بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مارس 2020

فتى يكتبُ الشِعر تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي



فتى يكتبُ الشِعر
 تأليف: يوكيو ميشيما
ترجمة: ميسرة عفيفي

كان الفتى يستطيع بسهولة تامة كتابة الشعر، وينتقل في سلاسة من قصيدة لأخرى. وفي الحال ينتهي من كراس المدرسة الذي يبلغ حجمه ثلاثين صفحة والمطبوع عليه اسم مدرسة "غاكوشوين". ولقد شك الفتى في ذلك، لماذا يستطيع كتابة الشعر بهذه الطريقة لدرجة الانتهاء من قصيدتين أو ثلاث قصائد في اليوم الواحد؟ بل إنه عندما حُجز في المستشفى لمدة أسبوع كامل، ألف ديوانًا باسم "ديوان شعر أسبوع" وقام بعمل شكل بيضاوي مفرغ على غلاف الكراس ليظهر من تحته كلمة Poésies ثم كتب تحت ذلك باللغة الإنجليزية:
12th 18th MAY 1940.
عندما طافت شهرة شعره الجيد بين زملائه الأقدم منه في المدرسة، كان يقول في نفسه: "غير معقول! ... من المؤكد أن هذه الجلبة فقط بسبب أن الجميع ينظر إلى أنني في سن الخامسة عشر"
ولكن الفتي رغم ذلك كان متأكدًا تمامًا من أنه عبقري. ولذلك فهو يرد على زملائه الأقدم منه بحديث الند للند. ويرى أنه من الأفضل تجنب قول "أنا أظن أن الأمر هو كذا"، وأنه عليه أن ينتبه لكلامه في كل المواضيع ليأخذ صيغة "إن الأمر هو كذا"
كان الفتى مصابا بفقر الدم بسبب كثرة الاستمناء. ولكنه لم يكن يهتم بعد بقبح وجهه. فالشعر شيء مختلف تمامًا عن تلك المشاعر الفسيولوجية البغيضة. الشعر يختلف تمامًا عن كل شيء. كان الفتى يكذب كذبًا غير ملحوظٍ يناسب الموقف. من خلال الشعر تعلم الفتى طريقة الكذب غير الملحوظ بما يناسب الموقف. المطلوب فقط أن تكون الكلمات جميلة. وبهذا الطريقة كان يوميا يقرأ المعاجم بجد واجتهاد.
كان الفتى عندما يبلغ النشوة، يظهر أمام عينه دائما عالمًا مجازيًّا.
"ديدان اليسروع حولت أوراق الكرز إلى سباق"
"الحصى التي رُميت تخطت أشجار البلوط وذهبت لرؤية البحر"
"في يوم ذي سحب، قامت الرافعة العملاقة بنزع صفحة البحر ذات التجاعيد الكثيرة ولفّتها في الهواء لتبحث تحتها عن جثث الغرقى"
"ثمرة الخوخ القريبة من الخنفساء تضع في الواقع مكياجا خفيفا"
"يلتصق الهواء الغاضب المضطرب حول الهارعين جريا بكل طاقتهم، وكأنه مثل النيران فوق ظهور التماثيل"
"الغروب هو نذير شؤم، ولونه مثل لون صبغة اليود المركزة"
"أشجار الشتاء ألقت أرجلها الصناعية تجاه السماء. ثم بعد ذلك بدا جسد الفتاة العاري بجوار المدفأة وكأنه ورد مشتعل، ولكن عندما تقترب من النافذة تكتشف أنه ورد صناعي، وأن البشرة التي بها قشعريرة بسبب البرد، قد تحولت إلى قطعة من زهرة مخملية منفوشة"
كان الفتى يصل إلى ذروة السعادة عندما يتحول العالم بهذه الكيفية في الواقع. ولم يكن الفتى يندهش من حدوث حالة السعادة القصوى تلك بشكل مؤكد عندما يتولد داخله الشعر. كان يعلم في عقله أن الشعر يتولد من داخل الحزن واللعنة واليأس، يتولد الشعر من وسط الوحدة القاسية، ولكن من أجل ذلك كانت توجد ضرورة أن يحمل هو نفسه اهتماما أكثر تجاه ذاته، وأن يعطيها قضية ما. ورغم إيمانه الذي لا يتزعزع أنه عبقري، فإنه من المدهش أن الفتى لم يكن يحمل اهتمامًا تجاه ذاته. فلقد جذبه تمامًا سحر العالم الخارجي. أو الأصح عِوضًا عن ذلك هو القول إنه لحظة وصوله لذروة السعادة القصوى، كان العالم الخارجي بلا سبب واضح يتخذ بسهولة الشكل المفضل لديه.
لم يكن الفتى يعرف جيدًا هل الشعر يظهر من أجل إثبات سعادة الفتى بين حين وآخر، أم أن الفتى يكون في سعادة بسبب ميلاد الشعر. ولكن تلك السعادة كانت تختلف بشكل واضح عن سعادته عندما يحصل على شيء كان يريده وظل يطالب بشرائه لفترة طويلة، أو عندما يخرج مع والديه في رحلة ما، غالبًا هي ليست السعادة الموجودة عند أي شخص آخر، ولكن المؤكد أنها سعادة لا يعرفها بحق إلا هو فقط.
في كل الأحوال لم يكن الفتى يحب الاستمرار في تأمل أمرٍ ما فترة طويلة، سواء أكان ذلك نفسه أو العالم الخارجي. يلفت الشيء انتباهه، فيبدأ في التحول السريع إلى شكل ما مغاير ومختلف في الحال، على سبيل المثال، إذا تلألأت أوراق الغابة الخضراء، ولم يتحول الجزء المشع منها في وسط الظهر من أحد أيام شهر مايو، وكأنها زهور كرز ليلية، فهو على الفور يسأم منها ويتوقف عن مشاهدتها. وكان يواجه الصور الحادة، التي من المؤكد أنها لن تتغير ولو قليلًا، بابتسامة باردة قائلا: {تلك لا تصلح لأن تكون شعرا}.
في يوم اختبار المدرسة، جاءت الأسئلة كما توقعها تمامًا، فكتب الإجابات بسرعة، ثم سلم ورق الإجابة إلى المدرس دون أن يراجعها بشكل دقيق، واستطاع أن يخرج من الفصل قبل أي زميل آخر من نفس صفه. وأثناء عبور فناء المدرسة الذي لم يكن يوجد به ظلٌّ لإنسان في فترة الصباح، نظر إلى قمة سارية العلم التي تنتهي بكرة ذهبية صغيرة تلمع متألقة. وعندها غمرته سعادة بالغة لا يمكن وصفها. اليوم ليس عيدًا قوميًّا ولذا فالعلم لم يكن مرفوعًا، ولكنه كان يعتقد أن اليوم عيدٌ داخل قلبه، وأن أشعة الكرة الذهبية اللون تحتفل به وتهنّيه. ينخلع قلب الفتى بسهولة عن جسده ويبدأ التفكير في الشعر. يا لها من نشوة تنتابه في تلك اللحظة. يا لها من وحدة مكتملة. يا لها من خفة لا متناهية. يا لها من سُكْرةٍ صافية تصل إلى كل الأركان. يا له من تقارب وتوافق كامل بين داخل النفس وخارجها. ...
كان الفتى عندما لا تأتيه هذه اللحظة بشكل طبيعي، يستخدم شيئًا ما من الأشياء حوله، ويحاول عنوة ولو بشكل مصطنع أن يستدعي حالة سُكْرةٍ مشابهة. يقوم مثلًا بالنظر إلى ما داخل الغرفة باستخدام غلاف علبة السجائر الشفاف الذي يأخذ تصميم ظهر سلحفاة مخططة. أو أن يقوم برج زجاجة المسحوق الأبيض السائل الخاصة بأمه بعنف، حتى يقوم المسحوق أخيرًا بالرقص متثاقلا معربدًا، وفي النهاية يظل يتأمل ذلك المسحوق وهو يترك السائل الرائق يتكون في أعلى الزجاجة، ثم يترسب هو تدريجيًّا في قاعها.
كان الفتى كذلك يستخدم كلمات مثل "الصلاة" و"اللعنة" و"الاحتقار" بدون أي تأثر أو عاطفة.
انضم الفتى إلى نادي الأدب في مدرسته. وقد أعاره عضو اللجنة المفتاح، فكان الفتى يذهب إلى غرفة النادي وقتما يشاء، وكان بذلك يستطيع الاستغراق في قراءة الكتب والمعاجم التي يحبها. كان الفتى يحب صفحة الشعراء الرومانسيين في موسوعة الآداب العالمية. فجميع الشعراء كانت صورهم في تلك الصفحة بدون لحى شعثاء، وكانوا جميعا شبابًا ذوي جمال أخَّاذ.
وكان الفتى يهتم كثيرًا بقصر حياة الشعراء. يجب على الشاعر الحق أن يموت مبكرا. ولكن حتى لو قلنا موتًا مبكرًا، فبالنسبة للفتى ذي الخامسة عشر ربيعا، كان الأمر لا زال بعيدًا جدًا، وبسبب ذلك الآمان الناتج من الأرقام، ظل الفتي يفكر في الموت المبكر بمشاعر سعيدة.
كان الفتى يحب قصيدة أوسكار وايلد القصيرة التي تُسمّى "قبر كيتس".
"يرقد هنا أصغر الشهداء، الذي أُخذ من هذه الحياة عندما كان في ريعان الشباب حيث الحب والحياة" ...
يرقد هنا أصغر الشهداء. كانت هناك دهشة كبري من هجوم الكوارث والتعاسة الواقعية على الشاعر وكأنهما منحة إلهية. لقد كان الفتى يؤمن بالتوافق القدري. التوافق القدري لسير حياة الشعراء. بالنسبة للفتى كان الإيمان بالتوافق القدري والإيمان بعبقريته نفس الشيء.
وكان ممتعًا له أن يفكر في محتوى نعي طويل يكتبه لنفسه، أو في مجده بعد الموت، ولكن عندما يصل تفكير إلى جثته بعد الموت، تجعله تلك الأفكار في النهاية يمتعض قليلا. كان يحدث نفسه بقوة وحماس قائلا لها: {يجب عليّ أن أحيا كالألعاب النارية. أبذل كل جهدي في تلوين سماء الليل في لحظة، ثم أختفي في الحال}
كان يفكر في أشياء متعددة ولكنه لم يستطع تخيل طريقة للحياة غير ذلك. ولكن الفتى كان يكره الانتحار. لذا فالتوافق القدري سيسدي له معروفا ويقتله في الوقت المناسب بشكل ملائم.
لقد بدأ الشعر يجعل الفتى يميل تجاه الكسل النفسي. لو كان أكثر اجتهادًا من الناحية النفسية، لربما كان قد فكر في الانتحار بقلب متحمس.
في طابور الصباح، دعاه مشرف الطلبة للقائه. قال له: "تعال إلى مكتب المشرف" ومعنى دعوته إلى ذلك المكتب أنه سيلاقي تعنيفا ومُساءلة أثقل من الدعوة إلى مكتب المدرسين. زملائه قاموا بإخافته قائلين: "أكيد أنت تعلم ماذا فعلت" شحب وجه الفتى وارتعشت يداه بشدة.
كان مشرف الطلبة ينتظره وهو جالس ممسكا بملقاط الفحم الحديدي يكتب به حروفا ما على رماد المدفأة التي بلا نيران. وعندما دخل الفتى قال له المشرف بصوت حنون: "اجلس" ولم يعنّفه مطلقًا. بل قال له إنه قرأ شعره الذي نُشر في مجلة لجنة أصدقاء المدرسة. ثم بعد ذلك سأله عدة أسئلة عن الشعر وعن أسرته. وفي النهاية قال له:
-      "يوجد نوعان من الشعراء، شيللر وغوته. هل تعرف شيللر؟"
-      "هل تعني فريدريش شيللر؟"
-      "نعم هو. لا يجب عليك أن تكون مثل شيللر. بل يجب عليك أن تكون مثل غوته"
كان الفتى متجهم الوجه أثناء عودته إلى فصله بعد أن خرج من مكتب المشرف بسبب عدم رضاه وكان يجر رجليه جرًا. فهو لم يكن قد قرأ من قبل أيًّا من أعمال شيللر أو غوته. ولكنه يعلم صورتيهما فقط. ...
{أنا أكره غوته. نعم أكرهه، فهو عجوز طاعن في السن. أنا أحب شيللر أكثر}.

