مدونة ميسرة عفيفي

مدونة شخصية

بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 ديسمبر 2019

ياسوناري كاواباتا بقلم يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي


ياسوناري كاواباتا بقلم يوكيو ميشيما[1]
ترجمة: ميسرة عفيفي

1

ربما لا يناسب السيد ياسوناري كاواباتا أن أستعير كلمات نيتشه للحديث عنه. ولكن العبارة التالية التي ذُكرت في كتاب «نيتشه ضد ڤاغنر» ويصف نيتشه بها ڤاغنر تنطبق على أدب كاواباتا انطباقا يثير العجب.
«إنه في الواقع أستاذ عظيم في دقائق الأمور»
ويكمل نيتشه كلامه كما يلي:
«ولكنه (أي ڤاغنر) لا يريد أن يكون كذلك.
بل من صفاته أنه يحب الجدران الضخمة واللوحات الجدارية الجريئة الكبيرة»
ولكن الفقرة الأخيرة هي على العكس تماما من أدب كاواباتا. فالسيد كاواباتا – بخلاف ڤاغنر – على العكس «يحب أن يكون كذلك» ومن صفاته أنه يكره «الجدران الضخمة واللوحات الجدارية الجريئة الكبيرة» ولا يحب التصميم الضخم بلا فائدة.
إن نيتشه يهاجم في ڤاغنر الأيديولوجية والغرور، «وعدم الإخلاص تجاه ذاته»، وغباءه المطلق. إن كان الأمر كذلك فالسيد كاواباتا هو ڤاغنر الذي كان نيتشه يتمناه، ڤاغنر الذي يعرف قدر ذاته حق المعرفة، ڤاغنر الألمعي شديد الذكاء. لا يجب الانجرار أكثر من ذلك في مثل هذه المقارنة، ولكن ثمة العديد من المميزات في أدب كاواباتا التي تذكرنا بڤاغنر. على سبيل المثال رواية «الجميلات النائمات» التي ترسم صورة مرعبة لتطابق الموت والشهوة الجنسي، فيها غموض وإبهام ڤاغنر وسحره الذي يجذبنا معه للحضيض. ولكن بديلا عن ضخامة ڤاغنر نجد أن «أستاذ دقائق الأمور» حجّمها في درجة مناسبة.
ربما ثمة من يسأل وماذا عن ذكاء السيد كاواباتا، فهي النقطة التي يعجز الجميع عن شرحها شرحا واضحا. ولكن إن ذكرنا مضاد ألمعية ڤاغنر، فهي الإخلاص تجاه ذاته، ومعرفة نفسه حق المعرفة، ولكن إخلاص السيد كاواباتا تجاه ذاته في الحقيقة ليست نوعا من الأوامر السامية، بل أنه أصبح كذلك بدون أن يكون له حيلة في الأمر، ومن وجهة نظره هو فإن معرفة الذات لها نفس معني التخلي عن الذات.
إن ذكاء السيد كاواباتا نتيجة طبيعية لذكائه، وإن تأملّناه من هذه البديهية، فالثمرة الكبرى التي حصل عليها من ذلك الذكاء، هو أن لم ينخدع من جميع أنواع الأفكار والأيديولوجيات.
وإن أعطيت أمثلة للأفكار التي لم تستطع خداع السيد كاواباتا فسنجد أنها طابور طويل عريض من مئات الأفكار المريبة. لنقل على سبيل المثال العصرنة، الروايات العصرية، الشيوعية، مذهب الحسية الجديدة، تيار الوعي الذاتي، المنطق العقلي، الوطنية، الفلسفة الوجودية، التحليل النفسي، تخطي العصرنة، الفكر ... إلخ.
تُرى هل هناك أديب حالي لم ينخدع ولو لمدة قصيرة فقط بفكرة أو فكرتين على الأقل من هذه الأفكار؟ ولكن السيد كاواباتا لم ينخدع مطلقا لأي منها ولو لوقت قصير!
المعتاد أن الألمعية تكون عائقا للإبداع الفني ولكن حالة السيد كاواباتا مختلفة. عندما يصف إنسان السُكْر وهو غير سكران، فهو إما أن يبرّد ذلك السكر، أو أن يبالغ فيه مبالغة ظالمة، من السهل الوقوع في أي من الحالتين، ولكن السيد كاواباتا يملك داخله قدرة سحرية على تقديم مشاعر السكران وغير السكران في نفس الوقت. ولأنه لم ينخدع بأي فكرة أو مفهوم، فهو مع وصف المجتمع له بأنه «عبقري الرواية» إلا أن روايات السيد كاواباتا لم تنزعج أو تضطرب بمفهوم الرواية نفسه ولا حتى بمفهوم الرواية العصرية. أحد الأمريكان الذي قرأ الترجمة الإنجليزية لرواية «بلد الثلوج» أعرب عن تأثّره الشديد بالقول: لم يسبق لي قراءة رواية بمثل هذا التفرد والتميز. وهذا رد فعل منطقي تماما.
ومع ذلك فالحقيقة أيضا أن أعمال السيد كاواباتا تمتلئ بالسحر والجاذبية التي تتميز بها الروايات. إن إهمال السيد كاواباتا مع وسع أفقه أثناء معاناته في إبداع أعماله تُعطي لكل عمل على حدة مذاقا عجيبا من الأمان الكبير عبر التفاصيل الدقيقة. وحتى عالم الجمال الذي يختنق عند غيره، يتحول عنده في الحال إلى تباين نفساني مسالم ولطيف.
إن السيد كاواباتا عبقرية استثنائية أبعد ما تكون عن الترويع. فقد استمر في الإنتاج بنقاء حتى الآن بشكل مؤكد ودائم بعبقرية خارقة للطبيعة. وبصفة خاصة ذلك البرود الخفيف المميز الذي يُرى في أعماله بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تلك الجاذبية الذي تسبب نوعا من أنواع الرعب الذي يجعل البشرة ترتعد من تفاصيلها الدقيقة، تنطلق من أن مصير هزيمة اليابان قد سكنت بعمق في قلب هذا الشاعر.
«لم يسبق لي أن جربت تلك المعاناة والآلام الغربية. لم يسبق لي أن رأيت في اليابان عدمية واضمحلال على الطريقة الغربية» (مقالة «حزن وقلق»)
قال السيد كاواباتا هذه العبارة المباشرة حول مواساة اليابانيين المتفردة للحزن والفناء من خلال الحزن ذاته. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُظهر شجاعته فجأة عندما استقبل نبأ الهزيمة في الحرب وهو في منتصف قراءة نصف شرح كيغين كيتامورا لرواية «سيرة الأمير غِنجي» المسماة «كوغيتسوشو».
كانت آخر جملة في كلمة العزاء التي ألقاها السيد كاواباتا في تأبين الأديب «ريئتشي يوكوميتسو»:
«صديقي يوكوميتسو! سأعيش بعدك جاعلا من جبال اليابان وأنهارها روحا لي»
وقد نفذ كاواباتا تلك الجملة بعد ذلك بإخلاص تام.

2

«حزن وجمال»
نُشرت مسلسلة في مجلة «فوجين كورون» على مدار 33 حلقة من عدد يناير 1961 وحتى عدد أكتوبر 1963.
من بين العديد من أعمال الروائيين، ثمة أعمال يمكن من خلالها أن نقرأ بالتفصيل موضوعات ذلك الأديب وتقنياته ومميزاته الفنية ومنهجه النظري وكأننا نرى ساعة حائط زجاجية تشف عما بداخلها، ورواية «ناهوكو» للأديب تاتسو هوري هي مثال على تلك الأعمال. وليس بالضرورة أن يكون ذلك العمل هو أشهر أعمال ذلك الأديب ولا أن يكون من أعماله التجريبية الطموحة. بل مجرد أن الكاتب يكتب هذه الرواية التي توضح منهجه النظري عن طريق الصدفة. ومن وجهة نظري الشخصية أن رواية «حزن وجمال» هي من هذا النوع من الروايات.
وهي كذلك ليس فقط لأن بطل الرواية روائي، ولأنها تتكلم عن علاقة الرواية بالموديل، وارتباط الرواية بالحياة، وفيها أيضا وهو أمر نادر في روايات السيد كاواباتا عرض لما يمكن أن يكون نقد أدبي، ولكن أيضا لأنني شخصيا تعلمت بوضوح من هذه الرواية الكثير من أسرار أدب كاواباتا. ومن أجل ذلك، أريد من خلال هذه الرواية أن أتعرض للمواضيع الرئيسة التي تمتد عبر جميع روايات السيد كاواباتا.
في البداية أولا، يجب أن نشير إلى أن فكرة أن أدب كاواباتا هو أدب رومانسكي[2] غنائي باتت الآن هي الفكرة السائدة عنه. أي أنه لا يضع أهمية كبرى على الصراع بين العلاقات الإنسانية أو الأفكار، بل على العكس يمحو الآثار الجسدية للشخصيات الإنسانية، فتصبح مثل النموذج البدائي كما هو، ويجعلها مثل الإكتوبلازم[3] الذي يخرج من جسد الوسيط الروحاني، ويكون هذا في بعض الحالات عبارة عن رومانسكي يتكرر بنفس الشكل على مدى عدة أجيال ليتشابك ويتعقد، وفي النهاية يتسامى فوق ثنائية الخير والشر، ويذوب الأصدقاء مع الأعداء والموتى مع الأحياء داخل حزن يعيش بلون واحد. وأخيرا تختلط حتى الشرور والفضائل مع الحزن، لدرجة أن يصل الوجود الحي كله إلى نوع من أنواع الفرحة من خلال التوافق معا عبر الحزن. هذا النوع من الرومانسكية يتكرر بإلحاح في أدب كاواباتا كله، ويظهر ذلك في شكل النموذج التقليدي له في رواية «حزن وجمال».
الأمر الثاني أن أدب كاواباتا هو أدب رد فعل رومانسكي. وهذا له علاقة بأن أدب كاواباتا يتميز بأنه عديم التركيب، تسير الحكاية وكأنها تعتمد على أنها حرة الترابط (free-association)، من خلال المشاعر التالية التي تحدث بناء على رد الفعل غير منطقي من أحد المشاعر. مثلا يوجد هنا أحد الوجوه. وهو وجه غير محدد مثله مثل حركة الغيوم، والتغير الذي يحدثه أحد المشاعر على ذلك الوجه، يُحدث رد فعل على وجه الحبيبة، من الطبيعي، يرسم في القلب موجات لها شكل مختلف. وبهذا تكون الحكاية في غفلة من الزمن تنتقل إلى الموجة الثانية من المشاعر.
والأدب الرومانسكي الذي ينتقل بناء على مثل هذه الموجات، من الطبيعي أن تكون طريقة حركته مبهمة وغامضة وبطيئة وكسولة مثل حركة طحالب البحر. ولكن لأنه أدب رد فعل رومانسكي لا يسمح بالتوقع أو التخمين، فلا يوقعنا أسرى للحتمية الدرامية الصارمة، ومثلما نندهش عندما نتعامل مع غضب مفاجئ أو هياج غير مفهوم من الناس، أحيانا ما تحدث فجأة نتائج غير متوقعة. ويكون لذلك فاعلية في سلوك النساء بصفة خاصة داخل الرواية، وكثيرا ما تصل تلك الفاعلية إلى أن تكون نوعا من أنواع الجمال.
ويمكننا كذلك أن نعيد تسمية ذلك الأمر باسم الأدب الرومانسكي المفاجئ. والسيد كاواباتا لا يستخدم فقط مثل ردات الفعل الفجائية تلك، ولكنه يستخدم كثيرا طريقة أنه فجأة يقدم لنا أولا أمر لا يمكن توقعه، ثم بعد ذلك يبدأ تدريجيا وببطء تفسيره وفك رموزه. فأحيانا ما يحمل تأثير «الوردة»[4] التي استخدمها ممثل وكاتب مسرح النوه الشهير زيامي، وأحيانا أخرى يسقط في شراك الدعابة السمجة بديلا عن توليد العفاريت والجنيات خارقة للطبيعة.
ولنعطي مثالا محددا، يمكن رؤية المفاجأة التي يولدها أدب رد الفعل الرومانسكي عندما يصل إلى الجمال المؤلم. مثلا في فصل «أحجار متراكمة – حديقة الصخور» مشهد ركل أوتوكو بأقدامها العارية لعامود القنديل الصخري. ثم بعد ذلك، مشهد عدم مجيء كيْكو التي كان من المنتظر أن تدخل الحمام، مهما مر الوقت، ثم فجأة تتأهب في مظهر جميل للخروج على غير المتوقع. يُختصر هنا الوصف النفسي بين تلك الأحداث، وتكون المشاهد حية بسبب طبيعتها المتدفقة تباعا، ولكن كاواباتا المشهور ببراعته الحادة في التحليل النفسي، يستخدمه بترشيد واقتصاد. ولكنه عند يستخدمه مرة، كما في فصل «ربيع مبكر»، يبرع براعة تصل إلى حد كراهية العالم في وصف التحليل النفسي للزوجة التي تكتب مخطوطة الرواية على الآلة الكاتبة. فمع أن بطل الرواية الروائي كان يخشى أن تعرف زوجته حقيقة علاقته الغرامية السابقة كما هي من خلال كتابته في الرواية، إلا أن الزوجة شعرت على غير المتوقع بجرح عميق لأنه لم يهتم اهتماما كافيا بإبرازها في الرواية حتى ولو في صورة «الزوجة التي تغير غيرة جنونية».
وكذلك في بداية فصل «خصلات شَعر» كمثال على طريقة المفاجأة البارعة ذات الحبكة المتعمّدة، يستخدم الزوجان أُوكي صيغة الاحترام القصوى بكثرة تثير التقزز في التحدث معا لدرجة الاعتقاد أنهما قد أصيبا معا بالجنون، فحتى لو كان ذلك تحمل معنى المشاكسة، فعند مواصلة القراءة حتى نصل إلى الحديث الخاص «فرصة الشعر الأمامي[5]» إلخ فيما بعد، نفهم جيدا تأثير المشاكسة الذي يشبه وجبة الطعام الباردة للزوجين اللذين بلغ بهما ملل الحياة الزوجية منتهاه.
سأتحدث بعد ذلك عن رومانسكية الوقت الذي يظهر كثيرا في أدب كاواباتا. عندما يتدحرج الزمن من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي، يتعمد السيد كاواباتا أن يصل الفروقات في ذلك الزمن إيصالا مبهما مثل الغيوم في اللفائف المصورة. ويسبب ذلك إعطاء روايات السيد كاواباتا انطباعا بمرور الزمن مرورا خانقا، وفي نفس الوقت عمقا سوداويا كئيبا. وأكثر النماذج التقليدية لذلك في فصل «لوتس وسط اللهب»، في الجزء الخاص بذكريات صاحبة مطعم معكرونة الأودون[6]، يسير القارئ دون أن ينتبه لنفسه داخل مشاهد الماضي التي لا يمكن نسيانها. ولا يقتصر ذلك على هذا المكان فقط، بل أن رومانسكية الزمن يقوم على أن يتبادل الماضي والحاضر الاعتداء كل منهما على الآخر، وعلى تبادل تغلغل الألوان الجميلة مع الألوان المسمومة بطول رواية «حزن وجمال».
وفي النهاية لا داعي للكلام عن رومانسكية الشهوة الجنسية في الرواية.
وكما يرمز السطر التالي من فصل «لوتس وسط اللهب» لتلك الرواية بأكملها:
«كان تلك الشهوة الجنسية تشبه بهجة مفاجئة»
في فصل «أجراس ليلة رأس السنة» عندما يسارع البطل بمسح خط دموع الطفلة الوالدة، التي «على وشك أن تدخل من فتحة الأذن»، وعنايته بالفتاة وتمريضه لها بعد أن تناولت السم في نهاية الفصل نفسه، وفي فصل «لوتس وسط اللهب»، مشهد كيْكو التي تُظهر بإلحاح تخلصها من الشعر الزائد، ووضع أوتوكو الموسى على عنقها ذلك، وخاصة براعة الحكاية العجيبة الخاصة بثدي كيْكو الأيمن وثديها الأيسر الذي تمتد عبر الرواية بأكلها، كل ذلك يعبر تماما عن رومانسكية الشهوة الجنسية. وفتنة الحب السحاقي في فصل «لوتس وسط اللهب» ورائحته التي تسبب الغُصة، ويترك إدراج قصة الأميرة كازونوميا في فصل «خصلات شَعر» انطباعا لا يمكن نسيانه، حيث أن القصة من ذلك النوع الذي يعشقه كاواباتا. ثم وكما هو المعتاد، كلا الرجلان اللذان يظهران في هذه الرواية (الأب والابن) لهما وجود غير واضح المعالم، وأغلب أفعالهما مصطنعة، وجانب كبير منهما شديدة القسوة، ويشبه الظلال الباردة.

