء ما يلي:

«هذه مجموعة من قصائد الشاعرة اليابانيه المعاصرة ماريتشي كو، ننقلها الى العربية، عبر الانجليزيه التي نقلت اليها عن الأصل الياباني، مع إدراكنا ما يكتنف ذلك من محاذير.»

ثم أضاف:

«بقي أن أشير الى أن هذه القصائد معربة عن مجموعة للشاعـر الأمريكـي كنـث ركسرث (1905-1982) تضم عددا من قصائده وترجماته الشعرية التي أنجزها أثناء إقامته في مدينة كنوتو في اليابان ما بين 1974-1978 وأصدرها بعد ذلك.» (الفقرتان منقولتان بحروفهما من موقع مجلة نزوى على الإنترنت).

فما هي إذن حكاية كينيث ركسروث و«قصائد عشق يابانية لماريتشيكو»؟ ومن هي ماريتشيكو؟

لنبدأ من التعريف بالشاعر الأمريكي كينيث ركسروث (Kenneth Rexroth):

كينيث تشارلز ماريون ركسروث (22 ديسمبر 1905 – 6 يونيو 1982) شاعر ومترجم وكاتب المقالات النقدية، وُلد في ولاية إنديانا، لبائع أدوية، عانى في طفولته من إدمان والده على الكحول ومرض والدته المزمن. توفيت والدته عام 1916 ووالده عام 1919، فانتقل للعيش مع عمته في شيكاغو والتحق بمعهد شيكاغو للفنون. تعلّم ركسروث ذاتيًا عدة لغات وترجم قصائد من الفرنسية والإسبانية والصينية واليابانية. وفي سن التاسعة عشرة، سافر عبر البلاد متنقلًا بين الوظائف. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، ارتبط ركسروث بالموضوعيين ثم أُدرج اسمه في عدد عام 1931 من مجلة الشعر المخصص للشعر الموضوعي، وفي مختارات «الموضوعيين» لعام 1932. يمكن تصنيف الكثير من أعمال ركسروث على أنها «إيروتيكية» نظرًا لشغفه العميق بالحب المتسامي. إذ يتجلى شعر ركسروث بشكل كامل في الشعر الإيروتيكي. انخرط ركسروث في شبابه في شيكاغو، في الحركة الأناركية وكان ناشطًا في اتحاد العمال الصناعيين في العالم. وعرّف نفسه بأنه أناركي فلسفي.

كان ركسروث من دعاة السلام، فعارض الخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، وعُرف عنه مساعدته للأمريكيين من أصل ياباني الذين قُبض عليهم ووضعوا في معتقلات إيواء طوال سنين الحرب. في العام السابق لوفاته، اعتنق ركسروث الكاثوليكية الرومانية.

ترجمات ركسروث من اللغة اليابانية:

  • مئة قصيدة من اليابان 1955
  • مئة قصيدة أخرى من اليابان 1976
  • القلب المحترق – قصائد شاعرات من اليابان 1977
  • مختارات من قصائد الشاعرة كازوكو شيرايشي 1978
  • نجم الصباح وقصائد عشق يابانية لماريتشيكو 1978

ننتقل الآن للتعريف بالإلهة ماريشيتن:

الإلهة ماريشيتن (ماريشي تعني «الجلال» أو «ضباب الحرارة») هي إلهة سماوية تحمي البوذية. يُقال إنها تمنح الحيوية والقوة والثروة لمن يحجون للصلاة، وتدفع عنهم البلاء، وتجلب لهم الحظ السعيد. ويُقال إنها الإلهة الحارسة الأكثر إعجازًا بين جميع آلهة السماء والخير.

انتشر الاعتقاد بماريشيتن، الإلهة الحامية للساموراي، في اليابان منذ العصور الوسطى، إذ كان يُعتقد أن كل من عرف اسمها ودعا إليها نجا من كل مكروه ونال فضل النصر. وباعتبارها إلهة حماية للمحاربين الذين صدّوا الشدائد وقادوهم إلى النصر، انتشرت عبادة ماريشيتن بين عامة الناس منذ منتصف عصر إيدو حتى الآن، فيأتي الناس من جميع أنحاء البلاد للصلاة ليس فقط من أجل الحظ السعيد والحماية من المصائب والكوارث، ولكن أيضًا من أجل سلامة عائلاتهم والازدهار في الأعمال، وأولئك الذين يعملون في السياسة والترفيه والرياضة للصلاة من أجل النصر وتحقيق أمانيهم.

***

والآن إلى التعريف بتاريخ قصائد عشق يابانية التي عُرفت في اليابان بعنوان «قصائد عشق ماريتشيكو». وفيما يلي ملخص لبحث أكاديمي كتبه الباحث الياباني شونئتشيرو أكيكوسا بعنوان: «Lost In Mistranslation – حول ترجمة كينيث ركسروث الزائفة لقصائد عشق ماريتشيكو» (Lost in Mistranslation: On Kenneth Rexroth's Pseudo-translation, The Love Poems of Marichiko) ونشره باللغة اليابانية بتاريخ أبريل من عام 2014.

ظهرت قصائد عشق يابانية لماريتشيكو لأول مرة ضمن مختارات من الشعر في مجلة الاتجاه الجديد الأمريكية الصادرة في عام 1974 حيث ظهرت خمس قصائد من ترجمة ركسروث، ثم أضاف إليها سبع قصائد أخرى ونشر 12 قصيدة في مجلة الشعر الجديد من نفس العام. ثم في عام 1976 وضمن كتاب مئة قصيدة أخرى من الشعر الياباني ظهرت ست قصائد لماريتشيكو. وبعد هذا الظهور لماريتشيكو صدر كتاب صغير بعنوان «قصائد عشق ماريتشيكو» في عام 1978 من دار نشر كريستوفر بوكس في سانت بربارة بعدد محدود من النسخ لم يتجاوز الألف نسخة، (نشر الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في الرياض في نفس العام، أي عام 1978 ست قصائد تحت عنوان «أشعار حب يابانية» ذاكرًا أنها مترجمة عن الإنجليزية، ونص القصيبي المترجم هذا مختلف عن العمل الذي نحن بصدده وإن كان الجو العام متشابه، ولا ندري هل اختار القصيبي ست قصائد من هذا الكتيب الصغير وترجمها أم لا؟) وقد ضم الكتاب ستين قصيدة منها جميع القصائد التي نشرت من قبل وسبق ذكرها. وفي العام التالي 1979 عندما نشر كينيث ركسروث ديوانه «نجمة الصباح» أضاف إليه هذه القصائد الستين في آخر الكتاب بنفس العنوان ذاكرًا أنها من ترجمته.

لنَعُد إلى قصائد عشق ماريتشيكو فنجد بعد البحث المضني، أنه بالطبع لم يسبق أن نُشر أي عمل شعري باللغة اليابانية يحمل اسم شاعرة بهذا الاسم التي لم تعتاد عليه الأذن اليابانية. وفي ملاحظات المترجم يذكر ركسروث نفسه: «ماريتشيكو هو اسم مستعار لفتاة معاصرة تعيش بالقرب من معبد بوذي مخصص لعبادة الإله ماريشي بن في كيوتو» ولكن ماريتشي هو النطق الإنجليزي لاسم ماريشي بن ولا يُعرف كيف يُكتب باللغة اليابانية. ولكن من هي تلك الفتاة الغامضة؟ طبقًا للباحثة الأمريكية ليندا هاماليان في كتابها حياة كينيث ركسروث وهو سيرة للشاعر تقول إن ركسروث صرح في إحدى حفلات إلقائه لشعره أن ماريتشيكو هي عشيقته اليابانية مما سبب استياء واسعًا من الجمهور.

أغلب من كان لهم علاقات وطيدة بالشاعر ركسروث من اليابانيين التزموا الصمت التام إزاء هذا السؤال. على سبيل المثال سانيهيدي كوداما هرب من مناقشة موضوع قصائد عشق ماريتشيكو في بحثه الذي ناقش فيه تأثر شعر ركسروث بالأدب الياباني، وقال إنه يتنازل عن الحديث عن هذا العمل لغيره من الباحثين. إلا أن الشاعر والباحث الأمريكي في الأدب الياباني مورجان جيبسون في كتابه: «ركسروث الثوري – شاعر الحكمة الشرق-غربية»، يفضح حقيقة العمل قائلًا إن ركسروث كان يعاني الأمرين من إلقاء هذه القصائد في حفلات الإلقاء إلا أنه صرح لبعض الخاصة من أصدقائه أنه في الحقيقة مؤلف هذه القصائد.

بمعنى أن ماريتشيكو ذاتها كانت خيالًا مثلها مثل قصائدها. ولنا أن نسأل كم قارئًا انخدع بهذه القصائد وتلقاها على أنها عمل ياباني؟ على الأقل كل الأبحاث التي ناقشت هذه القصائد بعد ذلك تنطلق من هذه البديهية وهي أنه لا وجود لشاعرة باسم مستعار هو ماريتشيكو وأن هذه القصائد من تأليف (تزييف؟) كينيث ركسروث. إلا أن هذا الأمر استمر منذ صدور القصائد وانتشارها سرًا لا يعرفه أحد، ثم تُرجم النص إلى لغات أخرى على أنه قصائد عشق يابانية. والسبب في ذلك هو محتوى العمل كما سنرى فيما يلي.

من خلال عنوان «قصائد عشق ماريتشيكو» نعلم أن القصائد لفتاة اسمها ماريتشيكو تعيش في كيوتو تتحدث فيها عن علاقتها مع حبيبها بجراءة مدهشة. ولكن يُلاحظ أن جنس المعشوق به بعض الغموض فهو مذكر على الأغلب ولكن أحيانًا يكون مؤنثًا وقد أشار ركسروث إلى ذلك في ملاحظاته التي ذيّل بها القصائد (من العجيب أن المعرب فهم ذلك الغموض فهمًا شاذًا جدًا إذ علّق قائلًا: أما إشارة المترجم الأخيرة الى غموض جنس المعشوق، وما تنطوي عليه من إلماع الى مثلية جنسية محتملة، فلا أرجحها، فالأحوال التي تصورها هذه القصائد لا تدل على ذلك، كما أنها تشير الى المعشوق – وحسب ترجمته – بضمير الغالب المذكر He الذي لا يحتمل اللبس. ولو قد كان الأمر كذلك، لما عدمت شاعرتنا الجرأة في التصريح به). وكذلك هناك غموض في هل ماريتشيكو شابة كما ذكر ركسروث في ملاحظاته، أم أنها في منتصف العمر كما تقول القصيدة 48:

Now the fireflies of our youth

are all gone,

thanks to the efficient insecticides

of our middle age.

الآن اختفت جميع يراعات شبابنا،

وذلك بفضل المبيدات الحشرية الفعالة

في منتصف أعمارنا.

إن مثل هذه الألغاز وهذا الغموض هو السمة الأساسية لتلك القصائد.

فصورة ماريتشيكو التي لا يمكن تخيلها تعكس بشكل غامض صورة ركسروث نفسه. فقد زار ركسروث اليابان لأول مرة في عام 1967 بعد اشتياق شديد لتلك الزيارة، ونشر تجربته تلك في عمله «حدائق القلب وقلب الحدائق» ويذكر أنه شُرح له في أثناء زيارته لمعبد ماريشي تن أن ماريشي هي إلهة الفجر، غانية وجيشا. وفي ملاحظاته على القصائد يقول ركسروث إن الإلهة ماريشي تن لها ثلاث أوجه أحدها هو وجه الخنزير والآخر وجه امرأة في حالة نشوة جنسية والثالث للفجر. وشرح ركسروث هذا يختلف اختلافا تامًا لما تعارف عليه في اليابان عن الإلهة ماريشي تن بصفتها الإلهة الحامية للساموراي، ولا ندري من أين استقى ركسروث معلوماته تلك. إلا أن محتوى قصائد العشق التي لدينا تعتمد بشكل أساسي على هذه المعلومات المضللة. على سبيل المثال القصيدة رقم 24:

I scream as you bite

my nipple. And orgasm

drains my body, as if I

had been cut into two.

أصرخُ وأنتَ تعضّ حلمتيّ.

والنشوةُ تُرهِقُ جسدي،

كما لو أنني قُطِّعتُ إلى نصفين.

علاوة على ذلك فالمنتشر في كل أنحاء القصائد هو الوله الياباني على نحو استشراقي يجعل أي ياباني يجذع من مجرد سماعه وليس تأليفه. فعلى سبيل المثال تقول القصيدة رقم 23:

I wish I could be

kannon of eleven heads

to kiss you. Kannon

of the thousand arms

to embrace you forever.

أتمنى لو أستطيع

أن أكون كانونًا

ذات أحد عشر رأسًا لأقبلك.

كانونًا ذات ألف ذراع

لأحتضنك للأبد.

ومثل كلمة كانون تُستخدم في القصائد كلمات يابانية كما هي مثل العندليب والباب المنزلق والسيدة شيزوكا وهذه الكلمات تعبر عن اليابان العتيقة التقليدية. إلا أنه ينتقل إلى العصر الحالي فجأة في القصيدة 53 فيقول:

Without me you can

live at random only like

a falling pachinko ball.

بدوني يمكنك

أن تعيش بشكل عشوائي

مثل كرة باتشينكو متساقطة

ولننظر إلى الهامش الذي وضعه ركسروث كمترجم على كلمة باتشينكو:

«الباتشينكو: نسخة عمودية من لعبة الكرة والدبابيس، وفي جميع أنحاء اليابان تنتشر صالات باتشينكو عملاقة تمتلئ بأناس في حالة جذب. إنها رمز من رموز الانغماس الكامل في عالمٍ خالٍ من الوهم والجهل والمعاناة والجشع».

لعبة الباتشينكو وهي إحدى المشاكل الاجتماعية الكبرى في المجتمع الياباني بوصفها مسببة لمآسٍ إنسانية كثيرة بسبب الإدمان عليها، تتحول على يد ركسروث لتُعرف إلى العالم الغربي على أنها إحدى الوسائل التي تقود الناس إلى حالة النيرفانا الروحية للديانة البوذية. (أتذكر أنني رأيت إحدى حلقات برنامج العلم والإيمان من تقديم الدكتور مصطفى محمود عليه رحمة الله يقدم فيها صالات الباتشينكو في اليابان على أنها وسيلة من وسائل إفراغ الذهن من مشكلات العصر). من خلال هذه السخافات الكثيرة يتضح للقارئ الفطن أن قصائد ماريتشيكو عبارة عن تزييف واضح وفاضح للشعر الياباني.

تقول القصيدة رقم 57:

Night without end. Loneliness.

The wind has driven a maple leaf

against the shoji. I wait, as in the old days,

in our secret place, under the full moon.

The last bell crickets sing.

I found your old love letters,

full of poems you never published,

did it mind? They were only foe me.

ليلٌ بلا نهاية. وحدة.

تعصف الريح بأوراق القيقب تجاه الباب.

أنتظرُ، كما في الأيام الخوالي،

في مكاننا السري، تحت البدر.

آخر صرار ليل ينق.

وجدتُ رسائل حبك القديمة،

مليئة بقصائد لم تنشرها قط،

هل انزعجتَ؟ إنها لي وحدي.

إن الشعر الياباني به حساسية مفرطة تجاه عناصر الطبيعة؛ من الفصول الأربعة إلى الحشرات والزهور والأشجار ووصولًا إلى الشمس والقمر، ويهتم الشاعر الياباني بإبراز ملمح من ملامح الطبيعة يدل على الفصل الذي تدور فيه أحداث القصيدة فمثلا البدر من كلمات فصل الخريف لأن الشهر الأوسط من أشهر الخريف اسمه في اللغة اليابانية القديمة البدر، أما عصف الرياح بأوراق الأشجار لتتساقط فهي من كلمات الشتاء وصرار الليل أو الجدجد من كلمات أواخر الصيف لأنها تموت عن آخرها قبل بداية الخريف. فمن المستحيل بشكل قاطع على أي شاعر ياباني أن يأتي بكل هذه العناصر المتنافرة من فصول متباينة في قصيدة واحدة.