كان (ر) رئيس نادي الأدب الذي يكبر بالفتى بخمسة أعوام كاملة، يعتني به. وكان الفتى يحب (ر) كذلك. والسبب أن (ر) كان يعتقد في نفسه بوضوح أنه عبقري ليس له مثيل، وهو قد اعترف بعبقرية الفتى بدون النظر إلى فارق السن بينهما، ولأنه من الضروري أن يصبح العباقرة أصدقاء لبعضهم البعض.
كان (ر) هو الابن الأكبر لعائلة من النبلاء. ولذلك فقد تقمص دور الشاعر الفرنسي أوغست دوليل آدم، ويفخر بنسب عائلته العريق، ويكتب أعمالًا يبث بها مشاعر رثاء جمالية تجاه تقاليد النبلاء القدماء وفنونهم وآدابهم. كذلك قام (ر) بتجميع أشعاره وكتاباته القصيرة في كتاب ونشره على حسابه الخاص، وهو ما جعل الفتى يشعر بالغيرة تجاهه.
كان الاثنان يتبادلان يوميًّا رسائل طويلة. وكانت عادة كتابة الرسائل اليومية ممتعة بالنسبة للفتى. تقريبا كل صباح كان يصل لعنوان الفتى رسالة من (ر) في مظروف غربي الطراز مشمشي اللون. مهما كان سُمك الرسالة كان يمكن معرفة وزنها، ولكن خفة تلك الرسائل المنتفخة كانت تسعد الفتى وتعطيه شعورًا بأنها مملؤة عن آخرها بالرشاقة، وفي نهاية رسالة كل منهما كانت تختم بما ألّفه كلاهما من شعر في ذلك اليوم أو آخر وأحدث أشعارهما، وكانا يكتبان أشعارهما القديمة إذا لم تكن هناك أشعار جديدة.
أما محتوى الرسائل فهو بلا هدف محدد. يبدأ مرسل الرسالة بالنقد والتعليق على شعر الطرف الثاني في آخر رسالة له، ثم ينتقل من ذلك إلى أحاديث لا نهاية لها، فيكتب عن آخر ما سمعه من موسيقى، والأحاديث العائلية اليومية، وانطباعه عن فتاة جميلة شاهدها، وتعريف بما قرأه من كتب، والتجارب الشعرية في تلقى الوحي لعالم شعري كامل من خلال كلمة واحدة، وحكي مفصل عن الحلم الذي حلم به الليلة السابقة ... إلخ. مثل هذه الرسائل لم يمل كتابتها أبدا لا الشاب الذي بلغ العشرين عامًا ولا الفتى ذو الخمسة عشر ربيعًا.
ولكن الفتى قد لاحظ في رسائل (ر) ظلالًا ضئيلة من الاكتئاب والقلق، يعرف تمامًا أنها لا توجد في رسائله هو مطلقًا. الخوف تجاه الواقع، والقلق من ضرورة مواجهته في النهاية، أعطيا لرسائل (ر) نوعا من المعاناة والوحدة الموحشة. وكان الفتى السعيد يعتقد أن تلك الظلال ليس بينها وبينه أية علاقة وأنه لا يمكن أن يسقط فيها.
"هل يمكن يا ترى أن أستيقظ على شيء ما قبيح؟" لم يخطر هذا السؤال على بال الفتى قط ولم يتوقعه مطلقًا. على سبيل المثال من المستحيل أن يحدث له مثلما حدث مع غوته، حيث هجمت عليه الشيخوخة وتحمّلها لوقت طويل. كان الفتى لا زال على مسافة بعيدة من فترة ريعان الشباب التي يقال عنها إنها قبيحة وفي نفس الوقت جميلة. ونسي الفتى تماما ما كان قد اكتشفه داخل ذاته من قبح.
الأوهام التي تخلط الفن بالفنان، الأوهام التي تجعل فتيات المجتمع المتساهلات يتجهن بأعينهم إلى الفنان، تلك الأوهام قد أمسكت بالفتى ذاته. لم يكن لديه اهتمام بدراسة وجوده الذاتي وتحليله، ولكنه كان دائمًا ما يحلم بذاته تلك. كان هو ذاته ينتمي إلى عالم الخيال الوهمي، ذلك الذي تتحول فيه الفتاة العارية إلى زهور صناعية. الإنسان الذي يصنع الأشياء الجميلة من المستحيل أن يكون قبيحًا، هكذا كان الفتى يفكر بعناد، ولكن للأسف لم يصل عقله حتى النهاية إلى القضية الأكثر أهمية وراء ذلك. ألا وهي قضية هل هناك ضرورة أن الإنسان الجميل يصنع أشياءً أكثر جمالًا؟
"ضرورة؟" لو سمع الفتى هذه الكلمة لضحك بلا أدنى شك. والسبب أن شعره لا يولد تلبية لضرورة. فكل أشعاره، تولد بشكل طبيعي، حتى لو رفضها الفتى ذاته، يُحرك الشعرُ يد الفتى، ويجعله يكتب الحروف على الورق. إذا قلنا ضرورة فهذا يعني أنه لابد من وجود نقص ما. ولكن هذا النقص غير موجود. مهما أطال التفكير فالنقص غير موجود. فأولًا منبع أشعاره كلها يمكن تعويلها على الكلمة السهلة المفيدة التي تُسمى عبقرية، ومن جهة أخرى فهو غير قادر على الإيمان بوجود نقص ما عميق داخله لا يستطيع هو الوعي به، وحتى لو آمن بذلك، فهو بدلاً من التعبير عنه بكلمة نقص، كان الفتى يحب أن يسميه عبقرية.
ورغم ذلك، فلم تكن قدرة الفتى على النقد الذاتي لشعره منعدمة تمامًا. مثلا القصيدة ذات الأربع أسطر التي أغرقها زملاؤه الأقدمُ منه مدحًا، كان يرى هو أنها طائشة ويخجل منها. كانت القصيدة عبارة عن شعر يتكلم في مجمله عن قدرة عينيها الصافتين على اختزان الكثير من الحُب داخلها بسبب تلك الدرجة العالية من الشفافية والزرقة مثل قطعة من الزجاج.
يسعد الفتى بمديح الآخرين له بالطبع، ولكن كان غرور الفتى ينقذه من مصير الغرق في بحر المديح. وفي الحقيقة كان الفتى لا يحمل أي تأثر أو اهتمام حتى بمواهب صديقه (ر). كان (ر) بالتأكيد ذا موهبة بارزة متميزة بين أعضاء نادي الأدب الأقدم منه، ولكنها لم تكن تصنع ثقلًا في قلب الفتى بكلمات أو عبارات متفردة. كانت في قلب الفتى مناطق بالغة البرود. وإذا لم يقم (ر) بالإسهاب في مديح مواهب الفتى الشعرية باستخدام الكثير من الكلمات، لما كان الفتى على الأرجح ليعترف بموهبة (ر).
وبديلا عن تذوق السعادة الهادئة التي تأتيه من وقت لآخر، كان الفتى يعلم جيدا أنه تنقصه العاطفة الخام التي تلائم فتى في مثل سنه. في مباريات كرة المضرب التي تقام بين المدارس التابعة لجامعة "غاكوشوين" مرتين من كل عام في الربيع ثم الخريف، عندما ينهزم فريق مدرسة "غاكوشوين" الإعدادية أمام المدرسة الإعدادية التابعة، بعد نهاية المباراة يلتف المشجعون من الزملاء الأحدث حول اللاعبين الذين ينهارون في البكاء بشدة، ويبكون معهم. ولكن الفتى لم يكن يبكي، ولم يكن يشعر بأي حزن ولو قليلًا.
رَأْيُ الفتى هو {ما هو الأمر المحزن في خسارة مباراة لكرة المضرب؟} الوجوه التي تبكي لسبب كهذا كانت بعيدة جدا عن قلبه. بالتأكيد كان الفتى يعلم أنه مخلوق سهل التأثر والتعاطف، ولكن سهولة التأثر تلك كانت تتجه في اتجاه يختلف عن الآخرين جميعًا، ومن ناحية أخرى كان ما يُبْكي الآخرين لا يتردد صداه في قلب الفتى على الإطلاق.
زادت تدريجيا عناصر الحب فيما يكتبه الفتى من أشعار. ورغم أنه لم يسبق له خوض تجربة الحب؛ ولكنه كان قد سئم من تأليف الشعر معتمدًا فقط على تحوّل كائنات الطبيعة، فبدأت نفسه مع الوقت ترغب في كتابة الشعر عن تحوّلات القلب. ولم يكن الفتى يشعر بأي حرج في كتابة الشعر عن موضوع لم يسبق له خوض تجربته بنفسه. فلقد كان من البداية متأكدًا أن الأدب والفن هو كذلك. ولم يتباك على الإطلاق من عدم خبرته. فالحقيقة أنه لم يكن هناك أية بوادر للتصادم أو التوتر بين حقائق العالم الذي لم يخض تجربته بعد، وبين عالمه الداخلي الخاص به، ولم يكن في حاجة إلى ضرورة الإيمان بتفوق عالمه الخاص ولو بالقوة، ومن خلال تأكيدٍ ما غيرَ عقلانيّ، كان يستطيع حتى الاعتقاد أنه لا يوجد في هذا العالم أية عاطفة لم يسبق له تجربتها شخصيا. والسبب أنه كان يعتقد أنه بالنسبة لقلب حاد العاطفة مثل قلبه، يمكنه من خلال تجميع العناصر الأساسية لجوهر كافة المشاعر والعواطف في هذه الدنيا في الشكل المناسب، حتى لو كان ذلك من خلال توقعها في حالة معينة، فكل التجارب الأخرى من الممكن له التقاطها والتدرب عليها ثم إيجادها. ما هي العناصر الأساسية للمشاعر؟ كان الفتى قد وضع لها تعريفا خاصًا، "إنها الكلمات"
لم يكن الفتى قد تمكّن بعد من الإمساك بالكلمات أو اتخذ لنفسه طريقةَ استخدامٍ لها خاصة به وحده حقا. ولكن الكثير من الكلمات التي يكتشفها في المعاجم، كلما كانت كلمات شاملة، وكانت لها معانٍ متعددة ومحتوى متنوعٌ، ظن أنه يملك طريقة استخدام خاصة به وتحمل بصماته. ولكنه لم يكن يعتقد بالضرورة أن طريقة الاستخدام الخاصة به تلك، تحمل صفاتها وألوانها وتتكون لأول مرة من خلال الخبرة والتجربة المعيشية.
إن اللقاء الأول لعالمنا الخاص مع الكلمات، هو تلامس الشيء الفردي مع الشيء الشامل، وكذلك الشيء الشامل يتم صقله بالتالي يحصل على مكانه لأول مرة كشيء فردي. إن تلك التجارب الداخلية التي يصعب التعبير عنها تراكمت بشكل كافٍ حتى داخل الفتى ذي الخمسة عشر ربيعا. والسبب أن الفتى عندما يصطدم بكلمة ما جديدة ويشعر بغرابة تجاهها، في ذات الوقت كان ذلك يجعله يحس بتجربة عاطفة ما مجهولة داخله. وكان ذلك مفيدا له أيضا في الاحتفاظ بملامح هادئة لا تتناسب أبدا مع عمره. ولأنه كان قد تعوّد على التعامل عندما تهجم عليه عاطفة ما، من الدهشة التي تحدثها تلك العاطفة داخل قلبه، يتذكر على الفور إحدى العواطف المناسبة التي تم ذكرها سابقًا، ويتذكر الكلمة التي سببت تلك العاطفة، ومن خلال تلك الكلمة يعطي بسهولة تلك العاطفة التي أمامه اسمًا. ولهذا السبب كان الفتى يعرف أشياءً متنوعة مثل "اليأس" و"اللعنة" و"فرحة بلوغ الحب" و"حزن فقد الحب" و"الألم والمعاناة" و"الذل وجرح الكرامة"
كان من السهل أن يُسمي ذلك قوة الخيال. ولكن الفتى كان مترددًا إزاء تلك التسمية. فلو قلنا قوة الخيال، فيجب أن يتضمن ذلك تخيل آلام الآخرين، وحدوث انتقال عاطفي يجعله هو نفسه يتألم مثلهم. ولكن برود الفتى الطاغي لم يجعله يشعر مطلقًا بآلام الآخرين. كان فقط يهمس: "ذلك الألم رهيب. أنا أعرف ذلك جيدًا"