3

«بلد الثلوج»
نُشرت الرواية أولا مسلسلة في عدة مجلات بالترتيب التالي:
فصل «مرآة منظر الغروب» بمجلة «بونغيه شونشو» عدد يناير من عام 1935
فصل «مرآة صباح أبيض» بمجلة «كايزو» عدد يناير من عام 1935
فصل «حكاية» بمجلة «النقد الأدبي اليابان» عدد نوڤمبر من عام 1935
فصل «جهود ضائعة» بمجلة «النقد الأدبي اليابان» عدد ديسمبر من عام 1935
فصل «زهرة القش» بمجلة «تشويو كورون» عدد أغسطس من عام 1936
فصل «وسادة النار» بمجلة «بونغيه شونشو» عدد أكتوبر من عام 1936
فصل «أغنية دمية تيماري» بمجلة «كايزو» عدد مايو من عام 1937
فصل «حريق وسط الثلوج» بمجلة «كورون» عدد ديسمبر من عام 1940
فصل «مخلص بلد الثلوج» بمجلة «غيوشو» عدد مايو من عام 1941
فصل «تتمة بلد الثلوج» بمجلة «روايات شينتشو» عدد أكتوبر من عام 1935
أي أن الرواية استغرقت منذ بداية نشرها، ثلاثة عشر عاما حتى تكتمل. ثم ترجمها إدوارد ج سايدنستيكر (Edward George Seidensticker) إلى الإنجليزية في عام 1956 ونشرتها دار نشر كنوپف (Knopf) في نيويورك، وتابعتها الترجمة الألمانية ثم السويدية ثم الفنلندية ثم الإيطالية ثم الفرنسية وغيرهما من اللغات بالتوالي.
وفي عام 1937 عندما حصل السيد كاواباتا على جائزة مجلس النقاش الأدبي في اليابان ذُكرت الرواية ضمن أفضل أعماله. وبهذا لم تحصل الرواية على الإعجاب والتقدير من داخل وخارج اليابان فقط، بل أن المؤلف نفسه يعُدها هي «وذكريات سن السادسة عشرة» من أحب أعماله إلى قلبه.
ودعوني هنا أقتبس ما حكاه السيد كاواباتا بنفسه عن رواية «بلد الثلوج» من الحوار الذي أُجري معه ونشرته دار كاوادِه شوبو تحت عنوان: «ياسوناري كاواباتا وقراءة الكتب الأدبية».

ميتسو ناكامورا (ناقد أدبي): إن «بلد الثلوج» رواية خيالية، أليس كذلك؟
كاواباتا: الجزء الأكبر من «بلد الثلوج» خيالي. قمت بتجميله. ولكن على الأقل الطبيعة خيالية. ولكن نماذج الشخصيات قمت بتجميل بعضها وصناعة البعض بنفسي.
ناكامورا: ماذا عن البطل الرئيس للرواية؟
كاواباتا: البطل ...؟
ناكامورا: صُنع في صورة شريرة جدا... (ضحك)
كاواباتا: أجل، جعلتُ منه شخصية سيئة. وهذا دوره أن يُبرز الآخرين. وحتى البطلتين أيضا، إحداهما شخصيتها عجيبة أليس كذلك؟ هذه ليس لها وجود في الواقع.
ناكامورا: تقصد يوكو ...
كاواباتا: في يوم ما، قال لي ممثل الكابوكي شوتارو هاناياغي إنه سيقوم بتمثيل الرواية على المسرح ولذا سيذهب لرؤية الموديل. فلم أعطِه تفاصيل المكان، ولكنه بحث عنه بنفسه وذهب حسب ما سمعت. (ضحك) ثم بعد ذلك في حوار فني له مع الرسام الشهير كيوكاتا كابوراكي قال هاناياغي: «إن موديل شخصية يوكو كانت امرأة ذات عينين تلمعان دائما» ولا أعلم مَن هي تلك المرأة التي أصبحت يوكو. (ضحك)
ناكامورا: لقد ظهرت خصيصا له. (ضحك)
كاواباتا: أما موديل كوماكو فلحسن الحظ تزوجت. وعندما كانت هي وزوجها ما زالا يعملان في ذلك النُزل للينابيع الساخنة، زارهما صدفة الناقد الأدبي سويكيتشي أَوْنو فقال له ذلك الزوج: «يأتي الكثير من الزوار لرؤية مكان الأحداث»، «حسنا، هذه هي طبيعة المجتمع وحبه للنميمة» (ضحك)

في نفس الحوار الأدبي، ذكر السيد كاواباتا أنه كتب أجزاء كبيرة من رواية «بلد الثلوج» في منطقة يوزاوا للينابيع الساخنة، وأنه عندما كان يكتب بدايتها في يوزاوا، لم تكن الأحداث التالية قد حدثت في الواقع بعد. وذكر كذلك أن الحريق وسط هطول الثلوج حدث بالفعل في الواقع.
إن رواية «بلد الثلوج» عمل متفرد جدا كرواية، وتعد تجربة عملية للاستمرارية المحضة في الرواية. عندما يُقاد القارئ إلى داخل بلد الثلوج عبر مشهد القطار الشهير في مقدمة الرواية، يقع القارئ بالفعل منذ تلك اللحظة أسيرا للتدريب العملي لحواسه من خلال تصوير ووصف انعكاس المشهد بتلك الغرابة على زجاج النافذة. الألم الناتج من منظر الغروب الذي ينساب في قاع المرآة. عندما «تضيء نيران الجبل البري في وجه الفتاة». هنا تتألق ريبة أدب كاواباتا اللاواقعي في صورة رمزية واحدة. وإن استخدمتُ هنا مصطلح «رد الفعل الرومانسكي» الذي ذكرته قبل قليل، فليس هذا رد فعل قلبي فقط، ولكنه أيضا رد فعل وانعكاس للأضواء وصور الظلال.
وفي الواقع مشهد القطار هذا يُعد تمهيدا لكل الفصول، أي نعم لم تظهر بعد كوماكو التي يجب وصفها بأنها بطلة العمل الرئيسة، ولكن يقدم هذا المشهد مسبقا أسئلة للقارئ، مَن «شخصيات» هذه الرواية؟ وما «مناظرها»؟ وما دور «الطبيعة» فيها؟ وما «أحداثها»؟ ثم يجيب عنها إجابات مستفيضة وسرية. ويشبه هذا بالضبط المقدمة التي تُوضع للكتب الفلسفية لكتابة تعريف صارم ودقيق مسبقا لكل المصطلحات الفلسفية المتنوعة التي ستستخدم داخل ذلك الكتاب.
ولذلك بعد أن ينتهي القارئ من جميع الفصول ينتبه لأول مرة إلى معنى تلك المقدمة. بمعنى أنه ينتبه إلى أن كوماكو ويوكو وكل الشخصيات داخل الرواية يُنظر إليهم «من داخل مرآة عجيبة»، يُنظر إليهم وكأنهم «خدعة في حلم»، وبالنسبة للقارئ وأيضا بالنسبة للبطل شيمامورا، عدم إعطائهم «ألم النظر إلى الأحزان»، وكذلك، ظهور المناظر داخل الرواية، واضحة زاهية بتفاصيلها الدقيقة لكل منظر على حدة، بسبب أنها كما هو المتوقع تحت سيطرة «القوة اللاواقعية لمشهد الغروب المنعكس في المرآة»، وكذلك الأحداث التي تقع داخل الرواية، على سبيل المثال، مشهد الحريق وسط هطول الثلوج في نهاية الرواية، وسقوط يوكو من مقصورة الطابق الثاني، مثلها مثل إضاءة النيران لوجه يوكو المنعكس في زجاج نافذة القطار، ليست إلا لحظة معجزة هادئة يختلط فيها البشر مع الطبيعة بدون حد فاصل بينهما، ينتبه القارئ إلى كل ذلك وغيره. ولذلك بنهاية تلك الرواية، عندما رأى شيمامورا يوكو التي سقطت على ظهرها فوق الأرض، لا يتعجب أحد عندما يرى طريقة إحساسه بذلك كما يلي:
«وكما هو متوقع لسبب ما لم يشعر شيمامورا بالموت، بل أحس بما يشبه الانتقال من طور إلى آخر، أن روح الحياة داخل يوكو سيختلف شكلها فقط»
إن كان ثمة موضوع رئيس لهذه الرواية التي يبدو أنها راهنت فقط على الاستمرارية المحضة لكل لحظة من حياة البشر غير المحددة، لكانت تلك الجملة تعبر عنه تماما. ليس يوكو فقط، بل لقد كان وضع كوماكو دائما أسيرا كذلك تحت مثل هذا الموضوع. إنه توثيق عجيب «لتغير طور الحياة داخل» المرأة، وتجميع لمسودات لحظات «الانتقال» التي تشبه امتداد سنابل اللهب خُفْية. بل إن كوماكو ويوكو لا تصلان حتى إلى درجة شخصيات متسقة للنهاية. بل لدرجة أنه ما من شخصية واحدة مستقلة بذاتها لأي منهما. ولا يمكن رسمهما بصدق وصراحة إلا من خلال تلك اللحظات الدقيقة لذلك التغير في أطوار الحياة المتنوعة من خفقان واهتزاز وفرحة. إن كلمة «جهود عقيمة» التي تظهر مرات عديدة داخل الرواية، هي كلمة عكسية تجاه خطورة الجمال للتأكيد على شكل هذه الحياة التي تُهدر بهذا الحال دون هدف.
وصْف السيد كاواباتا للطبيعة. لم يكن ذلك مثل ما يقوله عنه الآخرين، مجرد وصف فقط للطبيعة الجميلة رُسمت رسما جيدا. بعد أن يصف التغيرات المريبة لألوان الجبال، والمشاعر التي تأتي من ذلك، يكتب السيد كاواباتا فجأة وكأنه قد تخلّى عن الأمر برمته:
«ما من توافق بين السماء والجبال»
داخل مرآة تعكس الثلوج التي تتألق ناصعة البياض، تبرز خدود كوماكو التي تثيرها الحياة البرية فاقعة الحمرة. وفي العُليّة العجيبة، تعيش نفس المرأة «بجسد شفاف يشبه دودة القز». عندما نربط تلك التفاصيل بعضها ببعض، من المستحيل أن نستطيع تشكيل صورة كوماكو كإنسان مؤكد ومتجانس. ثم في الأصل الشهوة الجنسية لا تحتاج إلى صورة كاملة ومتجانسة.
ومع كل ذلك، تمتلئ تلك الرواية امتلاء تاما بتلك الجاذبية التي تجعل القراء يذهبون في رحلات سفر للبحث على موديل شخصيات رواية «بلد الثلوج». حتى وإن لم تظهر الصورة الكاملة، فالاستمرارية المحضة، تعطي القارئ القوة لكي يقوم بنفسه بتركيبها وتجميعها في النهاية. بهذا المعنى فإن هذه الرواية فريدة، وكذلك في نفس الوقت، هي الرواية الأكثر شمولا وعمومية.

