"الإرهاب في اليابان"
"نيرفانا" الشر
ميسرة عفيفي
عانت اليابان مثلها مثل باقي الأمم من ظاهرة
الإرهاب بجميع أنواعه، فوقعت في اليابان حوادث إرهابية لأسباب دينية وعرقية
وسياسية واجتماعية وحتى لأسباب بيئية. وأشهر حوادث الإرهاب الذي حدثت في اليابان
هي سلسلة الجرائم التي ارتكبتها جماعة "الحقيقة السامية (أومو شينري كيو)" البوذية
في النصف الأول من عقد التسعينات في القرن العشرين.
وجماعة "الحقيقة السامية" البوذية
أنشأها أساهارا شوكو في عام 1984 كجماعة لممارسة رياضة اليوغا وعمل التدريبات
الروحية ثم تطورت لتصير جماعة دينية من جماعات "الكلت" التي انتشرت في
اليابان ظاهرة اجتماعية بعد وصول اليابان لمصاف الدول الغنية وارتفاع مستوى
المعيشة الرفاهية مع وجود نقص روحي ومعنوي مما أدى بالعديد من اليابانيين إلى
البحث عن أنواع جديدة من الخلاص الروحي ممثلا في الانتماء إلى هذه الجماعات
الدينية الجديدة أو "الكلت".
بدأ أساهارا يجمع حوله الشباب وخاصة طلبة
الجامعات وزاد عدد أتباعه إلى أن وصل عددهم وقت الذروة (مارس 1995) إلى 15,400
فرد. بل وفتح أفرع ومكاتب للجماعة في عدد من الدول خارج اليابان منها أمريكا
وروسيا ولكن جرائم جماعة "الحقيقة السامية" لم تكن فقط هي الجريمة
الشهيرة الخاصة بسكب مادة السارين السامة في عربات مترو أنفاق طوكيو، ولكن بدأت مع
نشأة الجماعة، وأول جريمة قتل كانت في عام 1988 وهي جريمة قتل أحد الأتباع الذي
اعترض على واحدة من تعاليم أساهارا فأمر الأخير بتعذيبه ولكنه فارق الحياة أثناء
تعذيبه بالإغراق في مسبح، فقرر أساهارا حرق جثته وطحن ما تبقى من العظام وإلقائها
مع الرماد في بحيرة قريبة من مقر الجماعة. وأدت هذه الجريمة إلى قتل فرد آخر من
أفراد الجماعة الذي حاول الانسلاخ عنها بعض ما رأى ما فعلوه بالضحية. ومنذ ذلك
الحين بدأ أساهارا يعلّم قادة الجماعة تعاليم جديدة محتواها الاعتراف بحتمية القتل
في سبيل الجماعة. ثم قتلت الجماعة المحامي تسوتسومي ساكاموتو وأسرته (زوجته
وطفله) الذي كان يبحث وراء الجماعة وأفعالها المناهضة للقوانين، وأنشأ هيئة من
زملائه المحامين لمساعدة ضحايا الجماعة وأسرهم. وبعدها قامت الجماعة في عام 1994 بنشر
مادة السارين السامة في مدينة ماتسوموتو في حي سكني بسبب خلافات مع الأهالي على
قطعة أرض وقرب صدور حكم المحكمة ضد الجماعة، ثم في النهاية جريمة مترو أنفاق طوكيو التي
تعتبر أضخم حادث إرهابي حدث في اليابان، حيث قام عشرة من كبار قادة الجماعة بتقسيم
أنفسهم إلى خمسة فرق كل فريق مكون من فردين، أحدهم يقوم بسكب السارين في أحد
قطارات مترو أنفاق طوكيو والأخر يقوم بمهمة السائق الذي يرسل الجاني حتى محطة
الركوب وينتظره في محطة النزول ليأخذه ويعودا إلى مقر الجماعة. وقاموا بسكب السارين
في خمسة قطارات لثلاثة خطوط من مترو أنفاق العاصمة طوكيو وقت ذروة الصباح. ليُقتل
13 شخصا ويُصاب 5510 آخرين. وحصيلة ضحايا جرائم جماعة "الحقيقة السامية"
وصلت إلى حوالي 30 قتيل وما يزيد عن ستة آلاف مصاب. لتكون الجماعة صاحبة أضخم
جريمة إرهابية شهدها التاريخ الياباني ولتكون محاكمة أفراد تلك الجماعة أضخم وأطول
محاكمة في التاريخ اليابان (لا زالت المحكمة مستمرة في التقاضي حتى الآن على ثلاثة
من المتهمين الذين ظلوا لفترة طويلة هاربين من العدالة).
أثارت هذه القضية حفيظة العديد من المثقفين
اليابانيين وأدلوا فيها بآرائهم ومنهم الأديب هاروكي موراكامي الذي تفرغ لمدة سنة
وتسعة أشهر كاملة ليضع كتاب ضخم يبلغ 730 صفحة عبارة عن لقاءات مع عدد من الضحايا
الباقين على قيد الحياة وعدد من أسر المتوفين. ثم وضع موراكامي في نهاية الكتاب
تحليله لظاهرة جماعة "الحقيقة السامية"، شارحا من وجهة نظره أسباب تحول
هذه الجماعة الدينية التي من المفترض أنها تنتمي للديانة البوذية المشهور عنها
اتجاها السلمي وعدم لجوئها للعنف بأي حال.
دراسة موراكامي بعنوان "كابوس بلا مقدمات
ولا علامات – إلى أين نحن متجهون؟" وفيما يلي مخلص لتلك الدراسة:
"كابوس بلا مقدمات ولا علامات – إلى أين نحن
متجهون؟"
تأليف: هاروكي موراكامي
ترجمة: ميسرة عفيفي
كنتُ صباح يوم العشرين من مارس عام 1995 في
منزلي بمحافظة كاناغاوا. لقد كنت في ذلك الوقت أعيش في ولاية
ماساشوستس الأمريكية، ولكني وقت وقوع الجريمة في زيارة مؤقتة للوطن عبارة عن عطلة
قصيرة من أسبوع واحد فقط. ولأنني لا أملك في بيتي لا تلفاز ولا مذياع، فلم
أكن أعرف إطلاقا أن العاصمة تهتز وتنقلب رأسا على عقب بسبب تلك الحادثة المرعبة. وفي الساعة
العاشرة صباحا جاءتني مكالمة هاتفية من صديق يعمل في الإعلام.
قال لي بنبرة صوت
تملؤها التوتر والتردد: "وقعت جريمة غريبة في مترو الأنفاق، نتج عنها العديد
من الضحايا. جريمة باستخدام مادة سامة. لا شك أنها من فعل الحقيقة السامية ولذا من
الأفضل لك ألا تأتي إلى طوكيو لفترة من الوقت. لأنهم خطيرون جدا"
وقتها لم أكن أفهم
مطلقا معنى هذا الكلام. ولكن في ذلك اليوم، لم يكن لدي أية نية للذهاب إلى طوكيو، فقلت
لصديقي ذلك: "أشكرك"، بدون أن تتضح لي تفاصيل الأمور، وأنهيت المكالمة
معه. ثم واصلت يومي وكأن شيئا لم يكن. وكان إدراكي لحجم تلك الجريمة المرعبة بعد
ذلك بقليل.
كان ذلك هو يوم
العشرين من مارس لعام 1995 بالنسبة لي.
ربما يعود أحد الأسباب
التي جعلتني بشكل شخصي أحمل اهتماما عميقا بجريمة سكب السارين في مترو الأنفاق،
إلى تلك الحيرة العجيبة أو ذلك الإحساس الغريب عني، الذي شعرت به في ذلك الصباح،
وبقي داخلي لفترة طويلة.
بعد الجريمة ولفترة طويلة،
فاض طوفان من الأخبار في جميع وسائل الإعلام تتعلق بجريمة سكب السارين في مترو
الأنفاق وتتعلق بجماعة "الحقيقة السامية" الدينية. استمرت قنوات التلفاز
تذيع تلك الأخبار من الصباح للمساء دون توقف تقريبا. وأفردت الجرائد وجميع أنواع
المجلات مساحات هائلة من الصفحات من أجل نشر كل ما يتعلق بتلك الجريمة.
ولكن لم أستطع إيجاد ما
كنت أريد معرفته في وسط كل ذلك.
ما الذي حدث بالضبط في
أنفاق طوكيو صباح يوم العشرين من مارس؟
كان ذلك هو التساؤل
الذي كنت أحمله داخلي. سؤال في منتهى البساطة.
إذا تحدثتُ بشكل أكثر
تحديدا، فهو كالتالي: "ما الذي شاهده الركاب الذين تصادف وجودهم في ذلك الوقت
داخل عربات مترو الأنفاق؟ وكيف تصرفوا؟ وما هو إحساسهم؟ وكيف فكروا؟" هذا ما
كنت أريد أن أعرفه. ولو أمكن كنت أريد معرفة معلومات مفصلة أكثر من ذلك، عن كل راكب فردا فردا، من نبضات قلوبهم إلى إيقاع تنفسهم بشكل دقيق. ماذا يحدث عندما يجد المواطن
العادي نفسه فجأة في موقع جريمة كبرى في مترو أنفاق طوكيو، جريمة تبلغ غرابتها حدا
لم يكن قد تخيله من قبل؟
ولكن الأمر العجيب أنه
لم يجب أحد على ما كنت أريد معرفته.
تُرى لِمَ؟
يمكننا القول إن
تركيبة المنطق التي اعتمدت وسائل الإعلام عليها كانت بسيطة جدا. فجريمة سكب السارين
في مترو الأنفاق بالنسبة لهم عبارة عن صراع واضح وصريح بين الخير والشر، بين
العقل والجنون، بين الطبيعي والشاذ.