إعادة إحياء النص الأصلي للترجمة المزيفة؟

من هنا يتضح أن قصائد عشق ماريتشيكو لا تعدو أن تكون أحد الأمثلة التقليدية لجرائم «الترجمة المزيفة» ولكن بعد نشر العمل حدثت تطورات لم تكن تخطر على بال أحد. ومنها أن الشاعر الياباني يوزورو كاتاجيري (1931 – 2023) قام بمحاولة لإعادة إحياء شعر ماريتشيكو هذا إلى اللغة اليابانية! ففي العام الذي صدرت فيه «قصائد عشق لماريتشيكو» أي عام 1978 أصدر كاتاجيري نسخة ذاتية غير معلنة تحت اسم «محاولة إعادة إحياء قصائد عشق ماريتشيكو التي ترجمها كينيث ركسروث – إلى اللغة اليابانية بواسطة يوزورو كاتاجيري». وفي ختام محاولته تلك ذكر كاتاجيري الدافع الذي دعاه إلى إعادة إحياء القصائد قائلًا:

«في عام 21 أبريل من عام 1978 وفي حفل الإلقاء بالمركز الأمريكي بكيوتو، الذي أقيم احتفالا بالفائزات السبع لجائزة ركسروث للشاعرات الشابات، ألقى ركسروث قصائد ماريتشيكو الستين هذه دفعة واحدة، فتأثرتُ بها تأثرًا شديدًا مما دعاني إلى محاولة إعادتها إلى لغتها اليابانية الأصيلة»

نلاحظ هنا أن كاتاجيري يختار كلماته بحرص شديد، إذا أنه رغم معرفته بأن قصائد ماريتشيكو ترجمة مزيفة فهو مع ذلك يصرح أنه حاول إعادتها إلى لغتها الأصلية. فمن الأصل لم تكن قصائد ماريتشيكو قصائد عتيقة بالغة القدم فُقدت أصولها، بل للدهشة إنها لشاعرة شابة معاصرة على قيد الحياة على الأقل حتى عام 1978 كما ذكر ركسروث في ملاحظاته. فلماذا يا تُرى يتم إعادة إحياء الأصل عن طريق الترجمة العكسية؟ لم لا يُطلب الأصل الياباني من الشاعرة ويُنشر على الملأ؟ بل يقوم كاتاجيري بهذه المحاولة دون حتى الحصول على إذن تلك الشاعرة المزعومة! لقد ترُجمت «قصائد عشق يابانية» إلى لغات عديدة على أنها من تأليف ماريتشيكو، ولكن محاولة «إعادة إحيائها» إلى اللغة اليابانية على يد كاتاجيري دون حتى محاولة كشف سرها هذا، تُعد حدثًا نادرًا وربما ليس له مثيل في تاريخ الترجمة العالمي كله.

وإذا كانت الترجمة المزيفة من ركسروث عبارة عن مزاح ثقيل الظل كما تقول إيميلي أبتر في كتابها «منطقة الترجمة: أدب مقارن جديد» فإن محاولة كاتاجيري إعادة إحيائها تُعد ردًا على هذا المزاح بمزاح يفوقه في ثقل الظل!

لقد تناولتُ الحديث حتى الآن وكأنَّ «قصائد عشق ماريتشيكو» ليست سوى ترجمة زائفة، وأنّ ركسروث هو المؤلف الحقيقي لا المترجم، غير أنّ بعض الشكوك تظل عالقة ولا يسهل التخلّص منها تمامًا. ويعود سبب ذلك إلى أنّ بعض هذه القصائد حين نُشرت منفردة في بداياتها، أُرفقت معها نصوص يابانية قُدِّمت على أنها الأصول التي تُرجمت عنها. فعلى سبيل المثال، حين ظهرت خمس قصائد منسوبة إلى ماريتشيكو عام 1974 في مجلة الاتجاه الجديد، وُضع تحتها الأصل الياباني مكتوبًا بحروف لاتينية. وكذلك الأمر مع ست قصائد أخرى وردت ضمن ديوان مئة قصيدة أخرى من الشعر الياباني.

تُرى من الذي كتب تلك القصائد؟

يتفق الباحثون في ترجمات ركسروث على أنه لم يكن ليستطيع الترجمة عن اللغة اليابانية، وعن اللغة الصينية كذلك إلا بوجود شريك له لغته الأم اليابانية أو الصينية يعاونه في ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون هذا الشعر الياباني كتبه هذا المتعاون الياباني بناء على الشعر الإنجليزي الأصلي؟ ولذلك نستطيع افتراض التالي؛ لا وجود لشاعرة شابة يابانية تُسمى ماريتشيكو سواء كان اسمًا حقيقيًا أم مستعارًا، ولكن قصائد عشق ماريتشيكو كُتبت (على الأقل في البدايات) بالتعاون مع شخص ياباني.

لقد سبق أن ذكرت أن ركسروث صرح في إحدى حفلات الإلقاء أن ماريتشيكو هو الاسم المستعار لعشيقته اليابانية (بالمناسبة تزوج ركسروث أربع مرات) فإذا كان ركسروث هنا يشير إلى الشخص المتعاون معه، بهذه الحالة لا يحدث أي تناقض في افتراض أن قصائد عشق يابانية ترجمة مزيفة ألفها ركسروث نفسه.

ومع قول ذلك فهذه النصوص «اليابانية» بها العديد من العيوب فعلى سبيل المثال القصيدة رقم 20:

Who is there? Me.

Me who? I am me; you are you.

But you take my pronoun

and we are us.

من هناك؟ أنا.

أنا من؟ أنا أنا، وأنت أنت.

لكنك أخذت ضميري،

فأصبحنا نحن.

تقول إيميلي أبتر عن هذه القصيدة إنها تأليف مشترك بين ركسروث وماريتشيكو. ولكن كل من له إلمام بسيط باللغة اليابانية يعلم أنها لا تعرف الضمائر كما تعرفها اللغة الإنجليزية، وبالتالي لا يمكن تصور وجود قصيدة «شعر ياباني أصيل» تلعب على بديهية ضمائر المتكلم والمخاطب والجمع هكذا، فهذه القصيدة لا يمكن تصور إلا أنها كُتبت باللغة الإنجليزية ابتداء.

والأدهى والأمر أن هذه القصيدة من قصائد البدايات التي لها نص «ياباني» مكتوب بحروف لاتينية. وكلمة أخذتَ ضميري مكتوبة هكذا watashi ni tatte والتي من المرجح أن تكون خطأ مطبعيًّا إذ معناها قف لي أو قف أمامي، وهو ما لا معنى له ولا يُفهم فلا هي watashi ni totte بمعنى بالنسبة لي ولا هي watashi wo totte بمعنى حذفتني، ربما كانت خطأ مطبعيًّا وهي watashi ni totte ولكنها مع ذلك لا محل لها من الإعراب في وسط الكلام السابق ولا تعد لغة يابانية أصلًا، وحتى لو كانت القصيدة تنتهي بقول: «ولكنك حذفت الأنا فأصبحنا نحن» فهو مما لا يُقال هكذا باللغة اليابانية.

والسؤال لماذا أضاف ركسروث على ترجمته المزيفة التي ألفها بنفسها نصًا يابانيًّا بهذا الشكل المفضوح؟ الإجابة هي أنه أراد بالتأكيد إعطاء مصداقية لعمله المزيف هذا لجعله يبدو كأنه قصائد شعر يابانية حقيقية خاصة أمام القراء الأجانب الذين لا معرفة لهم باللغة اليابانية وأسرارها. ويتضح هذا بشكل مؤكد من إضافة تلك القصائد إلى ديوان أشعار يابانية حقيقية لشعراء وشاعرات معروفين ومعروفات وأشعارهم وأشعارهن المنشورة ملء السمع والبصر. إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، فأولًا لم يستمر ركسروث على هذا المنوال في إرفاق شعر ياباني مع ترجماته المزيفة، ربما لأن المتعاون معه توقف عن التعاون، وثانيًا إرفاق نصوص يابانية مع الترجمات أوضح بما لا يدع مكانًا للشك أنها ليست أشعارًا يابانية أصيلة، فربما قرر ركسروث التخلص من هذه المقارنات المزعجة له التي توضح البون الشاسع بين ما يورده من أشعار يابانية وبين الأشعار اليابانية الحقيقية.

يقول مورجان جيبسون في كتابه ركسروث الثوري السابق الإشارة إليه: «أقام ركسروث في بيتنا القريب من جامعة أوساكا، واستعان بشاعرة يابانية شابة اسمها ياسويو موريتا لترجمة قصائد عشق ماريتشيكو إلى اللغة اليابانية ولكنهما لم يتوصلا إلى نتائج مُرضية فتوقف المشروع دون اكتماله، ولكنني أحتفظ ببعض تجارب ذلك المشروع في شريط صوتي لهما».

أي أن ركسروث حاول في البداية في عامي 1974 و1976 إرفاق أشعار يابانية مع «ترجماته» ولكنها لم ترق إلى أن تقنع أحدًا بأنها الأصل، فذهب إلى اليابان وتعرف على شاعرة شابة وحاول أن يتعاونا معًا في إنتاج أشعار يابانية عظيمة ولكن المحاولة باءت بالفشل.

يقول ركسروث في مقاله «الشاعر مترجمًا»: «إن ترجمة الشعر في صيغة شعر لا يمكن أن تتم إلا من خلال الاندماج العاطفي. بمعنى أن تجعل الشاعر الآخر جزءًا منك، ثم تُحول كلماته لتكون كلماتك».

إن قصائد عشق ماريتشيكو عبارة عن أن ركسروث زيّف شاعرة خيالية اسمها ماريتشيكو ثم قوّلها ما يراه هو نفسها في المرأة اليابانية وجعلها تجسّد أفكاره المختلقة عن العشق الياباني. ثم في أثناء اندماج ركسروث في هذه العملية الإبداعية من وجهة نظره تطور حلمه إلى إعادة إحياء ماريتشيكو أصيلة، أي أنه حاول أن يجعل الكذبة التي اختلقها، حقيقة واقعية.

لقد ذكرت مثال الباتشينكو ولكن ركسروث صال وجال في ملاحظاته في نهاية القصائد ليعيث فسادًا في شرح وتوضيح المصطلحات اليابانية بطريقة بعيدة كل البعد عن أصولها الحقيقية (والتي لم يغفل المعرب بالطبع إثباتها وتأكيدها بصفتها صادرة عن قطب من أقطاب المعارف اليابانية وأحد الضالعين بالفكر والشعر والثقافة اليابانية) ولكن هذه الملاحظات وهي منشورة بصفاتها صادرة عنه وهو مسؤول مسؤولية تامة عنها هي الدليل الدامغ على أنه هو المتحكم والمسيطر تمامًا على ما تبثها هذه القصائد من أفكار وصور عن اليابان. وأنها عمل يوضح طيش ركسروث وتهوره في تنصيب نفسه العارف بأمر الشعر والثقافة اليابانية.

***

تدافع إيميلي أبتر عن ركسروث في كتابها منطقة الترجمة سالف الذكر بقولها:

«عند التمعن في قراءة قصائد ماريتشيكو يتضح لنا أنها من المستحيل تقبلها على أنها صادرة عن شاعرة يابانية شابة. ولكننا إذا نظرنا إلى هذه القصائد بصفتها عملًا إبداعيًا مستقلًا ألفه ركسروث، فما هي المشكلة؟ أليس الأمر هو نفسه؟ ماذا يهم إن كان النص من تأليف ماريتشيكو وتُرجم إلى اللغة الإنجليزية أم كان ترجمة زائفة كتبت من خلال النظرة الغربية الاستشراقية إلى اليابان؟ فلقد استخدم ركسروث هذه الترجمة الزائفة مثل كثيرين غيره استخدموا الاستشراق الأدبي كمنصة انطلاق إلى الحداثة، وهو ما يمكن غض الطرف عنه لما يمثله عمل هؤلاء من قيمة أدبية وإبداعية خالدة»

يعلق أكيكوسا على دفاع أبتر هذا عن ركسروث قائلًا: «إن الهدف منه في الأصل هو كشف كذب المؤلف وتوضيح أن العمل عبارة عن ترجمة زائفة وليس عملًا يابانيًا أصيلًا لذلك لا أعترض كثيرًا على كلامها، ولكنني عندما أرى نفسي وقد بتُّ تحت أقدام الغرب ويستخدموني منصة وثب فلن أشعر بالرضا أو الارتياح»

ثمة بعض الأعمال الأدبية التي حاول مؤلفوها إيهام القراء بأنها ليست أعمالًا خيالية بل هي حقائق واقعية عبر مقدمات أو «تصديرات» يمنح العمل قوة إيهام بالواقعية. فعلى سبيل المثال تبدأ رواية الكسوف للروائي الياباني كيئتشيرو هيرانو، بتصدير لاعتراف من البطل الراهب نيقولا، يؤكد أن ما سنقرأه ليس سوى يومياته الصادقة التي يقسم أمام الرب أنه لم يزوّر فيها شيئًا. ثم يتكرر الأمر نفسه في رواية الموسيقى للياباني الأشهر يوكيو ميشيما التي صُدّرت بكلمة من الناشر يوضح أن النص هو تقرير كتبه طبيب نفسي عن إحدى المريضات. ثم هناك عزازيل، رواية يوسف زيدان الشهيرة، التي صُدّرت بمقدمة من المترجم الذي ادعى أنه عثر على مخطوطات قديمة في إحدى الخرائب قام بترجمتها من لغتها الأصلية. وانخدع الكثيرون الذين لم يلحظوا كلمة رواية التي كُتبت بخط صغير على الغلاف، حيث أن الدكتور يوسف زيدان تخصصه المخطوطات وكان يرأس إدارة المخطوطات في مكتبة الإسكندرية.

أما في الأدب الغربي فنجد مثالًا آخر في قلعة أوترانتو (بالإنجليزية: The Castle of Otranto) وهي رواية نشرت عام 1764 بقلم هوراس والبول، وينظر إليها باعتبارها أول رواية قوطية وقد نُشرت في البداية على أنها مخطوطة قديمة مكتشفة، قبل أن يُكشف عن أنها خيال محض. ونفس الحال مع رواية جاك كازوت اللورد المرتجل عام 1767 (Lord impromptu).

ثم يأتي الروائي الروسي المعاصر أندريه ماكين الذي عندما حاول نشر أعماله باللغة الفرنسية لأول مرة في فرنسا، رُفضت من كل الناشرين بحجة أنها مؤلفات بالفرنسية لكاتب روسي مجهول، فقدّم ماكين أعماله إلى الناشرين على أنها ترجمات من اللغة الروسية، وبهذا نجح أخيرًا في نشر أعماله الأولى. ثم تم الاعتراف به لاحقًا كروائي روسي يكتب بالفرنسية، فبدأ ينشر أعماله على هذا الأساس.

ولكن هل كان كينيث ركسروث في حاجة إلى ذلك من عمله في تزييف قصائد عشق ماريتشيكو؟

منذ أن دشّن إدوارد سعيد أطروحته الشهيرة «الاستشراق» عام 1978، بات من الصعب قراءة أي تمثيل غربي للشرق – سواء كان أدبًا أو فنًا أو فلسفة – خارج إطار الشك في الخلفيات التي تصوغه. فالشرق في المخيال الغربي لم يكن يومًا حقيقة موضوعية، بل صورة مصنوعة، أو كما وصفه سعيد: «اختراع أوروبي» يخدم رغبات السلطة، الاستعمار، والهيمنة. وفي هذا السياق تأتي قصة «قصائد عشق يابانية» المنسوبة إلى شاعرة وهمية تدعى ماريتشيكو، والتي ترجمها الأمريكي كينيث ركسروث، ليكشف لنا كيف أن اليابان – بوصفها بلدًا آسيويًا خرج من عزلة طويلة – قد وقعت بدورها في فخ النظرة الاستشراقية، رغم حداثتها وتطورها.