كان ذلك في وقت ما بعد الظهيرة في يوم صحو من شهر مايو. انتهى الدرس وفكر الفتى أن يذهب إلى غرفة نادي الأدب ليتناقش مع من يجده هناك قبل أن يعود إلى منزله، وخطا خطوات فعلًا في اتجاه الغرفة. عندها قابل (ر) في منتصف الطريق.
قال (ر):
-      "كنت أبحث عنك. دعنا نتبادل الحديث قبل أن نعود لمنازلنا"
دخل الاثنان مبنى المدرسة القديم الشبيه بالثكنات وفصوله مقسمة بحوائط من خشب الأبلكاش. توجد غرفة نادي الأدب في أحد أركان الطابق الأرضي المظلم. يُسمع من غرفة نادي الرياضة أصوات ضوضاء وضحكات عالية ونشيد المدرسة يُسمع من غرفة نادي الموسيقى صدى لصوت البيانو على فترات متباعدة.
أدخل (ر) المفتاح في ثقب الباب الخشبي المتسخ. ولكي يُفتح الباب كان يجب دفعه بقوة بالجسم بعد إدارة المفتاح.
كانت الغرفة خالية لا يوجد بها أحد. فاحت رائحة التراب المألوفة. دخل (ر) أولا وفتح النافذة ونفض الغبار الذي التصق بيده، ثم بعد ذلك جلس على مقعد قديم على وشك الانكسار.
بعد أن هدأ قليلًا بدأ الفتى التحدث على الفور.
-      "لقد رأيت ليلة أمس حلمًا ملونًا. لقد كنت أنوي أن أكتب لك رسالة بعد عودتي للمنزل اليوم. (كان الفتى يؤمن أن رؤية الأحلام الملونة ميزة خاصة ينفرد بها الشعراء فقط، وكانت تلك من مهاراته). ... كان مكانًا يشبه ربوة عالية أرضها حمراء. كانت شمس الغروب تشع بلون فاقع الاحمرار، ولكن رغم ذلك كان لون الأرض الأحمر بارزًا. ثم بعد ذلك ظهر من ناحية اليمين، شخص يجر سلسلة طويلة. ومقيد في نهاية السلسلة طاووس أكبر خمسة مرات تقريبا من حجم الإنسان، ويسير الطاووس مسحوبًا ببطء شديد طاويًا جناحيه أمام عينيه. كان لون الطاووس أخضرَ زاهيًا. كان في غاية الجمال، جسمه كله أخضر، واللون الأخضر يتألق لامعًا. ولقد ظللت أتأمل ذلك الطاووس إلى أن تم سحبه والابتعاد به. كان حلمًا مهولا. أحلامي ذات الألوان دائما ما تكون ألوانها زاهية وواضحة ربما بشكل زائد عن الحد. ماذا يعني يا تُرى ظهور الطاووس في الحلم طبقا لتفسير فرويد للأحلام؟"
-      "آه"
رد (ر) ردًا مبهمًا بلا مبالاة واضحة.
كان (ر) مختلفا عما هو عليه دائما. شحوب وجهه كان كما هو عليه دائمًا، ولكنه لم يُظهر الحالة التي يردُّ بها دائما على كلمات الفتى بحماس لا يتغير ويتحدث إليه بصوت تملؤه حرارة هادئة. كان من الواضح أنه يستمع إلى حديث الفتى الفردي بلا وعي ولا انتباه. لا بل هو لم يكن يستمع له أصلًا.
كان قشر الرأس ينتشر قليلًا حول الياقة الطويلة للزي المدرسي. أشعة الظلام جعلت شارة الياقة الذهبية التي على شكل زهرة الكرز تلمع، وبرزت الأنف عالية لتبدو أطول من أنوف الآخرين. تلك الأنف التي وإن كانت أكبر قليلًا عن اللازم إلا أنها ذات شكل جميل وراقٍ، كما أنها تبرز ملامحَ قلقةً محتارةً إلى حد كبير. وقد جاء للفتى إحساس أن المعاناة تتبلور في ذلك المكان.
يوجد فوق المكتب العديد من الأشياء التي علاها التراب، مثل مسودات قديمة، ومسطرة، وقلم رصاص قُصف سنه، ومجلد تجميع أعداد مجلة لجنة أصدقاء المدرسة، وورق كتابة مربعات به بعض الكلمات. كان الفتى يحب هذا الجو الأدبي الفوضوي. مد (ر) يده متثاقلا وتناول المسودات القديمة وكأنه يحاول ترتيب الفوضى. وعندها صُبغت أنامل يده الرقيقة البيضاء، بتراب ذي لون فيراني. ضحك الفتى بصوت خفيض. ولكن (ر) لم يضحك بل عبر عن استيائه بقرقعة من لسانه وقال وهو ينفض يده من التراب:
-      "في الواقع هناك ما أريد قوله لك اليوم"
-      "وما هو؟"
-      "في الواقع ... أنا ..."
بعد أن تباطأ (ر) في القول واصل في عجلة:
-      "أعاني بشدة. لقد قابلت موقفًا شديد الصعوبة"
-      "هل وقعت في الحب؟"
سأله الفتى ذلك السؤال بهدوء تام.
-      "نعم"
بعد ذلك تحدث (ر) عما يلاقيه في مسيرة حياته حاليًا. كان يتبادل الحب مع زوجة شابة، وقد فطن أبوه إلى ذلك الأمر، ففرّق بينهما.
فتح الفتى عينيه على وسعهما وظل يتأمل (ر) غير مصدق.
{يوجد أمامي هنا إنسان يعاني من الحب. إنني الآن ولأول مرة أرى ما يُسمى "الحب"}، ولكن على أي حال لم يكن ذلك المشهد جميلًا بالمرة. بل ربما يكون هو أقرب إلى القبح. كان (ر) قد فقد حيوية روحه المعتادة فيه، ومالت ملامحه إلى البؤس، بمعنى أنه كان متعكر المزاج. لقد سبق للفتى أن رأى مثل ذلك الوجه لأناس فقدوا أشياءَ لهم، أو تأخروا عن موعد القطار فرحل بدونهم.
ومع ذلك، فقد دغدغ غرور الفتى أن يبوح له زميله الأقدم سنًّا بقصة غرامه. وكان بالطبع سعيدا بذلك. وحاول الفتى بكل جهده أن يُظهر مشاعر التعاطف والحزن. ولكنه في الواقع كان يحس بالضيق والتذمر من الصورة المتواضعة للغاية للإنسان الواقع في الحب.
أخيرا لاحت للفتى كلمات يواسي بها (ر).
-      "إنه أمر مهول. ولكن من المؤكد أن ذلك سيجعلك تكتب شعرا رائعا"
رد (ر) عليه وهو خائر القوى منهك العزيمة:
-      "الأمر أخطر بكثير ولا مجال للشعر فيه"
-      "ولكن ... أليس وظيفة الشعر إنقاذ الإنسان في وقت كهذا؟"
برزت إلى مخيلة الفتى قليلًا حالة السعادة التي يكون هو عليها عند كتابة الشعر. إذا استعار تلك السعادة فهو يعتقد أنه يستطيع التغلب على أية حالة من التعاسة أو المعاناة مهما كانت.
-      "ليس الأمر بهذا الشكل. أنت لا زلت صغيرًا على فهم ذلك"
جرحت هذه الكلمة كبرياء الفتى. وتحول قلبه إلى البرود، وبدأ يخطط للانتقام.
-      "ولكن إذا كنت شاعرًا حقا، إذا كنت عبقريًا حقًّا، ألا يكون الشعر هو المنقذ لك في هذه الحالة؟"
رد (ر):
-      "لقد كتب غوته رواية "آلام فرتر"، فأنقذته من الانتحار. أليس كذلك؟ ولكن حدث ذلك لأن غوته كان يشعر من أعماق قلبه أنه لا الشعر ولا أي شيء آخر يمكن أن ينقذه، وليس أمامه سبيل آخر إلا الانتحار، لذا استطاع أن يكتب ذلك الشعر"
-      "إذا كان الأمر كذلك، لماذا إذن لم ينتحر غوته إذا كانت كتابة الشعر والانتحار سيان؟ لماذا لم يختر الانتحار؟ هل عدم انتحاره يعني أن غوته كان جبانًا؟ أم أن ذلك يعني أنه كان عبقريًّا؟"
-      "لأنه كان عبقريًّا"
-      "إذا كان الأمر كذلك ..."
حاول الفتى أن يضغط على (ر) بسؤال آخر، ولكنه نفسه أصبح غير قادر على الفهم. لقد برزت فكرة ضبابية في ذهن الفتى وإن لم تكن واضحة تمام الوضوح، وهي أن نرجسية غوته هي التي أنقذته في النهاية. ولقد أحس الفتى برغبة قوية في الدفاع عن نفسه بهذه الفكرة. فلقد جرحت قلبه جُرحًا عميقا كلمة (ر) عندما قال له: "أنت لا زلت صغيرًا على فهم ذلك". في هذا العمر تكون عقدة النقص تجاه الندية العمرية حادة للغاية. لم يقلها بفمه ولكن تولدت لدى الفتى نظرية رائعة هي الأكثر مناسبة للسخرية من (ر). {هذا الشخص ليس عبقريًّا. أجل ليس عبقريًّا ... فهو يقع في براثن الحب!}.
كان حب (ر) حبا حقيقيا بالتأكيد. حب لا يجب على العبقري الوقوع فيه أبدًا. أخذ (ر) يحاول الاستدلال على معاناته بإعطاء أمثلة للتأكيد عليها من قصص حب عديدة ومتنوعة، مثل حب الأميرة فوجيتسوبو والأمير غنجي، وحب بيلياس وميليساند، وحب تريستان وإيزولت، وحب الأميرة كليڤ ودوق نيمورس وغيرهم.
تعجب الفتى وهو يسمع اعتراف (ر) أنه ليس هناك أي عنصر مجهول له. فقد كتب كل شيء، وتوقع كل شيء، وتدرب على كل شيء. لقد ذهب (ر) للواقع بقدميه من أجل أن يرى حلمًا أكبر. وهذا ما لم يفهمه الفتى. ولم يفهم لماذا تتولد الرغبة لدى العبقري لكي يفعل الشيء العادي؟
أثناء حديث (ر) بدا أن قلبه قد انفكت عقدته، فبدأ هذه المرة يتكلم بإسهاب ويحكي له عن جمال محبوبته. على ما يبدو أنها ذات جمال رائع، ولكن لم يستطع الفتى تخيل شكلها إطلاقًا. قال له (ر) إنه سيحضر له في المرة القادمة صورتها ويُريه إياها. ثم بعد ذلك أنهى (ر) كلامه نهاية مؤثرة وهو يبدي خجلا قليلا:
-      "كانت تقول لي إن جبهتي جميلة"
نظر الفتى إلى جبهة (ر) التي ظهرت بعد أن رفع عنها مقدمة شعره. لمع سطح بشرة الجبهة الضخمة قليلا بسبب الأشعة الضئيلة المتسربة من الخارج، ورسمت بشكل واضح قرنين كبيرين غير مرئيين. قال الفتى في نفسه: {يا لها من جبهة ضخمة}. ولكنه لم يشعر بأنها جميلة على الإطلاق. {أنا أيضا ذو جبهة كبيرة. ولكن هذا يختلف عن وصفها بالجمال}.
____ وقتها استيقظت عيون الفتى على شيء مهم. ألا وهي الشوائب المضحكة التي تدخل بالضرورة في الوعي أثناء الحياة أو عند الحب، لقد رأى تلك الشوائب المضحكة التي ما كان يستطيع العيش بدونها وسط الحياة والحب، إنها الظن الخاطئ بجمال الجبهة الضخمة.
ربما كان الفتى كذلك يحمل داخله اعتقادًا ما خاطئًا شبيهًا بذلك، وإن كان في شكل أكثر معنويًّا وفكريًّا، وربما يواصل حياته مع هذا الاعتقاد. {ربما أنا الآن على قيد الحياة}. هذه الفكرة كان بها ما يجعله يرتعد رعبًا.
-      "في ماذا تفكر؟"
سأله (ر) بلطف كما هي عادته دائمًا.
عض الفتى شفته السفلى ثم ضحك.
كانت الشمس في خارج الغرفة على وشك الغروب تدريجيًّا. ولحظيا يُسمع أصوات فريق "كرة المضرب" المتحمسين أثناء التدريب. ثم يتردد صدى صوت ممتع وجاف للمضرب الذي ضرب الكرة لتطير عالية في السماء.
{ربما سأتوقف في وقت ما عن كتابة الشعر}. لأول مرة منذ ولادته يفكر الفتى على هذا النحو. ولكنه في نفس الوقت كان لا يزال على مسافة بعيدة من أن ينتبه إلى أنه لم يكن شاعرًا من الأصل.