أصابت الناس صدمة من جراء
تلك الجريمة الغريبة فقالوا: "ما هذا الفعل الأحمق الذي قام به هؤلاء الناس؟
كيف تأتّى لهم، بلا أي خجل أو حياء أن يكونوا بهذا الجنون؟ ماذا حدث لليابان؟ ماذا
تفعل الشرطة؟ لابد من إعدام أساهارا شوكو مهما كانت العاقبة"
بهذه الطريقة ركب
الناس قليلا أو كثيرا، معا سفينة ضخمة، اسمها "العدل"،
"العقل"، "الطبيعي". ولم يكن ذلك صعبا. فقد اقترب المطلق من
النسبي بشكل لا حد له. بمعنى أنه عند المقارنة بين "أساهارا شوكو"
وأتباع جماعة "الحقيقة السامية"، وكذلك عند المقارنة مع الجرم الذي
فعلوه، فبلا أي ريب الأغلبية القصوى من المجتمع يمثلون "العدل"،
و"العقل"، و"الطبيعي". ليس هناك إجماع أكثر سهولة في الفهم من
ذلك. اعتلت كل وسائل الإعلام تيار ذلك الإجماع، وساهمت في زيادة سرعة انتشاره أكثر
وأكثر.
كان هناك وسط ذلك التيار
من يبدي المقاومة بالقول: "الجرائم لا بد من القضاء عليها باعتبارها جرائم، ولكن العدل
والعقل قضية أخرى"، ولكن الأغلب منهم قوبل بانتقاد عنيف ومركز من الرأي
العام (كانت هذه الآراء صحيحة على الأقل جزئيا، ولكن في بعض الحالات كانت طريقة
التعبير عنها توعوية وتمتاز بالاستعلاء والغرور).
ولكن بعد مرور سنتين
من حدوث الجريمة، إلى أين وصلنا نحن الذين كان "العقل" في
"جانبنا"، بعد أن ظللنا نهتز في سفينة عملاقة من الإجماع في نهاية ذلك
التيار الهادر؟ ما الذي تعلمناه من تلك الجريمة الصادمة، وما هي الدروس المستفادة
منها؟
توجد فقط حقيقة مؤكدة،
هي أنه تبقى لدينا "استياء" و"طعم مر" غريبين حتى الآن. نسأل
أنفسنا: "تُرى من أين حلت علينا تلك الكارثة؟". ثم من أجل نسيان ذلك
"الاستياء" وذلك "الطعم المر"، بدا لي أن الأغلبية مننا تحاول
دفن تلك الجريمة في غياهب "الماضي". ثم بدا لي كذلك أننا نحاول أن
نتعامل مع معنى الحادثة برمتها، على مستوى منظومة مجتمعنا القضائية الراسخة.
بالطبع إظهار العديد
من الحقائق من خلال القضاء، أمر له قيمة ثمينة جدا. ولكن إذا لم نقم بتجميع الحقائق
التي تظهر جليا في مراحل التقاضي وتجسيدها داخلنا في رؤية شاملة، سيتفتت كل شيء
إلى تفاصيل دقيقة بلا أي معنى، وتتحول القضية إلى ثرثرة حول الجرائم، وتختفي
القضية كلها كما هي في ظلمات التاريخ. مثل الأمطار التي تهطل على المدينة لتذهب من
خلال الممرات الصناعية المخصصة لها إلى البحر مباشرة بدون أن تروي الأرض. أن قدرة
النظام القضائي على التعامل والمقاضاة معتمدا على القوانين، هي في النهاية لا تمثل
إلا وجها واحدا من أوجه القضية. ولا يصل الأمر أبدا إلى الاسترخاء والاطمئنان أنه
تم حل كل المشاكل.
لو تحدثنا بطريقة
مختلفة، فالصدمة الكبرى التي أصابت مجتمعنا من خلال جماعة "الحقيقة السامية"
و"جريمة سكب السارين في مترو الأنفاق"، لم يتم حتى الآن دراستها
وتحليلها بشكل مفيد، وحتى الآن لم يُعطى شكلا لمعناها ودروسها المستفادة. الآن ليس
أمامي إلا أن أؤكد على ذلك. يجب ألا تُدرج تلك الجريمة في شكل: "جريمة لا
معنى لها نفذتها جماعة مجنونة بشكل استثنائي"، ربما تكون طريقة الحديث هذه
بها بعض المبالغة، ولكني وصلت للاعتقاد أن تلك الجريمة في النهاية لن تبقى طويلا،
وأنها تتجه تدريجيا نحو التحول إلى شكل من أشكال "أساطير المدينة الحديثة"
يختلف تطورها باختلاف الأجيال، أو إلى ثرثرة حول جريمة شاذة وغريبة، أو "حكاية مضحكة"،
مثل كاريكاتور الجرائد.
لو حاولنا جديا أن
نتعلم شيئا ما من تلك الجريمة المأسوية، ألم يحن الوقت الآن لضرورة إعادة فحص
وتمحيص ما حدث بدقة مرة ثانية من زاوية مختلفة وبطريقة مختلفة؟ من السهل القول إن
"جماعة الحقيقة السامية شر مطلق". وكذلك من السهل جدا تحويل النقاش إلى:
"الشر والعقل لا يتجمعان". ولكن مهما كانت درجة المواجهة مع تلك
النقاشات، أليس من الصعب النجاة من لعنة "الإجماع الشامل"؟
وذلك لأنه تم تجربة
ذلك كله من قبل وبكل الوسائل ولم ينجح. ولأن ذلك عمل يصاحبه صعوبات ضخمة، لاستخدامنا
نفس الكلمات داخل إطار نفس المنظومة، ولاستحالة اهتزاز وانهيار الظروف المتعددة
الراسخة والوضع الموجود داخل إطار المنظومة.
إذن، ما نحتاج إليه هو
كلمات جديدة تأتي من اتجاه مختلف، وحكاية جديدة تماما (حكاية أخرى من أجل عمل
تنقية للحكاية الحالية) تحكيها تلك الكلمات. ___
تُرى أين تلك
الكلمات الجديدة وتلك الحكاية الجديدة؟ أين نستطيع العثور عليها؟
كما كتبت من قبل، كان
الموقف الأساسي لوسائل الإعلام عند بثها لأخبار تلك الجريمة، هي مقابلة، "جانبنا
نحن" (الضحايا = أبرياء = الحق) في مقابل "جانبهم هم" (الجناة = المذنبون = الشر). ثم تثبيت وضع "جانبنا نحن" على أنه شرط مبدئي،
واستخدام ذلك كرمانة الميزان، وأخذت تحلل وتفصّل بشكل عميق من أجل تشويه منطق
وسلوكيات "جانبهم هم".
بعد مرور فترة من وقوع
الجريمة أصبحتُ أحمل الأفكار التالية وإن كان ذلك بشكل مجمل غير واضح المعالم. إن
مجرد اتّباع خطوات منطق ومنظومة "جانبهم هم" الذين قاموا بارتكاب
الجريمة، وتحليلها بشكل كامل وتام فقط، لن يكفي لكي نفهم حقيقة وتفاصيل جريمة سكب
السارين في مترو الأنفاق. بالطبع فعل ذلك مفيد للغاية، لكن من الضروري عمل نفس
التحليل في نفس الوقت وبالتوازي معه تجاه منطق ومنظومة "جانبنا نحن"،
سيكون ذلك مفتاحا لحل اللغز الذي أظهره "جانبهم هم"، أو ربما يكون (جزءا من المفتاح) مختفيا في مكان ما، تحت الأرض في "جانبنا نحن".
بمعنى أننا لن نصل إلى
شيء من خلال النظر فقط بمنظار مكبر على الضفة المقابلة من النهر التي تضم جماعة
الحقيقة السامية على أنه شيء لا يعنينا بتاتا وشيء شاذ وغريب وغير قابل للتصديق. ولكن من
الأهمية بمكان بحث ودراسة ذلك الشيء في منظومتنا أو المنظومة التي تضمنا إلى درجة
ما، حتى لو كان التفكير في ذلك يسبّب قليلا من الإحساس بالاستياء. عدم اكتشاف
المفتاح المدفون في "جانبنا نحن"، وتحويل كل شيء إلى "الضفة
المقابلة" يجعل المعنى المفترض وجوده هناك، يتحول إلى شيء دقيق للغاية لا
يمكن رؤيته بالعين المجردة.
يوجد سبب لتفكيري بهذا
الشكل. السبب أنني أتذكر جيدا بصفة شخصية عندما قامت جماعة الحقيقة السامية
بالترشح في انتخابات مجلس النواب في فبراير من عام 1990. وقتها أيضا كنت في
اليابان عائدا من الخارج في زيارة سريعة. لقد ترشح أساهارا في الدائرة الانتخابية لحي
شيبويا بمحافظة طوكيو التي كان بها محل سكني وقتها، وقامت الجماعة بحملة دعاية انتخابية
على قدر كبير من الغرابة والشذوذ، موسيقى عجيبة تنساب من سماعات سيارات الدعاية
الانتخابية كل يوم، فتيان وفتيات يرتدون أقنعة بوجه أساهارا ووجه فيل ويلبسون
ملابس بيضاء يصطفون أمام محطة سنداغايا للقطار، ويلوحون بأيديهم ويرقصون رقصات
غريبة غير مفهومة.
كانت تلك هي المرة
الأولى لي التي أتعرّف فيها على وجود جماعة الحقيقة السامية، ولكني عندما وقعت
عيني على ذلك المنظر، أشحتُ وجهي بدون وعي بعيدا عنهم. والسبب أن ذلك المشهد كان
أحد الأشياء التي لا أريد رؤيتها. وبدا لي أن جميع الناس حولي أظهروا على وجههم
نفس ملامحي وكانوا يسيرون وكأنهم يتظاهرون بعدم رؤية منظر أتباع جماعة الحقيقة
السامية. الأمر الذي شعرت به وقتها في ذلك المكان هو حقد وكره لا يمكن التعبير عنه
بالكلمات، وشعور امتعاض تخطى حالة الفهم. ولكن لم أفكر وقتها بعمق وتركيز بخصوص
المكان الذي أتى منه ذلك الشعور بالامتعاض؟ ولماذا كان ذلك بالنسبة لي "أحد
الأشياء التي لا أريد رؤيتها"؟ لم أشعر وقتها بضرورة التفكير بعمق. فقد قمت
بطرد ذلك المنظر خارج ذاكرتي على أنه "شيء ليس لي علاقة به".