فليس من قبيل الصدفة أن ترتبط «ماريتشيكو» بصورة المرأة اليابانية الجيشا: كائن غامض، نصف واقعي نصف أسطوري، مزيج بين الرغبة الجنسية والقداسة الروحية. هذا الخلط المتعمد يعكس الذهنية الاستشراقية التي تبحث في الشرق عن «أنوثة متخيَّلة»، جسد طيع يحمل رمزية عميقة للغربي الباحث عن المختلف. فالقصائد المنسوبة لماريتشيكو تنضح بالإيروتيكية، وفي الوقت ذاته تُغلف بغلالة من الروحانية الشرقية. هنا يتم تطويع الرموز الدينية والثقافية اليابانية لخدمة مخيلة غربية تبحث عن غرابة مثيرة. إنها عملية تشيئ للثقافة اليابانية تمامًا كما شُيّئت صورة «الحرملك» و«الغلمان» في الأدب الاستشراقي العربي.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن «قصائد عشق يابانية» لم تكن إلا إعادة إنتاج لصورة نمطية: المرأة الشرقية المجهولة، المحبة، الإيروتيكية، الروحانية، الخاضعة في النهاية لعين الرجل الغربي. بهذا يصبح النص مثالًا واضحًا على النظرة الدونية التي تصادر حق الشعوب غير الغربية في التعبير عن ذاتها.

إن مأساة «ماريتشيكو» أنها لم تكن موجودة أصلًا، لكنها مع ذلك عاشت حياة كاملة في مخيلة القراء، وأثّرت في النقد الأدبي، وتُرجمت إلى لغات عدة. هذه الحقيقة تكشف عن عمق الهيمنة الاستشراقية: فحتى حين لا يتحدث «الشرق»، يُخترع له صوت بديل يعبّر نيابة عنه. ومن هنا فإن مسؤولية الباحثين العرب واليابانيين وغير الغربيين اليوم ليست فقط في فضح هذه الممارسات، بل أيضًا في إعادة كتابة تاريخ الترجمة والأدب العالمي من منظور نقدي يرفض هذه التمثلات الزائفة.

إن قصة «قصائد عشق يابانية» إذن ليست مجرد خدعة أدبية، بل مرآة تعكس علاقة مختلة بين الشرق والغرب، حيث يُنظر إلى غير الغربي دومًا بوصفه مادة للتشيئ، غريبًا أو عجيبًا، لا ذاتًا فاعلة متساوية. وربما هنا تكمن المفارقة الأكبر: أن الاستشراق لا يزال حيًا حتى حين نظن أننا قد تجاوزناه.

المصادر:

  • قصائد عشق يابانية موقع مجلة نزوى على الإنترنت
  • Lost In Mistranslation – حول ترجمة كينيث ركسروث الزائفة لقصائد عشق ماريتشيكو: شونئتشيرو أكيكوسا
  • كينيث ركسروث واليابان: تتسيا تاغوتشي
  • مبادئ الإبداع لثقافة ما بعد الرجل الأبيض – كينيث ركسروث حياته وشخصيته: تتسيا تاغوتشي
  • صفحة التعريف بالشاعر كينيث ركسروث على موقع ويكيبيديا باللغة الإنجليزية (ومن الملاحظ عدم وجود صفحة له باللغة اليابانية)
  • موقع معبد ماريشيتن في حي أوينو بطوكيو 
* نُشرت على موقع كتب مملة بتاريخ 10 نوفمبر 2025

السبت، 20 سبتمبر 2025

أفلاج عمان وعالم السحر والحسد فى «تغريبة القافر»


 

د. مايوكو أوكاوا

ترجمة:  ميسرة عفيفى

تغوص «تغريبة القافر» للأديب زهران القاسمى فى خضم علاقة الإنسان بالماء، وتنفتح على عوالم المعتقدات التى شكلها العرف والتقاليد العتيقة. إنها رواية من سلطنة عُمان ذلك البلد القابع على أطراف الجزيرة العربية، والذى ما زال مجهولًا لدى اليابانيين. ترسم الرواية ملامح البيئة الطبيعية العُمانية المتفرّدة، وتغوص فى تفاصيل المجتمع القروى التقليدى، مانحةً القارئ اليابانى فرصة نادرة للتعرّف على هذا العالم مباشرةً بلغته. مسرح الأحداث وخلفيتها التاريخية  نستشف من معطيات الرواية أن أحداثها تدور على الأرجح فى النصف الأول من القرن العشرين، فى الحقبة التى سبقت انطلاق النهضة الحديثة فى عمان عام 1970 وتُستمدّ هذه القراءة من إشارتين بارزتين وردتا فى الرواية: الأولى تتعلق بتنقل العمانيين بين وطنهم والساحل الشرقى لأفريقيا، والثانية بذكر استخدام عملة القروش. لقد كانت القروش متداولة منذ النصف الثانى من القرن 19 حتى منتصف القرن 20، بوصفها عملة مكمّلة للروبية الهندية وروبية زنجبار، قبل أن تبدأ عمان بسكّ عملتها الوطنية المستقلة لاحقًا. فى تلك الفترة، كانت البلاد تخضع لحكم السلطان سعيد بن تيمور (الذى امتد من عام 1932 إلى 1970)، وفرض عزلة على عمان، مصحوبة بقيود على حركة الدخول والخروج، استمرت لأكثر من 30 عامًا. وخلال تلك العقود، غرقت البلاد فى فقر مدقع، وظلّ ذلك الحال قائمًا حتى اكتشاف النفط فى عام 1962. كان معظم السكان يعيشون حياة تقليدية بسيطة وسط بيئة طبيعية قاسية، ويقيمون فى بيوت مشيّدة من الطوب اللبن، تفتقر إلى شبكات الكهرباء والمياه. عند مشارف عام 1970، قبيل تولّى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم وبداية النهضة المعاصرة المعتمدة على موارد النفط، كانت البلاد لا تضم سوى ثلاث مدارس ابتدائية، ومستشفى واحد فقط، ولم يتجاوز طول الطرق المعبّدة بالأسفلت عشرة كيلومترات. لقد بدأت علاقتى الشخصية بعُمان قبل نحو 30 عامًا، ومنذ ذلك الحين وأنا ألحظ سرعة التحولات الاجتماعية التى كانت تبهرنى فى كل زيارة. لم تعد مظاهر الحياة التقليدية التى تصفها الرواية مشهودة حتى فى القرى، رغم أنّ الفجوة ما تزال قائمة بين المدن والريف. ويظهر هذا التفاوت لا فى لهجات اللغة العربية فحسب، بل فى الملبس والمأكل وأنماط المعيشة والعلاقات الاجتماعية أيضًا. فعلى سبيل المثال، العباءة السوداء الطويلة التى يرتديها كثير من النساء فى المدن اليوم زى مستحدث نسبيًا، أما اللباس العمانى التقليدى للنساء فكان يتكوَّن من لبس قصير ملون بألوان زاهية تصل إلى الركبة، وسروال طويل، وغطاء رأس قطنى كبير. فى حين ما زالت الدشداشة الرجالية وغطاء الرأس المطرّز المعروف باسم «الكُمة» والتى قد تُستبدَل بقطعة قماش مزركشة يُلفُّ بها الرأس تُسمى «المصر» يعتبر الزى الرسمى ويعد لزامًا ارتداؤه لموظفى الجهات والوحدات الحكومية – ورد ذكرهما فى الرواية – ويُعدّان من الملامح الثابتة للزى الوطنى الرجالى المتوارث حتى اليوم.  أشار المؤلف إلى أن قرية «المسفاة»، مسرح الرواية، ليست هى نفسها «المسفاة» الحالية الواقعة فى الداخل العمانى. ومع ذلك، فإن المسفاة المعاصرة تعدّ واحة زاخرة بالخضرة والنباتات، وتعتمد فى ريّها على مياه الأفلاج، ولا تختلف كثيرًا فى ملامحها عن الصورة التى رسمتها الرواية. وما زلت أتذكر بوضوح ذلك اليوم من أواخر القرن الماضى حين زرتُ القرية، وذهبت برفقة بنات الأسرة المضيفة إلى الفلج، حيث قضينا وقتًا ممتعًا نلهو ونلعب فى مياهه. أفلاج عمان وإدارة الموارد المائية  سالم بطل الرواية شخصية فريدة بموهبته النادرة فى اكتشاف مسارات المياه المختبئة فى باطن الأرض، ومع ذلك تنهال عليه المصائب المرتبطة بالماء. إذ تلقى والدته حتفها غرقًا فى بئر، فيما يُفقد والده حياته إثر انهيار أحد الأفلاج. تنسج حياة سالم، التى تعتمد على الماء وتُكابد بسببه أيضًا، علاقة وثيقة وعميقة بالبيئة الطبيعية لعُمان، وتُعدّ الأفلاج التعبير الرمزى الأبرز لتلك العلاقة. فى سلطنة عمان، حيث تكاد الأمطار تنعدم باستثناء المناطق الجنوبية، تؤدى الأفلاج دورًا بالغ الأهمية فى الحياة اليومية، إذ تُعد من أهم أنظمة الرى التقليدية التى تنقل المياه من باطن الأرض والينابيع الجبلية لتوزّعها بين الحقول الزراعية والمساكن. تحتضن عمان ما يناهز ثلاثة آلاف فلج، ولا توصل المياه مباشرة إلى الأراضى والبيوت، بل تُجمع أولًا فى حوض مائى يُعرف باسم «الشريعة»، يُستخدم لتنظيم توزيع المياه وإدارتها. ومن خلال هذا التنظيم، يمكن توفير كميات المياه اللازمة فى الوقت المناسب. وتُعدّ الأفلاج جزءًا جوهريًا من البنية التحتية التى يُبنى عليها استقرار التجمعات السكنية، لذلك فإن إدارتها تتم بصورة جماعية على يد سكان القرى. فى كل قرية ثمة جداول زمنية دقيقة لاستخدام المياه، يضعها شيوخ القرية، وهم من زعماء القبائل وأعيان البلدة. ويحق لكل من تشملهم خدمات الفلج استخدام مياهه فى حياتهم اليومية، سواء للشرب أو للنظافة أو لسقى الأنعام. أما حين يتعلق الأمر برى الأراضى الزراعية، فثمة حقوق خاصة باستخدام المياه تُحدد من خلال جداول دقيقة توزّع أوقات الرى بين الأسر المالكة لحقوق المياه. وهذه الحقوق يُمكن بيعها أو تأجيرها، كما تنتقل وراثةً ضمن التركة من جيل إلى جيل. تقوم البنية الاجتماعية فى سلطنة عمان على نظام عشائرى تقليدى، تتصدر فيه القبائل موقعًا محوريًا، ولا سيّما فى القرى الريفية حيث لا يزال تأثير شيوخ القبائل والعشائر حاضرًا بقوة ونفوذهم قائمًا. وقبل ترسيخ سلطة الدولة المركزية، أى قبل عام 1970م، كانت القبائل والعشائر تضطلع بدور حاسم فى مختلف مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ كانت تتولى إدارة شؤون الحكم المحلى وتنظيم حقوق المياه، بحسب التقسيمات القبلية لكل منطقة. وقد ظلت القبائل القوية والأسر ذات النسب العريق تحتفظ بتأثير اجتماعى واسع، لا سيما عبر سيطرتها على موارد المياه التى تشكّل عنصرًا حيويًا فى حياة السكان. وعلى الرغم من أن رواية تغريبة القافر لا تُشير إلى أسماء قبائل أو عشائر بعينها، إلا أن الواقع العمانى يُظهر أن اسم القبيلة يكشف فى الغالب عن أصول الشخص، وما إذا كان منحدرًا من أصول عربية أم لا، ويُشير كذلك إلى ولايته التى ينتمى إليها، بل وإلى مكانة قبيلته بين القبائل الأخرى. ويُولى المجتمع العمانى أهمية بالغة للروابط العائلية والعشائرية، حيث تحظى العلاقات الأسرية والزواج بأهمية كبرى فى إطار هذه البنية الاجتماعية، ما يجعل زواج الأقارب، كأبناء العمومة والخؤولة، أمرًا شائعًا ومقبولًا اجتماعيًا. وفى أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة، حين كنتُ أُجرى بحثًا ميدانيًا فى المناطق الشرقية من عُمان، كانت الأفلاج تُستخدم على نطاق واسع، وتشكل أحد الأعمدة الأساسية للحياة اليومية. ,بالإضافة إلى دورها فى رى مزارع النخيل وتوفير مياه الشرب وسقى الأنعام، كانت تُستخدم أيضًا لاستحمام الأطفال. وفى عيد الأضحى، يذبح الأهالى الأضاحى من الماعز ويقيمون الولائم التى تمتد لأيام، وتُشاهد آنذاك مشاهد تقطيع اللحوم وغسلها بجوار مجرى الفلج. وفى المناطق التى تمر فيها الأفلاج فى أنفاق تحت الأرض، تُبنى سلالم تؤدى إليها، وتُستخدم كمرافق للاستحمام، وتجد النساء فى تلك الأماكن خصوصية تتيح لهن الاستحمام بأمان، إذ تحيط بهن الجدران من جميع الجهات. أما اليوم، فقد امتدت شبكات المياه إلى المنازل، وشهدت تطورًا ملحوظًا، ما جعل مشهد غسل الأوانى أو الملابس فى الأفلاج من الأمور النادرة. ومع ذلك، ما تزال الأفلاج تحتفظ بدورها المحورى فى القرى، سواء فى الحفاظ على نمط المعيشة التقليدى أو فى رى الحقول الزراعية. وفى السنوات الأخيرة، ظهرت استخدامات جديدة للأفلاج، كغسل السيارات، مما يُشير إلى استمرار تكيف هذه المنظومة القديمة مع متطلبات الحياة الحديثة. وفى عام 2006، تم تسجيل نظام الأفلاج العمانى ضمن قائمة التراث العالمى لدى منظمة اليونسكو، ما أضفى عليها قيمة ثقافية وتاريخية إضافية. السحر والاعتقادات الشعبية يُقال عمومًا إن الجزيرة العربية تُعدّ من أكثر المجتمعات الإسلامية التزامًا بتعاليم الدين التزامًا صارمًا، حيث يشتهر سكانها، فى الغالب، بحماسهم الدينى وتمسكهم بالإيمان. وتُغطى معظم النساء رؤوسهن بالحجاب، ما يعكس الصورة النمطية التى غالبًا ما تنقلها وسائل الإعلام عن المجتمعات الإسلامية. غير أن هذا الالتزام الظاهرى لا ينفى وجود معتقدات شعبية متجذّرة فى الوعى الجمعى، تُؤمن بوجود أرواح غير إلهية، تُنسب إلى ما يُعرف بالجن. وتنتشر هذه المعتقدات على نطاق واسع فى سلطنة عمان، ويُعرف المجتمع هناك بإيمانه الراسخ بوجود الجن، حتى إن البلاد تُعدُّ، فى نظر جيرانها، من المناطق التى لا تزال الخرافات والسحر تلعب فيها دورًا ظاهرًا. وتُعد مدينة بهلاء، الواقعة فى عمق الداخل العمانى وتحتضن قلعة بهلاء التاريخية المُدرجة ضمن قائمة التراث العالمى لدى منظمة اليونسكو، من أبرز الأمثلة على ذلك، إذ اكتسبت شهرة بأنها معقل للسحر. وقد بدأت المدينة فى السنوات الأخيرة الاستفادة من هذه السمعة، مستثمرةً إياها فى تنشيط حركة السياحة والسفر إليها. يُؤمن أهل عمان إيمانًا واسعًا بقوة السحر، حيث يُنظر إليه باعتباره وسيلة مزدوجة الأوجه؛ فمن جهة يُستخدم فى التداوى من الأمراض، وجلب المحبة، ودفع الشرور، ومن جهة أخرى يُستعمل للانتقام، والثأر، وإيقاع اللعنات. ومن أبرز المعتقدات التى تشكّل أحد المحاور الجوهرية فى رواية تغريبة القافر هو الاعتقاد بالحسد. فالحسد، كما يُتصور فى المعتقد الشعبى، قوة خفية تفوق قوانين الطبيعة، تجعل من نظرة الحاسد الشريرة كافية لهدم سعادة الآخرين وتعكير صفو حياتهم. وتُعدّ أشياء كثيرة عرضة لهذا الحسد، مثل المولود الجديد، لا سيما إذا كان ذكرًا، والبيت الجديد أو السيارة، والنجاح التجارى، وحتى أداء فريضة الحج إلى مكة. وفى الرواية، بعد أن فقدت آسية بنت محمد أبناءها الرضَّع الواحد تلو الآخر بسبب المرض، لجأت إلى تسمية مولودتها باسم مشين درءًا للحسد وحمايةً لها من عيون الحاسدين. وعند إصابة شخص بمرض أو جرح أو موت مفاجئ، فالشكّ لا يتجه بدايةً إلى الأسباب الطبية، بل يُعزى غالبًا إلى أثر الحسد. ولهذا الغرض وُجدت وسائل يُعتقد أنها تقى من «العين»، منها الأحجبة المكتوب عليها آيات من القرآن الكريم، ومنها أيضًا التمائم والميداليات على هيئة عين، يُقال إنها ترد نظرات الحاسد بنظرات مضادة تصدّها وتكبح أذاها. كما تُرى فى بعض القرى العمانية رسومات لكفّ يد بشرية على أبواب البيوت، يُعتقد أنها تمسك بنظرات الحسد وتحول دون دخولها إلى الدار. وإلى جانب الحسد، يُعد الإيمان بالجنّ اعتقادًا شائعًا فى أوساط العامة فى المجتمعات الإسلامية. ويُقسَّم الجن إلى صالح وفاسد، ويُخشى من الأخير الذى يُعتقد أنه من الشياطين. ويُعتقد أن الجن يسكن الأماكن المظلمة والرطبة، مثل الحمامات، والمراحيض، والآبار، والمقابر، ومنابع المياه، والكهوف، وغيرها. وفى القرية التى أجريتُ فيها أبحاثى، كان يُمنع الصغار من اللعب قرب الفلج بعد غروب الشمس. وتعكس الرواية هذه المعتقدات بوضوح، حيث تموت مريم، والدة سالم بطل الرواية، غريقة فى بئر، ويفقد والده حياته جرّاء انهيار قناة فلج. ويُنظر إلى سالم نفسه نظرة مشؤومة، إذ وُلد من أم غرقت فى الماء، وتُقابل قدرته الفريدة على اكتشاف مسارات المياه فى باطن الأرض بالخوف، بوصفها «قوة ملعونة». ويُعدّ الاعتقاد بأن الغرق والمرض من فعل الجن قاعدة راسخة لدى أهل القرى، لم تتغير مع مرور الزمن. فالماء، على الرغم من كونه عنصرًا مقدّسًا فى البيئة الصحراوية العمانية، إلا أنه، وبسبب ندرته وقيمته، يُعتقد أيضًا أن منابعه مأهولة بالجنّ. يحيا الناس فى حياتهم اليومية وهم يستبطنون حضور السحر فى وعيهم الجمعى، ويُعتقد على نطاق واسع أن النساء والأطفال هم الأكثر عرضة لتأثيراته. ويُشاع كذلك أن النساء، على وجه الخصوص، هنّ الأكثر لجوءًا إلى استخدام السحر، نظرًا لما يعتقده كثير من الناس من أن الحمل والإجهاض من الأمور التى تتأثر بالحسد وأعمال السحر. وفى القرية التى أجريت فيها أبحاثى، شاعت حادثة كانت مدار حديث الناس، مفادها أن خطيب إحدى الفتيات قد فسخ خطبته منها وتزوج بغيرها، فتناقل الأهالى أن الفتاة التى فُسخت خطبتها وأسرتها لجأوا إلى السحر للتفريق بين الزوجين ومنع الزوجة من الإنجاب. وقد أبدت الزوجة المعنية قدرًا من اللامبالاة، غير أن النساء المحيطات بها أبدين تعاطفًا صادقًا، ونصحنها باتخاذ التدابير اللازمة لدرء آثار السحر، من خلال حمل التمائم والأحجبة. وفى تغريبة القافر، تنعكس مثل هذه المعتقدات بوضوح، حيث نرى نساء القرية ينصحن مريم، والدة بطل الرواية، التى طال تأخر حملها، بأن تحرق البخور والصمغ لطرد النحس، خاصة وأن بيتها يقع بمحاذاة المقبرة، وهو موقع يُنظر إليه على أنه مشؤوم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المعتقدات الشعبية كانت سائدة فى الجزيرة العربية منذ ما قبل ظهور الإسلام، غير أنها مع مرور الزمن اقترنت بالدين، من خلال إدماجها بآيات القرآن الكريم التى تُستخدم لدرء الأذى، أو باستدعاء شيخٍ يقرأ الرُقى والتعاويذ. وتصور الرواية مشاهد لهذا التداخل، كتلاوة القرآن لطرد الشياطين، أو قراءة الشيخ على كوب ماء ليُشرب منه الطفل طلبًا للشفاء. إن مزج التقاليد الإسلامية بهذه المعتقدات الشعبية المتجذرة فى الوعى الجمعى أمر متأصل فى الحياة اليومية للمجتمعات الإسلامية، سواء فى الماضى أو فى الحاضر، ويُعدّ مظهرًا من مظاهر التداخل بين الدين والثقافة الشعبية فى بنية الوعى الاجتماعى. الصلات مع ساحل القرن الأفريقى ومصيرها فى ختام الحديث، أود أن أتناول موضوع ساحل القرن الأفريقى الذى تكرر ذكره فى عدة مواضع من الرواية. ومن الجدير بالذكر، وهى معلومة قد لا تكون معروفة على نطاق واسع فى اليابان، أن سلطنة عُمان كانت ذات يوم تبسط نفوذها على الساحل الشرقى للقارة الأفريقية بأكمله، ما جعل كثيرًا من العمانيين يشدّون الرحال عبر السفن والبواخر إلى تلك الأصقاع، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكانت جزر زنجبار، على وجه الخصوص، هى الوجهة الأهم لهم. وفى الرواية، يفقد والد مريم – والدة سالم بطل الحكاية – حياته غرقًا فى سفينة كانت متجهة من عُمان إلى جزر زنجبار. أما والد سالم، عبد الله، فكان محرومًا من أية ملكية زراعية، لا أرض ولا نخيل، لأن والده الذى رحل إلى الساحل الأفريقى، جُرّدت أسرته من ممتلكاتها، إذ استولى أهل القرية على ما تركه من ثروة وأرض واقتسموها بينهم. ولم يكن رحيل العمانيين إلى شرق أفريقيا أمرًا نادرًا، بل كان كثيرون، لا سيما من ولايات الشرق العمانى، يغادرون الوطن زمن القحط والجفاف، بحثًا عن المياه والخصب فى أراضى أفريقيا الغنية. وعندما نقرأ فى الرواية إشارة إلى الرحلة التى انطلقت من ميناء صور الواقع فى المنطقة الشرقية، يخطر لنا أن قرية المسفاة، التى جرت فيها أحداث الرواية، لا تبعد كثيرًا عن ذلك الميناء البحرى. فى نهاية الرواية، نرى البطل وقد وجد نفسه حبيسًا فى قناة الفلج، يقاتل بعناد ضد الصخور والمياه، فى محاولة مستميتة للنجاة بحياته. وهذا الصراع لا يعكس فقط علاقة الإنسان العمانى ببيئته القاسية، بل هو تجسيد رمزى للمجتمع العمانى فى صراعه الأزلى بين التراث والتجديد، بين الماضى والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة. فالماء، هذا العنصر الذى يحمل وجهين متناقضين – العطاء والتهديد – كان منذ القدم سببًا فى استمرار الحياة، كما كان فى الوقت ذاته مصدرًا للهلاك. وفى عالمنا المعاصر، حيث التغيّرات المُناخية وتضاؤل الموارد المائية باتا من أبرز التحديات، تصبح صورة الإنسان المحاصر بالماء التى ترسمها الرواية، ليست مجرَّد مشهد من ماضٍ سحيق، بل استعارة رمزية تلخّص الواقع الذى تواجهه المجتمعات اليوم. وتضع أمامنا حكاية سالم سؤالًا وجوديًّا ملحًّا: كيف سيقف الإنسان فى مواجهة الطبيعة وسط هذه التحولات الكونية، وكيف سيصمد ليستمر فى العيش على وجه هذه الأرض؟ 