4

«ألف طائر كركي[7]»
... نُشرت في عدة مجلات بالترتيب التالي بالتوازي مع رواية «ضجيج الجبل».
فصل «ألف طائر كركي» بملحق مجلة «أحوال القراءة» عدد مايو من عام 1949
فصل «شمس الغروب في الغابة» بملحق مجلة «بونغيه شونشو» العدد الثاني عشر أغسطس من عام 1949
فصل «إشينو» بمجلة «حدائق الروايات» عدد يناير من عام 1950
فصل «أحمر شفاه الأم» بمجلة «حدائق الروايات» عددي نوڤمبر وديسمبر من عام 1950
فصل «نجمة مزدوجة» بملحق مجلة «بونغيه شونشو» العدد الرابع والعشرين الصادر في شهر أكتوبر من عام 1951
لا تظهر الآنسة إينامورا، التي تحمل صِرّة جميلة من قماش عليها رسم ألف طائر كركي الذي يُعتقد أنه سبب تسمية عنوان الرواية بذلك الاسم، في هذه الرواية إلا مرتين فقط، وتقريبا لا تتكلم، وليس لها أي علاقة بحياة بطل الرواية الشاب كيكوجي، وليس لها أي علاقة بالعلاقات الإنسانية داخل الرواية، وتختفي تماما في النصف الثاني منها. ويأتي خبر أنها تزوجت، ولكن لا أحد يعلم هل ذلك صدق أم كذب.
ولكن كيكوجي يرى لحظيا شبح الآنسة إينامورا من نافذة القطار. من الغريب أنه لم يكن ثمة مارة في الطريق الذي أمام القصر الإمبراطوري الذي تصطف على جانبيه الأشجار وتسقط عليه شمس المغيب.
«في ظلال أشجار الطريق تلك، ظن كيكوجي أنه رأى الأنسة إينامورا تحمل صرة من قماش كريب بلون وردي عليه ألف طائر كركي أبيض»
هذا الشبح الجميل النقي، مع أنه يحمل تحذيرا من خيط السببية القبيح في هذا العالم داخل الرواية، في تلك السماء المرتفعة، تطير طيور الكركي الألف. عنوان ربما بدا أنه ليس له أي علاقة بموضوع الرواية الرئيس ولكن حتى ذلك نوع من تقنية الرواية التقليدية.
إن رواية «ألف طائر كركي» عمل اكتمل فيه طراز كاواباتا في محاكاة النموذج التقليدي القديم اكتمالا تاما، وإن ضربنا مثالا من أعمال جونئتشيرو تانيزاكي فهو عمل يضارع رواية «حكاية ضرير» ورواية «قاطع القصب». الشخصية التي رسمت في الرواية بحيوية ونشاط هي المرأة الشريرة تشيكاكو التي لديها وحمة في صدرها، وهي تلك التي تشبه النبيلة الشريرة التي تظهر في حكايات عصر الأسرات[8]، بالنسبة للشاب كيكوجي، فهو لا يمكن اعتباره شابا من شباب اليوم، إن هذا الشاب عديم اللون الشفاف تماما الذي يترك نفسه كاملة للحسية الجسدية، الهادئ هدوءا حقيقيا، عندما «ينام في الظلام وينظر إلى اليراعات المضيئة»، يصاحب ذلك مشاهد لوجه الأمير هيكارو غِنجي. وانتحار السيدة أوتا، المرأة التي كانت عشيقة والده، ثم أصبحت عشيقته، بتناول السم عندما سمعت عن خطوبة كيكوجي، هذه الجاذبية القصصية أيضا من ذوق عصر الأسرات، واختتام الأحداث بنهاية خطيرة بين الحياة والموت أن تتعهد ابنة السيدة أوتا لكيكوجي أنها سوف تتحمل إثم أمها، كل هذا على طراز الأدب في عصر الأسرات.
ولكن أنا أرى أن متعة تلك الرواية هي في مواضع تحول حيوية جمال التقليدي الياباني دون تعمّد إلى صور كاريكاتورية. فحفلات الشاي المقدسة تقام من خلال تشيكاكو لاستخدامها كمؤامرة شريرة في حفلات التعارف للزواج، والمعلومات الجمالية عن أدوات الشاي، في الواقع، بالنسبة لتشيكاكو ليس إلا معلومات وظيفية عامّية، وعندما لا ينجح الزواج الذي تدفع إليه كيكوجي دفعا، تبدأ في مناورات سرية للتخلص من أدوات الشاي. وأدوات الشاي تلك كل على حدة، تكمن داخلها علاقات خيانة دميمة وتنتقل من خلالها، وكذلك كوب من نوع شينو الذي يصبح إرث من أثر السيدة أوتا، عليه أثر أحمر شفاهها، وكأن أثر جرائمها، ملتصق بالكوب، كل تلك الأدوات الدقيقة تُستخدم من أفضل ما يمكن كأدوات حياتية دنيوية في الرواية.
صُنعت رواية «ألف طائر كركي» ببراعة وحذق رومانسكي من خلال التضاد العكسي لما يحمله الجمال الياباني من عناصر مميزة له، مثل أن التلميح أن العلاقات الإنسانية الحسية الحيوية تترسب في العمق لأنها تمر من خلال طراز الجمال أكثر من العلاقات الإنسانية العادية ... مثل الاستخدام العاميّ لأدوات الشاي، الإيروتيكية المكنونة التي تتعلق بعملية تلقي أدوات الشاي والنظر إليها في تأمل. وهذا ما أعطى هذه الرواية قيمة أكبر من كونها عمل عن الجمال المجرد فقط.

5

«الجميلات النائمات»
نُشرت في مجلة «شينتشو» من عدد يناير إلى عدد يونية من عام 1960، ثم من عدد يناير إلى عدد نوڤمبر من عام 1961.
إن هذه الرواية هي أكثر روايات السيد كاواباتا ذات الحجم المتوسط، اكتمالا وتنسيقا من حيث الشكل والتصميم، وهي تحفة أدبية من أبرز ما ألف السيد كاواباتا مؤخرا.
إنني لا أنسى حتى الآن شعوري عندما انتهيت من قراءتها لأول مرة، وعندما أحاول أن أتذكر عملا فنيا يقترب من هذه الرواية في جعلها صدري يختنق وأنفاسي تتلاحق لحظة بلحظة لقلة الأكسجين الواصل إليه وكأنني داخل غواصة تغرق، فلا أستطيع إلا مقارنتها بصعوبة بالغة بأعمال كافكا. تلك الرواية التي تدور من أولها لآخرها في غرف سرية لنادي بنظام العضوية السرية، هذا بذاته يصنع ببراعة شديدة رمزية للحالة النفسية المحاصّرة. ولقد أصابتني حالة من الهلع لاعتقادي أنها الرواية التي تمثل الجحيم بالنسبة لكاواباتا.
ولكن، الموضوع الرئيس الذي يظهر هنا، حتى مع اتخاذه شكلا في غاية التطرف، ولكنه ليس جديدا مطلقا بالنسبة إلى قرّاء أدب كاواباتا. حتى شكل الحب، ظهر في قصته القصيرة «طيور ووحوش»، وحتى تفضيل البنات الصغيرات (عقدة لوليتا) الذي كرره في أعماله منذ بداياتها، في النهاية يصل في هذه الرواية إلى نهايتها الحتمية. إن العذراء والعصافير والكلاب لا تحكي من تلقاء نفسها، ولكنها تظهر وهي تتخذ براءة ونقاء الوجود كمفعول به مطلقا. إن سبب انحسار الإيروتيكية من خلال التعارف النفسي، هو أن الجوهر يظهر بمجرد تبادل الحوار قليلا. إن الأمر المثير في منطق الإيروتيكية التي تطلب وتلح للحصول على ما لا يمكن الوصول إليه، هو الرغبة في التوقف الصارم عند حدود بشرة جلد الشخص المرغوب، أكثر من رغبة الدخول إلى الجانب الداخلي له. إن الوصول للخارج في الإيروتيكية الحقيقية، أكثر استحالة من الوصول للداخل ويمتلئ بالألغاز أكثر. في مثل هذه الإيروتيكية يمثل غشاء البكارة الرمز الأكثر روحانية وجاذبية «للخارج»، ولا ينتمي بأي حال إلى الجانب الداخلي للأنثى.
في إطار أدب كاواباتا، بهذا الحال، فإن أكثر الأمور إيروتيكية هي العذراء، بل وهي نائمة، لا تنطق ببنت شفة، لها وجود من المستحيل الوصول إليه إلى الأبد مثل خط الأفق، مع أنها عارية كما ولدتها أمها. إن «الجميلات النائمات» هم المحصلة النهائية لمنطق الرغبة هذا.
وبالطبع لا يمكن هنا أن نرى ترنح الحياة العنيف لنساء رواية «بلد الثلوج». ومن الأفضل أن ننظر إلى رعب الوصف التالي للمداعبة الحسية الذي يقترب من أن يكون وصفا في علم التشريح:
«بدت أسنان الفتاة التي لمستها أصبع إيغوتشي، مبللة قليلا لدرجة أن التصق بالأصبع قليل من اللزوجة. فحص أصبع سبابة الرجل العجوز تنسيق أسنان الفتاة، إلى أن وصل إلى ما بيت الشفتين. ثم كرر الذهاب والإياب مرتين أو ثلاث مرات. ومع أن الجانب الخارجي للشفتين كان يميل إلى الجفاف، إلا أنها من الداخل كانت رطبة وسلسة. في الجانب الأيمن هناك سن نبتت فوق سن آخر. أدخل إيغوتشي إبهامه أيضا وجرب أن يمسك تلك السن البارزة. أراد بعد ذلك وضع إصبعه على الجانب الداخلي للأسنان ولكن كانت أسنان الفتاة العلوية والسفلية منطبقتين على بعضهما البعض بصرامة فلم يستطع فتحهما رغم أنها نائمة»
في إطار السرعة البطيئة، لا يشبه هذا اللعب الجسماني أي نوع من أنواع المداعبة الجسدية الطبيعية مهما بدا أنه يشبهها. ولأن ذلك ليس سلوك حب يتفاعل مع إيقاع حركة الحب الجنسي، فهو يشبه سلوك التعارف السري، ومن أجل ذلك ينطبق تماما تراكم الكلمات، مع الحركة البطيئة (slow motion) المضادة للفسيولوجيا، وتعطي لسرعة تقدم الرواية ذاتها اختناقا غريبا مؤلما وواقعيا.
وأيضا التفرقة بين طريقة كتابة شخصيات الفتيات الست في الواقع متميزة وفريدة. بعد أن نُزع كل ما يمكن أن يعتمد عليه الروائي في التفرقة بين شخصيات الرواية؛ مثل التفرقة من خلال الحوار وطريقة تحريك أعضاء الجسم، وبريق العينين، والملابس، تغلف طريقة عيش كل فتاة على حدة وأسرار حياتها جسدها من الداخل بجلال وهيبة وسرية، ويظهر فقط على أنه هدف للمداعبة فقط. مثل قماش لوح أبيض، يرسم عليه العجوز إيغوتشي نشر أوهام وخيالات ماضيه كما يحلو له، وفي نفس الوقت، في كل مرة جسد كل الفتاة على حدة، يعطيه فرحة وتأثر طازج من خلال جاذبية كل منهن الفردية التي لا يمكن تبديلها مطلقا. وليس هذا ما يطلق عليه فردانية الشخصية. أمام رغبة الرجل التجريدية، يقف لحم المرأة المادي ويواجه تلك الرغبة في كل مرة بالقوة الأكثر جوهرية ليصبح عائقا لها ويمنعها. ترتبط مادية ذلك الجسد بصرامة مع الاختلاف في كل عضو من أعضاء الجسم مهما كان اختلافا ضئيلا، مثل الاختلاف في سمك الشفة السفلى، والاختلاف في نحافة الرقبة وطولها. إن وصف أجساد الفتيات في رواية «الجميلات النائمات» بهذا الحال، يمكن مقارنته وتشبيهه بمراقبة نحّات محنك ذو خبرة طويلة.
وفي النهاية من الطبيعي والمنطقي أن الميل الإيروتيكي تجاه الشيء الثابت غير المتحرك، الشيء الذي لا يمكنه مطلقا التأثير، يؤدي إلى صورة وهمية لاغتصاب الموتى. عندما يُبدي إيغوتشي الذي ينام مع فتاتين في نهاية هذه الرواية دهشته من اكتشافه موت إحداهما تقول له المضيفة المؤدبة:
«أليست الأخرى موجودة؟»
إن تلك الكلمة اللامبالية، تعتبر الجملة الأكثر عنفا التي توّجهها الإيروتيكية إلى الإنسانية. بل لدرجة أنني أعتقد أن هذه الرواية هي أحد الأعمال الفكرية.
إنَّ تساؤل سارتر في الجزء الثاني من سيرة جان جينيه: «هل يمكن الخلاص بواسطة الجمال؟» لا ينطبق فقط على هذه الرواية تماما، بل أنني أعتقد أنها ترمز باتساع إلى شخصية أدب كاواباتا كله، ولذا سوف أطيل الاقتباس من كلام سارتر في ذلك الكتاب:
«إن مذهب الجمال (aestheticism) لا ينشأ مطلقا من الحب غير المشروط للجمال. بل إنه يتولد من الكراهية»
«إن الجمال ليس مظهرا وليس وجودا، بل إنه أحد أنواع العلاقات، أي أنه عبارة عن تأثير التغير من الوجود إلى المظهر»
«إن الجمال ذاته هو استحالة رؤية ما يُرى بالعين»
«إن الجمال (والشِعر) يعبّر على العكس عن انتصار العدم. في حالة الشِعر، يتغلب الوجود، ولكن في حالة الجمال يصبح الوجود خفيفا، ويُصدر صدى فارغا، فيقل ذلك الضغط»
«لا تُشبع الجمال، واصنع له كهفا. إن ذلك هو علم الفراسة المنفر الذي يملك حقيقة الإنكار»
«إن الشر يخطط لتدمير الوجود. وإذا حاول الشر تنفيذ ذلك الدمار بدون استعارة قوة الوجود، بمعنى إذا حاول الشر إظهار قوته الذاتية دون التواطؤ مع النظام والعقل والمنطق، فهناك ضرورة لأن يتحول الشر إلى جمال. إن الجمال هو القانون الذي ينظم عالم الخيال، وفي عالم الخيال يتأسس النظام، ويصبح القانون الوحيد الذي يجعل ذلك الجزء يُطيع الكل بدون وجود الخير. إن الشر ليس إلا الجمال الذي يُرى من خلال عيون الكراهية والحقد، وجمال مذهب الجمال هو الشر كقوة للنظام» (ترجمة هيرويوكي هيراي)