وعلى الأرجح كان 80% أو 90% من أفراد المجتمع سيشعرون بنفس شعوري لو
واجهوا نفس المنظر في نفس التوقيت، وأتخيل قيامهم بفعل ما فعلتُه. بمعنى أنهم مروا
من أمام المنظر متظاهرين بعدم رؤيته، ولم يفكروا في الأمر أعمق من ذلك، وانمحى من
الذاكرة تماما بأسرع وقت (وربما كان مثقفو جمهورية ڤايمار في ألمانيا لهم نفس رد
الفعل هذا عندما رأوا هتلر لأول مرة).
ولكن عند محاولة
التفكير الآن وبعد ما حدث، فهذا أمر في غاية الغرابة. فيوجد العديد من جماعات
"الكلت" الدينية الغريبة والمستحدثة التي تقوم بالدعاية لها على قارعة
الطريق. ولكن أحد منا (أو على الأقل أنا شخصيا) لم أشعر تجاههم بهذا الكره والحقد
الغريزي. ينتهي الأمر بقول: "انظر إنهم يفعلونها ثانية." يمر المرء
أماهم ويتخطاهم بسلاسة وبدون أن يحدث أي اضطراب للمشاعر. وإذا نظرنا من ناحية الغرابة
والشذوذ، فبالطبع جماعة "هاري كريشنا" برؤوسهم الصلعاء تماما ورقصهم على
نغمات طبول "الرِق" هو بالتأكد منظر شاذ وغريب. ولكنى رغم ذلك لم يسبق
لي أن قمت بإشاحة وجهي بعيدا عن جماعة هاري كريشنا بصفة خاصة. ورغم ذلك لم أكن
أستطيع احتمال مناظر الحقيقة السامية من دون أن أشيح عنها نظري بدون وعي. لم يكن
من الممكن أن أتفادى حدوث اضطراب نفسي لقلبي.
تُرى لماذا؟
توجد فرضية نظرية لشرح ذلك. وهي أن
"حالة" جماعة الحقيقة السامية في الواقع لم تكن شيئا لا يعنينا.
تلك "الحالة"، بعد أن أخذت شكلا لم نكن قد سبق لنا تخيله، لبست صورتنا
المشوهة نفسها، ووضعت فوق رقابنا سكين الإمكانية الحاد. لقد أمكننا التعامل مع
حركة هاري كريشنا وباقي الجماعات الدينية منذ البداية (قبل حتى أن تدخل إلى منظومة
تفكيرنا المنطقي) على أنها شيء "لا يخصنا في قليل ولا كثير". ولكن لسبب
ما، لم نستطع فعل ذلك مع جماعة الحقيقة السامية. كان لدينا ضرورة لكي نقوم
ببذل كل جهودنا لكي نطرد بوعي ذلك الوجود (مناظرهم ورقصهم وأغانيهم) خارج منظومة
التفكير المنطقي لنا. ولذلك اضطربت قلوبنا لرؤيتهم.
إذا تكلمنا من وجهة
نظر علم النفس، عندما نشعر بالحقد والكره بشكل عنيف، ونبغض شيئا ما بشكل غريزي من
البداية، فكثيرا ما يكون ذلك سببه في الواقع إسقاط صورة سلبية لذواتنا. إذن ربما يكون
شعور الكره والحقد الطاغي الذي أحسستُ به تجاه منظر أتباع الحقيقة السامية أمام
محطة سنداغايا، أتى من تلك الناحية. هنا سأقف قليلا للتفكير في هذه الفرضية.
لا ... ليس معنى ذلك
أنني أقول: "أنا أو أنت لو اختلفت الظروف، ربما انضممت لجماعة الحقيقة
السامية وسكبت السارين في مترو الأنفاق" وذلك لأن تلك الحالة واقعيا وبشكل
مؤكد من المستحيل حدوثها تقريبا. ولكن الذي أريد أن أقوله هو: "ربما كان ذلك
المنظر يحتوي على ما اجتهدنا بما نملك من وعي لكي نطرده"
في حالة مد هذه الفرضية
التي تحدثتُ عنها لتوي لمنتهاها، وعندما نقف في منتصف الملعب الواسع للغاية الذي وصلنا إليه،
فأنا في الواقع أرى أن منظومة ومنطق "جانبنا نحن" = عامة الناس، ومنظومة ومنطق
الحقيقة السامية يمثل شيئا وصورته في مرآة.
بالطبع الصورة داخل
المرآة، عندما نقارنها بالأصل تكون مُظلمة ومشوّهة جدا. وقد تبدلت البروزات مع
النتوءات، وتبدل السالب مع الموجب، وتبدل الضوء مع الظلام. ولكن إذا نزعنا ذلك
الظلام وتلك التشوهات، فالعجيب أننا نرى الصورتين متماثلتين ويكادا أن يتطابقا.
وذلك بمعنى من المعاني، أن ما كنا نتفادى النظر المباشر إليه، وحاولنا بوعي أو
بدون وعي طرده من الإطار المسمى الواقع، هو الجزء المظلم من ذواتنا. ذلك "الطعم
المر الباقي" في حلقنا الذي ظل في مكان ما داخلنا، تجاه جريمة سكب السارين في
مترو الأنفاق، في الواقع ربما ينبع من ذلك المكان.
إذا قلت ذلك ببساطة
فعلى الأرجح لن يقتنع القراء. وربما يوجد لديهم اعتراض. ولذا أريد أن أشرح ذلك
بقليل من التفصيل. وسيتعلق بذلك ذاتنا، وما تنتجه تلك الذات من "حكايات".
في عدد يونية 1996 من
مجلة "سكاي" {العالم}، كتب السيد ميتشيو أوتشي عن مرتكب جرائم تفجيرات
متوالية في أمريكا ثيودور كازينسكي الذي اشتهر بلقب "يونابومبر" {مفجر
الجامعات والطائرات}، واقتبس جزءا من رسالة طويلة نشرها "يونابومبر" في
جريدة "نيويورك تايمز"، وسأنقل أنا ذلك الاقتباس هنا كما هو.
تعيد المنظومة (المجتمع كليّ السيطرة) صناعة الفرد الذي لا يتوافق معها
لدرجة تجعل ذلك الفرد يشعر بالألم والمعاناة. ويعتبر المجتمع عدم التوافق مع
المنظومة "مرضا"، وأن جعل الفرد يتوافق مع المنظومة هو
"العلاج". مثل هذا الفرد يتحطم داخله القوة المحركة (power process) أو قوة
التقدم التي تجعله قادرا على الوصول إلى هدفه مستقلا بذاته، ويزرع النظام فيه رغما
عنه "قوة محركة" اعتمادية. وتصير رغبته في "قوة محركة" مستقلة،
"مرضا"
ويُذكر أن طريقة
"يونابومبر" في إرسال الرسائل المفخخة، هي التي أوحت إلى جماعة الحقيقة
السامية بجريمة إرسال طرود مفخخة إلى مقر العاصمة طوكيو. وحتى لو نظرنا إلى هذه
النقطة فقط فهو أمر يثير الاهتمام، ولكن الذي يقوله مرتكب سلسلة جرائم التفجيرات
تلك، ثيودور كازينسكي، أعتقد أنه قريب للغاية من جوهر أفعال الحقيقة السامية.
وأنا أعتقد أن الذي
يحكيه كازينسكي هنا، بشكل أساسي نظرية صحيحة. منظومة المجتمع التي تؤدي وظيفتها بما
فيها نحن، تحاول أن تمنع الفرد من الحصول على "قوة محركة" (power process) مستقلة.
أنا أيضا أشعر بذلك قليلا أو كثيرا، وعلى الأرجح لا شك أنك أنت أيها القارئ تشعر
بذلك قليلا أو كثيرا. وإذا تحدثنا بشكل أكثر شمولا، فالأمر يصبح "حتى لو رغبت
في الحياة بحُرية رافعا من قيمة ذاتك الشخصية، ففي الأغلب لن يسمح لك المجتمع بسهولة
بفعل ذلك"
ثم إذا نظرنا مثلا بعيون الأتْباع
الذي يؤمنون بديانة الحقيقة السامية، فهم عندما حصلوا على قوة محركة (power process) مستقلة، وحاولوا تأسيسها وتثبيتها، حكم المجتمع وحكمت الدولة على
ذلك بأنه "فعل معاد للمجتمع"، وكان من الخطإ محاولة نزعهم بالقوة من
هناك باعتبار ذلك مرضا، كان شيئا لا يمكن السماح به مطلقا. وكان هذا سبب تماديهم أكثر
وأكثر في اتجاه معادي للمجتمع.
ولكن كازينسكي أهمل – سواء بوعي أو
بدون وعي – نقطة هامة. وهي أنه في الأساس "القوة المحركة المستقلة للفرد" هي في الأساس تتولد عن مرآة
"قوة محركة اعتمادية". إذا
بالغنا في
القول، فلا تزيد الأولى على أن تكون مجرد مرجع للثانية. بمعنى أنه ما لم يولد
الإنسان في جزيرة منعزلة ويتركه والداه ليتربى وحيدا فيها، فلا يوجد في أين مكان من
هذا العالم ما يسمى "قوة محركة استقلالية" خالصة النقاء. ولذا
فمن المفترض وجود علاقة ضمنية للتفاوض بين هاتين القوتين. فهما
كالسالب والموجب ينجذبان لبعضهما بشكل تلقائي، ومن المفترض أن يتم اكتشاف موقع
ثابت – على الأرجح في نهاية سلسلة من التجارب والفشل – داخل إدراك كل فرد بالعالم. ويمكن أن نطلق على ذلك "التجسيد
المحايد للذات". ويعتبر هذا هو حقا الاستهلال (initiation) الحقيقي
بالنسبة لحياة الفرد. عدم القدرة على فعل ذلك العمل سببه أنه في مرحلة ما، ولسبب
ما، تم تعطيل وإعاقة تطوير "سوفت وير" متوازن للذات. وعندما يُترك ذلك
العطل جانبا، وتُجرى محاولة تخطيه من خلال منطق "الهارد وير" المسمى "قوة محركة" استقلالية فقط، يتولد احتكاك مادي (قانوني) بين منطق المجتمع والفرد.