 

*نُشرت في أخبار الأدب عدد 14 سبتمبر 2025

 هنا

 

الخميس، 27 أبريل 2023

الخوف على الوطن تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي

الخوف على الوطن

تأليف: يوكيو ميشيما

ترجمة: ميسرة عفيفي

١

في الثامن والعشرين من شهر فبراير للعام الحادي عشر من عصر ميجي١ (أي في اليوم الثالث من وقوع حادث ٢٦ فبراير)، أمسك الملازم أول شينجي تاكياما، الضابط العامل بقوة كتيبة «كونوئه» للنقل بسيفه العسكري، وانتحر ببَقْر بطنه طبقًا لطقس السيبوكو في الغرفة ذات القطع الثمانية من حصير التاتامي من مسكنه الخاص، الواقع في أوباتشو بالتجمع السادس بحي يوتسويا، بعد أن عانى طويلًا عندما عرف بعد الحادث أن زملاءه المقربين كانوا مع المتمردين منذ البداية، فضلًا عن سخطه لاحتمال اقتتال قوات الجيش الإمبراطوري فيما بينها. ولحقت به زوجته ريْكو بطعن نفسها بخنجرها الصغير. كانت وصية الملازم أول مكوَّنة فقط من جملة وحيدة هي: «عاش الجيش الإمبراطوري.» أما وصية زوجته، فبعد الاعتذار عن عقوقها لوالديها بسبقهما إلى الموت، كتبت: «لقد جاء اليوم المحتوم مجيئه لي كزوجة رجل عسكري.» وكانت اللحظات الأخيرة لهذين الزوجين المخلصين حَرِيَّة بجعل الشياطين أنفسهم يبكون. وتجدر الإشارة إلى أن الملازم أول مات في الثلاثين من عمره، وزوجته في الثالثة والعشرين، وأنه لم يمر على حفل زواجهما ستة أشهر.

٢

أولئك الذين شاهدوا فقط صورة العروسين، وكذلك بالطبع الذين حضروا حفل العرس، تهامسوا بكلمات الإعجاب لشدة جمال العروس ووسامة العريس. بدا الزوج مهيبًا في الزي العسكري حاميًا عروسه، يضع يده اليمنى على سيف الجيش، ويحمل بيده اليسرى قبعته العسكرية التي خلعها. وتوضح بحق تعبيرات الشهامة على ملامح وجهه الحاسمة، بدءًا من الحواجب القاتمة، والعينين المفتوحتين جيدًا، فضلًا عن سريرته النقية وصفاء قلبه. وأما جمال العروس في رداء العُرس الأبيض؛ فلم يكن له مثيلٌ. فقد عكست العيون المستديرة الجذابة تحت الحواجب الحنونة، والأنف الجميل النحيل، والشفاه المكتنزة، الأصلَ السامي والحس الراقي. وتبدو أطراف الأصابع التي تظهر خلسة من أكمام الرداء ممسكة بالمهفَّة، والتي تضعها مضمومة بنعومة، تبدو مثل برعم زهرة مجد الصباح.

بعد انتحارهما، كان الناس كثيرًا ما يخرجون هذه الصورة ويتأملونها، ويعربون عن حزنهم من أن ارتباط مثل هذين العروسين اللذين لا يشوب حسنهما شائبة يكون أحيانًا نذير شؤم. عند النظر للأمر بعد حدوثه، يبدو بشكل ما كما لو أن العروسين، الواقفين أمام الساتر الذهبي، يحدقان كليهما بتساوٍ بعيون صافية لا ترنو إلى الموت، الذي يبدو مستشرفًا وكأنه ماثلٌ بقربهما.

سكن الاثنان بيتًا جديدًا في منطقة أَوباتشو بحي يوتسويا بعد أن توسط عرَّابهما الفريق أوزيكي لهما. ورغم قولنا «بيت جديد»؛ فلم يزد عن كونه منزلًا قديمًا بالإيجار بحديقة صغيرة، به ثلاثُ غرف؛ ولأن الغرفتين في الطابق السفلي لا تدخلهما الشمس فقد استخدما غرفة النوم الكبيرة في الطابق العلوي كغرفة استقبال للضيوف، ولم تكن توجد لديهما خادمة؛ لذا كانت ريْكو وحدها هي التي تحرس المنزل في غياب زوجها.

وتم الاستغناء عن رحلة شهر العسل بسبب حالة الطوارئ التي يمر بها الوطن. ولذا قضيا أول ليلة بعد الزواج في منزلهما هذا. ليلتها قبل الدخول إلى فراش النوم، وضع شينجي سيفه العسكري أمام ركبتيه. وكعسكري منضبط ألقى تنبيهاته، مَن تصبح زوجة لرجل عسكري، لا بد لها أن تتوقع وتتقبل موته في أي وقت. يمكن أن يكون ذلك غدًا، ويمكن أن يكون بعد غدٍ. ولكنْ بغَضِّ النظر عن موعده، إذا جاء الموت، سألها: هل هي على استعداد لتقبل ذلك دون اضطراب؟ وقفت ريْكو على قدميها، وفتحت درج الخزانة، وأخرجت منه أهم ما تعتني به من جهاز العروس، وهو الخنجر الذي أعطته لها أمها، ووضعته وهي صامتة أمام ركبتَيْها كما فعل زوجها. وبهذه الطريقة تحقق التفاهُم الصامت بينهما بشكل كامل، ولم يحاول الزوج بعد ذلك التأكد من استعداد زوجته هذه مرة أخرى.

بعد مرور أشهر قليلة على الزواج، نضج جمال ريْكو ليكون أكثر لمعانًا وأكثر وضوحًا مثل القمر بعد زوال الأمطار.

ولأنهما كانا يمتلكان جسدين يمتلآن حيوية وشبابًا، فقد كانت المعاشرة الزوجية بينهما ملتهبة، لا تقع في الليل فقط. بل في كثير من الأحيان كان الزوج لا يصبر حتى على خلع ملابسه العسكرية المتسخة بالأتربة والطين؛ بسبب التدريبات العسكرية، فيدفع زوجته إلى الأرض بمجرد عودته إلى المنزل. وكانت ريْكو كذلك تتجاوب معه بحماس. بعد مرور حوالي شهر أو أقل على الليلة الأولى لزواجهما عرفت ريْكو معنى اللذة، وسعد زوجها كذلك عندما عرف ذلك.

جسد ريْكو أبيض وقور؛ فالثدي النافر مع ما يظهره من رفض طاهر وقوي للغاية، بمجرد أن يستقبلك لمرة، يفيض بحرارة كعش طير هادئ. كانا في الفراش، في منتهى الجدية والصرامة لدرجة مرعبة. جديان وسط الفعل الفاضح الذي يتزايد صخبًا وعنفًا.

كان الزوج يفكر في زوجته في أوقات الراحة القليلة التي يحصل عليها بين تدريبات النهار، وكذلك كانت ريْكو تتبع ظل وجه زوجها طوال اليوم. ولكنها حتى عندما تكون بمفردها، كانت تتأكد من سعادتها عندما تتأمل صورة الزفاف. لم تكن ريْكو تشعر بأي غرابة إطلاقًا في أن رجلًا كان منذ أشهر قليلة مضت لا يزيد عن كونه مجرد عابر سبيل، يصبح شمس كونها كله.