حب راهب معبد شيغا تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي

حب راهب معبد شيغا
تأليف: يوكيو ميشيما

ترجمة: ميسرة عفيفي

1

أعتقد أنه لا مفر من أن أتقبل أي لوم أو عتاب بسبب كتابة هذه الحكاية دون إعداد ودون بذل أي جهد في البحث التاريخي حولها. الشيء الوحيد الذي اعتمدتُ عليه حتى الآن، هو الوصف الأسطوري المذكور في المجلد السابع والثلاثين، من كتاب "تايهيه كي" الأدبي المكتوب في القرن الرابع عشر، وفيه كما يعلم الجميع، مجرد ذكر سريع مختصر لحب راهب معبد شيغا في بلادنا مقارنة بحادثة " العجوز إيكّاكو سِن نين" في الهند.
أنا في الواقع كنت أهتم بهذه الحقيقة النفسية البسيطة أكثر من اهتمامي بأحداث ذلك الحب الذي له طبيعته الخاصة. القصة هنا تتعلق بصراع الحب مع الإيمان. هناك الكثير من أمثلة ذلك الصراع في الغرب، ولكنه موضوع نادر في اليابان. إذ تتدخل قضية الحياة الآخرة، بوضوح في سبب الحب. ليس فقط بالنسبة للراهب فحسب، بل كذلك في داخل قلب المرأة المحبوبة، يوجد صراع على احتلال ذلك القلب بين الحياة الآخرة وهذه الدنيا، وإذا تحدثنا بمبالغة في القول، فقد تصل عاقبة ذلك الحب إلى حد انهيار البناء الفكري الذي يحمله كلاهما عن العالم، في تلك اللحظة المحورية، تتأسس معالم قصة هذا الحب. في الواقع كانت عقيدة "الأرض الطاهرة"، التي ازدهرت منذ منتصف عصر هييآن[1]، اكتشافًا عملاقًا لعالم الفكر أكثر منها عقيدة دينية على وجه التحديد.

إن المتع العشر، كما يراها الراهب الكبير إيشين في كتابه "أساسيات الخلاص"، لا تعدو أن تكون قطرة في محيط، مقارنة بمباهج الأرض الطاهرة. والمتع العشر هي: متعة استقبال بوذا، ومتعة تفتح زهرة اللوتس للمرة الأولى، ومتعة الحصول على قدرات إلهية خارقة، ومتعة الحصول على الحواس الخمسة مع الجمال الفائق، ومتعة الحصول على متع لا نهائية، ومتعة مصاحبة الأهل والأقرباء في النعيم، ومتعة الوجود الدائم مع بوذا، ومتعة مقابلة بوذا والاستماع إلى وعظه، ومتعة تقديم العطايا إلى أشكال بوذا المختلفة بشكل كامل ومتكامل، وأخيرًا متعة التقدم في طريق الاستنارة والإشراق، تلك هي المتع العشر.
أما الأرض الطاهرة ففيها جُعلت الأرضية من اللازورد. وطرق الأرض الطاهرة مصنوعة من شبكة أحبالها من الذهب. وسطح الأرضية لا نهائي ومستوٍ في كل مكان منه. ويوجد داخل كل حرم مقدس، خمسون مليار برج عالٍ مصنوع من الجواهر السبعة: الذهب والفضة واللازورد والبلّور والمرجان والعقيق واللؤلؤ، وتمتد أقمشة مدهشة على جميع المنصات المرصعة بالجواهر. وفوق الأبراج العالية عدد وافر من الملائكة على الدوام يعزفون الموسيقى ويغنون أناشيد مقدسة تعظّم بوذا. كما توجد بحيرات للاغتسال في الحدائق التي تحيط بالقاعات والأديرة والقصور والأبراج، وتنتشر في قاع البحيرة الذهبية رمال فضية وتتناثر في قاع بحيرة اللازورد رمال بلّورية. فضلًا عن أن البحيرات تغطيها نباتات اللوتس التي تتألق مشعة في ألوان متنوعة، مع هبوب النسيم على سطح الماء، تتحرك أشعة الأضواء الرائعة منتشرة في جميع الاتجاهات. يمتلأ الهواء ليلًا ونهارًا بأغاني طيور البط، والأوز، وبط الماندرين، والكركي، والطاووس، والببغاء، والكالافينكاس (طائر له وجه امرأة جميلة ذو صوت رخيم)، كل هذا وغيره مئات من الطيور المرصعة بالجواهر، تغني بأصوات رقيقة ملحّنة في مدح بوذا. ولكن بالطبع مهما كانت رقة الأصوات؛ فإن تجمع تلك التشكيلة من الطيور بهذا العدد اللانهائي، لا بد أن يجعلها في منتهى الإزعاج.
تصطف بساتين من أشجار للجواهر على حدود البحيرة وضفاف الأنهار. وتنعكس الجذوع الذهبية والفروع الفضية والزهور المرجانية على صفحة الماء اللامعة. وتتأرجح في الجو أحبال من الجواهر، وتلك الأحبال معلق بها كثير من أجراس من الجواهر، ويُسمَع كتاب بوذا المقدس، وآلات موسيقية عجيبة تعزف بمفردها دون أن يمسها مخلوق، وتُسمع بعيدًا في الفراغ الهائل.
وإذا شعر المرء برغبة في أكل شيء ما، تظهر أمام عينه تلقائيًّا طاولة مرصعة بالجواهر السبعة ومجهزة بأوانٍ مرصعة بالجواهر بالسبعة وممتلئة على آخرها بما لذ وطاب من الأطعمة الشهية النادرة. ولكن ليست هناك حاجة لالتقاط هذه الأطعمة وأكلها. فبمجرد النظر إلى ألوانها والاستمتاع برائحتها، تمتلئ المعدة ويتغذى الجسم، في حين يبقى الشخص نقيًّا، روحًا وجسدًا. وعندما تنتهي الوجبة، بدون تناول أي طعام، تختفي الأواني والطاولة فجأة.
وبالمثل، فإن الجسد يرتدي الملابس تلقائيا، دون أي حاجة لحياكة أو غسيل أو صباغة. المصابيح أيضا، غير ضرورية، فالأشعة المضيئة منتشرة في كل مكان. لا حاجة للتدفئة ولا للتبريد، فدرجة الحرارة معتدلة على مدار العام. وتعطر الجو روائح جميلة بأنواع جمة، وتتساقط أوراق زهرة اللوتس بلا انقطاع.
بالإضافة إلى ذلك يشرح كتاب "أساسيات الخلاص" في فصل بوابة المراقبة، أن المبتدئين في المشاهدة والتأمل لا يمكن لهم التوغل عميقًا، ولذا يجب عليهم أن يركزوا كل جهودهم أولًا، في إيقاظ الخيال الخارجي، وبعد ذلك، في توسيع مداركه إلى ما لا نهاية. إنّ أقصر الطرق من أجل رؤية بوذا، هو الهروب من نطاق حياتنا الدنيوية بواسطة قوة الخيال. فإذا كنا نتمتع بمخيلة جامحة؛ يمكننا إذن أن نركز اهتمامنا على زهرة لوتس واحدة ومنها ننتشر إلى آفاق لا نهائية.
فعن طريق الملاحظة المجهرية والتقديرات الفلكية يمكن لزهرة اللوتس أن تصبح أساس نظرية كاملة للكون، وتصبح عاملًا من الممكن من خلاله رؤية الحقيقة. أولًا إن كل ورقة من أوراق الزهرة لها أربع وثمانون ألف وريد، وكل وريد يُخرج أربعًا وثمانين ضوءًا. وعلاوة على ذلك، يبلغ قطر الزهرة، حتى الأصغر منها، مائتين وخمسين يوجانا[2]. وبهذا، إذا التزمنا التفسير الذي يقول إن مسافة اليوجانا التي نقرأها في الكتابات المقدسة تساوي مائة وعشرين كيلو متر لكل منها، نستنتج أن أصغر زهرة لوتس يبلغ قطرها ثلاثين ألف كيلو متر.
مثل تلك الزهرة لها أربع وثمانون ورقة، وبين كل ورقة وأخرى توجد عشرة مليارات جوهرة، كل جوهرة تشع ألف ضوء. وفوق كأس الزهرة المُزين بجمال تعلو الزهرة أربعة أعمدة مرصعة بالجواهر وكل من هذه الأعمدة يبلغ مائة ألف تريليون مرة أكبر من حجم جبل سوميرو وتتدلي من الأعمدة ستائر كبيرة وتزين كل ستارة بخمسين مليار جوهرة، وكل جوهرة تشع أربعًا وثمانين ألف ضوء، وكل ضوء يتكون من أربع وثمانين ألف لون ذهبي مختلف عن الآخر، وكل لون من تلك الألوان الذهبية بدوره له القدرة على تحوير نفسه بشكل مختلف.
إن التركيز في تلك الأفكار يُعرف باسم "التفكير في مقعد اللوتس"، والعالم الفكري الذي يمتد في خلفية قصة الحب التالية هو عالم واسع الآفاق والرحاب إلى هذه الدرجة.