أنا أعتقد أن أساهارا شوكو نجح في تأسيس
منظومة محدودة (لكنها فعالة جدا واقعيا) لتوازن الذات المعطوب بشكل مصيري.
أنا لا أعلم ماذا كان مستواه كرجل دين. ولا أعلم كذلك عن كيفية قياس مستوى رجال الدين.
ولكن عند النظر إلى معالم طريق حياته التي قطعها حتى الآن، ليس من الصعب تخمين ذلك.
فهو في نهاية طريق من الجد والاجتهاد، قد حبس بشكل محكم نواقص ذاته تلك داخل دائرة
مغلقة. تماما مثلما حُبس العفريت داخل الفانوس السحري في حكايات "ألف ليلة
وليلة" العربية. ثم قام أساهارا بوضع بطاقة باسم "الدين" على ذلك
الفانوس. ثم قام بنشر هذه المنظومة المغلقة في المجتمع كتجربة حياتية يمكن مشاركتها،
وكذلك كبضاعة تجارية.
ولا شك أن أساهارا نفسه وحتى يصل
إلى خلق تلك المنظومة قد خاض معركة دامية رهيبة من الصراع الداخلي مع المعاناة ومع
هوى النفس. وكذلك لا شك أنه حصل من خلال ذلك على قيمة تفوق القيم العادية، لا أدري
هل هي "النيرفانا" أم شيء من هذا القبيل. إذا لم يتم المرور
بهذا الجحيم النفسي الداخلي العنيف، وإذا لم يتم تجربة تحويل القيمة للحياة
المعيشية غير العادية بنوع ما، فعلى الأرجح لم يكن أساهارا يستطيع الحصول على هذه
الدرجة من الكاريزما. ربما يكون من صفات الأديان البدائية استدعاء هالة مميزة صادرة
بهذا الشكل دائما من نواقص الناحية النفسية.
يبدو لي أن العديد من أعضاء جماعة "الحقيقة
السامية"، من أجل الحصول على "القوة المحركة الاستقلالية" التي يمنحها أساهارا، قاموا
باستئجار خزينة لدى أساهارا شوكو الذي يمكن تسميته "البنك النفسي"، ثم
قاموا بإيداع ذواتهم ذات الرأس المال الفردي عالي القيمة مع مفتاح الخزينة نفسها
لديه. تخلى الأتباع المخلصون بأنفسهم عن حريتهم، وتخلوا عن ثرواتهم،
وتخلوا عن أسرهم، وتخلوا عن معايير الحكم على القيمة في المجتمع (الحِس العام). المواطن
الصالح سيندهش قائلا: "ما هذا الغباء؟". ولكن على العكس هذا الفعل
بالنسبة لهم يسبب ارتياحا عظيما. والسبب أنه إن قمت
مرة بتسليم ذاتك إلى أحد ما، بعدها لن تكون هناك ضرورة للمعاناة بنفسك والتفكير في
كل خطوة والتحكم فيها.
فهم يستطيعون أخذ قوة
محركة استقلالية مقلدة تقليدا محكما للأصل من خلال ربط حركة ذواتهم وجعلها متطابقة
للذات الفردية "الأكثر ضخامة والأكثر اتزانا في نقصها" التي يملكها
أساهارا شوكو. بمعنى أن معادلة "القوة المحركة الاستقلالية ضد منظومة المجتمع"
لا تُنفذ من خلال القدرة الفردية والاستراتيجية، بل من خلال تفويض أساهارا
بكل الصلاحيات كاملة كوكيل تنفيذي. قائلين: "تفضل افعل بنا ما تريد"
إنهم وكما عرّف
كازينسكي لم يكونوا "يقاتلون ضد منظومة المجتمع ببسالة من أجل الحصول على قوة
محركة استقلالية". الذي كان يقاتل بالفعل هو أساهارا شوكو بمفرده. وأغلب الأتباع
تم رميهم داخل ذات أساهارا شوكو التي ترغب في القتال، وتطابقت ذاتهم معها. وكذلك
لم يقم أساهارا بعمل غسيل مخ للأتباع من جانبه فقط. فهم لم يكونوا مجرد ضحايا بشكل
خالص يتلقون الفعل فقط. بل هم أنفسهم، طلبوا من أساهارا بإلحاح أن يعمل لهم غسيل
مخ. فغسيل المخ لا يكون مطلوبا فقط ولا يكون مُعطى فقط. بل هو عبارة عن عملية
تبادل من "الطلب والعطاء".
يحكي الروائي الأمريكي
راسل بانكس في روايته "انجراف قاريّ" ما يلي:
"عندما يُسلّم الإنسان ذاته لمن يملك قوة أكبر منه، على سبيل المثال: التاريخ،
الإله، اللاوعي، يفقد الإنسان بسهولة متناهية ارتباطه بالأحداث التي تحدث أمام
عينه. يفقد حياته كتيار متواصل من الحكايات." (ترجمة: توشيوكي كوروهارا)
نعم إنك لو فقدتَ ذاتك، ستفتقد نفسك كحكاية
متصلة متكاملة. ولكن الإنسان لا يستطيع العيش طويلا بدون حكاية. لأن الحكاية هي
صمام الآمان، والمفتاح السري الهام، التي تجعلك تتخطى المنظومة المنطقية (أو
المنطق المنظم) المحددة التي تحيط بك، من أجل تنفيذ تجارب متزامنة مع الآخرين.
الحكاية هي بالطبع "أحاديث".
و"الأحاديث" ليست منطقا ولا أخلاقا ولا فلسفة. إنها الحلم الذي تستمر
أنت في رؤيته على الدوام. ربما تكون أنت نفسك غير منتبه لذلك. ولكنك مثلما تتنفس، فأنت
تستمر في رؤية أحلام "الأحاديث" تلك بدون لحظة توقف. داخل تلك "الأحاديث"
أنت تحمل وجودا ذا وجهين. فتكون أنت البطل الرئيس الفاعل
وفي نفس الوقت البطل الثانوي المفعول به. أنت الكل وفي
نفس الوقت أنت الجزء. أنت الجسد الفعلي وفي نفس الوقت أنت الظل. أنت
"الصانع" الذي يصنع الحكاية، وفي نفس أنت "اللاعب" الذي يلعب
الحكاية. نحن جميعا من خلال امتلاك حس الحكاية المترامية الأبعاد بهذا الشكل قليلا
أو كثيرا، نعالج وحدتنا الموجودة منفردة في هذا العالم.
ولكن فأنت (أو على
الأرجح البشر جميعهم كذلك)، لا يمكن لك أن تخلق حكاية خاصة بك، بدون امتلاك ذات خاصة
بك. تماما مثل عدم إمكانية تصنيع سيارة بدون محرك. تماما مثل عدم وجود ظل لشيء ليس
له هيئة وجسد فعلي. ولكن أنت الآن، قد تنازلت عن ذاتك لإنسان آخر. في هذه الحالة:
ما الذي يمكنك أن تفعله؟
في هذه الحالة، سيكون
عليك أن تستلم حكاية جديدة من شخص آخر غيرك، ذلك الشخص الذي تنازلتَ
له عن ذاتك. لأنك قد تنازلت عن وجودك الفعلي، كثمن لذلك، يتم إعطاءك ظل، عند التفكير
ربما كان ذلك هو المصير الطبيعي. إذا قمت بعمل عملية تطابق بين ذاتك وذات شخص آخر،
يجب أن تتطابق جمل حكايتك مع الحكاية التي يخلقها ذلك الآخر.
يا ترى أي الحكايات
هي؟
لا توجد ضرورة لأن
تكون حكاية من الدرجة الأولى بها تعقيدات محبوكة بتاتا. ولا توجد ضرورة كذلك لوجود
عبق الأدب. لا على العكس يفضل أن تكون حكاية بسيطة غير معقدة. بل ربما كان من
الأفضل أن تكون حكاية مبتذلة بقدر الإمكان. وذلك لأن الكثير من الناس قد تعبوا
بالفعل من سماع الحكاية الشمولية المعقّدة متعددة المعاني – وكذلك تحتوي على خيانة
ما – التي تقول: "هي كذلك إلا أنها في نفس الوقت يمكن أن تكون هكذا
أيضا". ولأنهم بالفعل لم يقدروا على إيجاد مكان لهم داخل تلك التعبيرات متعددة
المعاني، فالناس يُقْبِلون بأنفسهم على التخلي عن ذواتهم.
ولذا يكفي في الحكاية
المعطاة لهم أن تكون حكاية بسيطة كـ "شفرة" واحدة. تماما مثل الجندي
الذي يتسلم نيشانا في أرض المعركة لا ضرورة أن يكون النيشان مصنوعا من الذهب
الخالص. فيكفي في النيشان أن يكون مُدعما بالوعي الجمعي على أنه
"نيشان"، ولا يوجد أي مانع إطلاقا أن يكون مصنوعا من قطعة صفيح رخيصة
الثمن.
لقد استطاع أساهارا
شوكو، بكل كرم وفي نفس الوقت بقوة إقناع كامل، إعطاء تلك الحكاية المبتذلة للناس
(الناس الذي يطلبونها حقا). وذلك لأن وعيه هو شخصيا بالعالم على الأرجح مكونا من
شيء في غاية الابتذال. إنها حكاية فظة مُضحكة. حكاية لا يمكن وصفها من وجهة نظر
الأغراب إلا بالهراء السخيف. ولكن إذا تكلمنا بعدالة، يوجد هناك شيء مؤكد في كل
أحداثها. ألا وهو "إنها حكاية عدوانية تقاتل من أجل شيء ما حتى تخضب
بالدماء."