فهذا كله من الأخلاق الحميدة، ويحقق تعاليم «توافق الزوجين» المذكورة في الإرشادات التربوية لجلالة الإمبراطور. فلم يسبق لها أن ردَّت كلمةً لزوجها ولو مرة واحدة، وكذلك لم يجد الزوج أي سبب ولو ضئيلًا لتوبيخ زوجته. في الطابق السفلي، يزين المذبح المقدس صورة لجلالة الإمبراطور وجلالة الإمبراطورة مع لوحة لمعبد كوتاي. ويوميًّا قبل الذهاب إلى العمل يحني الزوج وزوجته معه رأسيهما بعمق أمام المذبح المقدس. ويتم تغيير ماء القربان كل صباح، ودائمًا ما تكون أغصان شجرة «الساكاكي» خضراء وجديدة؛ فكل هذا العالم محمي بسلطة الإله المهيبة، بل وتفيض في جميع جوانبه سعادة تجعل الجسد يقشعر.

٣

على الرغم من وجود قصر الوزير سايتو مجاورًا لمنزلهما، فإنهما لم يسمعا أي صوتٍ لإطلاق النار صباح يوم السادس والعشرين من فبراير. ولكن بعد انتهاء المأساة التي استغرقت عشر دقائق، خرق نومةَ الزوج صوتُ بوق التجمع الذي انطلق في الفجر المظلم الذي يتساقط فيه الجليد. قفز الزوج من فوق فراشه في قفزة واحدة، ودون أن ينبس بكلمة واحدة، ارتدى زيه العسكري، وتقلَّد (امتشق) سيفه الذي قدمته له زوجته، وخرج في عجَل إلى الشارع وسط الثلوج في صباح لم يكتمل شروقه بعد. ولم يعُد لمنزله حتى مساء الثامن والعشرين من فبراير.

ولم يمر الكثير من الوقت حتى علمت ريْكو من خلال نشرة أخبار المذياع تفاصيل هذا الحادث المفاجئ كاملة. وعلى مدى يومين كاملين بعد ذلك عاشت ريْكو بمفردها في هدوء تام وراء الأبواب المغلقة.

قرأت ريْكو في صمت وجه زوجها الذي سارع إلى الخروج في ثلوج الصباح، إصراره المسبق على الموت. وكانت على أتم الاستعداد للموت لحاقًا بزوجها في حالة عدم عودته حيًّا كما خرج. وبهدوء تام كانت قد استعدت للتصرف في ممتلكاتها الشخصية. اختارت عددًا من زميلات الدراسة لإهدائهن عددًا من الكيمونو المخصص للزيارات كتذكار منها لهن، وكتبت اسم كل واحدة منهن وعنوانها على ورق التغليف لكل منها. ولأن زوجها كان يقول لها باستمرار في الأيام العادية ألا تفكر في الغد، فلم تكن تسجل يومياتها؛ ولذا فقدت ريْكو متعة إعادة قراءة يوميات تلك الأيام السعيدة في الأشهر الماضية بتمعُّن ثم إلقائِها في النيران. كان يوجد بجانب المذياع فخاريات صغيرة الحجم لكلب وأرنب وسنجاب ودب وثعلب. بالإضافة لذلك كانت توجد مزهرية صغيرة من الفخار وجرَّة ماء. تلك كانت كل ما تملكه ريْكو من مقتنيات. ولكن إعطاء مثل هذه الأشياء كتذكار أمر لا جدوى منه. ولا تصل قيمتها إلى حد وضعها معها في التابوت. عند ذلك بدا لها أن تلك الحيوانات الفخارية الصغيرة بدأت تمتلئ بملامح الحزن والوحدة.

أخذت ريْكو السنجاب في يدها، وبدا لها في الأفق البعيد لتشبُّثها الطفولي بهم ما يشبه عدالة كالشمس التي يجسدها زوجها. فرغم أنها قد قررت التضحية بنفسها بمنتهى السعادة مع الشمس المشعة، فإنها انغمست بمفردها لسويعات معدودة في ذلك التشبُّث الطفولي البريء. فقد أحبت تلك الأشياء بحق في الماضي فقط. أما الآن؛ فهي لا تحب سوى ذكريات حبها هذا لتلك الأشياء؛ فقلبها يمتلأ بأشياء أكثر عنفًا وسعادة أكثر جنونًا. بل إن ريْكو لم تفكر أبدًا أن تطلق ولو مرة واحدة على اللذة الجسدية التي تأتي مرتجفة ليلًا ونهارًا مجرد اسم المتعة. تختزن أصابع اليد الجميلة برودة ملمس السنجاب الفخاري الذي يشبه الثلج، علاوة على برودة شهر فبراير. ولكن حتى أثناء ذلك، عندما تتذكر لحظة امتداد ذراع زوجها القوي إليها عند الأكمام، تحت ذات الكيمونو الحريري الذي ترتديه الآن بإحكام، تحس ريْكو بطراوة لحم الجسد الساخن الذي يذيب الجليد.

إنها لم تكن تخاف على الإطلاق من الموت الذي يطفو على وعيها، بل إن ريْكو وهي تنتظر وحدها في المنزل، تؤمن بقوة أن ما يحسه زوجها الآن، وما يفكر فيه، رغباته، ومعاناته، وتفكيره كله سيقودها إلى موت ممتع بالضبط كما كان يفعل جسد زوجها تمامًا. تؤمن أن جسدها يمكن أن يذوب بسهولة في أي قطعة من قطع تلك الأفكار.

هكذا كانت ريْكو تسمع بحرص نشرة الإخبار كل ساعة من المذياع، وعرفت أن عددًا من أصدقاء زوجها الحميمين كانت أسماؤهم من بين الذين قاموا بالهبَّة. كان ذلك خبر الموت! عرفت الأحداث بتفاصيلها وأنها يومًا بعد يوم تأخذ شكلًا لا يمكن التهاون معه، وربما يصدر مرسومٌ للإمبراطور بين لحظة وأخرى، وأن الهبَّة التي كان يُعتقد أنها قامت في البداية من أجل الإصلاح والثورة، كانت في سبيلها إلى الوصم باسم التمرد سيئ السمعة. لم يكن هناك أي اتصال من الفوج. لا أحد يعلم متى يبدأ القتال في طرقات المدينة التي تغطيها الثلوج.

وفي وقت غروب شمس يوم الثامن والعشرين من فبراير، سمعت ريْكو، وهي تشعر برعب هائل، صوت طرق عنيف على الباب. اقتربت مسرعة ثم فتحت القفل بيد ترتعش. وقد عرفت دون كلام، أن الظل الماثل وراء الزجاج المصقول هو زوجها بلا أي شك. ولم تشعر ريْكو أن الباب المنزلق عسير في فتحه إلى هذه الدرجة قبل الآن. من أجل ذلك كان المزلاج عنيدًا في يدها، واستغرق وقتًا طويلًا في فتحه.

قبل أن يُفتح الباب حتى آخره، كان زوجها يقف على الأرضية الأسمنتية بمدخل البيت، مرتديًا المعطف الكاكي، ومنتعلًا الحذاء الطويل الذي أثقله طمي وثلج الطريق. وبمجرد أن أغلق الباب وراءه، أعاد المزلاج مرة أخرى إلى ما كان عليه من إغلاق. ولم تفهم ريْكو ما مغزى ذلك.

«عودٌ حميد إلى بيتك.»

انحنت ريْكو عميقًا وهي تقول ذلك، ولكن زوجها لم ينبس بأي رد. بل نزع سيفه العسكري، ثم بدأ في خلع المعطف؛ فاستدارت ريْكو خلفه لتساعده. انزلق المعطف البارد والرطب والذي فقد الرائحة العفنة لروث الخيل بعد تعرُّض لأشعة الشمس، بثقله بين ذراعيها. علقته في المشجب الخاص به، ثم احتضنت السيف وتبعت زوجها الذي كان قد خلع حذاءه الطويل، وصعد إلى غرفة المعيشة. إنها الغرفة الصغرى في الطابق السفلي.

كان وجه زوجها الذي رأته في ضوء واضح من المصباح، تغطيه لحية قد نمت قليلًا، وقد نحف حتى بدا كأنه شخص آخر. كانت خدوده قد تجوفت وفقدت بريقها ونضارتها. ورغم أنه عندما يكون في حالته المعنوية الطبيعية عندما يعود إلى المنزل (يبدِّل ملابسه العادية بزيه العسكري على الفور، ثم يطالب بسرعة إعداد طعام العشاء) فإنه يجلس الآن متربعًا في زيه العسكري محني الرأس أمام «الطبلية». امتنعت ريْكو عن سؤاله إذا كان ينبغي لها إعداد طعام العشاء.

بعد فترة تحدث الزوج: «لم أكن أعرف شيئًا. إنهم لم يعرضوا عليَّ الأمر. على الأرجح إنهم جميعهم، هونما وكانو وياماغوتشي، أشفقوا عليَّ لأنني كنت عريسًا جديدًا.»

لاحت على ذاكرة ريْكو وجوه أصدقاء زوجها الحميمين الذين كانوا يأتون مرات ومرات لزيارتهما في منزلهما هذا. هؤلاء الضباط الشبان الممتلئون حيوية ونشاط.

«سيصدر في الغد على الأرجح المرسوم الإمبراطوري. على الأرجح سيتم وصفهم باسم المتمردين سيئي السمعة، وسيكون من الواجب عليَّ قيادة جنودي وضربهم بالنار. أنا لا أستطيع فعل ذلك. ليس لديَّ القدرة على فعل شيء كهذا.»

ثم أضاف: «لقد أُمرت بتبديل الحراسة الآن، وسُمِح لي بالعودة إلى منزلي هذه الليلة لمدة ليلة واحدة. وبدون شك في صباح الغد، سيكون من المحتم عليَّ الخروج لإطلاق النار عليهم. ولكن أنا لا أستطيع فعل ذلك. أتفهمين؟!»

خفضت ريْكو الجالسة عينيها. لقد فهمت بوضوح أن زوجها لا يتحدث إلا عن شيء واحد بالفعل، وهو الموت. قرار الزوج محسوم بالفعل، وشبح الموت يؤكد كل كلمة من كلماته. ومن أجل هذا البرهان الأسود الصلد، تبرز في الكلمات قوة متينة غير قابلة للزعزعة. على الرغم من أن الزوج كان يتحدث عن المعاناة، فإنه لا توجد هناك أية حيرة أو تردد.

ولكن أثناء ذلك وفي فترة الصمت تلك، كان يوجد صفاء وبرودة مثل تيار نهر لذوبان الثلوج. أخيرًا يشعر الزوج براحة قلبية لأول مرة، وهو جالس في بيته أمام وجه زوجته الجميل، بعد محنة ومعاناة طويلة استمرت ليومين كاملين؛ لأنه قد عرف على الفور أن زوجته فهمت القرار الذي اتخذه، حتى ولو لم يقُلْ ذلك بشكل مباشر.

– «اسمعي.»

فتح الزوج عيونه الجسورة الصافية رغم تواصل الأرَق، ونظر لأول مرة مباشرة في أعين زوجته، ثم قال: «سأبقر بطني الليلة.»

لم يرتد طرف ريْكو، ولو للحظة واحدة.

وأنشدت عيناها النجلاوان الجميلتان مثل رنة جرس قوية، وقالت: «لقد أعددت نفسي، أريد أن أرافقك.»

أحس الزوج أنه تقريبًا قد انسحق من قوة تلك العينين. تدفقت كلماته بسرعة وبسهولة، مثل كلمات الهذيان، ولم يدرِ كيف عبر عن هذا الإذن ذي الأثر الهائل بتلك الكلمات المستهترة.

– «حسنًا. لنذهب معًا. ولكن أريدك أن تشاهدي انتحاري أولًا. أتفهمين؟»

بعد أن انتهى من قول ذلك، غمر قلبيهما معًا نوعٌ من أنواع السعادة التلقائية التي أطلق سراحها فجأة.

تأثرت ريْكو بشدة لعظمة ثقة زوجها بها لتلك الدرجة. بالنسبة للزوج فمهما كان الأمر، فقد كان من المحتم ألا يتخطاه الموت؛ لذا فقد كان لا بد من وجود من يتأكد من ذلك ويشاهده. واختياره لزوجته لكي تقوم بهذا الدور هو أول درجات ثقته بها. وثاني درجات الثقة هو أنه ورغم تعهدهما بالانتحار معًا؛ فإنه لم يقتل زوجته أولًا، بل ترك موتها ليحدث في المستقبل الذي لن يستطيع هو التأكد منه. لو كان الزوج يشك فيها، لاختار أن يقتل زوجته أولًا كما يحدث في الانتحار الثنائي العادي.

أحس الزوج أن قول زوجته كلمة «سأرافقك» هي الثمرة الكبيرة لتربيته وإرشاده لها منذ الليلة الأولى لزواجهما، لتنطقها في وقتها المناسب دون تلجلج. ومما أثلج صدره وأرضى كبرياءه، ولكنه لم يكن زوجًا مغترًّا بنفسه لدرجة أن يعتقد أن مشاعر حبها له هي التي جعلتها تقول تلك الكلمة بعفوية من تلقاء نفسها.

انتعشت السعادة بتلقائية بالغة في قلبيهما معًا، فابتسم وجههما بعفوية؛ إذ كان أحدهما ينظر للآخر كذلك. أحست ريْكو أن ليلة الزفاف الأولى عادت مرة أخرى.

ولم تعتقد أنها ترى أمام عينيها لا الألم ولا الموت، بل فقط حدائق غنَّاء شاسعة حرة.

– «مياه الحمَّام قد سخنت وأصبحت جاهزة. هل تأخذ حمامك الآن؟»

– «آه، نعم!»

– «وطعام العشاء؟»

كانت تلك الكلمات في الواقع قد انطلقت في نبرة عائلية عادية تمامًا؛ مما جعل الزوج على وشك السقوط في مرحلة خداع وَهْمي.

– «ألا تعتقدين أننا لسنا بحاجة للطعام؟ يكفي أن تجهزي أقداح الخمر.»

– «فهمت.»

عندما وقفت ريْكو لكي تخرج الروب ليرتديه زوجها بعد خروجه من الحمام، انتبه الزوج لِما في خزانة الملابس التي فتحتها. وقف الزوج ثم ذهب إلى الخزانة، وألقى نظرة على الدُّرْج المفتوح، ثم قرأ عناوين التذكارات المكتوبة على الأغلفة واحدًا تلو الآخر. لم يشعر الزوج الذي وضحت له بهذه الطريقة استعدادات زوجته البسيطة، بأي حزن ولو ضئيلًا، بل امتلأ قلبه بمشاعر مسكرة. مثل زوج أرته زوجته الشابة مشترياتها بشكل طفولي. من فرط الحب، احتضن الزوج زوجته من الخلف ثم قبَّلها في عنقها.

أحست ريْكو بخشونة ذقن زوجها غير الحليق على عنقها. كان ذلك الإحساس بالنسبة إلى ريْكو إحساسًا واقعيًّا، من حيث كونه إحساسًا ينتمي لهذا العالم الدنيوي. ولكن شعور أنها ستفقده للأبد خلال لحظات، جعله طازجًا بدرجة كبيرة للغاية. وكان لكل لحظة قوتها الحيوية التي توقظ الحواس من جديد في كل ركن من جسدها. تلقت ريْكو مداعبات زوجها الحنونة من الخلف، وهي تكمن قوتها في أطراف أصابع قدميها التي ترتدي فيها الجورب.

– «بعد الانتهاء من الاستحمام، وبعد تناول بعض الخمر. أتفهمين؟ جهزي الفراش في الطابق العلوي.»

همس الزوج بهذه الكلمات في أذن زوجته، وأومأت ريْكو برأسها بصمت.

خلع الزوج زيه العسكري بعنف وعجلة، ثم دخل الحمام. نظرت ريْكو لدى سماعها لصوت الماء بعيدًا لدرجة النار في منقل الفحم في غرفة المعيشة، ثم وقفت لتُعد الخمر.