2

كان الراهب العظيم لمعبد شيغا، راهبا رفيع الأخلاق حسن المناقب.
كانت حواجبه بيضاء، وجسده الذي بلغ به الكبر مداه لا يستطيع أن يحمله إلا بالاعتماد على عصاه.
كانت هذه الدنيا لا تمثل في نظر هذا العالِم الزاهد إلا مجرد كومة من القمامة. إن شتلة الصنوبر الصغيرة التي كان قد زرعها بيديه قبل الانتقال إلى للعيش في صومعته الحالية، قد نمت لتصبح شجرة عالية، حتى إن أطرافها الضخمة في السماء تناوش الرياح. ويُعتقد أن من نجح في ترك هذه الدنيا لهذا الوقت الطويل ربما يكون قد تولد لديه إحساس بالأمان المطلق منها.
كان الراهب العظيم عندما يرى الأغنياء والنبلاء، يبتسم في شفقة ويتساءل: كيف لهؤلاء الناس ألَّا يدركوا أن ملذاتهم هي أحلام فارغة؟ وإذا قابل امرأة جميلة كان رد فعله، فقط الشفقة على من هم في عالم الحيرة المتقلّب مُكبلين بالهوى.
منذ تلك اللحظة التي أصبح فيها لا يحمل أي مشاعر توحد ولو قليلة مع الدوافع التي تحرك هذه الدنيا، أصبحت الدنيا بالنسبة إليه في حالة توقف تام. في نظر الراهب العظيم لا يظهر العالم إلا مجرد صورة متوقفة على قطعة من الورق، مجرد ورقة تُظهر خريطة لدولة ما غريبة. حالة الزهد الكاملة تلك والبعد عن الشهوات تجعلك تنسى حتى حالة الخوف. ولا تفهم لماذا ينبغي لجهنم أن توجد. كانت هذه الدنيا ضعيفة ضعفًا واضحًا أمامه، ولكن لأنه لم يكن أبدًا ذلك الشخص المغرور، فلم يكن يخطر له على بال أن ذلك بسبب أخلاقه الرفيعة.
كان الراهب قد فقد جسده على الأغلب. كان يشعر بسعادة عندما يتأمل جسده أثناء الاستحمام مثلًا، وقد أصبح عبارة عن عظام بارزة يغطيها جلد بالغ الذبول. إذا وصل الجسد إلى تلك الحالة فيمكن وقتئذٍ التصالح معه كما لو كان جسد شخص آخر. ويُعتقد أن طعام وشراب الأرض الطاهرة أصبح بالفعل ا أكثر ملائمة لذلك الجسد.
إذا تكلمنا عن أحلامه في كل ليلة، فهو لم يعد يرى في أحلامه إلا الأرض الطاهرة. وعندما يستيقظ ويعلم أنه لا يزال مقيدًا ومكبلًا في أحلامه البائسة الفانية وأنه لا زال يعيش في هذه الدنيا، فإنه يأسى ويحزن.
بحلول الربيع، وموسم مشاهدة أزهار الكرز، يأتي عدد كبير من الناس من العاصمة لزيارة قرية شيغا. إلا أن ذلك لم يزعج الراهب مطلقا؛ لأنه أصبح في حالة روحية لا يمكن أن تضطرب أو تهتز بسبب هؤلاء الزوار. خرج الراهب من كوخه متكئًا على عصاه، وذهب إلى ضفاف البحيرة. في تلك اللحظة الوقت بدأت أشعة شمس الغروب تتسلل أخيرًا بعد عصر اليوم، وكانت موجات البحيرة هادئة تمامًا. وقف الراهب بمفرده على حافة البحيرة، وبدأ أداء طقس تأمل المياه.
 في تلك اللحظة جاءت عربة بجوار شاطئ البحيرة تنتمي بوضوح لشخص نبيل من ذوي المنزلة العالية، وتوقفت على مقربة من مكان الراهب الواقف. صاحبة العربة كانت محظية جلالة الإمبراطور. كانت المحظية قد أتت لمشاهدة مناظر بلدة شيغا في فصل الربيع، والآن قد أوقفت العربة في طريق عودتها ورفعت ستائر النافذة من أجل إلقاء نظرة وداع أخيرة على البحيرة.
دون قصد نظر الراهب في اتجاهها، وعلى الفور جذبه ذلك الجمال. تلاقت عيناه بعينيها لفترة، ولم يحاول الراهب إبعاد نظره عنها، ولذا أصرت المحظية على ألا تبعد نظرها بعيدًا عنه. لم تكن بتلك الروح المتسامحة لكي ترضى بتلك النظرات الوقحة، ولكن لأن الطرف الآخر كان راهبًا عجوزًا قد بلغ منتهى الزهد والتعفف، فلقد ظلت لفترة تتشكك في معنى ذلك التحديق.
وفجأة أرْخت المحظية ستائر النافذة. وبدأت العربة في التحرك، وأخذت تبتعد في اتجاه الطريق التي تمر عبر سفوح الجبال في شيغا واصلة إلى العاصمة. على الأغلب ستدخل العربة العاصمة في الليل بعد المرور بطريق "المعبد الفضي". ظل الراهب العظيم واقفًا مكانه ينظر إلى العربة حتى اختفت ظلالها خلف الأشجار البعيدة.
لقد انتقمت الدنيا في طرفة عين من الراهب العظيم بقوة مرعبة. إن من كان يظن أنه آمنٌ تمامًا قد انهار وصار أطلالًا.
عاد إلى صومعته وواجه تمثال بوذا الرئيس، وحاول التضرع بأسمائه المقدسة. لكن أعاقته أفكار خيالية وهمية تقف بظلالها الغامضة أمامه. كان يحاول إقناع نفسه أن ذلك الجمال هو هيئة مؤقتة، ظاهرة لحظية للجسد الفاني بلا شك. ولكن تلك القوة اللحظية التي خطفت قلب الراهب العظيم بذلك الجمال الذي لا يمكن التعبير عنه، جعلته يعتقد أنها قوة ما رهيبة ونادرة وأبدية. ومن جهة أخرى لم يكن الراهب العظيم شابًا بأي معنى من المعاني، لكي يقنع نفسه أن هذا الانبهار هو مجرد خدعة قد لعبها عليه الجسد. فالجسد لا يمكن أن يتغير في لحظة واحدة بهذا الشكل. إذن فالأمر المنطقي هو الاعتقاد أنه سُقي سمًّا غريبًا بسرعة رهيبة، سمًّا غيَّر طبيعة الروح في هذه اللحظة الخاطفة.
لم يقترف الراهب العظيم إثم اقتراب النساء قط. وكان صراعه في شبابه مع ذلك، جعله على العكس لا يرى في المرأة إلا وجودًا جسديًّا فقط. كان الجسد النقي الحقيقي، هو الجسد الموجود في خياله فقط. نتيجة لذلك اعتمد الراهب العظيم على قوته الروحية من أجل أن يُخضع الجسد الذي ليس إلا وجودًا فكريًّا مجردًا. في هذا الجهد حقق الراهب نجاحا، ولا يوجد شخص واحد ممن يعرفون أفعاله حتى الآن يشك في ذلك النجاح.
ولكن وجه المرأة الذي بدا من نافذة العربة ناظرًا تجاه البحيرة كان ذا وجودٍ في غاية التناغم والتألق المشع، ولم يكن الراهب يعرف ماذا يمكن أن يسميه. لم يكن أمامه إلا الاعتقاد أن شيئًا ما ظل مختفيًا بداخله لفترة طويلة خادعًا إياه، قد ظهر له لكي يحقق تلك اللحظة النادرة ويجليها. ولم يكن هذا الشيء إلا هذه الدنيا ولا غيرها، تلك التي كانت ساكنة متوقفة فوق لوحة الورق قد قامت فجأة وبدأت في التحرك.
الأمر يشبه وكأنه مثلًا يقف على طريق كبيرة في العاصمة تروح فيها العربات وتجيء، وقد غطى أذنيه الاثنتين بيديه، وفجأة يرفع يديه من على أذنيه؛ ففي التو والحال تختلط الأصوات وتمتزج محدثة ضوضاء حوله.
لًمْسُ متغيرات هذه الدنيا وسماع أصواتها، يعني أنك قد دخلت في دائرة تلك الدنيا. الشخص الذي قطع علاقاته تمامًا بكل شيء وأي شيء، عاد وقد أصبح له علاقة مرة أخرى بأحد أشياء هذه الدنيا.
حتى عندما يقرأ الراهب العظيم في كتاب السوترا المقدس، كان في مرات عديدة يطلق تنهدات بائسة لا يقدر على كتمانها. كان يعتقد أن الطبيعة ربما تلهي قلبه، فكان يتأمل السحب في الجبال وقت الغروب، ولكن قلبه كان فقط يضطرب في حيرة واندفاع مثله مثل السحاب. وعندما يشاهد الهلال، كانت مشاعره مائلة بنفس اتجاه الهلال، وحتى عندما يتجه أمام تمثال بوذا الرئيس محاولا تنقية قلبه، يجد أن أوهامه قد صورت له وبدا وكأنه وجه المحظية. كان عالمه قد سُجن داخل حدود دائرة صغيرة. كان الراهب العظيم يوجد في جانب من الدائرة وكانت محظية الإمبراطور توجد في الجانب الآخر.