من وجهة النظر هذه،
ربما كان أساهارا، في معنى محدد ومحصور، حكّاء نادر تمكن من السيطرة على الجو العام
للعصر الحالي. فهو لم يخف – سواء بوعي أو بدون وعي – من إدراكه بأن الفكرة والصورة
التي في داخله مبتذلة. لقد قام بإيجابية بجمع وتكويم الأجزاء المبتذلة الموجودة
حوله واستطاع خلق تيار ما (في فيلم "إي تي" كان المخلوق الفضائي يحاول
تجميع "الكراكيب" الموجودة في المخزن لكي يركّب منها جهاز اتصال متبادل
مع الكوكب الذي جاء منه). ثم كان هذا التيار يعكس المعاناة الذاتية لأساهارا شخصيا
بلون غامق. وكذلك كانت تلك الحكاية التي تحتوي النقصان، كان هو بالضبط النقص في
ذات أساهارا شخصيا ولذلك فالناس الذين تقدموا بأنفسهم للاندماج في نقص ذات
أساهارا، لم يكن هذا النقص يسبب لهم أي عائق إطلاقا في تقبّلهم للحكاية، بل ربما
كان على العكس إضافة لها. ولكن هذا النقص في النهاية وعلى الأرجح من خلال لحظة
تأثير داخلية، بدأ يتلوث بواسطة عامل مميت. شيء ما كحقيقة كبرى بدأ في التحول إلى
هلاوس وخيالات بدون إمكانية إنقاذه وذهب إلى مكان لا يمكن العودة منه.
هذه هي الحكاية التي
تقدمها جماعة الحقيقة السامية أو "جانبهم هم". ربما تقول أنت ما هذا الهراء؟
هذا بالتأكيد غباء مطلق. وفي القصة الحقيقية، كان أغلبنا يسخر ويضحك من الحكاية
المبتذلة التي بلا أي أصل، تلك التي يختلقها أساهارا. سخرنا من أساهارا الذي يختلق
مثل هذه الحكايات، وسخرنا من الأتباع الذين تسحرهم مثل هذه الحكايات. حتى لو كانت
ضحكات يتبقى لها مرارة في الحلق، إلا أننا على الأقل استطعنا أن نطلق الضحكات.
حسنا، ذلك لا بأس به.
ولكن مقابل ذلك، نحن
في "جانبنا نحن"، ما هي الحكاية النافعة التي استطعنا خلقها؟ هل نحن في
النهاية نملك حكاية لها قوة وجاذبية تستطيع طرد وإبعاد حكاية أساهارا التي بلا
أصل، سواء في تيار الثقافة العام، أو حتى في تيار الثقافة الموازية (subculture)؟
هذه قضية مصيرية
للغاية. أنا كاتب روائي، وكما تعلمون الروائي هو إنسان مهنته حكي "الحكايات".
ولذلك فهذه القضية المصيرية هي بالنسبة لي أكثر من مجرد قضية هامة. بل هي بحق كما
لو كانت سيفا ذا نصل حاد مسلط على رقبتي. وعلى ما يبدو سيجب عليّ أن أظل مستمرا في
التفكير في هذا الأمر للأبد بجدية وإخلاص. وأعتقد أنني أنا شخصيا من المحتم عليّ
أن أصنع "أداة التواصل مع الفضاء" الخاصة بي. وأعتقد أنه يجب عليّ أن أخذ
على محمل الجد ما يوجد داخلي من "كراكيب" ونقص واحدا بعد الآخر والتفكير
فيه بتأني (عندما انتهيت من كتابة هذا الكلام، تفاجئتُ أن ذلك هو الذي كنت أحاول في
الواقع فعله كروائي لفترات طويلة!)
ثم بعد ذلك، ماذا يعني
الأمر بالنسبة لك؟ (أستخدم ضمير المخاطب ولكن أنا أيضا مشمول في هذا الضمير)
أنت شخصيا ألا يوجد
أحد (أو شيء) تعطيه جزءا من ذاتك وتأخذ منه مقابل ذلك "حكاية"؟ أليس نحن
قد تنازلنا عن جزء من صفاتنا الذاتية لمنظومة ما أو سيستم ما؟ لو تم ذلك، ألا يمكن
أن تقوم تلك المنظومة في وقت ما بطلب فعل "شيء جنوني"؟ هل "القوة
المحركة الاستقلالية" الخاص بك وصلت إلى نقطة وفاق داخلية صحيحة؟ الحكاية
التي تملكها أنت الآن، هل هي حقا حكايتك أنت؟ هل الحلم الذي تحلم به
هو حقا حلمك أنت؟ ألا يمكن أن يكون حلما لشخص آخر مختلف عنك وربما
ينقلب في وقت ما إلى كابوس مرعب؟
أليس "بقاء الطعم
المر" العجيب في حلوقنا تجاه جماعة الحقيقة السامية وجريمة سكب السارين في
مترو الأنفاق، وعدم قدرتنا على التخلص منه، يكمن سببه في الواقع إلى عدم إزالة هذه
الشكوك الموجود لدينا بلا وعي.
سأكتب عن السبب الأكبر الآخر الذي
دعاني إلى كتابة هذا الموضوع.
إذا قلته في كلمة واحدة، فقد كنت
أريد أن أعرف اليابان بشكل أعمق. فأنا قد تركت اليابان لمدة طويلة جدا، وعشت في
الخارج ما بين سبع إلى ثمان سنوات. تركت اليابان بعد أن كتبت روايتي "نهاية
العالم وأرض العجائب القاسية" {رواية موراكامي الرابعة كتبها عام 1985} وحتى
نهاية كتابة رواية "يوميات طائر حصيف" {رواية موراكامي الثامنة عبارة عن
ثلاثية كتبها بين عامي 1994 و1995} ولم أكن أعود إلى اليابان إلا نادرا. لم أقل
ذلك لأحد من قبل، ولكني كنت شخصيا أعتبر ذلك منفى اختياري (التعبير الأكثر قربا هو
الهجرة وترك الوطن). في البداية أقمت في أوروبا، وبعد ذلك أقمت في أمريكا.
كروائي قمت بالتركيز والاجتهاد في تجربة
كتابة حكايات باللغة اليابانية أثناء خوض تجارب خارجية متنوعة. كنت أقوم بدراسة
كيف أتعامل مع اللغة اليابانية (أو مع الشأن الياباني) من خلال البعد عن اليابان كوضع بديهي
بالنسبة
للغة اليابانية وفي نفس الوقت بالنسبة لي شخصيا، وذلك بتطبيق عمل خريطة مع تبديل
الإطار في حالة الوعي ثم حالة اللاوعي.
ولكن خلال آخر عامين من ذلك "المنفى
الاختياري" اكتشفت مع قليل من الدهشة أنني أريد أن أتعرّف أكثر بصدق وإخلاص على
"اليابان". أثناء السفر والترحال أصبحتُ تدريجيا أفكر أن فترة الرحيل
بعيدا عن اليابان والبحث عن الذات وصلت على الأقل الآن إلى نهايتها. أحسست أنه حدث
داخلي ما يشبه عملية "تغيير أوليات" في مقاييس القيم. على الأرجح كنت قد
أدركتُ – ربما يقال لي هل أدركتَ هذا الآن؟ – أنني لم أعد شابا بما فيه الكافية.
وأصبحت أتعرف وأدرك بشكل فطري أنني دخلت المرحلة العمرية التي يجب عليّ فيها أن
أؤدي "المهمة الملقاة على عاتقي" تجاه المجتمع.
وقلت حان وقت العودة لليابان. عُدت
إلى اليابان، وقررت من أجل معرفة اليابان بشكل أكثر عمقا واختلافا عن الرواية، تجربة
عمل شيء ضخم. ومن خلال ذلك العمل، أستطيع معرفة الموقف الذي يجب عليّ أخذه، وطريقة
الحياة التي يجب عليّ خوضها.
حسنا، من أجل معرفة اليابان أكثر،
ماذا يجب عليّ عمله؟
تقريبا كنت قد أمسكت ببداية الخيط
الأساسي لماهية الشيء الذي أريده. بمعنى أنني قمت بتصفير آلة حساب المشاعر، وأردت
معرفة مكانة اليابان، وكذلك معرفة "ماهية وعيي" بأنني ياباني. ماذا أكون؟
وإلى أين نحن متجهون؟
ولكن من أجل عمل ذلك، لم يتضح لي
ماذا ينبغي عليّ فعله بالتحديد. ما هي الخطوات المحددة في الواقع
التي يجب عليّ اتخاذها؟ قضيت آخر سنة لي خارج اليابان بهذه المشاعر المبهمة. كان
ذلك الوقت هو بالضبط الوقت الذي هجمت على اليابان نكبات (catastrophe) ضخمة وعميقة وخطرة، جعلت العالم كله يهتز
ويتأثر، زلزال هانشين الضخم وجريمة سكب السارين في مترو الأنفاق.
كانت جريمة سكب السارين في مترو
الأنفاق، إحدى الوسائل التي ساعدت على تطوير معرفتي باليابان بشكل أكثر عمقا. قمت
من خلال المقابلات الصحفية بلقاء عدد كبير من اليابانيين، وسمعت أحاديثهم، وكنتيجة
لذلك، عملت دراسة وبحث لليابان التي أولدت جريمة سكب السارين في مترو الأنفاق
الضخمة. وإذا فكرت في ذلك الآن، ربما كان هناك إلى حد ما أنانية وذاتية لي كروائي.
أي أنني كنت أشعر أنني فكرت في هذه المقابلات الصحفية من أحد الوجوه كوسيلة فعالة
بالنسبة لي. ولا بد من الاعتراف بذلك وإلا كنت منافق.