ثم ذهبت ريْكو إلى الحمام آخذة معها الروب والحزام والملابس الداخلية، وسألت زوجها عن حرارة المياه هل هي مناسبة أم لا. كان الزوج يجلس متربعًا على الأرض وسط البخار المنبعث، ويقوم بحلاقة ذقنه، وبدت لها في ضبابية حركة عضلات ظهره القوية المبتلة وهي تستجيب بحساسية لحركة ذراعيه.

لم يكن ذلك الوقت يشير إلى أي معنًى خاص. تعمل ريْكو الأعمال المنزلية في عجلة؛ لكي تعد أطباقًا سريعة من مقبلات الخمر. يداها لا ترتعشان، بل على العكس تعمل بكفاءة أكبر وسلاسة أكثر من المعتاد. ورغم ذلك، تجري من وقت لآخر نبضات غريبة في أعماق قلبها؛ مثل البرق البعيد، الذي يلمع لحظة بقوة حادة ثم يختفي دون أثَر. وبعيدًا عن ذلك، لم يكن هناك أي شيء خارج عن المألوف.

شعر الزوج وهو يحلق ذقنه في الحمام، أن تدفئة جسده بهذا الشكل قد أزالت تمامًا كل آثار الإرهاق التي نتجت عن التردد والحيرة. ورغم إقباله على الموت فقد كان يشعر بفيض من الأمل والمتعة. يسمع بالكاد صوتًا خفيضًا لتحركات زوجته وهي تقوم بأعمال المنزل؛ مما جعل رغبته الجسدية الطبيعية التي نسيها خلال يومين، تحوم حول رأسه.

كان الزوج واثقًا أنه لا توجد أي شائبة تلوث ذلك الفرح الذي شعر به عندما قرر الاثنان الموت معًا. وكان كل منهما قد أحس في تلك اللحظة مرة أخرى، بالطبع بدون وعي واضح بذلك، أن متعتهما الشرعية التي لا يعرفها أحد غيرهما محمية بعدالة وسلطة إلهية وأخلاقية كاملة بدون أي فجوات. عندما نظر كلاهما في عين الآخر واكتشفا موتًا شرعيًّا بها، شعرا مرة أخرى أنهما محاطان بجدران فولاذية لا يمكن أن تدمر، وأنهما محميان بدرع منيع من الجمال والحق لا يمكن لأحد أن يمسه بسوء. ولذا فقد كان الزوج لا يحس بأي تناقض أو تضاد بين شهوته الجسدية ومشاعر الخوف على الوطن، لا بل إنه استطاع أن يراهما شيئًا واحدًا.

قرب الزوج وجهه تجاه مرآة الحائط المظلمة المشروخة، والتي كثرت بها الضبابية بسبب البخار، واعتنى بحلق لحيته على أكمل وجه؛ فهذا الوجه سيكون هو وجهه بعد الموت. لا يجب أن يترك شعيرات تجعل وجهه مقزِّزًا. الوجه الحليق عاد له لمعان الشباب مرة أخرى لدرجة أنه جعل المرآة المظلمة تسطع. ربما كان جميلًا أن يرتبط الموت بذلك الوجه الصحي المشرق.

هذا سيصير كما هو الآن وجه الموت! لقد صار هذا الوجه بالتأكيد لا يملكه الزوج، وصار وجهًا فوق نصب تذكاري لجندي راحل. جرَّب الزوج أن يغمض عينيه. كل شيء يلفه السواد، ولم يعد بعدُ إنسانًا قادرًا على الرؤية.

عاد الزوج من الحمام، وخدوده اللامعة تشع بزرقة من آثار الحلاقة، ثم جلس متربعًا بجانب منقل الفحم المشتعل جيدًا. وانتبه الزوج إلى أن ريْكو زيَّنت وجهها سريعًا وسط انشغالها بالعمل. تورد الخد وزادت رطوبة الشفتين ولم يعُد هناك أي ظل للحزن. وعندما رأى علامات صفات زوجته الشابة المتَّقدة، أحس بسعادة لأنه اختار حقًّا الزوجة التي كان يجب أن يختارها.

بمجرد أن شرب الكأس ناوله لزوجته. ريْكو التي لم تذُقْ طعم الخمر، ولو لمرة واحدة من قبل، قبَّلَتْه بتلقائية ووضعته على فمِها بشيء من الخوف.

قال الزوج: «تعالَي هنا.»

ذهبت ريْكو إلى جانب زوجها، الذي احتضنها بميل. كان صدرها في هياج عنيف، كما لو أن مشاعر الحزن والفرح اختلطا بتأثير الخمر القوي. نظر الزوج إلى وجه زوجته. هذا هو آخر وجه إنسان، آخر وجه لامرأة، يراه في هذا العالم. تأمَّل الزوج تفاصيل وجه زوجته بدقة، بعيون المسافر الذي يتأمل المناظر الرائعة لبلدٍ لن تراه عيناه مرة ثانية إلى الأبد. الوجه الجميل الذي لا يُملُّ أبدًا من النظر إليه، مع عظيم اكتماله لا توجد به أية برودة، والشفاه مغلقة في خفَّة بقوة ناعمة. قبَّل الزوج تلك الشفاه بدون تفكير. وبعد مرور لحظات عندما انتبه الزوج فوجد قطرات من الدموع تنساب متوالية، وهي تلمع من بين ظلال أهداب العينين الطويلة المغمضة، رغم عدم تشوُّه الوجه بأي قدر من القبح بسبب البكاء.

أخيرًا حث الزوج زوجته على الصعود إلى غرفة النوم في الطابق العلوي، ردَّت الزوجة أنها ستلحق به بعد أخذ حمَّامها. وعندها صعد الزوج إلى الطابق الثاني وحده، ودخل غرفة النوم التي تمت تدفئتها بواسطة مدفئة الغاز. ورقد على الفراش مادًّا ما بين رجليه ورافعًا ذراعيه لأعلى بأقصى حد لهما. وعلى هذا الحال حتى وقت انتظاره قدوم زوجته، لم يختلف عن المعتاد في أي شيء.

عقد ذراعيه أسفل رأسه، وحدق بلا اهتمام في ظلام ألواح السقف التي لا تصلها أشعة المصباح. هل هو ينتظر الموت الآن؟ أم المتعة الجسدية المهتاجة؟ لقد ازدوج الأمران الآن معًا، وأصبح يشعر وكأن الرغبة الجسدية تقوده إلى الموت. ولكن على أي حال؛ فالزوج لم يشعر في حياته قط بمثل هذه الحرية في جميع أعضاء جسده.

تُسمع أصوات السيارات خارج النافذة، صوت دهس إطاراتها للثلوج المتراكمة على أحد جانبي الطريق. ويتردد صدى صوت أبواقها المصطدمة بالسياج القريب. وهكذا عندما يستمع إلى هذه الأصوات، يشعر أن هذا المنزل يقف كالطود الشامخ وكأنه جزيرة منعزلة في خضم بحر المجتمع الهائج الذي لا يكف عن الحركة. الوطن الذي يثير هَمَّه وقلقه يمتد محيطًا بهذا البيت في فوضى كبرى. إنه يضحي بحياته من أجل هذا الوطن، ولكنه وهو يضحي بروحه في سبيل إيقاظ وتحذير هذا الوطن العملاق، لا يدري هل في النهاية سيعطي الوطن لموته ولو نظرة واحدة أم لا؟ ولكنه لا يهمه ذلك مطلقًا؛ فتلك هي ساحة معركة ليس فيها مجد، ساحة معركة لا يقدر أحد على إظهار شجاعته فيها. إنها الخط الأمامي لجبهة الروح.

سُمعت خطوات أقدام ريْكو وهي تصعد درج السلم. درج السلم في هذا البيت القديم يزقزق بشدة. كان الزوج يحن لتلك الزقزقة ولشدة ما انتظر سماعه في الماضي وهو مستلقٍ في الفراش يستمع لتلك الزقزقة الحلوة المذاق. وعندما فكر أنه لن يسمعها مرة أخرى، جعل أذنه في غاية التركيز، محاولًا أن يملأ تلك اللحظات الثمينة لحظة بلحظة بالزقزقة التي ترتفع من باطن قدَم زوجته الناعمة بلا تفريط. كانت تلك اللحظات تطلق أشعة لامعة، وكأنها تحولت إلى مجوهرات.

كانت ريْكو ترتدى كيمونو خفيف بحزام من نوع ناغويا، كان ذلك الحزام الأحمر يبدو أسودَ في الظلام الخافت. وعندما لمسه الزوج بيده، ساعدته يد ريْكو فانزاح الحزام ساقطًا فوق الأرض. حاول الزوج احتضان زوجته كما هي بالرداء واضعًا يديه على جانبيها، ولكن عندما لمست أصابعه لحم جنبها الدافئ، شعر الزوج باشتعال جسده كله؛ بسبب هذه اللمسة.

وفي لمح البصر صار الاثنان عاريين بشكل طبيعي أمام نار مدفئة الغاز.

لم يصرحا بذلك، ولكنَّ قلبيهما وجسديهما وصدريهما المتأججين انفجَرا بالرغبة؛ لعلمهما أن تلك هي آخر مرة. كان كما لو كانت عبارة «المرة الأخيرة» مكتوبة بحبر سري غير مرئي عبر كل ركن من جسديهما.

احتضن الزوج جسد زوجته اليافع بعنف وقبَّلها. لسان كل منهما دخل في فم الآخر السلس ليتأكد من كل ركن فيه. وشعرا كما لو أن تلك المشاعر الملتهبة مثل الصلب الأحمر تدربهما وتصقلهما لتحمل آلام الموت التي لم تظهر بوادرها بعدُ في أي مكان. كانت آلام الموت التي لم يحسَّا بها بعد، تلك الآلام البعيدة هي التي صقلت مشاعر المتعة لديهما.

قال الزوج لزوجته: «هذه هي المرة الأخيرة التي سأرى فيها جسدك، دعيني أتمتع برؤيته جيدًا.»

ثم أمال المصباح ناحيتها، وصب أشعته على امتداد جسد ريْكو الممدد.

كانت ريْكو راقدة على جنبها مغلقة العينين. وأوضحت أشعة الضوء المنخفض تضاريس لحمها الأبيض المهيب. ابتهج الزوج ببعض مشاعر الأنانية؛ لسعادته بأنه لن يضطر أن يرى منظر انهيار هذا الجسد الرائع الجمال أثناء موتها.

نقش الزوج في قلبه ببطء هذا المشهد الذي يصعب نسيانه، يتلاعب بإحدى يديه بشعرها، وباليد الأخرى يداعب في هدوء وجهها الجميل، وهو يقبِّل ما تقع عليه عيناه مرة بعد مرة. من الجبهة الباردة الهادئة التي تشبه جبل فوجي في جمالها، للعيون المغمضة المصانة برموشها الطويلة تحت الحواجب الرقيقة، وسكون الأنف جيدة التكوين، والأسنان اللامعة التي تُلمح خلسة من بين الشفتين المتناغمة ذات السُّمْك الملائم، والخدود الناعمة مع الفك المحكم. كل تلك الملامح تنبئ في الواقع عن وجهها المشرق المشع عند الموت. وأخيرًا امتص عدة مرات بقوة وعنف عنق زوجته التي من المتوقع أن تطعنه بنفسها بعد قليل؛ مما جعل بياضه يتحول إلى حُمرةٍ خفيفة. عاد إلى الشفتين وضغط عليهما برقة، وجعل شفتيه تتحرك مهتزة فوق تلك الشفتين، وكأنها قارب صغير يهتزُّ مع أمواج خفيفة. وعندما أغمض عينيه، أصبح العالم كأنه مهد هزاز.

تابعت شفتا الزوج بإخلاص تحركات عينيه، فتابعتا الثديين اللذين ترتفع فيهما حركة التنفس عاليًا. أمسك الزوج الحلمتين اللتين تشبهان براعم زهور الكرز البري، فانتصبتا عندما وضعهما بين شفتيه. جمال الذراعين اللذان ينسابان بسلاسة لأسفل على جانبي الصدر، ليصلا كما هما بنفس التفاصيل والاستدارة إلى الرسغين. ثم في نهاية ذلك توجد الأصابع الحساسة التي كانت تقبض على المهفَّة في يوم حفل الزفاف. انسحبت الأصابع واحدًا بعد الآخر لتحاول التخفي وراء بعضها البعض حياءً من أمام شفتي الزوج. يُظهر التقوُّس الطبيعي الرباني الذي يصل من الصدر إلى البطن، ويميل بليونته كما هو بواسطة القوة المنطلقة، ومع إيحائه عن المنحنى الغني الذي يمتد حتى الخصر، يُظهر انضباطًا صحيحًا للجسد ليس به إهمال. كان بياض البطن والخصر وثراؤهما اللذان بعدت فجوة بينهما وبين الضوء، يبدوان كأنهما حليب أبيض يملأ وعاء كبيرًا عن آخره. والسرة النقية كانت كأنها أثر مستمر لقطرة مطر سقطت هنا لتصنع بقوة ذلك التكوُّر البارز. يتجمع الشعر بلطف وحساسية في الأجزاء الأكثر كثافة من الظل. ونمت الرائحة التي تشبه عطر زهرة عالية تحترق مع اهتزازات الجسد التي لم تهدأ حتى الآن، ولا يبدو لها أنها ستنتهي.

أخيرًا قالت ريْكو ما يلي بصوت غير مؤكد: «أرني. دعني أنا أيضًا أنظر إليك نظرة وداع.»

لم يسبق مطلقًا أن خرجت الكلمات من فم زوجته تطلب بهذه القوة طلبًا شرعيًّا. ولأنها كانت تُسمع وكأنها انفجار لما ظلَّت تخفيه حتى النهاية بسبب الحياء؛ فقد استجاب الزوج بتلقائية وتمدد نائما تاركا جسده لزوجته. الجسم الأبيض الذي يرتجف أقام جذعه بمرونة، وقد التهب بأمنية محببة. وهي رد كل ما فعله زوجها بجسدها إلى جسده، وقامت بإغماض عيني زوجها اللتين تتأملانها بسحبة من إصبعيها الأبيضين.

احتضنت ريْكو رأس زوجها الذي قصر فيها الشعر حتى مداه، وقد طغَتْ محبته في قلبها فاحتقنت خدودها حتى احمرَّت. شعر زوجها القصير يؤلم ثدييها الذي يلمسه، بينما اندفن أنفه البارد النافر داخل ثدييها، فألهبتهما أنفاسه الحارة. ابتعدت الزوجة لتتأمل هذا الوجه الرجولي عن بُعد؛ الحواجب المُحكمة الشكل، والعيون المغمضة، وأرنبة الأنف النابه، الشفتين الجميلتين المعقودتين في إحكام، الخد المخضر لامعًا في سلاسة يعكس ضوء المصباح بسبب نعومة الحلاقة. قبَّلت ريْكو كل ذلك، ومعه العنق المتضخم، والكتف القوي البارز، الصدر الشجاع القوي الذي وكأنه درعان منتصبان يواجهان بعضهما، وكذلك حلمة الثدي ذات اللون الزعفراني. تفوح من تحت الإبطين اللذين يلاقيان جانبَي الصدر بعضلاتهما الجيدة بظلهما الغامق عليه رائحة مسكرة وحزينة من الشعيرات النابتة، تنبئ عذوبة تلك الرائحة بشكل ما عن إحساس حقيقي بموت شبابي. تتوهج بشرة الزوج، وكأنها مثل حقول القمح، وتكشف العضلات المضلعة في كل جسده بروزها الواضح علانية، وتتلاقى عضلات البطن أسفل البطن لتضم السرة المتواضعة الصغيرة معها. كانت ريْكو وهي تتأمل تلك البطن اليافعة الفتيَّة، تلك البطن المتواضعة المغطَّاة بالشعر النامي، تتذكر أنه سيتم بعد قليل قطعها ثم شقها بقسوة، ومن فرط الحب انهارت باكية تغرقها بقبلاتها.