6

ربما بدت «يوميات سن السادسة عشرة» للوهلة الأولى سطحية، ولكن في الواقع إن القارئ الذي يكتشف بدايات السيد كاواباتا كروائي من خلال عين فتى عنيد، على العكس يكتشف بعد ذلك بين أبطال رواية «راقصة إيزو»، طفولية وتدليل ونقاء بل وإرادة إيجابية. إن البريق الحي لتلك الإرادة ولقائها مع الموت هما مثل وجهي عملة واحدة تطلق بريقا يزيغ العين في قصتي «أغنية عاطفية»، و«أغنية إيطالية» فكلاهما تبدأ وتنتهي أيضا بنفس الجملة:
«أنت ذاهب إلى مكان ما، أليس كذلك؟»
إن الأعمال المتتالية: «الجسر المقوس»، «أمطار الخريف»، «سوميوشي»، تقتبس موضوعها الرئيس من كتاب «ريوجين هيشو» الذي كُتب في عصر هييان ويحتوي على بصيص من أغاني المديح البوذية، وعندما ظهرت هذه الأعمال في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة (كُتبت «الجسر المقوس» في أكتوبر من عام 1947، وكُتبت «أمطار الخريف» في يناير 1949، وكُتبت «سوميوشي» في أبريل 1949) كان من الصعب نسيان شعور نقائها الخالص. ففيها أنفاس الحياة الأكثر خفاء، وتُحكى بنبرة صوت يشبه طنين حشرات الجدجد في فصل الخريف، وتخطت ضوضاء ما بعد الحرب لتصل إلى آذان الأقلية تقريبا. وأنا شخصيا تفتحتْ عيوني على عظمة السيد كاواباتا في ذلك الوقت.

عيون الاحتضار

كتُبت مقالة «عيون الاحتضار» في عام 1933 وهو العصر الذي فاضت فيه مشاعر الإحساس بالخطورة في تاريخ شوا كله. بل أنها تتعلق كذلك بما كتبه الرسام هاروئه كوغا قبل موته مجنونا والأديب ريونوسكيه أكوتاغاوا قبل انتحاره، مما يغلفها بنوع من الشعور الخارق للطبيعة. عند وضع تلك المقالة في ذلك العصر، تبدو وكأنها نقطة زيت تطفو فوق سطح الماء وتطلق قوس قزح. ألا يمكننا القول إن كاواباتا استطاع تحمل ذلك العصر الرهيب من خلال موت الآخرين؟
«إن جوهر كل الفنون يكمن في [عيون الاحتضار] تلك»
تبدو لي هذه المقالة من خلال هذا السطر، وكأنها مانيفيستو السيد كاواباتا الحاسم تجاه نظرته للعالم ونظرته للفن.
«حتى لو ثمة فراق مع المرأة في الحياة، إلا أن الفراق الوحيد مع صديق الفن هو الموت، ولا يوجد فراق في الحياة. حتى وإن انقطعت عني أخبار الأصدقاء القدامى، أو افترقنا بسبب العراك، إلا أنني لم أفكر مطلقا أنني فقدتهم كأصدقاء»
«عندما أفكر بتمعّن في الموت، أتخيل أنني في النهاية أرسو على التفكير أن الموت مرضا هو أفضل طرق الموت. فمهما كانت درجة كراهية هذا العالم والبعد عنه، إلا أن الانتحار ليس هو طريق الاستنارة. مهما كان ذا أخلاق عالية إلا أن المنتحر أبعد ما يكون عن القديس»
«عندما أطلق عليَّ اسم [الساحر] ابتسمتُ في سري ابتسامة ساخرة. والسبب أنني لم أستطع أن أوصل حزني الذي في قلبي إلى الطرف الآخر الذي هو واحد من آلاف العميان»
«(يشير السيد كاواباتا إلى أن السيد كوغا لما كان على وشك الموت جنونا، عندما يكتب كانت الريشة تضطرب فتنتج حروفا لا يمكن قراءتها، ولكن عند الرسم كانت في منتهى الوضوح) بهذا الحال، وسط العديد من القوى المعنوية والبدنية، كانت موهبة الرسم هي التي امتدت لأطول وقت، ثم مات في النهاية»
«(اندهش من أن حبيبة يوميجي كانت تشبه الرسم تماما) لم تكن تلك اللوحة من رسم الخيال. إن السيد يوميجي رسم جسد امرأة في لوحته بكمال مثالي. ربما كان الفوز من نصيب الفن، ولكنني شعرت وكأنه هزيمة تجاه شيء مجهول»
... ثمة قطع من الأفكار، مثل الاقتباسات السابقة، عن الموت والفن والمرأة متناثرة وسط ذكرياته مع عدد من الأدباء والفنانين. بعد القراءة، نعرف أن السيد كاواباتا يقدم اعترافاته الذاتية عن الفن والحياة من خلال هذه المقالة الذي يتذكر فيها أصدقائه الراحلون، وفي اعترافاته تلك إحساس عنيف بالوحدة، ولكن لا تبدو مطلقا في شكل اعترافات حماسية مندفعة، بل أن الاعترافات نفسها تشبه همسات بلا قيمة ملقاة على عواهنها.
أن مقالة السيد كاواباتا تتميز بالوصف الصادق لأفكاره التي تعبر عن الفرحة المريرة لمَن نجح في إخفاء مواهبه بنفسه، هي بصيرة نحو هزيمة الذي عرف مفتاح النصر في مجال الفن، ... فبهذا الحال، فوق سطح أرض الحديقة التي تعيث فيها عفن الطحالب، من خلال ظلال الغيوم التي تنساب مندفعة بالرياح، تختفي أشعة الشمس الدافئة أحيانا وتنيرها أحيانا، عندما تنيرها تكون غير مؤكدة، وعندما تظللها تكون غير مؤكدة.
لا توجد هنا ذهنية منطقية أو واعية للتأكيد بأعلى صوته على أمر ما. ما يوجد هو فقط، الحياة غير المتصلة، والأحاسيس التي تستيقظ أحيانا عندما يلمسها فتتولد فجأة بصيرة لا تصل إلى أن تكون عقلانية، تلك البصيرة في اللحظة التالية، (بدون أي فخر مطلقا!) يتم إنكارها وإهمالها والتخلي عنها، هي ذهنية من نوع خاصة. وتفوح في كل سطر روائح شؤم بدرجة عظيمة، وحتى وإن كان المكتوب ذاته واضحا جليا، ولكنها يلتحف برداء طفيف من شيء يجب أن يوصف وكأنه «سخام روحاني». وإن ظننتَ أنه شفاف تجده غير شفاف، ولا يشير صراحة إلى الأمور كما ينبغي. وعندما يمشي المرء ليدخل في مثل هذه الذهنية، وكأنه قد رافقه مرشد غير مخلص، فيقع في التيه. فلا يُعلمه الدليل بمكان الوصول مطلقا، ولا يشير بأصبعه نحو المناظر ولا النباتات بوضوح ليعرّفه بها. ثمة شيء مختفي خلفه، ولكن الأمر الأكثر إزعاجا هو أن المؤلف نفسه على ما يبدو ليس لديه الحماس ولا الشغف لإخفاء شيء. هنا يُرمز لموت الفنان وفناء العالم الذي ينعكس في عينيه قبل الموت مباشرة. ثمة إيحاء فقط، وما من وصف أو رسم واضح. وريبة حكاية أن الموهبة الفنية وكأنها عضو من أعضاء الجسم الأكثر قوة ومتانة، فهي التي تبقى حيّة لآخر شيء عند الموت، ليس فقط أنها «تبقى حيّة» بل أنه رعب النظر لحرية القيم في التعامل مع الموهبة الفنية وكأنها عضو من أعضاء الجسم. إن قيل لنا: «عيون الاحتضار» هي أسرار الفنون، يُخيّل لنا أننا فهمنا، ولكن في المحصلة النهائية لم نفهم شيئا. فثمة نقص في الاهتمام بأسلوب كتابة يجعلنا نفهم، لأنه على الأرجح أن الإنسان في ساعة الاحتضار لا يمكن إيصال تلك التجربة النهائية. وفي النهاية يصبح الأمر أنه لا يمكن إيصال معنى سر الفنون إلى البشر مطلقا. والذي نفهمه فقط هو؛ لو أن هناك إنسان واحد في هذا العالم يرفض الانتحار بشدة ويعيش طويلا، فهذا الإنسان المريب يحمل عبء عاقبة الفنون مثل «الهولندي التائه»، إن كان الوضع طبيعيا فهو لا يرى في المعتاد إلا مناظر لا تراها إلا عيون الاحتضار، ويرفض إبلاغ ذلك للناس ويبتسم وهو ينظر أحيانا تجاه الإناث الجميلات الصناعيات، ولكنه وصل في النهاية إلى أنه ليس له علاقة بتشكيل مثل ذلك الجمال، وينقصه هو والآخرون الحماس والشغف من أجل نحت ذلك الجمال نحتا حيّا، ... بالضبط مثل غروب واضح للأبد، هيئة الفنان المنعزل الذي وصل بمفرده إلى أقصى قمم «أسرار الفنون» وجعلها ملكه، أو هيئة العبقري الخبير. إن روح الرعب الخارق للطبيعة التي توقظ قلب القارئ وتستدعيه في «عيون الاحتضار» ليست أنها بلا سبب. وذلك لأن «صورة فنان الموت» تلك، وحتى وصولنا إلى هذه اللحظة الآنية، قد حافظت على نفسها على مدى عشرات السنين، ومع وجهات النظر المضادة المثيرة، إلا أنها برهنت على أن داخلها هي بالذات يكمن «الشباب الأبدي» لهذا الأديب.