3

سرعان ما نسيت محظية الإمبراطور أمر الراهب العجوز الذي ظل يحدق في وجهها بتركيز على ضفاف البحيرة في شيغا. ولكن بعد مرور وقت قصير، وصلت شائعة إلى أذنيها وعندها تذكرت ذلك الأمر. أحد أبناء القرية الذي رأى منظر وقوف الراهب العظيم يودع بنظره عربة المحظية حتى اختفت عن الأنظار، ذكر ذلك الأمر إلى أحد رجال البلاط الإمبراطوري الذي جاء إلى شيغا لمشاهدة أزهار الكرز، وأضاف أنه منذ ذلك اليوم والراهب مضطرب وكأنه قد جُن.
بالطبع تظاهرت محظية الإمبراطور بعدم تصديق تلك الشائعة. ولكن لأن راهب معبد شيغا العظيم مشهور للغاية بأخلاقه الرفيعة وفضائله الكثيرة، فإذا كانت الشائعة حقيقية فسوف يكون في تلك الحادثة ما يسهم في تغذية غرور المحظية. لأنها كانت قد سئمت تماما من المحبة التي تتلقاها من رجال هذا العالم العاديين.
 كانت محظية الإمبراطور واعيةً تمامًا بشدة جمالها، ومن عادة مثل هؤلاء الناس الميل إلى الانجذاب إلى أية قوة، تتعامل مع جمالها ومنزلتها العالية كأشياء لا قيمة لها. وبالتالي فقد كانت شديدة التدين. وبسبب شعور الملل الشديد كانت تؤمن بعقيدة الأرض الطاهرة. وكانت تعاليم البوذية التي تكره هذه الدنيا الزاهية الجميلة وتبتعد عنها في زهد وتعفف لأنها تعتبرها مدنسة، كانت بلا ريب تهوّن عليها ملل الحياة الفخمة المرفهة وكللها، تلك الحياة التي توحي بنهاية هذه الدنيا.
كانت محظية الإمبراطور تُمَجَّد بين المخصصين في الحب والغرام على أنها تجسيد للنقاء والجمال داخل بلاط جلالة الإمبراطور. ولأن هذه السيدة النبيلة العظيمة لم يسبق لها الوقوع في حب أي من الرجال، فلقد كانت تستحق في الواقع ذلك التمجيد والتوقير. ولم يكن أحد ممن يعرفونها يعتقد ولو للحظة أنها تحب جلالة الإمبراطور من قلبها. كانت محظية الإمبراطور تعيش داخل أحلامها قصص حب، تقع في الأغلب على حدود المستحيل.
كان راهب معبد شيغا يشتهر بأخلاقياته، وأنه قد بلغ من العمر ما بلغ. ويعرف الجميع في العاصمة أنه قد زهد هذه الدنيا تماما. فإذا كانت الشائعة حقيقية، يكون الراهب العظيم قد وقع في الحيرة والضلال بسبب جمال وجه المحظية، ويكون قد ضحّى بالحياة الآخرة فداء لها. لا يمكن أن تكون هناك تضحية أكبر من ذلك، ولا هدية أعظم من ذلك.
لم تكن محظية الإمبراطور يجذبها أفضل الرجال في القصر الإمبراطوري، ورغم ذلك أيضا، لم يحرك قلبها النبلاء الوسيمون من الشباب. لم تكن أشكال الرجال تعني لها شيئًا. كان اهتمامها الوحيد هو مَن الذي يستطيع أن يحبها حبًّا كأقوى وأعمق ما يكون الحب.
امرأة تمتلك ذلك الطموح تكون كائنًا مخيفًا حقًا. لو عاهرة، فسيكفيها أن تُعْطَى ثروة من هذه الدنيا. ولكن محظية الإمبراطور تمتلك بالفعل كل ما يمكن تملّكه من ثروات الدنيا، ولذا فقد كانت تنتظر الشخص الذي يقدم لها ثروات الآخرة.
انتشرت شائعة غرام راهب معبد شيغا في كل أركان البلاط الإمبراطوري، وتم إبلاغ القصة بنبرة شبه ساخرة إلى الإمبراطور نفسه. بالطبع لم تسعد المحظية بتلك السخرية، واحتفظت بموقف بارد غير مبالٍ. لأنها تدرك جيدًا، أن هناك سببين لأن يتحدث الجميع بحرية ساخرين من تلك المسألة، أولًا أنهم يودون مدح جمال المحظية الباهر الذي أوقع في الحيرة والضلال حتى ذلك الراهب المشهور بأخلاقه الرفيعة لهذه الدرجة، وثانيًا بسبب الاطمئنان الذي مبعثه أن الجميع يدرك تمامًا أنه من المحال أن يتحقق حب على أرض الواقع بين ذلك الرجل العجوز وهذه المرأة النبيلة.
استدعت محظية الإمبراطور إلى ذهنها وجه الراهب العجوز الذي رأته من نافذة عربتها، ولكنها لم تجد أي تشابه ولو من بعيد في وجهه مع أي من الرجال الذين وقعوا في حبها حتى ذلك الوقت. من العجيب أن ينبت الحب أيضًا في قلب رجل ليس لديه أي مؤهل ليكون محبوبًا. مقارنة بذلك تعتبر عبارة مثل "حب بلا أمل" التي كثيرا ما تستخدم في الواقع في أشعار اللقاءات التي تقام في القصر الإمبراطوري من أجل استثارة شعور التعاطف، لم تكن في الأغلب إلا تمثيلًا بائسًا لشخص مغرور يدعي لنفسه قدرات أكبر من الحقيقة.
بحديثي حتى الآن أعتقد أنه أصبح واضحا أن محظية الإمبراطور لم تكن تجسيدا للفخامة العالية ولكنها إنسانة هوايتها العظمى أن تكون محبوبة. فكونها امرأة، إنها في نهاية الأمر امرأة، فمهما كانت وجاهتها أو منزلتها، فإن أي سلطة أو قوة تحصل عليها لا تعوضها شيئًا عن أن تُحَبّ. ففي خضم صراع الرجال حول السلطة السياسية، كانت تحلم بإخضاع العالم من خلال وسائل مختلفة، وسائل أنثوية خالصة. كانت تضحك استهزاءً من النساء اللائي يقمن بحلاقة شعرهن والدخول في الرهبنة. لأنه مهما كانت المرأة تتكلم عن التخلي عن العالم، فمن المستحيل أن تتخلي عما تملكه. الرجال فقط هم القادرون على التخلي عما يملكون في الواقع.
ذلك الراهب العجوز قد تخلى مرة في حياته عن هذه الدنيا وجميع متعها. لقد كان أكثر رجولة من نبلاء القصر. ثم إنه كما تخلى عن هذه الدنيا، فهو على وشك التخلي عن الآخرة أيضًا من أجلها.
تذكرت محظية الإمبراطور، ذات الإيمان العميق، أفكار زهرة اللوتس المقدسة. فكرت في زهرة لوتس ضخمة يبلغ حجمها مئتين وخمسين يوجانا. كانت زهرة اللوتس العملاقة غير المحدودة تلك، توافق ذوقها أكثر بكثير من أزهار اللوتس الصغيرة التي تشاهد بالعين. فحتى لو استمعت إلى أصوات النسيم تمر عبر أشجار الحديقة الأمامية مثلا، فإنها تعتقد أنها بلا أي قيمة مقارنة بالموسيقى العجيبة التي يحدثها الريح من خلال أشجار الجواهر في "الأرض الطاهرة". وهي عندما تفكر في الآلات الموسيقية المعلقة في الهواء التي تعزف الموسيقى من تلقاء نفسها، فإنها لا ترى في أصوات أنواع الآلات الموسيقية العادية، مثل القيثارة والقانون، التي يتردد صداها حولها سوى تقليد تافه مقارنة بتلك.




4

كان راهب معبد شيغا في صراع. في معركته ضد الجسد في شبابه كان هناك أمل فيما سيحصل عليه في الآخرة. لكن هذه المعركة اليائسة بعد وصوله إلى تلك الشيخوخة والكبر، كانت مرتبطة بإحساس بخسارة لا سبيل إلى تعويضها.
 وهو وإن كان إكمال حبِّه لمحظية الإمبراطور مستحيلًا استحالة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، فإنه كذلك يستحيل عليه المضي قدمًا في السير تجاه الأرض الطاهرة طالما ظلّ أسيرًا لهذا الحب.
 إن الراهب العظيم الذي كان يعيش في حالة تحكم كامل في مشاعره لا مثيل لها في هذا العالم، أصبح مصيره يلفه الغموض تماما في طرفة عين. إذا كان الأمر كذلك فلعل الشجاعة التي حارب بها معركة الشباب وانتصر فيها، ربما كانت قد تولدت من كبريائه وفخره أنه يمتنع بمحض إرادته الذاتية عن القيام بأفعال يمكنه فعلها بسهولة إذا رغب في ذلك.
تملّك الرعب مرة أخرى من الراهب العظيم. فلقد انتبه إلى الظلام العميق لهذه الدنيا التي لا يعرف ماذا ينتظره منها لو تحرك خطوة واحدة إلى الأمام. فحتى لحظة اقتراب تلك العربة الفاخرة من ضفاف بحيرة شيغا، كان يؤمن أن ما ينتظره في القريب العاجل هو الوصول إلى "النيرفانا" ولا غيرها.
ولكن بعد تلك الحظة الفارقة أصبحت مختلف أشكال التأمل الديني، من تأمل قاعدة اللوتس، والتأمل في مجمل الأشياء، والتأمل في الأجزاء، جميعها بلا فائدة. ففي كل مرة يبدأ فيها التأمل، يظهر أمام عينيه دائمًا وجه المحظية الجميل. وحاول كذلك تأمل مياه البحيرة ولكن كان ذلك أيضًا عديم الفائدة. لأن وجه المحظية الجميل كان يهتز من تحت موجات البحيرة الخفيفة.
وبالطبع كخلاصة طبيعية، حاول الراهب العظيم بذل جهوده في جعل قلبه مبهما غير مستقر عن طريق تشتيته، لإدراكه أن التركيز لا ينفع قدر ما يضر. ولقد أدهشه أن التركيز في الواقع يؤدي على العكس إلى حيرة عميقة، ولذا لم يكن أمامه إلا محاولة فعل العكس، أي ليس أمامه إلا الاعتراف بوجود الحيرة. واعتقد أنه عندما ينهزم القلب من ثقل الضغط عليه، يكون على العكس من الأسهل الهروب من محاولة الهروب من خلال تركيز أفكاره عمدًا على وجه المحظية.
أحس الراهب العظيم بمتعة جديدة في تزين شبح المحظية بطرق مختلفة كما يُزَيّن تمثال بوذا بالتيجان والأكاليل. لم يدرِ سبب إحساسه بالسعادة وهو يقوم بتلك الطريقة بجعل محبوبته ذات وجود أكثر عظمة وأكثر بعدًا عنه وأكثر استحالة. أليس الطبيعي أن يرسم المحظية في خياله كجسد امرأة عادية قريبة منه؟ أليس بهذه الطريقة يحصل المحب على فائدة من حبه ولو على الأقل في داخل خياله فقط؟
 لقد كان الراهب العظيم لكما فكر بهذه الطريقة يجد أن ما يرسمه خياله للمحظية ليس مجرد جسد، ولا هو مجرد شبح خيالي. بل كان الراهب بكل تأكيد يرسم جوهرا حقيقيًّا وواقعيًّا. وكان من العجيب أن يبحث عن ذلك الجوهر في امرأة. إن الراهب ذا الأخلاق الرفيعة حتى مع وقوعه في الحب، لم يفقد خصلة التدريبات الدائمة في محاولة التقرب من الجوهر حتى ولو من خلال التجريد. صارت محظية الإمبراطور الآن متوحدة مع زهرة لوتس هائلة من مئتين وخمسين يوجانا. لقد أصبحت وهي نائمة مستندة على عدد كبير من أزهار اللوتس، بحجم عملاق أكبر من جبل سوميرو، بل ومن الدولة بأكملها.
في الواقع إنه كلما حوّل الراهب العظيم حبه إلى شيء مستحيل، كانت خيانته لبوذا أكثرً عمقا. والسبب أن استحالة هذا الحب، يرتبط بشكل ما مع استحالة تحقيق النيرفانا. وكلما اعتقد أنه حب ميؤوس منه، أصبحت الخيالات أكثر تأكيدًا، وأصبحت أفكاره الدنسة راسخة في أعماقه. وإذا اعتقد أن حبه أصبح ممكنًا، لربما على العكس يصبح من السهل تولّد اليأس منه، ولكن هذا الحب المستحيل أصبح راسخا عتيدا يغطى سطح الأرض مثل البحيرة الهائلة ولا تبدو أي بوادر لتزحزحه عن مكانه.
لقد تمنى رؤية وجه المحظية مرة أخرى بطريقة ما، لكنه كان يخشى عند لقاء ذلك الوجه الذي صار مثل زهرة لوتس عملاقة، أن ينهار دون أن يترك أثرًا. إن انهياره بالتأكيد سينقذ الراهب العظيم. أجل، هذه المرة بالتأكيد تتحقق له النيرفانا. وهذا بالضبط ما يخشاه.
لقد وصل هذا الحب المفعم بالوحدة أخيرًا إلى خداع الذات بنسج شبكة عجيبة من الحيل، وعندما انتهى أخيرًا إلى اتخاذ قرار الذهاب لمقابلة المحظية، أحس الراهب أن المرض العضال الذي كان يحرق جسده قد شفي تقريبا. كانت فرحته هائلة عند اتخاذ القرار، لدرجة أن الراهب نفسه اعتقد خطأ أنها فرحة النجاة من قيود ذلك الحب.