أحس الزوج النائم بانسكاب دموع زوجته فوق بطنه، فعقد عزمه على تحمُّل آلام قطع البطن الرهيبة بشجاعة، مهما كانت مؤلمة وقاسية.

بعد هذه التفاصيل، لا داعي للحديث عن درجة المتعة الفائقة التي تذوقها الزوجان. عدل الزوج جسده بفحولة، واحتضن بشدة جسد زوجته الذي أنهكه الحزن والدموع بين ذراعيه القويتين. لامس كل منهما خدود بعضهما بعنف وجنون. وارتجف جسد ريْكو، وانضم بإحكام الصدر المبتل بالعرق مع الصدر المبتل بالعرق، وتوحَّد الجسدان الشابان الجميلان في كل ركن منهما، لدرجة الاعتقاد أنه من المحال فصلهما عن بعض مرة أخرى.

صرخت ريْكو صرخة قوية. سقطت من الأعالي إلى الهاوية، ثم أخذت من الهاوية أجنحة حلَّقت بها إلى مستويات مذهلة من الأعالي مرة أخرى. لهث الزوج وكأنه فارس الجيش المغوار الذي قطع مسافات هائلة عدوًا. وهكذا بعد انتهاء الدورة الأولى، انبعثت على الفور شهوة الرغبة مرة أخرى، وسريعًا صعِدا معًا ثانية إلى ذات القمة السامقة بلا أي أثر للإجهاد أو التعب.

٤

مر الوقت ولم يكن إبعاد الزوج لجسده بسبب بلوغه الملل، ولكن السبب الأول هو خوفه من إبادة القوة اللازمة لبقر بطنه. والسبب الآخر هو خوفه من ضياع الذكرى الأخيرة الجميلة المذاق؛ بسبب الشره والإفراط في الجشع.

عندما أبعد الزوج جسده بوضوح، وكما هي عادتها دائمًا، استجابت ريْكو لذلك بلا مقاومة. ظل الاثنان كما هما عاريين نائمين على ظهريهما، ينظران بصمت إلى سقف الغرفة وقد شبكا أصابع يديهما. وجف العرق سريعًا، ولكن بسبب حرارة المدفأة لم يحسَّا بأي برودة. هذا الوقت من الليل هادئ تمامًا، حتى صوت السيارات انقطع تمامًا، صوت مترو البلدية، والمترو الحكومي بجوار محطة يوتسويا يتردد صداه فقط في المنطقة الداخلية من خندق القصر الإمبراطوري، ولكن تحجبه غابة أشجار الحديقة المواجهة للطريق الواسعة أمام قصر ولي العهد في أكاساكا، فلا يصل إلى هنا. في تلك الرقعة من طوكيو يبدو شعور التأزم بسبب المواجهة بين شطري الجيش الإمبراطوري الذي انقسم على نفسه، وكأنه كذب.

يتذكر الاثنان وهما يحسان بالحرارة الداخلية المتوهجة لجسديهما، المتعة اللانهائية التي تذوقاها معًا منذ لحظات. يفكران في حلاوة كل لقطة من اللقطات المذهلة، طعم تلك القُبلات التي لا تنتهي لحظة بلحظة، شعور تلامس البشرة.

ولكن كان وجه الموت القابع في ألواح السقف المظلم يختلس النظر إليهما بالفعل؛ فتلك السعادة هي الأخيرة، ولن تعود لهذا الجسد مرة أخرى. ولكن عند التفكير وإمعان النظر، فحتى لو طال العمر أبعد من ذلك، فتقريبًا من المؤكد أنهما لن يصِلا إلى تحقيق السعادة بهذه الدرجة مرة ثانية، وذلك ما يُؤْمن به كلاهما.

أخيرًا فقَدا هذه المرة إحساس لمسة أصابعهما المتشابكة. حتى أشكال عروق ألواح السقف الخشبية التي ينظران إليها الآن، فقداها في النهاية. لقد شَعَرا أن الموت قد بدأ يحتك رويدًا رويدًا بجسديهما. لا يجب إضاعة الوقت. يجب إيقاظ الشجاعة والعزيمة، والتوجه من تلقاء نفسيهما تجاه ذلك الموت والإمساك به.

قال الزوج: «حسنًا، لنبدأ الاستعدادات.»

من المؤكد أن نبرة صوته كانت حاسمة وقوية، ولكن ريْكو لم يسبق لها أن سمعت صوت زوجها بهذه الدرجة من الحرارة والوداعة والحنان.

بعد أن قاما من الفراش كان ينتظرهما الكثير من العمل والاستعدادات.

كان الزوج لم يقم من قبل حتى هذه اللحظة بالمساعدة في رفع الفراش أو تجهيزه ولو مرة واحدة؛ إلا أنه فتَحَ الخزانة بحيوية ونشاط، وحمل الفراش بيده ووضعه فيها.

ثم أطفأت ريْكو مدفئة الغاز، وأبعدت المصباح. كانت ريْكو أثناء غياب زوجها عن المنزل قد أنهت بالفعل ترتيب هذه الغرفة، وجعلتها نظيفة وجميلة، وفيما عدا إزاحة الطاولة المصنوعة من خشب الورد إلى أحد أركان الغرفة، كان الغرفة الكبيرة ذات ثمانية القطع من حصير التاتامي، لا تختلف كثيرًا عن منظرها المعتاد كغرفة ضيوف مخصصة لاستقبال الضيوف المهمين.

– «لقد شربنا معًا كثيرًا في هذه الغرفة، مع كانو وهوما وياماغوتشي.»

– «بالفعل، شربتم كثيرًا.»

– «سنقابلهم في القريب العاجل في العالم السُّفلي. عندما يرون أنني قد جئت بك معي بالتأكيد سيسخرون مني.»

عندما همَّ الزوج بالنزول إلى الطابق السفلي، وجَّه الزوج نظره للخلف تجاه الغرفة الهادئة النظيفة المضاءة الآن بضوء أحمر، وخطر على ذهنه وجوه الضباط الشبان الذين كانوا في هذه الغرفة، يشربون ويتمازحون ويتفاخرون فيما بينهم في براءة. وقتها لم يكن يعتقد ولا في الأحلام أنه سيقوم ببقر بطنه هنا في نفس الغرفة.

انشغل الزوجان كل على حدة في غرفتي الطابق السفلي، بالاستعداد في انسيابية وسلاسة. عرج الزوج على دورة المياه، ثم دخل في طريق عودته إلى الحمام ليغتسل. وأثناء ذلك، طوت ريْكو روب زوجها، ثم وضعت أمام باب الحمام قطعة جديدة من القماش الأبيض طولها حوالَي ستة أذرع مع زيه العسكري الكامل، ثم رصت على الطبلية ورقتين مخصصتين لكتابة الوصية. وأخيرًا نزعت غطاء محبرة الفحم ثم أذابت الفحم في الحبر. كانت قد فكرت وقررت بالفعل كلمات وصيتها.

ضغطت أصابع ريْكو على قطعة الحبر المذهبة الباردة، انتشر سائل الحبر في فجوة المحبرة سريعًا مثل انتشار السحاب في السماء، توقفت عن التفكير. إن تكرار كل هذه الحركات، ضغط الأصابع، وذلك الصوت الخافت الذي يذهب ويأتي، فقط من أجل الموت. حتى يظهر الموت أمامها أخيرًا لم يكن ذلك إلا مجرد عمل من الأعمال المنزلية اليومية المعتادة التي تستقطع الوقت في هدوء وسكينة. ولكن مع إذابة سائل الفحم، إحساس لمسة الحبر الذي يزداد سلاسة، ورائحة الفحم المتصاعدة بقوة، يوجد ظلام لا يمكن التعبير عنه بالكلام.

خرج الزوج من الحمام، وقد ارتدى زيه العسكري كاملًا بدون ملابس داخلية. ثم جلس صامتًا أمام الطبلية على الأرض، وأمسك بالفرشاة، وأمام الورق أصابه التردد.

حملت ريْكو رداءها الحريريَّ الأبيض وتوجهت إلى الحمام. بعد أن اغتسلت، وضعت زينة الوجه، وعندما ظهرت في رداء الكيمونو الأبيض إلى غرفة المعيشة، رأت الورقة التي تحت المصباح كُتب عليها الوصية التالية فقط بخطٍّ أسود فاحم:

«عاش الجيش الإمبراطوري،

الملازم أول شينجي تاكِياما،

مشاة القوات البرية.»

وعندما جلست ريْكو في مواجهة زوجها لتكتب وصيتها. ظل الزوج صامتًا، بوجه جاد وصارم، يتأمل حركات الكتابة الصحيحة لأصابع زوجته البيضاء، وهي تمسك بالفرشاة.

حمل الزوج سيفه العسكري، وغرزت ريْكو الخنجر الصغير في حزام ردائها الأبيض، وحملا الوصيتين واصطفَّا أمام مذبح الآلهة وقاما بالصلاة في صمت، ثم أطفأ الزوج كل مصابيح الطابق السفلي. تأمل الزوج الذي نظر للخلف في منتصف الدرج الصاعد للطابق العلوي، بعينيه جمال هيئة زوجته برداء العرس الأبيض، وهي تتبعه صاعدة في وسط الظلام وعيناها تنظران لأسفل قليلًا على استحياء.

وضعا الوصيتين متراصتين جنبًا إلى جنب في موضع الزينة في الطابق العلوي، كان يجب إزالة الزينة المعلقة. ولكن لما كانت اللوحة بخط اللواء أوزيكي عرَّاب زواجهما، ولأنها مكتوب عليها فقط كلمتان اثنان هما «الإخلاص للنهاية»؛ فلذا تركاها كما هي. فحتى لو اتسخت قليلًا بقطراتٍ من الدماء المندفعة، فمن المؤكد أن اللواء سيغفر لهما ذلك.

جلس الزوج جلسة معتدلة معطيًا ظهره لعمود ركن الزينة، ووضع سيفه العسكري بالعرض أمام ركبتيه.

ثم جلست ريْكو معتدلة كذلك على بعد قطعة واحدة من حصير التاتامي. ولأن كل ما فيها أبيض، فقد بدا أحمر الشفاه الخفيف الذي وضعته على شفتيها لامعًا للغاية.

ظل الاثنان يتأملان بعضهما، تفصلهما عن بعض قطعة حصير تاتامي واحدة. يوجد السيف العسكري أمام ركبة الزوج. عندما رأته ريْكو تذكرت أحداث أول ليلة بينهما، فلم تقدر على احتمال الحزن. فقال لها الزوج بصوت خافت لا يكاد يُسمع: «لأنه لا يوجد من يقوم باﻟ «كاي شاكو».٢ فسأقطع بطني بعمق. ربما يكون هذا مشهدًا مؤلمًا، ولكن يجب ألا تجزعي؛ فعلى أي الأحوال النظر إلى الموت عن قرب أمر مريع. لا يجب تُحبطي أبدًا إذا شاهدتِ ذلك. هل فهمتِ؟»

قالت ريْكو: «فهمت.» ثم نكست رأسها عميقًا.

عندما رأى الزوج ذلك الجسد الأبيض البض، أحس أمام مواجهة الموت بأنه تذوق نشوة عجيبة المذاق. ما سيقوم به الآن هو فعله كرجل عسكري، وهو ما لم ترَه زوجته من قبل قطُّ. إنه الموت المعادل تمامًا في صفاته للموت في ساحة الحرب، والذي يحتاج إلى عزيمة مساوية تمامًا لعزيمة المعارك الفاصلة في ساحة الوغى. إنه سيُري زوجته الآن شكل ساحة القتال.

للحظة قاد ذلك الزوج إلى أوهام عجيبة، أوهام تجعله يموت وحيدًا في ساحة القتال، ولكن زوجته الجميلة توجد أمام عينيه، فهو يضع كل قدم من قدميه على أحد هذين المشهدين المتباعدين، فيجسِّد وجودًا مشتركًا لأمرين يستحيل وجودهما معًا، مما يُوجِد مذاقًا حلوًا لا يمكن التعبير عنه لشعوره أنه الآن على وشك الانتحار، حتى اعتقد أن تلك ولا ريب هي السعادة الحقيقية. إن تتبع عيني زوجته الجميلة لموته لحظة بلحظة، يجعله يحصل على الموت في جو تفوح فيه نسائم خفيفة ذات عطر رائع. وعند ذلك يوجد شيء ما رُضي له به؛ شيء ما مجهول، في عالم لا يعلمه الآخرون، عالم غير مسموح لأحد آخر أبدًا، أصبح مباحًا له. منظر زوجته الجميلة التي أمامه، في زي الكيمونو الأبيض كالعروس، يجعل الزوج يحس أنه يرى فيها صورة الإمبراطور والوطن وراية الجيش وكل شيء أحبه، ثم هو الآن يضحي بحياته من أجله؛ فكل هؤلاء مساوون لزوجته التي أمامه، من أي مكان، مهما كان بعيدًا، لهم وجودٌ يغمره الآن بالنظر والتأمل بعيون لا ينقطع منها إشعاع الطهر والبراءة.

وكذلك كانت ريْكو، وهي تتأمل هيئة زوجها الذي على وشك الموت، تفكر في أنه لا يوجد في هذا العالم ما هو أجمل منه. ذلك الزوج الذي يناسبه تمامًا الزي العسكري، وتلك الحواجب الصارمة مع تلك الشفاه المضمومة بإحكام، على الأرجح أنهما تعبِّران عن أقصى ما يصل إليها الجمال الرجولي وهو يواجه الموت الآن.

فجأة قال الزوج: «حسنًا، حان وقت العمل.»

قامت ريْكو بالانبطاح بجسدها بعمق فوق حصير التاتامي مؤدية التحية لزوجها. ولم تستطع أبدًا رفع وجهها مهما حاولت. لم تكن تريد إفساد زينة وجهها، ولكنها لم تستطع إيقاف دموعها.

وعندما استطاعت أخيرًا رفع وجهها، كان الذي رأته من بين دموعها منظر زوجها وقد نزع السيف العسكري بالفعل، ويلفه بالقماش الأبيض تاركًا مقدار شبر من نصله.

بعد أن انتهى من لفه وضع زوجها السيف أمام ركبتيه، أراح الزوج ركبتيه فجلس متربعًا، وفك الهوك من ياقة زيه العسكري. تلك العيون لم تعُدْ ترى الزوجة. فك الأزرار النحاسية المستوية واحدًا بعد الآخر ببطء. وظهر صدره ذو اللون الأسمر الباهت، وأخيرًا ظهرت بطنه. أزاح القفل الحديدي للحزام، وفك أزرار السروال. وظهر خلسةً القماشُ الأبيض الناصع ذو الستة أذرع، استرخت بطن الزوج أكثر، ثم خفض بيديه الاثنتين السروال الداخلي، وأمسك بيده اليمنى قبضة سيفه العسكري ذات القماش الأبيض. ثم وهو بهذا الحال نظر لأسفل إلى بطنه، ودلَّك أسفل بطنه بيده اليسرى لتسترخي.

كان الزوج قلقًا من درجة حدة السيف، فقام بثني سرواله الأيسر مظهرًا جزءًا من فخذه، ثم أجرى نصل السيف عليه بخفة. على الفور تدفقت الدماء من الجرح، وانسابَتْ عدة خطوط من الدماء لأسفل، وهي تتألق لامعة؛ بسبب أشعة الضوء القوية.

خفق قلب ريْكو، التي ترى لأول مرة في حياتها دماء زوجها، خفقانًا مرعبًا. نظرت إلى وجه زوجها. الزوج رابط الجأش يتأمل الدماء في هدوء. شعرت ريْكو بالأمان لحظيًّا رغم إيمانها أن ذلك أمان مؤقت.