[1] نُشرت هذه الدراسة كمقدمة للأعمال الكاملة لياسوناري كاواباتا التي صدرت ضمن مجلدات الأدب الياباني في مارس عام 1964م. وصدرت في كتاب لأول مرة مع دراسات أخرى لميشيما عن عدد من الأدباء اليابانيين مثل أوغاي موري جونئتشيرو تانيزاكي وإيزومي كيوكا وغيرهم، في أكتوبر من عام 1970 أي قبل انتحار ميشيما بشهر / المترجم
[2] الفن الرومانسكي (Romanesque): طراز من الفن المعماري والنحت والرسم والأدب انتشر في أوروبا الغربية من نهاية القرن العاشر الميلادي إلى نهاية القرن الثاني عشر حتى ظهور الفن القوطي. ويشير الفن الرومانسكي إلى صفة الفانتازيا في الفن التي تتجاوز حدود المنطق والأحداث الحقيقية من خلال الخيال الجامح / المترجم
[3] إكتوپلازم (Ectoplasm): هو شيء مادي أو خيالي يظهر على الوسيط الروحاني في جلسات التواصل مع أرواح الموتى لكي يعبر عن الروح التي تتلبس الوسيط الروحاني / المترجم
[4] تأثير الوردة الذي أشار إليه ممثل وكاتب مسرح النوه الشهير زيامي هو أمر في منتهى الغموض ولكنه ربما يشير إلى أن الغموض هو سر نجاح العمل الفني / المترجم
[5] في الأساطير اليونانية الإله كايروس إله الفرصة ليس له شَعَر إلا في مقدمة رأسه فقط وأصلع في مؤخرة رأسه، ولذا هناك مثل يقول: «إن إله الفرصة ليس له إلا شعر أمامي فقط» بمعنى أن على الإنسان أن ينتهز الفرصة أول ما تعن له وإلا فلن تأتيه مرة ثانية / المترجم
[6] ذُكرت في الترجمة العربية باسم معكرونة الإطريّة وهي شرائط تصنع من عجين القمح وتؤكل مسلوقة مع حساء / المترجم
[7] نُشرت الترجمة العربية عن الإنجليزية بعنوان «سرب طيور بيضاء» / المترجم
[8] لا يوجد ما يُسمى عصر الأسرات سياسيا في اليابان، حيث من المتعارف عليه أن الأسرة الإمبراطورية لم ينقطع نسلها منذ بدأت وحتى الآن، أما ثقافيا وأدبيا فيطلق عصر الأسرات على الفترة من نهاية عصر هييان (794م ~ 1192م) إلى بداية عصر موروماتشي (1336م ~ 1573م) / المترجم
Posted by ميسرة عفيفي at 1:05 ص ليست هناك تعليقات:
إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركة‏المشاركة على X‏المشاركة في Facebook‏المشاركة على Pinterest

الأحد، 18 أغسطس 2019

امرأة الخلود


امرأة الخلود

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

في الصين، وفي غابر السنين، كان طالب يسكن في الريف. ولأنها الصين المعروفة، فربما كان يقرأ الكتب طويلا تحت نافذة تطل على زهور خوخ متفتحة. وعندها، كانت تسكن بجوار بيت ذلك الطالب امرأة شابة – بل وهي امرأة جميلة – بمفردها دون أن يكون عندها خدم. وبالتأكيد كان الطالب يشعر بالتعجب تجاه تلك المرأة الشابة. لأنه لم يكن أحد يعلم من هي تلك المرأة بالضبط ولا ماذا تعمل. في مساء أحد أيام الربيع التي بلا رياح، عندما خرج الطالب للخارج فجأة سمع صوت تلك المرأة الشابة تسب وتلعن. وكان ذلك يُسمع كصوت صاخب مهيب وسط صيحات الديكة المتكاسلة التي تصدر من مكان ما. ذهب الطالب إلى أمام بيت المرأة ليستطلع الأمر وهو يفكر تُرى ما الذي يحدث؟ وعندها، وجد تلك المرأة وقد رفعت حاجبها لأعلى تمسك بتلابيب حطاب عجوز وتكيل له اللكمات في رأسه الأشيب. بل وكان الحطاب العجوز يعتذر لها ووجهه غارق في الدموع!
قبض الطالب على يد المرأة وحاول تهدئتها بحماس قائلا:
"ما الذي حدث بحق الجحيم؟ ألا تكُفّي عن ضرب مثل هذا العجوز في شيبته تلك! ... فأولا، ضرب من هو أكبر منك سنا أمر مخالف للأخلاق الحميدة"
"أكبر مني سنا؟ إن هذا الحطاب يصغرني في السن"
"لا يجب عليك المزاح!"
"كلا لا أمزح. لأنني أم هذا الحطاب"
أصيب الطالب بالدهشة الشديدة فحملق لا إراديا في وجه المرأة. كما هو المتوقع كانت المرأة التي أطلقت سراح الخطاب جميلة، ... بل يجب القول إنها ذات وجه شجاع بحمرة الدم الصحية. ثم قالت دون أن تطرف لها عين:
"أنت لا تدري إلى أي مدى عانيت وتعبت من أجل ابني هذا. ولكن لا يسمع ابني ما أقوله، ويعيش بأنانية فأصبح عجوزا في النهاية"
"حسنا ... هذا الحطاب في السبعين تقريبا من العمر، أليس كذلك؟ إذن فكم يبلغ عمرك أنت التي تقولين إنك أمه؟"
"تسأل عن عمري؟ إن عمري ثلاثة آلاف وستمئة عاما"
انتبه الطالب مع هذه الكلمات أن جارته الجميلة كانت من البشر الأبديين. ولكن في ذلك الوقت كانت طلعتها المهيبة قد اختفت في التو والحال. تاركة الحطاب العجوز كما هو وسط أشعة شمس الربيع المتألقة.

– الشهر الثاني من العام الثاني لعصر شوا –
(فبراير 1927)


Posted by ميسرة عفيفي at 1:12 ص ليست هناك تعليقات:
إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركة‏المشاركة على X‏المشاركة في Facebook‏المشاركة على Pinterest

الجمعة، 12 يوليو 2019

من الأرشيف: حكاية جائزة نوبل للآداب مع اليابان


حكاية جائزة نوبل للآداب مع اليابان

ميسرة عفيفي


في بداية الخريف من كل عام تتردد في اليابان والعالم كله المقولة المعتادة:
هل يفوز هاروكي موراكامي بجائزة نوبل هذا العام؟
هذا السؤال الذي دأبت عليه وسائل الإعلام اليابانية كل عام منذ عدة سنوات كلما حل موعد الإعلان عن جوائز نوبل ومنها جائزة نوبل للآداب. وتكون طريقة الإعلان عن الجائزة في اليابان بعد معرفة الفائز ليس أن جائزة نوبل للآداب فاز بها فلان أو فلانة، ولكن كل عام تكون عناوين الجرائد ونشرات الأخبار الرئيسة بعد إعلان الجائزة هي: "جائزة نوبل للآداب تخطئ موراكامي" أو "فشل موراكامي في الفوز بجائزة نوبل" أو ما شابه من عناوين.
ولكن عندما يُسئل موراكامي شخصيا عن جائزة نوبل للآداب ومشاعره وهو يُرشح لها كل عام تقريبا، يتكلم بمنتهى الجدية ويُعرب عن عدم سروره بذلك قائلا: "هذا الأمر يزعجني بشدة. لأن الترشيح لا يستند على أي أساس كأن يكون هناك قائمة معلنة طويلة أو قصيرة للمرشحين مثل ما يحدث في جوائز أخرى. ولكن الأمر لا يعدو إلا أن يكون استباق من الناشرين وحيلة رخيصة منهم لزيادة مبيعات الكتب فقط لا غير. وفي النهاية أنا لست فرسا في سباق، ليتراهن الناس على فوزي بالجائزة". وعندما سئل موراكامي عما يشعر به من معاناة في تلك الأيام التي تسبق الإعلام عن الجائزة والأيام التي تليها، ولماذا لا يستبق الأمر فيعلن رفضه لقبول الجائزة حتى لو اختير لها ليريح نفسه من هذا العناء، وردا على ذلك أعلن موراكامي رفضه للفكرة وقال إن سبب رفضه لتلك الفكرة هو أنه يوجد في هذا العالم من لا يستطيع إصدار حكم على شيء أو شخص إلا بمقاييس مادية ملموسة، مثل مقدار المبيعات أو الحصول على الجوائز، وإنه شخصيا لا يستطيع أن يمنع هذا التفكير عن الناس، رغم أن الأدب في أساسه هو محاولة لإيجاد مقاييس وقيم معنوية أكثر منها مادية ملموسة، وهذا هو أصل المشكلة، على حسب تعبير موراكامي.

من المعروف أن موراكامي حاليا هو أشهر روائي ياباني وأكثر الروائيين مبيعا في العالم كله، وما أن تصدر له رواية أو كتاب حتى يصطف الناس في طوابير بالغة الطول للحصول على نسخة من تلك الرواية. وآخر رواية أصدرها في اليابان باسم "تسوكورو تازاكي عديم واللون وسنوات حجه" حطمت عدد من الأرقام القياسية في المبيعات لم تتحقق على مدى التاريخ، منها أنها أول رواية أو كتاب في اليابان تصدر منه الطبعة الثانية في نفس يوم صدور الطبعة الأولى بسبب نفاد الطبعة الأولى من الأسواق خلال ساعات قليلة.

ولكن ما هي قصة جائزة نوبل للآداب مع اليابان؟
لقد فائز بجائزة نوبل للآداب من اليابان اثنان فقط هما ياسوناري كاواباتا عام 1968 ثم كِنْزابرو أُوئْيه عام 1994 ومن ذلك العام وخاصمت جائزة نوبل الأدبية أرض الشمس المشرقة ولم يحصل منها أديب على تلك الدرة الثمينة التي تتوق لها أعناق الكثيرين من الأدباء. ولكن رغم عدم شهرة ذلك يوجد العديد من الكتاب اليابانيين الذين كانوا أقرب الناس للفوز بها ولكن لم يحلفهم الحظ في الفوز.
فطبقا لوثائق الأكاديمية السويدية المسؤولة عن اختيار الفائز بجائزة نوبل في الآداب، والتي لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد مرور خمسين عاما من تاريخ تلك الوثائق، فإن أول من رُشح للفوز بجائرة نوبل في الآداب من اليابان هما الروائي روان أوتشيدا (1868 – 1929) والشاعر والروائي يونيجرو نوغوتشي (1875 – 1947) وذلك عام 1926 ولكن بالطبع لم يصل أي منهما إلى القائمة النهائية المرشحة للفوز.
ثم بعد تظهر وثائق الأكاديمية التي أعلنتها بناء على طلب من جريدة أساهي اليابانية أن عالم الاجتماعي والفيلسوف الياباني الذي نشط في مجال الإصلاح السياسي والاجتماعي المسيحي تويوهيكو كاغاوا (1888 – 1960) قد رُشح مرتين للجائزة عامي 1947 و1948. وانقضى عقد من الزمن حتى ظهر على قوائم المرشحين للفوز بالجائزة اسم الروائي الياباني العملاق جونئتشيرو تانيزاكي (1886 – 1965) ومعه الشاعر وأستاذ الأدب الإنجليزي د. جونزابرو نيشيواكي (1894 – 1982) ليُرشحا معا في عام 1958. ولكنهما كذلك لم يصمدا كثيرا وكان السبب الرئيس هو قلة الأعمال المترجمة لهما.
من خلال وثائق وزارة الخارجية اليابانية التي سُمح بالاطلاع عليها أمكن بطريقة غير مباشرة معرفة أن نفس الأديبين رُشحا معا في عامي 1960 و1961 وتأكد الأمر من خلال وثائق الأكاديمية السويدية بعد طلب من جريدة يوميوري اليابانية الذي أوضحت أيضا أن ياسوناري كاواباتا الذي كان أول ياباني يفوز بالجائزة عام 1968 قد سبق ترشيحه لها عامي 1961 و1962. ومن خلال الوثائق عُرف أنه تم ترشيح ثلاثة يابانيين معا في عام 1963 وهما نيشيواكي وتانيزاكي وكاواباتا. ومن خلال حديث صحفي مع رئيس لجنة نوبل في الأكاديمية السويدية مع جريدة يوميوري ذكر أنه لولا موت كوبو أبيه (1924 – 1993) المفاجئ لكان حصل على جائزة نوبل فقد كان الأقرب لها من الجميع. وقال إن يوكيو ميشيما (1925 – 1970) لم يصل إلى المرحلة المتقدمة التي وصلها آبيه. وقال أيضا إن الروائي ياسوشي إينوؤيه (1907 – 1991) كذلك كان قريبا من الجائزة ونوقشت أعماله بجدية داخل اللجنة. وردا على ذلك يقول البروفيسور دونالد كين إنه من خلال وثائق الأكاديمية التي كُشف النقاب عنها يتضح أن ميشيما وصل للقائمة قبل الأخيرة المكونة من ستة مرشحين عام 1963 وكان من بين المرشحين صامويل بيكيت. ولكن تم استبعاد ميشيما عندما قُلصت القائمة إلى ثلاثة أشخاص. وفي ذلك العام طُلب من دونالد كين تقييمه لأدباء اليابان فقام بإرسال توصيته بترتيب الأفضلية حسب العمر والإنتاج الفكري على الشكل التالي الأول تانيزاكي (76 عام) الثاني كاواباتا (63 عام) الثالث ميشيما (38 عام) وهذا رغم أنه كان يرى أن ميشيما هو أعظم كاتب ياباني على قيد الحياة وقتها ولكنه رغم ذلك فضل تانيزاكي وكاواباتا على ميشيما في التوصية منطلقا من الثقافة اليابانية التي تعطي أهمية بالغة لكبر السن والأقدمية في العمل، فلقد كان المجتمع الياباني يرى أن ميشيما لا زال شابا وإذا حصل على الجائزة قبل تانيزاكي وكاواباتا فستكون نتيجة ذلك عكسية ويشعرون بشعور ساخط تجاه ميشيما.
وطبقا لما أذاعته وكالة كيودو من وثائق الأكاديمية السويدية نعرف أنه رُشح أربعة يابانيين للجائزة في عام 1964 هم تانيزاكي ونيشيواكي وكاواباتا وميشيما، وأن تانيزاكي وصل إلى قائمة الستة في المرحلة قبل الأخيرة. كما حدث معه عام 1960. وأن نفس الأربعة رُشحوا كذلك في العام التالي 1965 وهو العام الذي توفى فيه تانيزاكي فقالت الأكاديمية في وثائقها أنه بعد موت تانيزاكي يكون كاواباتا هو أقرب أديب ياباني للجائزة وبالفعل فاز بها ياسوناري كاواباتا عام 1968 ولينتظر اليابانيون ربع قرن حتى يحصل عليها ثاني ياباني وهو كِنْزابرو أُوئْيه عام 1994. وتصمت الجائزة عن اليابان حتى هذه اللحظة.