5

لم يجد أحد من الذين شاهدوا راهبًا عجوزًا بائسًا يتكئ على عصا ويقف بصمت في ركن من أركان حديقة القصر الإمبراطوري للمحظية في ذلك أي شيء غريب. فلم يكن مشهد وقوف المتسولين والرهبان البوذيين أثناء جمعهم للصدقات داخل حدائق منازل النبلاء والكبراء بالأمر النادر.
أبلغت إحدى خادمات القصر ذلك الأمر إلى محظية الإمبراطور. نظرت محظية الإمبراطور بتوجس من خلال ستائر الخيزران. هناك خلف ظلال أوراق الشجر اليافعة كان الراهب العجوز الذي خارت قواه يقف محني الرأس. ظلت المحظية تنظر إليه فترة من الوقت. وعندما أدركت بدون أي شك أنه هو الراهب الذي قابلته على ضفاف البحيرة في شيغا، لم تستطع أن تمنع وجهها من أن يتحول لونه إلى الشحوب.
وقعت المحظية في حالة من الحيرة والتردد. لم تعرف ما القرار المحتم اتخاذه، ولذا أمرت بتركه وشأنه كما هو. تلقت الخادمة الأمر واستجابت له.
تولد القلق في قلب المحظية. هذا القلق تولد الآن لأول مرة في قلبها.
كانت قد شهدت حتى الآن العديد من الناس الذين قد تخلوا عن متع هذه الدنيا، ولكنها لأول مرة ترى شخصا يترك الآخرة وراء ظهره ويأتيها. كان أمرا مشئوما ومرعبًا بشكل يفوق الوصف. لقد فقدت هذه السيدة النبيلة السعادة التي كان خيالها يرسمها لها مع حب الراهب. وبفرض أن الراهب العظيم قد تنازل لها عن الحياة الآخرة، فإن الحياة الآخرة تلك لن تكون من نصيبها بلا مقابل.
نظرت محظية الإمبراطور إلى ملابسها الفخمة ويديها الجميلة، ثم نظرت إلى الراهب الواقف بلا حراك في الحديقة بعيدًا، ملامح وجهه التي قبّحها الهِرم وملابسه الرثة المبتلة. هذه الرابطة بينهما كان لها سحر جهنمي. ولكن ذلك لم يكن مثل الحلم الرائع الذي حلمت به. ظهر لها الراهب العظيم وكأنه شخص جاء من الجحيم. اختفت تمامًا هالة الرجل الفاضل رفيع الخلق، التي كانت تصدر من خلفه أشعة الأرض الطاهرة المتألقة. ذهبت عنه كل الأشعة والأنوار التي تدعو إلى الأذهان مجد الأرض الطاهرة. بالتأكيد وبدون أي شك، إنه هو نفس الرجل الذي رأته على ضفاف بحيرة شيغا، ولكنه كان في نفس الوقت يبدو وكأنه شخصٌ مختلفٌ تمامًا.
كانت محظية الإمبراطور، كعادة شخصيات البلاط الإمبراطوري، تميل إلى الحذر من انفعالاتها العاطفية. كانت تفعل ذلك دائمًا عندما تأتي أمامها أشياء تضطرها إلى التأثر والانفعال. حتى بعد أن رأت البرهان على حب الراهب لها لهذه الدرجة، شعرت بخيبة أمل أن يأخذ الحب الأسمى الذي رأته في أحلامها طويلًا، تلك الهيئة المتواضعة للغاية.
كان راهب معبد شيغا الذي وصل العاصمة أخيرا بعد سفر طويل متكئا على عصاه، قد نسي كل تعبه، بعد أن تحايل لدخول القصر الإمبراطوري حيث توجد محظية الإمبراطور، عندما أيقن أن وراء ستائر الخيزران تلك، توجد المرأة التي يهواها، أخذ يفيق من كل الأحلام الكاذبة.
عندما أخذ الحب هذا الشكل البريء، مرة أخرى بدأت الحياة الآخرة تسحر لب الراهب العظيم. أحس وكأنه لم يسبق له أن رسم في ذهنه الأرض الطاهرة بهذه الدرجة من النقاء والصفاء. لقد أصبح شوقه للأرض الطاهرة يأخذ شكلا حسيًّا على الأغلب. لم يبق له من أجل أن يزيل أوهام هذه الدنيا التي تحجب عنه الآخرة، إلا لقاء المحظية وإعلان حبه لها. هذا فقط هو ما تبقى.
كان يعاني كثيرًا من الوقوف هناك يستند بجسده الهرِم على عصاه. تنسكب فوق رأسه أشعة شمس مايو الساطعة المتسللة من خلال أوراق الشجر. كلما أحس بدوار في رأسه يتكئ على عصاه ليحمي نفسه من الوقوع. لو أن المحظية تنتبه إليه سريعًا وتستدعيه، ستنتهي هذه الخطوة في الحال. ووقتها يُفتح له باب الأرض الطاهرة على مصراعيه. الراهب العظيم ينتظر، ينتظر مسندًا على عصاه كلله الذي يصل به إلى حد الإغماء. أخيرًا احتجبت أشعة الشمس. وصار الوقت مساءً. ولا تأتي أخبار من محظية الإمبراطور.
ولكن المحظية بالطبع لم تكن تعلم أن الراهب يعتقد أن الأرض الطاهرة تكمن خلفها. كانت تنظر مرة بعد مرة من خلف ستائر الخيزران ناحية الحديقة. كان الراهب يقف في الحديقة. المساء يزحف، والراهب ما يزال يقف هناك.
أصاب محظية الإمبراطور الرعب. فلقد شعرت أن ما رأته هو تجسيد حي لأوهام التعلق عميقة الجذور. لقد احتواها رعب عارم من السقوط في الجحيم. الرعب الإنساني العادي الذي يقول إنها بعد أن تسببت في الحيرة والضلال لراهب على تلك الدرجة من الأخلاق الرفيعة، بالتأكيد لن تستقبلها الأرض الطاهرة، بل مآلها سيكون إلى الجحيم. وقتها قد تحطم بالفعل الحب الأسمى الذي كانت تحلم به. لقد حطّمته بالفعل. فالجحيم هو أن تُحَب. كانت المحظية على العكس من الراهب العظيم ترى الجحيم من ورائه.
ولكن تلك المرأة النبيلة المتغطرسة قاتلت خوفها بشدة. ولقد شجعت روحها مستعينة بقسوتها وعنفها الفطري. فالراهب سيسقط صريعًا حتمًا عاجلًا أو آجلًا. فما عليها إلا أن تنتظر سقوطه. ولكنها ما أن تلقي نظرة خلف ستائر الخيزران متوقعة أنه قد سقط، تجده واقفا بصمت هناك بلا حراك، مما يزيد من غضبها.
دخل الليل، وبدت هيئة الراهب الواقف في ضوء القمر كأنها هيكل عظمى.
لم تستطع محظية الإمبراطور النوم من الرعب. ولكنها رغم عدم النظر في اتجاه الستائر، وقد أعطت ظهرها لها، فإنها كانت تشعر بنظرات الراهب.
فهمت الآن أنه ليس حبًّا عاديًا. ولكنها من الخوف من أن تُحَب، ومن الخوف من الوقوع في الجحيم، أصبحت على العكس تتمنى الأرض الطاهرة بقوة أكثر. فكرت أنها تريد الحفاظ على الأرض الطاهرة الخاصة بها بلا أي جروح. أرضها الطاهرة تلك تختلف تماما عن أرض الراهب الطاهرة، وليس لها أية علاقة بحبه. فهي تعتقد أنها لو تحدثت مع الراهب ستنهار أرضها الطاهرة على الفور. إنها تريد أن تعتقد أن حب الراهب ليس له علاقة بها، فالراهب يحبها من تلقاء نفسه وبدون تدخلها، ولذا فمن المفروض ألا تفقد ولو قليلًا استحقاقها في أن تستقبلها الأرض الطاهرة.
ولكن ورغم ذلك، فكلما تقدم الليل تدريجيًّا، وأصبح الجو أكثر اعتدالًا، كلما فقدت ثقتها في إمكانية التحكم في قلبها لو سقط الراهب في مكانه ميتًا.
الراهب العظيم واقف بلا حراك. بدا القمر بعد اختفائه خلف الغيوم في هيئة عجيبة ساحرة وكأنه شجرة ذابلة.
صرخت المحظية في قلبها: أنا ليس لي علاقة بهذا الرجل. لم تكن محظية الإمبراطور تفهم إطلاقًا لماذا حدث ذلك.
في تلك اللحظة، ونادرا ما يحدث ذلك، نسيت المحظية جمالها تمامًا. أو ربما قد يكون من الأنسب أن نقول إنها تعمدت نسيانه.
أخيرًا، بدأ لون السماء يميل قليلا إلى اللون الأبيض.
الراهب لا زال واقفًا كالطود في غسق الفجر.
هُزمت محظية الإمبراطور. استدعت الخادمة وأخبرتها أن تدعو الراهب الواقف في الحديقة للمجيء أمام ستائر نافذة الخيزران.
كان الراهب على حدود الغيبوبة بعد أن وصل الجسد إلى حافة الانهيار التام. ولم يعد يدري ماذا ينتظر؟ محظية الإمبراطور ... أم الحياة الآخرة. حتى مع إدراكه أن الخادمة قد نزلت إلى الحديقة من جهة ستائر الخيزران وتقترب منه، فإنه لم يكن يشعر أن ما كان ينتظره قد أتاه أخيرًا.
أبلغته الخادمة رسالة سيدتها. صرخ الراهب في داخله صرخة مهولة. ولكن لم يصدر منه أي صوت تقريبًا.
حاولت الخادمة أن تسحب يديه. ولكنه تقهقر رافضًا. ثم مشى حتى موضع ستائر الخيزران بخطى ثابتة راسخة بشكل مدهش وعجيب.
المكان خلف الستائر كان مظلمًا، ولا يمكن رؤية شكل السيدة من الخارج. جثا الراهب على ركبتيه أمام الستائر، ثم غطى وجهه بيديه وانخرط في البكاء.
طال النواح لفترة ولم يكن قادرًا على التفوه بالكلمات. وبدا وكأنه سيظل يبكي إلى الأبد.
عندها ظهرت في غسق الفجر يد بيضاء من أسفل الستائر المدلاة.
أمسك راهب معبد شيغا يد محبوبته بيديه الاثنين. ثم قام بوضعها على جبهته، ثم وضعها على خده.
شعرت محظية الإمبراطور بتلك اليد الباردة العجيبة تلمس يدها. ثم بعد ذلك أحست بيدها قد تبللت بشيء دافئ. أحست محظية الإمبراطور بشعور مقزز لأن يدها قد ابتلت بدموع شخص غريب عنها.
ولكن مع إحساسها بدخول لون السماء الذي يميل إلى البياض من خلال ستائر النافذة، وبسبب قوة إيمانها الحار، لمستها فجأة مشاعر روحية رائعة. لقد جاءها اقتناع أن اليد الغريبة التي لمستها هي يد بوذا نفسه بلا أي شك.
لقد بُعثت من جديد الأوهام في قلب المحظية. بعثت مجددًا أرضية اللازورد في الأرض الطاهرة، والأبراج السُباعية المرصعة بالجواهر، ومناظر الملائكة التي تعزف الموسيقى، وبحيرات الذهب الخالص المفروشة برمال بلّورية، وزهور اللوتس ذات الأشعة اللامعة، وأصوات طائر الكالافينكاس الجميلة. إذا كانت تلك الأرض الطاهرة ستكون من نصيبها، والحقيقة أنها لا تزال تؤمن بذلك حتى الآن، فليس لديها مانع في تقبل حب الراهب العظيم. انتظرت المحظية أن يطلب منها ذلك الرجل صاحب يد بوذا أن ترفع الستائر التي تفصله عنها. لا بد وأن الراهب العظيم سيطلب منها ذلك. ثم تقوم برفع الستائر. ثم يظهر له جمالها الذي لا مثيل له، كما حدث في ذلك اليوم على ضفاف بحيرة شيغا. ثم تدعو الراهب العظيم للصعود إلى غرفتها. ...
انتظرت محظية الإمبراطور العظيم.
لكن كاهن معبد شيغا لم يقل أي شيء، ولم يطلب منها أي شيء. اليد العجوزة التي كانت تمسك يدها بقوة، أخيرا حلت قبضتها. وتُركت اليد البيضاء كالثلج وحيدة تحت ضوء الفجر.
غادر الراهب العظيم المكان. وأصبح قلب محظية الإمبراطور باردًا.
بعد بضعة أيام وصل نبأ وفاة الراهب العظيم في صومعته. وبهذا الخبر قررت محظية الإمبراطور، نسخ كتب السوترا لفة بعد لفة في كتابة جميلة وإهدائها إلى المعبد. وكلها كتب رائعة تبعث على الامتنان، إنها كتاب سوترا زهرة اللوتس وكتاب سوترا الحياة الأبدية وكتاب سوترا أكاليل الزهور.