عندها نظر الزوج إلى زوجته بعُنف بعيون مثل عيون الصقر، وأدار السيف إلى الأمام، ورفع خصره، وجعل نصف جسده العلوي يغطي على نصل السيف. ومن خلال غضبة كتف زيه العسكري، يُعرف درجة استنهاضه كل قوة في جسده. كان تفكير الزوج هو محاولة غرز السيف بكل قوته في ضربة واحدة تصل لأعماق جنبه الأيسر. صوت صيحة العزم الحاد اخترق سكون الغرفة.

ورغم أن الزوج هو الذي ضرب بكل قوته، ولكنه شعر وكأن شخصًا ما ضربه ضربة مؤلمة بِعَصًا حديدية في جنبه. للحظة دارت رأسه ولم يعرف ما الذي حدث. نصل السيف الذي أظهر منه حوالي خمسة أو ستة بوصات كان مدفونًا تمامًا في اللحم، والقماش الذي يقبض عليه الكف كان يلامس البطن مباشرة.

عاد إليه الوعي. وظن الزوج أن السيف قد اخترق غشاء البطن بالتأكيد. خفق القلب بشدة مع صعوبة في التنفس، وفي الأجزاء العميقة من أحشائه البعيدة وكأنها ليست أحشائه، يحسُّ أن آلامًا رهيبة مرعبة بدأت تفور مثل فورة الحمم البركانية الملتهبة بعد حدوث صدع في الأرض. تلك الآلام الرهيبة تقترب فجأة بسرعة مرعبة. كانت التأوهات على وشك الصدور عفوًا من الزوج، لكنه عضَّ على شفته السفلى ومنعها.

عندها فكر الزوج: هذا إذن هو بقر البطن. إنه شعور مريع فظيع، وكأن السماء تسقط فوق الرأس، والعالم يتزعزع بنيانه، عزيمته وشجاعته اللتان كانتا قبل القطع بتلك القوة والثبات، الآن صارا وكأنهما عبارة عن سلك رفيع. واجتاحه القلق؛ لأنه يجب عليه من الآن التعلق به بكل جد. بدأ الكف يصبح زلقًا. وعند النظر وجد أن القماش الأبيض والكف معًا غارقان في الدماء. والسروال الداخلي قد صبغ تمامًا باللون الأحمر. إنه لمن العجيب في وسط هذه الآلام الرهيبة، أنه ما زال ما يُرى يُرى، وما يوجد يوجد.

ريْكو في اللحظة التي دفع فيها الزوج بالسيف داخل جنبه الأيسر، وعندما رأت انسحاب الدم من وجهه، وكأن ستارة قد تدلَّت على الفور. كانت تصارع نفسها لتمنعها من الاقتراب منه. في كل الأحوال يجب رؤية ذلك. يجب مشاهدة رحيله. تلك هي المهمة التي أوكلها الزوج إلى ريْكو. بدا لها في الناحية الأخرى التي تبعد قطعة حصير واحدة فقط منها. بدا وجه زوجها الذي يعض على شفته السفلى، ويتحامل على الآلام واضحًا. تلك الآلام تظهر في الواجهة (في وجهه) دقيقة تمامًا بدون أي فواصل، ولو حتى دقيقة زمن واحدة. ولم يكن لدى ريْكو أي حيلة لإنقاذه من ذلك.

يلمع العرق الذي ظهر نضحًا على جبين زوجها. أغمض الزوج عينيه، ثم فتحهما وكأنه يختبرهما. فقدت عيونه بريقها المعتاد، وتبدو بريئة جوفاء مثل عيون حيوانات صغيرة.

تلمع الآلام مثل شمس الصيف المتوهجة أمام أعين ريْكو، دون اعتبار لحزنها المؤلم الذي يكاد يقسم جسدها إلى نصفين. تزيد الآلام من قامتها أكثر وأكثر، ترتفع وتمتد. شعرت ريْكو أن زوجها قد أصبح بالفعل شخصًا من عالم مختلف، وأعيد وجوده كله إلى الآلام، وأصبح سجينًا في قفص من الآلام لو مدت يديها لا تستطيع لمسه. بل المؤسف أن ريْكو لا تتألم. الحزن والأسى لا يؤلم. عندما تفكر في ذلك، تشعر ريْكو وكأن شخصًا ما أقام بينها وزوجها حائطًا زجاجيًّا عاليًّا يحجز المشاعر.

منذ زواجهما ووجود زوجها يعني وجودها، وتنفس زوجها هو أيضًا تنفسها، ولكن الآن، ورغم وجود زوجها الواضح في الآلام، فإن ريْكو في وسط الحزن والأسى لا تستطيع أن تمسك ولو بدليل واحد مؤكد على وجودها.

حاول الزوج جذب يده اليمنى ولفها، ولكن التفت الأمعاء حول نصل السيف وبسبب قوة المقاومة اللينة لها. ارتد نصل السيف؛ ولذا علم أنه لا بد من دفع السيف بكلتا يديه إلى أعمق أعماق البطن ثم يجذبه ليديره. أداره، ولكن السيف لا يقطع كما كان يتوقع. وضع الزوج كل قوته في يده اليمنى وجذب السيف. قطع حوالي ثلاثة أو أربع بوصات.

انتشرت الآلام تدريجيًّا من داخل أعماق البطن، وصارت البطن بأكملها وكأنها تئن برنين مدوٍّ. وكان كأنه ناقوس ضُرب بهمجية، مع كل نفس يتنفسه، ومع كل دقة نبض تنبض، تضرب الآلام آلاف النواقيس في وقت واحد، وتهز كيانه وجوده كله. صار الزوج لا يقدر على السيطرة على تأوهاته أكثر من ذلك. لكن عندما نظر فجأة ووجد أن السيف قد قطع حتى وصل إلى أسفل السرة بالفعل، شعر بالرضا والشجاعة.

بدأت الدماء تدريجيًّا تندفع من الجرح بغزارة مع النبض. تبلل الحصير الذي أمامه محمرًّا بالدماء المندفعة، وسقط الدم من ثنية السروال ذي اللون الكاكي، بعد أن تجمَّع فيها. وفي النهاية وصلت نقطة دم طائرة مثل العصفور الصغير، لتصل إلى ركبة رداء ريْكو الأبيض البعيد.

عندما أدار الزوج السيف حتى جنب البطن الأيمن، كان نصله قد أصبح أقل عمقًا، وظهر جسم السيف المنزلق بين الدماء والدهون. هجمت على الزوج نوبة قيء؛ فصرخ صرخة مبحوحة. مزج القيء الآلام أكثر، والبطن التي كانت حتى الآن صلدة متماسكة، ضربتها الموجات فجأة، وتوسع الجرح، وكأن فتحة الجرح تتقيء بكل عزمها، فقفزت الأمعاء خارجة منها، وكأنها لا تحس ولا تعرف بآلام صاحبها؛ إذ كانت في صحة جيدة وحيوية عالية لدرجة مثيرة، فانزلقت خارجة في فرح وسعادة مُغرقة ما بين فخذيه. نظر الزوج لأسفل، وهو يتنفس بكتفه، فاتحًا عينيه قليلًا، ويتدلى من فمه خيط من اللعاب. وفي الكتف يلمع اللون الذهبي لنيشان الكتف.

تبعثرت الدماء هنا وهناك، وغرق الزوج في وسط بركة دمائه التي وصلت حتى ركبتيه، وهناك وضع إحدى يديه وسقط منهارًا. الرائحة العطنة النفاذة تملأ أركان الغرفة، وتظهر بوضوح على الكتف حركة تكراره للقيء وهو منحنٍ للأمام، وكأن الأمعاء قد طردته للخارج. كان السيف قد ظهر كله بما في ذلك النصل، والزوج ما زال قابضًا عليه بيده اليمنى.

هيئة الزوج وقتها وقد تقوَّس ظهره للخلف كانت في غاية البطولة لدرجة لا مثيل لها. ولأنه انحنى للخلف بشكل مفاجئ وعنيف للغاية، فقد سُمع بوضوح صوت ارتطام مؤخرة رأسه بعمود الغرفة. ولأن ريْكو حتى ذلك الوقت كانت خافضة وجهها، تتأمل بتركيز سيل الدماء المقترب من ركبتيها، فقد تفاجأت لذلك الصوت ورفعت وجهها.

لم يعد وجه الزوج وجه إنسان حي؛ فالعين تقعرت، والبشرة جفت، وتلك الخدود والشفاه التي كانت في منتهى الجمال، تحولت إلى لون الطين المتيبس. ولكن اليد اليمنى التي تقبض على السيف وكأنه أثقل ما يمكن، هي فقط، تتحرك طائشة في الهواء مثل العرائس المتحركة، وتحاول أن تضع نصل السيف أسفل العنق. وهكذا كانت ريْكو تتأمل وهي ترى بوضوح، آخر جهود زوجها العقيمة، وأكثرها معاناة. نصل السيف الذي يلمع من الدماء، والشحم يحاول أكثر من مرة الوصول إلى العنق، ثم يخفق. لم تعد توجد بالفعل القوة الكافية؛ النصل الذي أخفق يرتطم بالياقة، أو يصيب النيشان. ورغم أن الهوك مفكوك فإن الزي العسكري الصلد، يضيق؛ ليحمي العنق من نصل السيف.

أخيرًا لم تعد ريْكو تستطيع النظر فحاولت الاقتراب من زوجها، ولكنها لم تقدر على الوقوف. ولأنها زحفت بركبتيها وسط الدماء مقتربة منه، فقد صار طرف ردائها الأبيض مصبوغًا باللون الأحمر. دارت وذهبت خلف زوجها، وقدمت له العون ليستطيع فقط توسيع فتحة الياقة. أخيرًا لمس نصل السيف المرتعش الحنجرة العارية. وقتها أحست ريْكو أنها هي التي دفعت زوجها للأمام، ولكن لم يكن هذا ما حدث، بل كانت تلك آخر قوة يمتلكها الزوج بنفسه وبإرادته. قام فجأة بإلقاء جسده تجاه نصل السيف، فاخترق السيف رقبته، ومع نافورة الدم اللانهائية، سكن تمامًا تحت المصباح الكهربائي بجانب نصل السيف الأزرق الهادئ.

٥

نزلت ريْكو الدرج ببطء بجوربها الذي ينزلق بسبب الدماء. كان الطابق العلوي قد أصبح بالفعل في هدوءٍ موحش.

قامت ريْكو بإضاءة أنوار الطابق السفلي، وتأكدت من مواضع النار، ثم فحصت محبس الغاز الرئيسي، ورشت بعض الماء على منقل الفحم لإطفاء النيران المتبقية تحت الرماد. ثم ذهبت إلى المرآة في الغرفة الصغرى، ورفعت ثيابها المتدلية. وظهرت الدماء التي على الرداء الداخلي الأبيض، وكأنها تصميم قوي جريء رائع الجمال. وبعد أن جلست أمام المرآة، شعرت ببرودة قليلة عند منطقة الفخذ التي كانت قد تبللت بدماء زوجها، مما جعل جسدها يرتعش. ثم بعد ذلك استغرقت وقتًا طويلًا في إصلاح زينتها. وضعت على خدها مسحوقًا بلون أحمر غامق، وكذلك صبغت شفتيها بلون غامق. لم تكن تلك الزينة من أجل زوجها الراحل، بل هي زينة من أجل العالم الذي ستتركه؛ ولذا فقد كانت لمسة الفرشاة تحتوي على شيء هائل. عندما وقفت كان حصير التاتامي أمام المرآة قد تبقع كذلك بالدماء، ولكن ريْكو لم تأبه لذلك.

ثم بعد ذلك ذهبت إلى المرحاض، وفي النهاية وقفت أمام الباب في مدخل البيت. لقد كان إغلاق زوجها لقفل المنزل ليلة أمس علامة الاستعداد للموت. فكرت ريْكو لفترة بعمق في أفكار ساذجة. هل يجب أن تفتح قفل الباب أم لا؟ إذا أغلقت باب المنزل، فمن المحتمل ألا ينتبه الجيران لعدة أيام إلى موتهما. كانت ريْكو لا تفضل أن يتم اكتشاف جثتيهما بعد تعفنهما؛ لذا من الأفضل عدم غلق قفل الباب. فتحت ريْكو قفل الباب، ودفعت مزلاج الباب الزجاجي المصقول ففتحته قليلًا. وعلى الفور هبَّت عليها نسمات من الهواء البارد. الطرقات في هذا الوقت المتأخر من الليل خالية تمامًا من أي أثر لإنسان، وظهرت لها النجوم المتجمدة تتلألأ في حديقة الأشجار بين منزلهما والمنزل المقابل.

تركت ريْكو الباب بهذا الشكل كما هو وصعدت درجات السلم. لم يعد الجورب ينزلق، لأنها سارت به داخل المنزل. كانت الرائحة النفاذة العطنة قد اجتاحت بالفعل المكان لتصل أنفها عند منتصف الدرج.

كان زوجها منبطحًا على وجهه في بحر من الدماء. وأحست ريْكو أن حد السيف الواقف من عنقه قد صار أكثر بروزًا عن ذي قبل.

مشت ريْكو فوق بحر الدماء غير عابئة. ثم جلست بجوار جثة زوجها. وظلت تتأمل جانب وجهه المنبطح فوق حصير التاتامي. كان الزوج فاتحًا عينيه على وسعهما، وكأنه قد انجذب لشيء ما. رفعت رأسه تلك بطرف ردائِها، ومسحت الدماء التي على شفتيه بذلك الطرف، ثم قبلته قبلة الوداع.

بعد ذلك قامت واقفة، وأخرجت من الخزانة لحافًا أبيض جديدًا وحزامًا للخصر. لفت اللحاف حول خصرها حتى لا ينكشف طرف ردائها، ثم ربطته بقوة بواسطة حزام الخصر.

ثم جلست بعيدة عن جثة زوجها بمقدار ذراع. وأخرجت الخنجر من غمده، وظلت ترنو إلى حده اللامع الرائق ثم وضعته على لسانها. كان مذاق الصلب المصقول له قليلٌ من طعم السُّكَّر.

لم يصب ريْكو أي تردد أو حيرة، فعندما تفكر أن المعاناة الأليمة التي باعدت بينها وبين زوجها لهذه الدرجة وهو يموت منذ قليل، ها هي هذه المرة تصير ملكها، لم يبقَ لها إلا فرحة انضمامها إلى العالم الذي يضم زوجها بالفعل الآن. كانت قد وجدت في وجه زوجها وهو يصارع الآلام، شيئًا غير مفهوم تراه لأول مرة. حان عليها الدور هذه المرة لكي تحل هذا اللغز. شعرت ريْكو أنها الآن فقط ستستطيع تذوق الحلاوة والمرارة الحقيقيتين للعدالة التي آمن به زوجها. ذلك الطعم الذي كانت فيما مضى تتذوقه بصعوبة من خلال زوجها، هذه المرة ستذوقه بلسانها هي بدون أي شك أو خطأ.

وضعت ريْكو حد الخنجر أسفل حنجرتها، ثم غرزته غرزة واحدة. كانت الغرزة ضحلة. سخنت الرأس بشدة، وتحركت اليد بصدمة قوية. شدت ريْكو الخنجر بالعرض في قوة، اندفع شيء ما ساخن داخل الفم، وأصبح مرمى البصر أمام عينيها بالغ الحُمرة؛ بسبب شبح نافورة الدماء المندفعة بقوة. جمعت ريْكو ما تبقى لديها من قوة ودفعت الخنجر بقوة غارزة إياه في عمق الحنجرة.

١٦ / ١٠  /١٩٦٠م
يوكيو ميشيما 
 
١  العام الحادي عشر من عصر ميجي هو عام ١٩٣٦ ميلادية. (المترجم)
٢  كاي شاكو: هي عملية قطع الرقبة يقوم بها أخلص أصدقاء المنتحر بطريقة الهاراكيري من خلفه ليقلل من آلامه، وينهي حياته سريعًا بعد أن يشق المنتحر بطنه بنفسه. (المترجم)