*نُشرت في أخبار الأدب المصرية


Posted by ميسرة عفيفي at 6:49 م ليست هناك تعليقات:
إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركة‏المشاركة على X‏المشاركة في Facebook‏المشاركة على Pinterest

الاثنين، 25 فبراير 2019

حوار مع جريدة العربي الجديد

حوار لي مع جريدة العربي الجديد

الرابط



البورتريه للفنانة أنهار سالم

تقف هذه الزاوية مع مترجِمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "الترجمة من اليابانية إلى العربية قليلة جداً سواء مباشرة أو وسيطة"، يقول المترجم المصري في حديثه لـ"العربي الجديد" مشيراً إلى عوائق عدّة فرضت هذه الوضعية.

■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
بدأت بشكل غير متعمّد، إذ لم أكن أنوي أن أصبح مترجماً أدبياً. في عام 1999، صدرت رواية "الكسوف" للكاتب كيئتشرو هيرانو وصاحبت صدورها ضجة كبرى في اليابان لمحتواها واللغة التي كُتبت بها رغم صغر سنّ مؤلفها الذي أصبح وقتها أصغر من يحصل على جائزة أكوتاغاوا الأدبية العريقة. كنت مهتماً بتلك الأخبار، فإذا بزوجتي تهدي لي تلك الرواية لأقرأها وكنت وقتها طريح الفراش لمدة أسبوع في مستشفى لإجراء جراحة بسيطة. عندما بدأت القراءة اكتشفت سبب الضجة التي أحدثتها الرواية، فاللغة التي كُتبت بها ليست اللغة المعتادة بل هي لغة قديمة لا يستطيع اليابانيون قراءتها بسهولة، وبالتالي لم أستطع أنا قراءتها. خضت تحدّي قراءة هذه الرواية بالاستعانة بالمعاجم والقواميس. وأثناء ذلك خطرت لي فكرة ترجمتها للعربية ونشرها. استغرق الأمر 15 عاماً لكي ترى النور فقد نُشرت في عام 2014 عن "المركز القومي للترجمة" في مصر. لكن خلال عشرين عاماً من ذلك التاريخ كنت قد ترجمت عشرين كتاباً نُشر منها أربعة حتى الآن وأحاول نشر البقية تباعاً.

■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
آخر ما ظهر لي هو مجموعة قصص قصيرة باسم "رسوب" لأربعة من عمالقة الأدب الياباني: سوسيكي ناتسوميه وأوغاي موري وريونوسكيه أكوتاغاوا وأوسامو دازاي. صدر الكتاب في الكويت بالتعاون مع "مؤسسة ترجمان". حالياً، أجهّز للنشر أحدث روايات الكاتب هاروكي موراكامي بعنوان "مقتل قائد كتيبة الفرسان" (اسم مؤقت)، وسوف يصدر قريباً عن "دار الآداب" في جزأين متتابعين بإجمالي 1050 صفحة تقريباً ليكون العمل الأطول الذي ترجمته حتى الآن. ويُذكر أن هذه الرواية ستكون أولى روايات موراكامي التي تترجم من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية مباشرة. كانت كل أعماله السابقة تُنشر من خلال لغة وسيطة.

■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
العقبات كثيرة وأهمها بالنسبة لي عدم وجود العمل المؤسسي في الترجمة والاعتماد على الجهد الفردي وهو في النهاية محدود مقارنة بما يمكن إنجازه إن تحوّل العمل في الترجمة إلى جهد مؤسسي كبير. وهناك عقبة أخرى أمام المترجمين الشباب وهو ضعف العائد المادي الذي يجعل من الصعب على المترجم التفرّغ تماماً للترجمة.

■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
على العكس أنا من أشد المتحمّسين لوجود محرّر للعمل. وأحاول بكل جهدي أن أتعاون مع المحرّرين لإخراج النص في أفضل شكل. وتعاونت حتى الآن مع أكثر من محرّر وأعتقد أن العلاقة كانت ممتازة بيننا. وأتمنى أن تنتشر ظاهرة وجود المحرّر ليس فقط بالنسبة للأعمال المترجمة ولكن أيضاً للأعمال الأصيلة باللغة العربية حيث إن وجود المحرّر مهم جداً حتى للكاتب الذي يكتب بلغته.

■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
ما زلت في بدايتي ولم أتعامل إلا مع عدد محدود من الناشرين. كل الكتب التي ترجمتها، أترجمها بناء على اختياري الشخصي ثم أعرضها على الناشر فيقبل أو يرفض. ولم تسمح طبيعة اللغة اليابانية بحدوث العكس حتى الآن.

■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
لم يحدث حتى الآن صدام سياسي بيني وبين صاحب النص الأصلي. وعلى الأغلب لن يحدث لأنني كما قلت أترجم ما أختاره أنا بنفسي. ولكن إن حدث مستقبلاً فأنا في الأول والآخر مترجم ينقل ما هو مكتوب بأمانة بقدر طاقتي واستطاعتي. وإن كان ثمة ضرورة لتوضيح سأضعه في الهامش على أن يتولى غيري مهمة الرد على الكاتب وتفنيد آرائه السياسية.

■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
كما ذكرتُ، بدأت تجربة الترجمة مع كيئتشيرو هيرانو، وبعد التعاقد على أول رواية "الكسوف" تواصلت معه عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتقابلنا ونحن الآن أصدقاء وأعضاء في ناد أدبي اسمه "نادي إييداباشي الأدبي"، حيث نعقد اجتماعات دورية ونقوم بنشاطات أدبية مختلفة. وكذلك عندما قرّرت ترجمة هاروكي موراكامي حرصت على محاولة لقائه وقابلته لمدة ساعة وتناقشنا في أهمية أن تبدأ ترجمة أعماله مباشرة بعد أن كانت تترجم كلها عن الإنكليزية وكان هذا اللقاء هو السبب الرئيس في بداية مشروع ترجمة أعماله مباشرة للغة العربية، وأعتقد أنني سأستمر في ترجمة أعماله تباعاً خاصة التي لم تنشر بالعربية بعد. وهكذا ترى أنني حريص على التقرّب من الكاتب الذي أترجم له إن كان ذلك متاحاً. وإقامتي في اليابان تسهل لي ذلك إلى حد بعيد.

■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
أنا شخصياً، وكما ذكرت، بدأت الترجمة صدفة. ولا أعتقد أنني فكرتُ يوماً في أن أكون مترجماً أو كاتباً ولكن جاء الأمر قدرياً. وحتى الآن أعاني من عدم تأقلمي مع الترجمة أو الكتابة، وأعتبر أنني متطفل على هذا المجال.

■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
الجوائز الأدبية بصفة عامة حديث ذو شجون. وجوائز الترجمة العربية بشكل خاص. يتطلب الأمر إعادة التفكير فيه بشكل كامل، إذ ينبغي أن يكون الهدف الأساسي منها المساهمة في نشر الكتب وتشجيع القراءة ونشر العلم والمعرفة. ورأيي الشخصي أن المساهمة في عملية نشر وإصدار الكتب وتسهيل الحصول عليها لقطاع أكبر له الأولوية الأكبر من تخصيص مبالغ خرافية يحصل عليها أفراد قلائل ولا يعود ذلك بالنفع على المجال كله.

■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
للأسف فإن اطلاعي على مشاريع الترجمة المؤسساتية حالياً غير كاف للحكم. وإن كنت أرى كما ذكرت أن الترجمة المؤسساتية هي ما ينقصنا ويجب أن نبذل جهداً أكثر في هذا المجال. والترجمة المؤسساتية ليست إنشاء مؤسسة تحمل اسم "مؤسسة للترجمة" وينتهي أمرها لأن تكون مجرد دار نشر متخصّصة في الكتب المترجمة فقط. يبدأ العمل المؤسسي من إعداد المترجم وتدريبه ومن ثم اختيار أهداف عليا للترجمة توضع لها خطط طويلة المدى وقصيرة المدى لتحقيقها.

■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
الترجمات من اللغة اليابانية قليلة جداً، حتى لو أضفنا تلك التي تُرجمت من لغات وسيطة. ولذا فالقاعدة الأولى بالنسبة لي في الوقت الحالي هو ألا أترجم إلا الجديد وأن أبتعد بقدر الإمكان عن ترجمة ما تُرجم للغة العربية. ثم القاعدة الثانية أن يكون اختيار العناوين التي أترجمها نابعاً منّي أنا وليس بناء على طلب من أحد. أما عادتي في الترجمة فأن أبدأ بترجمة أولية سريعة تكون مليئة بعلامات استفهام كثيرة تشير إلى الكلمات الصعبة والمصطلحات المتخصصة، ثم أبدأ بعد ذلك في البحث عن تلك الكلمات وأحصل على مسودة أقوم بمراجعتها على النص الأصلي لأحصل على ترجمة حرفية للنص، فأقوم بتعديل الصياغة للابتعاد عن الحرفية وتقريب النص من أن يكون نصاً عربياً أصيلاً، ثم في النهاية أقوم بالمراجعة اللغوية لتعديل الأخطاء النحوية والإملائية بقدر استطاعتي ثم أقوم بقراءة النص قراءة أخيرة "للتفنيش". ثم بعد ذلك أسلم النص للناشر وتبدأ عملية المراجعة مع المحرّر والمدقق.

■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لم يحدث أن ندمت على ترجمة شيء. حتى وإن لم يُنشر العمل فترجمة أي عمل تضيف للمترجم خبرة وتصقل صنعته.

■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
الترجمة من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية قليلة جداً سواء مباشرة أو وسيطة. فلن تزيد الأعمال المترجمة بنوعيها عن مئتي عنوان وإن بالغنا في العدد لن يصل إلى ثلاثمئة عنوان في كامل تاريخ اللغتين. ولك أن تعرف أن اليابان أصدرت في الثلاثين عاماً الأخيرة مليون ونصف مليون عنوان لا يعرف العالم عنها إلا أقل القليل، وحسب الإحصائيات فإن الترجمة من اللغة اليابانية إلى كل لغات العالم لم تصل إلى نسبة اثنين في المئة من تلك الكمية المهولة الصادرة. أتمنى أن أشارك ولو بجهد يسير في نقل تلك المعرفة إلى اللغة العربية.

بطاقة
مترجم مصري من مواليد القاهرة، ذهب إلى اليابان للدراسة عام 1996 وعمل لاحقاً مترجماً بين اللغتين. ترجم إلى العربية أبحاثاً ومقالات وأعمالاً أدبية، منها: "حكاية قمر" (التنوير) و"الكسوف" (المركز القومي للترجمة) لـ كيئتشيرو هيرانو، و"الإوزة البرية" (دار الكرمة) لـ أوغاي موري، و"رسوب" (مختارات لكتّاب يابانيين)، وتصدر قريباً ترجمته لـ"مقتل قائد كتيبة الفرسان" لـ هاروكي موراكامي عن "دار الآداب".