ولكن مظاهر تلك الأنانية الوظيفية
مع استمرار العمل على أرض الواقع، تحطمت واحدا بعد الآخر بشكل كامل. عندما قابلت
الضحايا وجها لوجه، وأثناء سماعي لأحاديثهم المتعددة حية ومعبرة، أصبحت أفكر في
الأمر بجدية أكثر وأقول: "الأمر ليس هينا". وأعتقد أن الشهادات حملت معاني
أكثر تعقيدا وعمقا مما كنت قد تخيّلت قبلها. وصُدمت بحقيقة أنني شخصيا كنت أجهل
تماما ما يتعلق بهذا الجريمة البشعة. كان ثقل الحقيقة عنصرا كبيرا للغاية.
ولكن ليس هذا فقط، ولكن بلا أي شك
كنت أحس بصلابة قوة الاستجابة الطبيعية التي تطلقها "الأخبار الأولية"
واستسلم لها. ثم أصبحت أفكر بطبيعية وتلقائية شديدة أن: "يجب أن أكمل هذا العمل
ليس من أجل ذاتي، ولكن من أجل شيء آخر، شيء له قيمة أكبر ولو قليلا." إذا
سُئلت: "هل ندمت على موقفك الأوّلي؟" ليس لدي إلا الإجابة:
"أكيد ندمت". ولكن إذا قلت مشاعري الحقيقية أعتقد أن تعبير "تأثرت"
هو الأقرب للصحة من قول "ندمت". وهذا هو سلوك طبيعي وتلقائي للقلب يتخطى
الحجج والخير والشر.
تُرى من أين تولدت مشاعر التعاطف
هذه؟ أعتقد أنها خرجت متدفقة في هدوء مما يشبه النبع الطبيعي داخل "الحكاية"
التي يرويها الناس (لا داعي للقول إنها حكاية "جانبنا نحن") أنا ككاتب
روائي تعلمتُ من هذه الحكايات التي يرويها الناس، وبمعنى من
المعاني عالجتني.
وفي النهاية توقفت
تقريبا لدى القدرة على الحكم واتخاذ القرار. ما الصحيح؟ وما غير الصحيح؟ ما الطبيعي؟ وما الجنون؟ من الذي عليه مسؤولية؟ ومن الذي بلا مسؤولية؟ صرت أحس
أن ذلك ليست قضية لها أية أهمية بالنسبة لهذه المقابلات الصحفية. على الأقل الذي
يصدر الحكم الأخير ليس أنا. عندما أحسست بذلك سَهُل عليّ الأمر. أزحت الأعباء عن كتفي
وصرت أتقبل الحكايات التي يرويها الناس كما هي. ابتلعت تراكم الكلمات الموجودة
هنا، وبعد ذلك أصبحتُ عنكبوتا يقوم بطحنها بطريقتي الخاصة، وقمت بغزل "حكاية
أخرى مختلفة". عنكبوت مجهول يقبع في ركن سقف مظلم.
بعد إجراء المقابلات،
كنت مضطرا إلى إعادة التفكير مرة أخرى بجدية وعمق حول قيمة كلماتي. الكلمات التي
أقوم أنا باختيارها، إلى أي مدى تستطيع إيصال مشاعر الخوف، واليأس، والحزن، والغضب،
وتبلد الحواس، والوحدة، والارتباك، والأمل .... التي تجرعها الضحايا، إلى القراء
حية وواضحة كما هي؟ بعد المقابلات ولعدة ساعات، ولعدة أيام، غرقتُ في هذا التفكير.
ورغم قول ذلك، في مرحلة المقابلات، كنت أحمل خوفا
من أن أكون قد تسبّبتُ دون وعي أو قصد مني بجرح وإيلام عدد من المتحاورين. كان ذلك
في بعض الحالات بسبب عدم الانتباه، وحالات أخرى بناء على الجهل، وحالات ثالثة بسبب
النقص الإنساني البسيط. وكذلك أنا في الأصل غير ماهر في الحديث، وكان يحدث في بعض
الحالات أنني لم أستطع إيصال فكرتي شفاهيا بشكل جيد. على كل الأحوال، أنتهز هذه
الفرصة لأعتذر إلى كل الناس الذين ربما جرحتُ مشاعرهم بأشكال متعددة دون قصد مني.
لقد أصبحت أعتقد أنني
حتى لو كنت حتى الآن سخيفا وأنانيا، إلا أنني لم أكن أبدا إنسانا مستهترا. ولكن
أعيد التفكير فيما سبق وأعتقد أنه كان يجب أن يكون لدي معرفة أساسية أكثر وضوحا
"أن الموقف الذي وُضعت فيه، بغض النظر عن حبي لهذا أو كرهي له، يحتوي على أحد
أشكال الاستهتار منذ بدايته".
من المؤكد أنه بالنسبة
لمشاعر الضحايا الذين أصيبوا بجراح عميقة من خلال جريمة سكب السارين في مترو
الأنفاق، اُعتبر أنا الذي كتبت هذه الدراسة شخص أتى من "المنطقة
الآمنة"، ويستطيع العودة إليها مرة أخرى في أي وقت. وحتى لو قيل لي منهم:
"لا يمكنك حقا فهم مشاعر المعاناة التي نتجرعها"، أرى أنه لا حيلة في
ذلك. فحقا الأمر هو كما يقولون. أعتقد أنه من المستحيل فهم مشاعرهم. ولكن حتى لو
كان الأمر كذلك، لو تم إنهاء التواصل المتبادل وإنهاء الحديث بهذا الشكل هنا فجأة
وللأبد، فلا يمكن لنا جميعا أن نصل إلى شيء. ولن يتبقى في النهاية إلا الدوغما
فقط.
وأعتقد أن مع هذا
الأمر (مع الاعتراف المتبادل أن الأمر هو كذلك) على العكس محاولة
تخطيه، وتفادي انسداد المنطق، توجد طريق تصل إلى حل أكثر عمقا وثراء.
زلزال هانشين الضخم وجريمة سكب
السارين في مترو الأنفاق اللذين وقعا في شهري يناير ومارس ١٩٩٥، يعتبران مأساتين
تحملان معنى في غاية الأهمية، وترسمان تاريخ اليابان بعد الحرب {العالمية
الثانية}. فهما حادثتين في منتهى الضخامة لدرجة أن ليس من المبالغة القول إن:
"وعي اليابانيين اختلف كثيرا بعد المرور بهما عنه قبلهما." وعلى الأرجح
سيبقيان كمَعْلَمَين كبيرين لا يمكن إهمالهما أبدا عند الحديث عن تاريخ علم النفس
كنكبتين متلازمتين.
زلزال هانشين الضخم وجريمة سكب
السارين في مترو الأنفاق، هذين الحدثين بالغي الضخامة رغم صدفة حدوثهما متتابعين
في فترة زمنية قصيرة، ولكنه أمر يبعث على الاندهاش حقا. وكذلك حدوثهما بعد الانفجار
الرهيب للفقاعة الاقتصادية، وبالضبط عندما كانت فترة النمو الاقتصادي المرتفع قد
بدأت في التلاشي، وتركيبة الحرب البادرة تنتهي، وحدوث اهتزاز ضخم لمحور معايير
القيم على نطاق الكرة الأرضية كلها، وفي نفس الوقت جاء الوقت الذي يتم توجيه
التساؤل بجدية وصرامة تجاه العصب الرئيس لما تمثله الدولة اليابانية. وكأن الأمر
قد استهدف ذلك بدقة متناهية.
ولو أعطيتُ مثالا واحدا للعنصر
المشترك بين هذين الحدثين، سيكون ذلك هو قوة العنف الطاغي لهما. بالطبع طريقة
تكوين العنف مختلفة تماما بين الحدثين. الأول هو كارثة طبيعية لا يمكن تفادي
وقوعها، والثاني <كارثة بشرية – جريمة> لا يمكن القول إنه من المستحيل
تفاديها. وأنا أفهم تماما استحالة ربط الحدثين ببعضهما البعض بمجرد عنصر اشتراكهما
في "قوة العنف".
ولكن من وجهة نظر الضحية التي تلقت
في الواقع الضرر بصدفة بحتة، فطريقة هجوم قوة العنف الطاغي للزلزال ولجريمة مترو
الأنفاق، على الضحية يتشابهان بدرجة عجيبة سواء من حيث المباغتة أو اللامنطقية.
وحتى لو اختلف نوع وطبيعة العنف ذاته، ولكن نوع الصدمة الناتجة لا تختلف اختلافا
كبيرا في الحدثين. أثناء استماعي لحديث ضحايا جريمة مترو الأنفاق، في أغلب الأوقات
كان يأتيني ذلك الإحساس.
على سبيل المثال عدد كبير من
الضحايا كان يقول: "أنا أحقد بشدة على أتباع الحقيقة السامية". ولكن رغم
"الحقد الشديد" على شخص ما إلا أنهم لا يستطيعون تركيب هذا الحقد على
قضبان الواقع بمهارة، وبدا أنهم في حيرة من أمرهم نوعا ما. لو قلنا
ببساطة، فهم لا يستطيعون الإمساك جيدا بالدليل الذي من خلاله يعرفون إلى أي مكان
يلقون بما يشعرون به من غضب وحقد وفي أي اتجاه يوجهونه. والسبب أنهم لا يعرفون حتى
الآن بشكل قاطع وبوضوح من أين أتى ذلك العنف وما هو "مصدره".
وبهذا المعنى يتشابه – من حيث شكل وطريقة توجيه
الغضب والحقد – حدثي الزلزال وجريمة مترو الأنفاق.
وربما يمكن
اعتبار (الزلزال والسارين) بناء على نوع التفكير، وجهان لعملة واحدة هي العنف
العملاق. أو ربما يمكن اعتبار أحدهما كنتيجة، مجاز للآخر.