هارتفيلد مرة أخرى*

هاروكي موراكامي

ليس في نيتي القول إنني لو لم أتعرّف على الروائي ديرك هارتفيلد فإنني لم أكن لأكتب روايات بتاتاً. ولكنني أعتقد أنه في تلك الحالة من المؤكد أني كنت سأسلك طريقاً مختلفة تماماً عن التي سرت فيها حتى الآن.
عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية، سبق لي أن اشتريت كمية من كتب هارتفيلد ذات الطبعة الشعبية، كانت موضوعة في مكتبة بيع كتب قديمة في مدينة كوبيه تركها على ما يبدو بحار أجنبي. كان سعر الواحد منها خمسين ين. لم أكن لأظن مطلقاً أنها كتب ما لم تكن موضوعة في مكتبة لبيع الكتب. كانت الأغلفة بالغة الزركشة قد نُزعت تقريباً وتغير لون الصفحات إلى اللون البرتقالي. على الأرجح أنها عبرت المحيط الهادئ وهي موضوعة كما هي فوق سرير بحار من الطبقة الدنيا في سفينة بضائع أو مدمرة بحرية، ثم جاءت من زمان بعيد جداً لتوضع فوق مكتبي.
بعد عدد من السنوات ذهبتُ إلى أميركا. كانت رحلة قصيرة لزيارة قبر هارتفيلد فقط. أخبرني بموقع المقبرة توماس ماكلير الباحث المتحمّس (والوحيد) لأعمال هارتفيلد من خلال خطاب أرسله لي. كتب لي قائلاً: "إنه قبر بارتفاع كعب حذاء حريمي عالٍ. كن على حذر من الفشل في العثور عليه".
ركبت باص غريهاوند الذي يشبه تابوتاً عملاقاً من نيويورك، ووصلت إلى تلك البلدة الصغيرة في ولاية أوهايو في الساعة السابعة صباحاً. لم ينزل راكب واحد في تلك البلدة غيري. كانت المقبرة تقع في مكان يغطيه مرعى حشائش. كانت المقابر أوسع من البلدة ذاتها. فوق رأسي كان عدد من طيور القنبرة تطير صانعة شكل دائرة وهي تغني أغنية الرحيل.
بحثتُ عن قبر هارتفيلد لمدة ساعة كاملة حتى عثرتُ عليه. توجّهتُ إلى القبر بعد أن التقطتُ حفنة من الورود البرية المتربة النابتة في المراعي حول المقبرة ووضعتها على القبر، لامستُ كفيَّ تجاه القبر، ثم جلست أدخّن سيجارة. تحت أشعة الشمس اللينة لشهر مايو، أحسست بالراحة والسلام النفسي الذي يشبه تماماً الحياة والموت. رقدت على ظهري وأغمضتُ عيني، وظللت لساعات طويلة أسمع أغاني العصافير.
لقد بدأت هذه الرواية في مكان مثل هذا. ثم لم أكن أنا أيضاً أعلم إلى أين ستصل؟
يقول هارتفيلد: "إن قارنا بتعقيد الفضاء، فإن عالمنا هذا يشبه مخ الدودة".
تمنيت أنا أن يكون الأمر كذلك.
في النهاية أذكر أنني في ما يتعلق بما سجلته عن هارتفيلد فقد اقتبست كثيراً من العمل الذي ألفه ماكلير سابق الذكر والذي بُذل فيه جهد مضنٍ: "أسطورة النجوم العقيمة" (1968) فله مني كل الشكر.
(مايو 1979)

* خاتمة أول روايات هاروكي موراكامي "اسمع أغنية الريح"، والتي انتهى من ترجمتها مؤخراً عن اليابانية ميسرة عفيفي 
Posted by ميسرة عفيفي at 9:06 م ليست هناك تعليقات:
إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركة‏المشاركة على X‏المشاركة في Facebook‏المشاركة على Pinterest

الأحد، 10 فبراير 2019

عَلتْ الرّياحُ تأليف: تاتسو هوري ترجمة: ميسرة عفيفي



عَلتْ الرّياحُ
 تأليف: تاتسو هوري

ترجمة: ميسرة عفيفي



Le vent se lève, il faut tenter de vivre.
PAUL VALÉRY
(عَلتْ الرّياحُ، لنحاول أن نحيا)
پول ڤاليري
  
تمهيد

 كنتُ دائما في تلك الأيام من الصيف، أرقدُ تحت ظل شجرة قضبان بيضاء بجانبكِ وأنتِ واقفة ترسمين بحماس لوحة لذلك المنظر الذي تملأ سطحه فيه أعشاب السُهوب اليابانية. ثم في الغروب، عندما تنهين عملك، تأتي بجانبي فيضع كل منا يده على كتف الآخر ونظل لفترة من الوقت نتطلع إلى الأفق البعيد الذي تغطيه كتل من الغيوم العالية التي اصطبغت حوافها فقط بلونٍ أرجواني. كما لو أن ذلك الأفق الذي أوشك أخيرا على الغروب، سيلدُ شيئا ما ...

في ظهيرة أحد تلك الأيام (يوم اقترب فيه الخريف بالفعل)، تركنا اللوحة الباقية التي لم تنتهِ من المرة الماضية كما هي معلقة فوق حامل اللوحات، ونمنا تحت ظل شجرة القضبان البيضاء نأكل بعض الفاكهة. كانت تجوب السماء غيوم تشبه الرمال الناعمة. وقتها عَلَت فجأة رياحٌ من حيث لا ندري. وبسببها كان لون السماء الأزرق البادي من بين أوراق الشجر فوق رأسينا يتمدد تارة وينكمش تارة أخرى. ثم تقريبا في نفس الوقت، سمعنا صوت شيء يسقط أمامنا من وسط العشب. ويبدو أن ذلك كان صوت اللوحة وحاملها اللتين تركناهما هناك. أمسكتُ بك عنوة عندما حاولتِ النهوض على الفور، مخافة أن أفقد هذه اللحظات، فلبثتِ بجواري دون أن تبعدي عني. تاركة لي حرية فعل ما أحب.

"عَلتْ الرّياحُ ... لنحاول أن نحيا"

كررتُ بيت الشعر هذا الذي طرق شفتيّ وخرج منهما فجأة وأنا أضعُ يدي على كتفك المستند عليَّ. ثم بعد ذلك نظرتِ أخيرا ناحيتي ووقفتِ. التصقت الأعشاب على كامل سطح قماش اللوحة الذي لم يكن قد جف تماما. بعد أن أصلحتِ من وضع القائم واللوحة قلتِ وأنتِ تُزيلين تلك الأعشاب التي تبدو صعبة الإزالة بسكين الرسم:
"آه، ... لو رآنا أبي على هذا الحال"
ثم نظرتِ ناحيتي وابتسمتِ ابتسامة غامضة.

"بعد يومين أو ثلاثة أيام سيأتي أبي"
قلتِ ذلك فجأة في صباح أحد الأيام، عندما كنا هائمون داخل الغابة. سكتتُ أنا بنوع من التبرم. وعندها نظرتِ ناحيتي وأنتِ تقولين بصوتٍ به قليلٌ من البحّة:
"وإن حدث ذلك فلن نستطيع بعدها القيام بمثل هذه النُزهات"
"نستطيع القيام بأية نزهة، إذا كانت لدينا الرغبة في فعل ذلك"
كنتُ ما زلتُ أُبدي التبرم، وأنا أشعر أن نظراتكِ التي تحاول مراعاة شعوري، تملأني، ولكنني كنت بلا داعي مأخوذا بصخب أفرع الأشجار التي فوقنا أكثر مما يجب.
"إن أبي لا يتركني بسهولة"
رددتُ لك النظر بعيون تبدو وكأنها قد نفذ صبرها أخيرا وقلتُ:
"أتقولين إن ذلك فراقُ بيننا؟"
"ألا ترى أنني ليس بيدي حيلة؟"
قلتِ ذلك وأنتِ تحاولين بكل جهدك إظهار الابتسام لي دليلا على استسلامك التام. آه يا للون وجهكِ وقتها، ويا للون شفتيكِ كذلك اللتين كانوا في غاية الشحوب!
"تُرى ما الذي جعلكِ تتغيرين هكذا؟ رغم أنه بدا أنك تعتمدين عليَّ تماما في كل أمر ..." قلتُ ذلك وأنا أُظهر أنني فكرتُ عميقا في الأمر، وأنا أترككِ تسبقينني قليلا مُظهرا بكل جهدي صعوبة السير في الطريق الجبلية الضيقة التي بدأت تظهر فيها بتسارع الجذور العارية متدحرجة. في ذلك المكان كانت الأشجار تبدو كثيفة، والجو باردا للغاية. وتجري بعض الجداول المائية هنا وهناك. وفجأة التمعت الفكرة التالية داخل رأسي. مثلما أطعتِ أنتِ بهذا الشكل شخصا مثلي قابلتيه صدفة في هذا الصيف لا بل أكثر من ذلك بكثير، أليس أنتِ مستسلمة بتلقائية تامة لأبيك، وكل سلطة مرتبطة به مضافة إليه وتتحكم فيكِ بلا توقف. ... {سِتْسُكو! إذا كنتِ بهذه الصفة فمن المؤكد أنني سأحبكِ أكثر وأكثر. إذا اتضحت لي معالم معيشتي بشكل حاسم أكثر من ذلك، فسأذهب لآخذك أي كان الأمر، وحتى يحدث ذلك فلا بأس أن تظلي كما أنت الآن في كنف أبيكِ} مسكتُ يدكِ فجأة كما لو أنني أطلب منك موافقة على ذلك وأنا أقول هذا الكلام لنفسي فقط. وتركتِ أنت تلك اليد لي كما هي، وهكذا توقفنا أمام أحد الجداول ونحن عاقدين يدينا كما هما، واصلنا الصمت، نتأمل بمشاعر مؤلمة نوعا، أشعة الشمس التي تتخطى الأشجار القصيرة التي لا حصر لأفرعها المتداخلة ثم تغطس من بين فراغاتها لتسقط على شكل نقاط دائرية، نتأمل تلك الأشعة المتسربة من بين فراغات الأشجار التي تصل إلى هناك وهي تتحرك مهتزة على أثر نسائم رياح تكاد تكون منعدمة تقريبا عندما تصل إلى هناك في أعماق قاع الجدول الصغير الذي يجري بعمق تحت أقدامنا، وإلى أن يصل فوق نبات السرخس النابت تحته.

في مساء أحد الأيام بعد يومين أو ثلاثة أيام، وجدتك في المطعم، أنت وأبيك الذي جاء لاستقبالك. كنتِ توليني ظهرك بشكل يبدو جافا. كانت حركاتكِ وهيئتك التي تأخذينها على الأغلب دون وعي منك أثناء وجودك بجوار والدك، تجعلني أحس بأنك فتاة صغيرة لم يسبق لي أن رأيتها من قبل على الإطلاق.
همستُ لنفسي قائلا: {حتى إن ناديتُ عليها باسمها ... فإنها من المؤكد أنها لا تلتفت إليّ وستواصل حديثها بشكل طبيعي. تماما كما لو أنها ليست الشخص الذي ناديته ...}
في تلك الليلة، بعد عودتي من النزهة المملة التي خرجتُ إليها، بقيت لبعض الوقت أتسكع داخل حديقة الفندق التي لا يوجد بها أثر لبشر. يفوح عطر زهور الزنبق الذهبية. كنتُ أحملق شاردا في نوافذ غرف الفندق الاثنتين أو الثلاث التي تتسرب منها الإضاءة. بدا أن الضباب على وشك الانتشار قليلا. فانطفأت أنوار الغرف واحدة بعد أخرى وكأنها تخاف من حدوث ذلك. ثم أخيرا غرق الفندق بأكمله في ظلام حالك، ولكن سمعتُ صوت صرير وفُتحتْ إحدى النوافذ ببطء. ثم استندتْ على حافة النافذة طويلا فتاة صغيرة ترتدي ما يبدو عليه منامة لونها وردي. كانت تلك هي أنتِ ...

أستطيع حتى الآن أن أستعيد بوضوح ذكرى شعور ذلك الحزن الذي يشبه السعادة والذي ظل قلبي منقبضا به يوما بعد يوم بعد رحيلكما.
كنتُ قد أغلقت عليَّ باب غرفتي في الفندق طوال اليوم لا أغادرها. ثم انشغلتُ لوقت طويل في إنجاز عملي الذي أهملته تماما من أجلك. استطعتُ أن اندمج في العمل تماما في هدوء لدرجة لم أستطع أنا نفسي تخيلها. وأثناء ذلك كان كل شيء قد تغير إلى فصل آخر. وأخيرا عندما جاءت الليلة التي تسبق مغادرتي، خرجتُ من الفندق في نزهة بعد غياب طويل.
كانت فوضى عارمة وكأن الخريف قد ضل طريقه داخل الغابة. ظهرت للأمام بلكونات ڤيلات المنتجعات الخالية تماما من البشر من بين الأشجار التي تناقصت أوراقها بدرجة كبيرة. واختلطت رائحة رطبة لفطريات متنوعة مع رائحة الأوراق الساقطة. أحسستُ بشيء من الغرابة لتغير الفصول بهذه الدرجة غير المتوقعة، ولمرور الوقت لهذه الدرجة بعد فراقنا بدون أشعر به. كان ثمة شيء داخل قلبي، يشبه اليقين من أن ابتعادي عنك هو مجرد أمر طارئ ومؤقت، تُرى هل من أجل ذلك أصبح حتى تغير الزمن هكذا يحمل لي معانٍ مختلفة تماما عما كانت عليه للآن؟ ... بدأتُ أفكر شاردا في ذلك الأمر حتى تأكدتُ منه بوضوح بعد ذلك مباشرة.
ثم بعد عشر وبضع دقائق من ذلك، وبعد أن انتهيتُ من التنزه في إحدى الغابات، انفتح المنظر أمامي فجأة، واستطعت النظر إلى المكان بأكمله حتى خط الأفق البعيد، ودخلتُ بقدميّ وسط غابة حشائش السُهوب النابتة في المراعي البرية. ثم رقدت بجسمي تحت ظل شجرة قضبان أبيض بدأت أوراقها بالفعل في التلون باللون الأصفر كانت بجانبي. كان ذلك المكان هو نفسه الذي كنتُ أرقد عليه في أيام الصيف تلك، أتأملك وأنتِ ترسمين. في ذلك الوقت كانت غيوم متراكمة دائما ما تحجب أغلب منطقة خط الأفق، ولكن الآن تظهر بوضوح حواف سلسلة الجبال البعيدة التي لا أعرف موقعها وهي تفرق قمة حشائش السُهوب التي تهز أطراف سنابلها شديدة البياض.
وأثناء ما كنت أحدّق في سلسلة الجبال البعيدة تلك، مركزا كل قوتي في عينيّ لدرجة أنني كدتُ أحفظها جميعا، تدريجيا بدأتْ الطبيعة تجعل اليقين المؤكد الذي اكتشفته مؤخرا، ذلك اليقين الذي كان مختفيا داخل وعيي حتى الآن، اليقين الذي وصل إلى القمة يطفو واضحا على سطح وعيي. ...





الربيع

جاء شهر مارس. وفي ظهيرة أحد الأيام، زرتُ منزل سِتْسُكو متظاهرا أني مررت عليهم صدفة استغلالا لخروجي في نزهتي الدائمة التي بلا هدف. وقتها رأيت والدها عند منطقة الأشجار التي على جانب من الحديقة بعد البوابة مباشرة يرتدي قبعة من قش كبيرة التي يرتديها العمال في العادة ويمسك مقصا في إحدى يديه، ويقوم بتقليم وتنسيق أفرع الشجرة. وعندما رأيته بحالته تلك، أزحتُ أغصان الشجر مثل طفل صغير واقتربتُ منه، وبعد أن حييته بكلمة أو كلمتين، أخذتُ أتأمل ما يفعله وكأنني أرى شيئا نادرا. ... وبهذا الشكل بإدخال جسدي في وسط مرج الزرع، كان شيء ما أبيض يطلق شعاعا من وقت لآخر أعلى أفرع الأشجار هنا وهناك. كان جميع ذلك على ما يبدو براعم الزهور ...
فجأة نظر الأب إلى أعلى ناحيتي وتحدث عن سِتْسُكو التي كنت قد خطبتها وقتها لتوي قائلا: "على ما يبدو أن صحتها تحسّنت صحتها كثيرا مؤخرا. إن أصبحت أكثر مرحا من الآن أفكر في أن أنقلها لمكان آخر، ما رأيك؟"
قلتُ مغمغما: "ربما يكون ذلك أفضل ..." وأنا ما زلت مهتما بأحد البراعم التي تتلألأ منذ قليل أمام عيني.
استمر الأب في الحديث دون أن يأبه بي قائلا: "أننا نبحث عن مكان مناسب من فترة. ويبدو أن سِتْسُكو تفضل مصحة <ف>. وسمعت أنك تعرف مدير تلك المصحة هل هذا صحيح؟"
"أجل" قلتُ ذلك وأنا شاردا وأخيرا جذبتُ بيدي الفرع الذي يحمل البرعم الأبيض التي اكتشفته منذ قليل.
"ولكن تُرى هل تستطيع سِتْسُكو الذهاب إلى هناك بمفردها؟"
"يبدو أن الجميع يذهبون إلى هناك بمفردهم"
"ولكنها لا تستطيع الذهاب لوحدها، أليس كذلك؟"
قال الأب ذلك بملامح وجه متأزم ولكنه لم ينظر نحوي بوجهه، بل قص بالمقص فجأة أحد أغصان الشجرة الذي كان أمام عينه. وعندما رأيت ذلك فقدتُ في النهاية قدرتي على التحمّل ودون وعي مني أجريتُ فمي الكلمات التي لا يبدو أن الأب ينتظر غيرها.
"إذا كان الأمر كذلك هل لي أن أذهب معها؟ حيث أنني سأستطيع إنهاء العمل الذي أقوم به حاليا، حتى ذلك الوقت..."
وأنا أقول ذلك أخيرا تركتُ من يدي مرة أخرى فرع الشجر الملتصق به البرعم الذي كنت قد أمسكته بيدي لتوي. وفي نفس الوقت رأيت وجه الأب يصير مشرقا فجأة. "لو فعلتَ ذلك لنا سيكون أفضل الحلول. ... ولكن يجب أعتذر لك بشدة ..."
"لا مطلقا، بل ربما أمكنني العمل أفضل في وسط الجبل والهدوء"
بعد ذلك واصلنا الحديث معا عن تفاصيل المنطقة الجبلية التي تقع بها المصحة. ولكن تحول محتوى الحديث على حين غرة إلى نوع الأشجار التي يقوم بتقليمها الآن. وبدا أن نوعا من التعاطف الذي يشعر به أحدانا تجاه الآخر، هو الذي أشعل فتيل الحماس في ذلك الحوار الذي لا يتوقف. ...
وبعد فترة من الوقت سألتُه محاولا أن يكون سؤالا تلقائيا غير متعمد: "تُرى هل استيقظت سِتْسُكو من النوم؟"
قال الأب: "حسنا استيقظت. ... تفضل، لا مانع أن تدخل من هنا إلى هناك ..." ثم أشار باليد التي يمسك بها المقص إلى جهة باب الحديقة المؤدي لداخل البيت. تخطيت الزرع بصعوبة، ثم فتحتُ عنوة ذلك الباب لأن نبات اللبلاب كان مشتبكا به لدرجة جعلته صعب الفتح قليلا، ودلفتُ من الحديقة مقتربا من غرفة المريضة المنفصلة التي كانت تُستخدم حتى ذلك الوقت مرسما.
كانت سِتْسُكو على ما يبدو تعلم منذ وقت طويل بوصولي، ويبدو أنها لم تتوقع دخولي كما فعلت من باب الحديقة مباشرة بتلك الطريقة، كانت ترتدي المنامة وتضع لفاعا بلون فاتح فوق جسمها. ترقد على الأريكة وتعبث بقبعة نسائية ملصق بها أنشوطة رفيعة لم يسبق لي رؤيتها من قبل.
اقتربتُ أنا منها وأنا أنظر إلى هيئتها تلك من خلال الباب الفرنسي. ويبدو أنها عرفت أخيرا بدخولي. وبدون وعي حاولتْ أن تنهض من النوم. ولكنها ظلت كما هي راقدة على جنبها وأظهرت لي ابتسامة بها قليل من الحيرة ووجهها كما هو يتجه إليّ.
قلتُ لها وأنا أخلع حذائي عند باب الحديقة بشكل فوضوي: "أكنتِ مستيقظة؟"
"لقد حاولت النهوض قليلا ولكنني تعبتُ سريعا"
وهي تقول ذلك ألقت بالقبعة التي كانت تلهو بها بعشوائية فوق منضدة المرآة التي بجوارها مباشرة بحركة يد ضعيفة توضح إلى أي مدى هي في غاية الإرهاق. ولكن لم تصل القبعة إلى ذلك المكان ووقعت فوق الأرض. اقتربتُ من تلك القبعة وانحنيت حتى كاد وجهي أن يلتصق بقدمها تقريبا والتقطتُ القبعة وهذه المرة أخذتُ ألهو بها بيدي كما كانت تفعل هي منذ قليل.
وبعد ذلك سألتُها أخيرا:
"لماذا أخرجتِ فجأة هذه القبعة وماذا كنتِ تفعلين بها؟"
"هذه القبعة! أتعلم! إن والدي اشتراها لي بالأمس رغم أنني لا أعلم متى يمكن أن أرتديها. ... ألا ترى أنه والد غريب الأطوار؟"
"هل هذه من اختيار الوالد؟ إنه حقا والد رائع. ... أريها لي! هل يمكن أن ترتديها لبرهة؟" وحاولتُ مازحا أن أضع القبعة على رأسها.
قالت: "لا! لا أريد ..."
ولكي تتفادى القبعة نهضت منزعجة بنصف جسدها الأعلى. أظهرت ابتسامة تنم على الضعف وهي تقول تلك الحجة، ثم بدأت في إصلاح شعرها الذي تشعّث وكأنها تذكرت فجأة، بيدها التي تبرز نحافتها الشديدة واضحة، ومع ذلك كانت حركة يدها تلقائية تدل على أنها فتاة صغيرة. ولقد جعلتني حركة اليد التي تبدو تلقائيا حركة يد فتاة ومع ذلك بلا أي تكلّف، أشعرُ بجاذبية شاعرية لدرجة أن تهتاج أنفاسي وكأنها بدأت في مداعبتي بتلك الحركة. وهكذا لم أستطع وقتها إلا أن أبعد نظري عنها بلا وعي ...
وأخيرا عندما وضعتُ بهدوء القبعة التي كنتُ ألهو بها بيدي حتى ذلك الوقت، فوق منضدة المرآة التي توجد على الجنب، صمتُ فجأة وكأنني بدأت أفكر في أمر ما، وكذلك ظللتُ أتلافى النظر إليها وهي على ذلك الحال.
سألتني فجأة: "هل غضبتَ؟"
وهي تنظر إلى أعلى تجاه وجهي ويبدو عليها مراعاة مشاعري.
قلتُ وأنا أنظر ناحيتها أخيرا: "لا ليس الأمر كذلك" وبعد ذلك بدون استكمال الحديث أو أي شيء آخر، قلت فجأة ما يلي: "هل حقا تنوين الذهاب إلى المصحة؟ لقد قال والدك ذلك لي منذ قليل"
"أجل. فمهما بقيت على حالتي تلك لن أعرف متى يأتي الشفاء. أنا مستعدة للذهاب إلى أي مكان إن كانت صحتي ستتحسن سريعا. ولكن ..."
"ماذا حدث؟ ماذا كنتِ تنوين قوله؟"
"لا شيء. لا عليك"
"حتى لو كان لا شيء جربي أن تقوليه لي. ... لن تقولي مهما حدث، أليس كذلك؟ حسنا هل أقوله أنا لكِ؟ أنت كنت تريدين القول تعال معي، أليس كذلك؟"
"لا ليس كذلك" ثم قامت فجأة بمحاولة مقاطعة كلامي.
ولكني لم أبالِ بذلك وبنبرة تختلف عن البداية، وأكملت قولي بشكل يبدو قلقا نوعا ما وبدأت تدريجيا أصير أكثر جدية.
"... لا، حتى لو قلتِ لي لا تذهب فأنا مع ذلك سأذهب معكِ. ولكن لقد شعرت قليلا بذلك، وقلقت من ذلك. ... قبل أن نكون هكذا معا، كنتُ أحلم بالذهاب والعيش مع فتاة لطيفة وظريفة نحن الاثنان بمفردنا في جبل موحش ومهجور نوعا ما. تُرى ألم يسبق لي أن قلتُ لك هذا الحلم من قبل؟ هل تتذكرين حديثنا في ذلك الكوخ الجبلي، عندما قلت ألا يمكن أن نعيش معا وسط هذا الجبل؟ ألا تتذكرين؟ وقتها ضحكتِ في براءة طفولية. ... في الواقع سبب قولي إنني سأذهب معكِ إلى المصحة، أنني أعتقد أن ذلك سيجعل قلبك يتأثر تدريجيا بلا وعي ولا معرفة. ... أليس الأمر كذلك؟"
كانت تسمع إلى ذلك صامتة وهي تبذل جهدا في البقاء مبتسمة، وقالت بحزم:
"أنا لا أتذكر أي شيء من ذلك"
ثم بعد ذلك كانت على العكس تنظر هي لي بنظرات مشفقة وهي تقول:
"أنت مؤخرا تفكر في أمور مستحيلة تماما ..."
وبعد مرور دقائق، رجعت ملامحنا وكأنه لم تكن بيننا أي شيء، وظهر سديم الحرارة هنا وهناك بعد أن صارت الحشائش بالفعل خضراء للغاية خلف الباب ذي المصراعين، فأخذنا نتأملها معا بتعجب.

⁂

Posted by ميسرة عفيفي at 8:01 م ليست هناك تعليقات:
إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركة‏المشاركة على X‏المشاركة في Facebook‏المشاركة على Pinterest
رسائل أحدث رسائل أقدم الصفحة الرئيسية
الاشتراك في: الرسائل (Atom)

من أنا

ميسرة عفيفي
عرض الملف الشخصي الكامل الخاص بي

أرشيف المدونة

  • ▼  2023 (13)
    • ▼  أبريل (1)
      • الخوف على الوطن تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة ع...
    • ◄  فبراير (1)
    • ◄  يناير (11)
  • ◄  2022 (2)
    • ◄  نوفمبر (1)
    • ◄  أغسطس (1)
  • ◄  2021 (7)
    • ◄  سبتمبر (1)
    • ◄  يوليو (1)
    • ◄  يونيو (1)
    • ◄  أبريل (1)
    • ◄  مارس (1)
    • ◄  فبراير (2)
  • ◄  2020 (28)
    • ◄  أبريل (11)
    • ◄  مارس (17)
  • ◄  2019 (6)
    • ◄  ديسمبر (1)
    • ◄  أغسطس (1)
    • ◄  يوليو (1)
    • ◄  فبراير (2)
    • ◄  يناير (1)
  • ◄  2018 (13)
    • ◄  ديسمبر (2)
    • ◄  نوفمبر (1)
    • ◄  أكتوبر (1)
    • ◄  سبتمبر (2)
    • ◄  أغسطس (1)
    • ◄  يوليو (2)
    • ◄  يونيو (1)
    • ◄  أبريل (2)
    • ◄  مارس (1)
  • ◄  2017 (4)
    • ◄  نوفمبر (1)
    • ◄  سبتمبر (1)
    • ◄  أغسطس (1)
    • ◄  مارس (1)
  • ◄  2016 (5)
    • ◄  نوفمبر (3)
    • ◄  أكتوبر (1)
    • ◄  أبريل (1)
  • ◄  2015 (11)
    • ◄  يونيو (4)
    • ◄  مايو (1)
    • ◄  أبريل (1)
    • ◄  مارس (5)
  • ◄  2014 (10)
    • ◄  ديسمبر (3)
    • ◄  نوفمبر (1)
    • ◄  أكتوبر (1)
    • ◄  سبتمبر (2)
    • ◄  يونيو (2)
    • ◄  مايو (1)
  • ◄  2013 (15)
    • ◄  يونيو (2)
    • ◄  مايو (13)
المظهر: بسيط. صور المظاهر بواسطة gaffera. يتم التشغيل بواسطة Blogger.