ثم أنهما
انطلقا فجأة من داخل ذاتنا – حرفيا الظلام القابع أسفل أقدامنا = الأنفاق (أندرغرواند) في شكل "كابوس
مرعب" ليُظهرا بوضوح لدرجة مرعبة، تناقضات وعيوب منظومة مجتمعنا. كان مجتمعنا
تجاه العنف المجنون الهائج الذي أظهر لنا عن أنيابه فجأة، واقعيا لا حول ولا قوة
ولا قناعة لدرجة بائسة. لم نستطع أن نتوقع هذا الظهور. ولم نستطع أخذ الاحتياطات
له مسبقا. وكذلك تجاه ظهور ذلك الشيء لم نستطع التعامل معه بفطنة وفاعلية. وكان
الذي حدث بوضوح هنا هو هزيمة وتقهقر منظومة "جانبنا نحن" الذي ننتمي لها.
لم تستطع <الصورة
المشتركة> أو قوة التخيّل = الحكاية التي نملكها (أو التي
كنا نظن أننا نملكها) نحن في الوقت العادي، تقديم نظرية قيمة تقاوم بفاعلية وكفاءة
قوة العنف البالغة الجفاء التي انهالت علينا – هذا هو ما حدث. لم نستطع وقتها، ولم
يتحسن الوضع على الأغلب حتى الآن وبعد مرور سنتين.
بالطبع
تولد بشكل فطري تيار إيجابي له عدد من الأوجه لم يكن موجودا من قبل. مثلا، تولدت بعد
الزلزال مباشرة طاقة كبيرة من العمل التطوعي الشعبي متمركزا في الشباب تم تفعليها في
المناطق التي تشمل مدينة أوساكا وكوبيه. وكذلك لوحظ في جريمة مترو الأنفاق، مسارعة
الركاب المتضررين للمساعدة في الإنقاذ بينهم وبين بعضهم البعض. وأيضا يجب ذكر شجاعة
موظفي وعاملي مترو الأنفاق بشكل خاص وقد تحركوا وسط فوضى واضطراب موقع الجريمة، من
أجل إنقاذ الركاب بدون النظر لأية مخاطر محتملة على حياتهم. وبغض النظر عن الحالات
الاستثنائية المتنوعة التي شوهدت، ولكن إذا تحدثنا بشكل إجمالي فعمل موظفي مترو
الأنفاق المنظم في موقع الحدث وحِسّهم الأخلاقي العالي يستحق التقدير والمديح.
عندما نقف
أمام تلك الحقائق، يمكننا أن نؤمن "بالقوة الصحيحة" الفطرية التي
نمتلكها فردا فردا. وكذلك أعتقد أننا نستطيع تفادي أحوال أزمات متعددة الأنواع من
الآن فصاعدا بإظهار وبلورة مثل تلك القوة في المجتمع. ويجب علينا أن ننشأ على
مستوى الحياة اليومية العادية داخل مجتمعنا مثل هذه الشبكة المتصلة الشاملة ذات
المبادرة الذاتية لـ "سوفت وير" متربط بشعور ثقة فطري.
ولكن حتى
لو كان وجود مثل هذا الجانب الإيجابي شيئا مؤكدا، لم يمح ذلك صورة الفوضى والاضطراب
التي أصابت المنظومة ككل. وإذا تحدثنا عن جريمة مترو الأنفاق هذه المرة، لا أعتقد
أن قيادات مترو الأنفاق وإدارات مكافحة الحرائق وإدارات الشرطة قاموا بالتعامل
المخلص الفطن، الذي يعادل ما قام بتنفيذه موظفي وعاملي الميدان، الذين عرّضوا
حياتهم للخطر والعمل بضمير حي. وكان ذلك سواء على مستوى الحركة في ذلك اليوم (يوم
الجريمة) أو في موقفهم الحالي.
أحد موظفي
هيئة مترو الأنفاق قال لنا ونحن تقوم بإجراء المقابلات الصحفية معبرا عن امتعاضه
"ألا يكفي (المقابلات) عند هذا الحد؟ فالناس تحاول النسيان." هذه
المشاعر يمكن فهمها كمشاعر فمعناها: "نحن كذلك ضحايا. وجميعنا قد أصابنا ما
يكفي من جروح. الرجاء تركنا في حالنا؟"
ولكن هل لو نسي الجميع كل ما يتعلق بهذه الجريمة
البشعة هل يكون الأمر على ما يرام؟ الحقيقة أنه يوجد بالفعل عدد من موظفي الهيئة
الذين يتمنون نسيان الأمر برمته. ولكن ليس الجميع بنفس المشاعر. فيوجد منهم من
يؤمن بقوة بمقولة: "لا أريد أن ينسى المجتمع تلك الجريمة بهذه السهولة"،
"لا أريد لتلك الجريمة أن تتآكل بفعل عوامل التعرية". ثم يوجد القتلى
الذين لا يملكون القدرة حتى على فتح أفواههم بالكلام.
بالطبع مثل
تلك الجريمة الكبرى والمفاجِئة ذات الأوضاع المعقدة والمتشابكة، لا يمكن تفادي
وقوع فوضى واضطراب في موقع الحدث بل وحدوث أخطاء. ربما كانت الصدمة الشديدة من
المفاجأة، هو الوضع الأقرب لما حدث. وبسبب ذلك، وكما اتضح من شاهدات الضحايا، وجدت
العديد من الأخطاء في اتخاذ القرار كبرت أو صغرت، صدرت من هيئة مترو الأنفاق ومن
إدارة مكافحة الحرائق ومن الشرطة ومن المستشفيات. ولم تكن مرات قليلة العدد، تلك
التي يلوي المرء عنقه متعجبا وهو يتساءل "لماذا يحدث ذلك ثانية؟"
لكن ليس في
نيتي هنا أن أعدد مثل هذه الأخطاء على مستوى اتخاذ القرار واحدا واحدا وأنتقد
مرتكبيها أو أوبخهم. وكذلك لن أصل إلى درجة القول "لم يكن في اليد
حيلة"، ولكن لأنه إذا تم فحصها بتدقيق سنجد أنه كان يجب وضعها في الاعتبار.
بالطبع لا يجب إهمال الأخطاء الفردية والتغاضي عنها، ولكن الشيء الأكثر أهمية
بمراحل من ذلك، هو التيقن والاعتراف بما أوتينا من قوة، بالحقيقة الكبرى التي
تقول: "إن آليات إدارة الأزمات التي أعدتها منظومة مجتمعنا كانت قاصرة للغاية
وغير كافية إطلاقا". أخطاء اتخاذ القرار في الموقع، لا تزيد في النهاية عن
كونها مجرد نتيجة تراكم لذلك.
لا، بل
الذي جعلني أحس بشعور الخطر بشدة وعمق، هي حقيقة أن أسباب الأخطاء العديدة التي
تولدت يوم الجريمة ومسؤوليتها، وتفاصيل الخلفية التي أدت إليها، وكذلك الأوضاع
الحقيقية التي كانت نتيجة لتلك الأخطاء، لم يتم الكشف عنها بشكل كافي كمعلومات
لعامة الناس. لو قولنا بشكل آخر، فهذا يوضح خاصية من خصائص المؤسسات اليابانية
"التي لا تريد أن توضح أخطائها وتكشفها للخارج". وهو ما يمثل القول
المشهور "لا يجب فضح عار الأقرباء". ونتيجة لذلك، العديد من المعلومات
التي يفترض أن تكون معروفة، تم وضع قيود صارمة وكبيرة على التحقيق الصحفي حولها
بأسباب لا يعلم المرء هل فهمها أم لم يفهمها مثل "لأن الأمر في أيدي القضاء
الآن"، أو "هذه أمور حدثت أثناء العمل الحكومي".
وحتى لو طلبت
إجراء لقاء صحفي مع أي من الموظفين المعنيين، تسمع كثيرا حججا تقول: "عن نفسي
أنا أريد أن أتعاون، ولكن رؤسائي ...". لأنه على الأرجح لو شخصا فتح فمه
وتحدث بصراحة وصدق، فسيكون موضع المسؤولية واضح ومعروف. ولذا تم نشر أمر بمنع
الكلام. وفي أكثر الحالات تلك، لم تكن أوامر صريحة صارمة. بل كانت عبارة عن تلميح ناعم
من الرؤساء. "حسنا فالأمر قد انتهى، أليس من الأفضل عدم الحديث لأشخاص من
الخارج بأشياء زائدة عن اللزوم؟" مثل هذا القول المبهم هو في نفس الوقت تلميح
يُفهم معناه لأي شخص.
من أجل كتابة رواية "يوميات
طائر حصيف" في الماضي قمت بعمل بحث مفصل عن "معركة نومونهان" {تُعرف
كذلك بمعركة "نهر خالخين غول" وقعت بين الجيشين الروسي والياباني على
الحدود بين منشوريا ومنغوليا}، وكنت كلما أدرس وأبحث في الوثائق، لا أجد الكلمات
التي تصف حماقة وعبث منظومة إدارة الجيش الإمبراطوري الياباني في ذلك الوقت. ما
الذي دعاهم إلى إغماض أعينهم عن تلك المأساة الفاجعة لتسجل كالعار في تاريخهم؟
ولكن من خلال الاستقصاء الذي قمت به لجريمة مترو أنفاق طوكيو، ففي الواقع ما
قابلته هناك، يوضح أن هذه الروح المنغلقة على نفسها، وصفة المجتمع الذي يتهرب من
تحمل المسؤولية، لم تتغير كثيرا عن طبيعة الجيش الإمبراطوري وقتها.
لأقولها بوضوح، إن أكثر من يعاني هو
الجندي الذي يحمل السلاح في الميدان، فهو يلاقي الويلات بدون أي مقابل. أما القادة
ورؤساء الأركان في الخلفية فهم يتنصلون تماما من تحمل المسؤولية. إنهم يهتمون أكثر
بكبريائهم وكرامتهم، ولا يعترفون بالهزيمة كحقيقة واقعة، ويتلاعبون بالألفاظ المطاطة
كي يجمّلون فشلهم
بالأكاذيب. ولو ظهر تقهقر واضح على جبهة القتال لا يمكن تجميله بأكاذيبهم، يتم
التعامل مع القائد الميداني فقط بصرامة كمسؤولية وظيفية له. وفي أغلب الأحيان يتم
دفعه دفعا للانتحار ببقر بطنه بيده. والأخبار التي يفترض أن توضح حقائق الأوضاع،
لا يتم كشفها علانية بحجة "الأسرار الحربية".
وبهذا الطريقة لا يظهر على السطح الجنود
المجهولون الذين يقاتلون على الجبهة الأمامية بكل شجاعة وبسالة (إنهم بواسل وشجعان
بشدة لدرجة تثير الدهشة والعجب)، الذين يسقطون ضحايا خطط عسكرية بائسة وغبية. حتى
لو كان الأمر منذ ما يزيد على الخمسين عاما، فحقيقة حدوث هذا الوضع الغبي على أرض
الواقع، جعلني أشعر بصدمة ليست هينة. ولكن في الواقع أن شيئا تقريبا لا يختلف عن
ذلك كان يتكرر في اليابان في هذا العصر الحالي. وهذا كابوس ولا شيء غير الكابوس.
وفي النهاية لم يتم تحليل أسباب
الهزيمة في نومونهان، ودراستها بواسطة قيادات الجيش (بالطبع تم عمل دراسات إلى
درجة ما، ولكنها كانت بما يناسبهم). ولم يتم إحياء الدرس الحقيقي من ذلك للاستفادة
منه مستقبلا. فما فعله الجيش الإمبراطوري هو مجرد تغيير عدد من قادة رئاسة الأركان
لجيش إقليم العاصمة، ثم أغلق داخله كل الأخبار والمعلومات التي تتعلق بتلك المعركة
المحدودة. وبعد ذلك بعامين دخلت اليابان بثقلها في الحرب العالمية الثانية. ثم تكرر
في تلك الحرب ما حدث في نومونهان من حماقات ومآسي على نطاق أوسع وحجم أضخم.
أنا أرى أنه فيما يتعلق بجريمة مترو
الأنفاق، يجب أن تقوم الحكومة في أقرب وأسرع فرصة، بتكوين لجنة عادلة محايدة من
المتخصصين في جميع المجالات، لكي تقوم اللجنة بتفكيك وإيضاح الحقائق المخفية، وإعادة
تنظيف المنظومة المحيطة بشكل نهائي وكامل. ما هو الخطأ الذي حدث؟ ما الذي أعاق
المنظومة عن التعامل مع الوضع بتلقائية وطبيعية وعلاجه؟ فعمل مثل هذه الدراسة
لتحليل الحقائق بصرامة وبالتفصيل، لهو أقل ما يمكن تقديمه لأولئك الضحايا التعساء الذين
فقدوا أرواحهم بواسطة السارين، وهي كذلك مهمتنا العاجلة التي يجب إنهائها. ثم يجب كشف
المعلومات التي يتم الحصول عليها بشكل موسع على المجتمع ومشاركته فيها ولا يتم
التعتيم على أجزاء منها. وما دام هذا العمل لم ينفذ، فلن نستطيع مطلقا الهروب فعلا
من "الكابوس الذي بلا علامات ولا مقدمات" المتمثل في جريمة مترو
الأنفاق.
توجد أسباب شخصية أخرى تجعلني أهتم بصفة خاصة
بجريمة سكب السارين في مترو الأنفاق. وهو حدوثها في الأنفاق، أي تحت الأرض (أندرغرواند).
عالم تحت الأرض
بالنسبة لي كان مسرحا "لموتيفات" هامة للروايات على طول مسيرتي. على
سبيل المثال، الآبار ... المسارات الجوفية ... الكهوف ... الأنهار تحت السطحية ...
الترع المغطاة ... مترو الأنفاق، دائما مثل تلك الأماكن تجذب قلبي بشدة (كروائي
وكذلك كشخص عادي). مجرد فقط أن أرى منظرا لها، لا بل مجرد أن تمر بخاطري هذه
الفكرة، يصير قلبي منساقا وراء العديد والعديد من الحكايات.
وبصفة خاصة في عمليّ
"نهاية العالم وأرض العجائب القاسية"، وكذلك "يوميات طائر حصيف"،
لعب العالم السفلي الدور المركزي في أحداث الحكاية. يهبط الناس ذاهبين إلى العالم
السفلي طالبين الحصول على شيء ما، وهناك يلتقون بالعديد من الحكايات. وهذا بالطبع
هو عالم سفلي فيزيائي ومادي، وفي نفس عالم سفلي معنوي ونفساني.
في رواية "نهاية العالم وأرض العجائب القاسية" تظهر ضمن الأحداث كائنات حية اسمها
"ياميكورو" {بمعنى الظلام الأسود} (بالطبع هي كائنات خيالية من تأليفي
أنا) تعيش في أنفاق تحت الأرض في مدينة طوكيو. هؤلاء يسكنون باطن الأرض وسط أعماق
الظلام منذ العهود القديمة، وهم مخلوقات في غاية الشر. ليس لهم أعين ويأكلون لحم
الموتى. وهم يعيشون في تجمعات في باطن الأرض في طوكيو بعد أن حفروا بها أنفاقا
طولية وعرضية وأنشأوا هنا وهناك أوكارا لهم. ولكن عامة الناس لا تعرف حتى بوجودهم
هذا. يغطس البطل لظروف ما إلى هذا العالم السحري تحت الأرض، وهو
يتفادى ببراعة ملاحقة "ياميكورو" المرعبة له، يتخطى الظلام المقزز، ثم يفلت
سالما بجلده خارجا من داخل نطاق خط مترو الأنفاق إلى محطة أَوْياما إيتشوميه.
بعد كتابتي لهذه الرواية، وأثناء
ركوبي لمترو أنفاق في طوكيو، كنت كثيرا ما أفكر في "ياميكورو". أتخيل
وقتا ستخرج علينا جحافل الـ "ياميكورو" المرعبة، للهجوم علينا نحن البشر.
يقومون بإيقاف القطار بعد حجز القضبان بصخور كبيرة، ويقطعون الإضاءة ويحطمون زجاج
النوافذ، ويقتحمون العربات الغارقة في الظلام الدامس، ويأكلون كل لحومنا بأنيابهم
الحادة لا يتركون منها شيئا.
بالطبع لا يزيد هذا عن خيال طفولي أحمق.
ويبدو كأنه فيلم رعب رخيص. ولكن عندما أقف على جانب الباب، وأحدق بعيني في
أعماق ظلام نفق المترو من خلال زجاج النافذة، يأتيني إحساس أنني أرى
هيئة الياميكورو المرعبة خلف الأعمدة.
عندما سمعت
أخبار جريمة سكب السارين في مترو الأنفاق، عادت إلى ذاكرتي بلا إرادة مني كائنات الـ
"ياميكورو". طفت إلى ذهني فجأة ظلال "ياميكورو" الباهتة، التي
تخيلت من قبل وكأنني أراها خارج نوافذ مترو الأنفاق. إذا تحدثنا على مستوى الرهبة
(أو الهلاوس) الفردية جدا، يوجد لدي إحساس أن هناك ترابط بين الظلال
السوداء ذات الطعم السيئ الذي يتبقى في الفم التي أعطتها لنا جريمة سكب السارين في
مترو الأنفاق تلك، من خلال ظلام العالم السفلي لطوكيو، وبين كائنات
الياميكورو (ذلك بالطبع ما اكتشفه وعيي) التي خلقتُها أنا. وهذا الترابط
كذلك يحمل معنى كبيرا بالنسبة لي، وكان ذلك حافزا شخصيا لي لكي أكتب هذه الدراسة.
أنا لا أقول ببساطة إن جماعة الحقيقة السامية
الدينية هي قطيع من "الياميكورو" الشرير على طريقة روايات لاڤكرافت. لكن
أعتقد أنني من خلال رسم شخصيات الياميكورو في رواية "نهاية العالم وأرض العجائب القاسية"، أردت إظهار أحد
أشكال "الرعب" الجذري، المختبئ
داخلنا على الأرجح، للسطح في شكل روائي. ربما كان العالم السفلي لوعينا، يختزن بشكل
رمزي في الذاكرة الجمعية كائنات ذات خطورة خالصة بلا شوائب. ثم كانت تلك الكائنات "المشوهة"
الدفينة في أعماق ذلك الظلام، هي حركة أمواج وعي ربما يصل من خلال ظهورها المؤقت
ذلك لأجسادنا الحية.
يجب منع تحرير تلك الكائنات مهما تكلف الأمر.
ثم يجب ألا تقع أبصارنا عليها. مهما حدث لنا، لابد أن نعيش تحت ضوء الشمس ونتفادى
كائنات "الياميكورو". ظلام العالم السفلي الممتع ربما يكون في بعض
الأحيان مريح لنا يواسينا ويعالجنا بلطف وحنان. حتى هنا لا مشكلة. نحن في حاجة
لذلك أيضا. لكن يجب ألا نتخطى ذلك. يجب الامتناع عن محاولة فتح الباب
المغلق بإحكام الموجود في العمق. فخلفه تمتد حكايات الظلام الدامس الذي بلا نهاية
لكائنات الياميكورو.
من مثل هذه الجمل ذات الطابع الفردي لي، (بمعنى
إذا نظرنا إلى حكايتي أنا الشخصية) نجد أن الخمسة أفراد منفذي الجريمة المنتمين
للحقيقة السامية، عندما مزقوا أكياس النايلون الممتلئة بالسارين باستخدام مقدمة
الشمسية المسنونة، كانوا يقومون بتحرير قطيع كائنات الياميكورو في عالم الظلام الدامس
لمترو أنفاق طوكيو. لقد تخيلت هذا المنظر، وحدث لي رعب هائل من أعماق قلبي. أصابني
الخوف والحقد والكراهية. ربما قول ذلك الآن هنا خصيصا يمثل نوعا من البلاهة. ولكن
أريد أن أقولها بأعلى صوت: "لم يكن لهم أن يفعلوها. مهما كانت المبررات".