[1] عصر هييان هو أحد عصور التاريخ الياباني، بدأ عندما نقل الإمبراطور "كانمو" العاصمة من "نارا" إلى كيوتو عام 794م واستمر حتى تأسيس حكومة كاماكورا عام 1192م. (المترجم)
[2] وحدة قياس مسافات. (المترجم)

يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي




يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما[1]

بطلب مُلحّ من إدارة التحرير تقرر أن أتكلم عن الروائي الذي يُسمى يوكيو ميشيما، بينما أنا لا أعرف الكثير عنه. أمامي بعض المعلومات والبيانات عنه جمعتها لي إدارة التحرير، ولكن ما أعرفه عنه فيما مضي أنه كتب رواية "خيانة الفضيلة" (bitoku no yorumeki) وتسبب في انتشار كلمة yorumeki (الخيانة) الغريبة في البلاد وقتها، وأما حديثًا فقد صدر ضده حكم ابتدائي في قضية انتهاك الخصوصية التي أُقيمت ضده، فأصبح أضحوكة الناس في اليابان، هذا هو مبلغ علمي به. إنه يؤكد أن "ما يميز الرجل هو الثقافة والعضلات"، ولأنه نفسه يملك الثقافة والعضلات (رغم أنها عضلات بديلة تم إضافتها فيما بعد عن طريق رياضة كمال الأجسام)، فهو يتفاخر بأنه شخصيًّا: النموذج المثالي للرجولة. ولكن رغم امتلاكه تلك الثقافة الأدبية وتلك العضلات المزروعة بواسطة رياضة كمال الأجسام، فهو لم يستطع الانتصار في ذلك العراك الكبير أمام محاكم الدولة، ولذا فهو بالفعل يستحق أن يصبح أضحوكة.
وكذلك يحمل هذا الشخص أفكارًا ينفرد بها، فها هو بعد أن وصل لسن التاسعة والثلاثين، يتردد على صالة الألعاب الرياضية "الجيم" راكبا القطار، مرتديا بنطلونًا من الجينز وجاكتًا من الجلد. وبالطبع فإن انجذاب النساء له بشكله هذا، أمر مشكوك فيه تمامًا. فالمرأة سواء أكانت عجوزًا أو شابة، في الغالب تكون من المعجبين بالرجل المتأنق الذي يرتدي بذلة غامقة ورابطة عنق رفيعة الذوق، فارتداء زي مثل جاكت جلد قذر وكأنه شجاعة، ستكون النهاية هي المضايقات. ورغم ذلك لو فعل ذلك شاب في سن التاسعة عشر أو العشرين من عمره، فلربما تشعر بظرفه، ولكن أن يفعل ذلك الأمر رجل شيخ قد بلغ من العمر مقدارًا معتبرًا، فإن من يراه يشعر بضيق التنفس.
بل ولأن هذا الذوق في الواقع أتي له كنوع من أنواع ذوق النبلاء متقمصًا شخصية الروائي الياباني "كافو ناغاي[2]"، فهو ما يدل أكثر وأكثر على تكلّفه الزائد. إذا جعلناه هو يتكلم فسيقول: إذا كان فعلًا "نبيل الروح" (تلك الكلمة التي كان الأديب الذي يكرهه كاتبنا بشدة، أوسامو دازاي[3] يحب استخدامها كثيرا)، فيجب أن يكون البنطلون الجينز "لائقًا" عليه تمامًا. فإن من يحاول أن يظهر نفسه حسن الذوق، بارتداء البذلات الغامقة، فمعنى هذا أنه في الواقع سيبدو مبتذلًا، وإذا كان ارتداء بنطلون من الجينز مع جاكت من الجلد تفوح منه رائحة نبل، فسيكون ذلك نبلًا حقيقيا، وليس ذلك فقط بل من أجل أن يكون نبلًا جسديًّا وليس نبلا روحيا فقط، فلابد من ممارسة رياضة كمال الأجسام. تلك هي نظريته. فهو يرى دائما أن الرجولة المثالية كما يقول هي: "امتلاك وجه شاعر وجسد مصارع ثيران"، ولكن انطباعي عنه من خلال رؤية صوره، أنه على الأكثر يمتلك "وجه كاتب في محكمة، وجسد عامل باليومية". وهو ما يجعله يبتعد كثيرًا جدًا عن الرجولة المثالية.
فأولًا، من الصعب علينا أن نفهم بالتحديد، من هو الذي يريد ميشيما إقناعه بأن ما يفعله أناقة؟ فقطعًا من المستحيل أن تفهم النساء تلك الأناقة الصعبة. إذن لا يوجد في نهاية الأمر إلا الاعتقاد أنه يفعل ذلك من أجل إرضاء غروره الذاتي فقط. ولكنني سمعت أنه يرد على المعترضين عليه بذلك القول، مستشهدا بعبارة بودلير التالية:
"جاذبية الذوق الرديء التي يصعب نسيانها، هي في تذوق متعة النبلاء من خلال امتعاض الآخرين منك."
إذا كان الأمر كذلك فيجب علينا أن نقول إنه حقق نجاحًا بالفعل في هذه النقطة إلى حد ما.
إذن هو في الحقيقة رجل من طراز قديم، لدرجة الاقتباس من بودلير شاعر القرن التاسع عشر. فلا يزال اتجاهه قديمًا جدًا، بخلاف الشباب من الكتاب الذين يهيمون حبًّا في هنري ميلر ونورمان مايلر. ورغم ذلك فهو يحب كل جديد أضعاف حب البشر العاديين للجديد، فعندما نظمت اليابان دورة الألعاب الأوليمبية، تجده قد أهمل أعمالا في غاية الأهمية، وأخذ يدور من ملعب إلى ملعب كل يوم ممسكًا بمنظار مكبر في يده لمشاهدة المباريات. وعندما يسمع أن هناك فندقًا جديدًا سيُفتتح، تراه قد لحقه سريعا ليبيت فيه أول لياليه. وإذا سمع أن إحدى الطرق السريعة الجديدة سوف يبدأ المرور بها من الساعة الثانية عشر عند منتصف الليل، تجده ينتظر داخل سيارته أمام مدخل الطريق في هانيدا قبل خمس دقائق من الموعد. وهكذا تراه يعيش أيامه مشتت الذهن، منهك الأنفاس. ولكن أحد البراهين على أنه إنسان عتيق الطراز، هو كرهه للطائرات النفاثة كراهيته للموت، وإذا اضطر مرغما أن يستقلها، تجده وقت إقلاع الطائرة وقد امتلأ كفا يديه بالعرق، وهو يرتجف ويرتعش من الخوف.
 إنه يشتهر بضحكاته العالية، فاتحًا فمه بدرجة كبيرة مثل البُلهاء، والتي بسببها انهارت كل لحظات الرومانسية الرقيقة التي حدثت له في حياته.
وهو كذلك يزين منزله بروبابيكا من التحف الغربية القديمة التي جمعها من خلال الشراء بمبالغ ضئيلة، مما يجعل المنزل ضيقًا بها، ويأتي ذلك فوق أرضية من بلاط أرضي من طراز رقعة الشطرنج باللونين الأخضر والأبيض، على نحو ما يظهر في مجلة "سانبون" للتصاميم المعمارية، وهو ما يجعلك تعتقد أن صالونا للحلاقة تحوّل كما هو فجأة إلى محل لبيع الخردوات القديمة.
في الواقع كلما بحثت في تفاصيل المعلومات التي جمّعتها لي إدارة التحرير، كان من الصعب عليّ معرفة هل هو يحمل إحساسا مرهفًا بالجمال؟ أم هو إنسان خام غليظ الحس تمامًا تجاه ما يسمى بالتوافق؟ هذه النقطة غير معروفة إطلاقًا. إذا كان يحب التوافق، فهو يحب أيضا التباين القوي، ورغم أنه من الأفضل الانحياز إلى أحدهما، إلا أنه وبسبب طمعه، يحاول الجمع بين حب الأمرين معًا. ألا يدل هذا على أنه هو نفسه أصبح لا يعلم من أمر نفسه شيئا؟!
ويبدو أن كرهه للبشر قد ازداد سوءًا تدريجيًّا مع مرور السنين، وفي نفس الوقت قويت مشاعر الوحدة عنده، وسُمْعَتُه مؤخرًا أنه أصبح في الواقع إنسانًا يصعب التعامل معه. يا للمسكين! هذا الروائي الذي تربي تربية أرستقراطية مُدللة، بدأت عينه تتفتح تدريجيًّا على قاع هذا العالم البائس، وبعد أن تفتّحت عيناه، أصبح له ميل لنبذ كل شيء، يرفض هذا ولا يرضى بذاك. ولذا فشخص بهذه المواصفات لا ضرورة إطلاقا لسماع فلسفته التشاؤمية بشكل جدي، يكفي فقط أن تستمع له وأنت تقول له موافقًا: أجل ... أجل.
الشخص الذي يريد أن يرى وجهه سعيدًا سعادة حقيقية (طبعًا هذا الحديث بافتراض وجود شخص رديء الذوق لهذه الدرجة)، فليذهب ليشاهده بعد أن ينتهي من ممارسة تمارين كمال الأجسام أو رياضة الكندو، وقد أخذ دشا ثم بدأ يستمتع بشرب الكوب الأول من البيرة. في حالته النفسية تلك، لو أتيت أنت لتتطفل عليه وتحاول أن توجه له حديثا في الأدب مثلًا، فلا أدري كيف سيقوم بتعنيفك، بأسلوب في غاية التعجرف والبرود.
أما من يقول: "إذا كان يحب الرياضة لهذه الدرجة ويكره الأدب، فلماذا لا يهجر الأدب سريعا ويتحول إلى لاعب رياضي؟" فهو شخص معدوم الإحساس. فأولًا إنه لا يمتلك تلك الموهبة التي تجعله قادرًا على أن يصبح لاعبًا رياضيًّا، وفي الأصل الوقت متأخر جدا لفعل ذلك. ولهذا فهو كل ليلة يلوك الأدب الذي يفترض أنه يكرهه، ويقضي الليالي ساهرا حتى الصباح مستمرا في كتابة الروايات على مدى ما يقرب من عشرين عاما. ومهما لاقى في ذلك من محن ومتاعب لمرات عديدة فهو مستمر في كتابة الروايات دون أن يتعظ. وكلما استمر في الكتابة أصبحت رواياته أكثر صعوبة، مما يجعله يستشيط غضبًا، ثم يفرغ غضبه في تناول البوفتيك.
عند التمعن في صفات هذا الرجل، ومن خلال كتاباتي عن شخصيات الرجال التي داومت عليها حتى الآن، ربما يبدو لي أنه إنسان عبثي من الدرجة الأولى، ولكنه كذلك رجل من الرجال. وربما في المستقبل القريب يستطيع القيام بعمل هائل للغاية. فلنراقبه مع القراء بصبر وأناة.



[1] هذه المقالة كتبها يوكيو ميشيما عن نفسه وهو في عمر التاسعة والثلاثين، أي قبل انتحاره بحوالي ستة سنوات. المقالة يتكلم فيها ميشيما عن نفسه بصيغة الغائب وكأن الذي يكتب هو شخص آخر. وتشع روح السخرية من النفس في أغلب أجزاء المقالة التي يحلل ميشيما فيها نفسه كرجل وليس ككاتب أو روائي بعد أن قام في مقالات سابقة بتحليل شخصيات لمشاهير من الرجال منهم يابانيون ومنهم مشاهير أجانب مثل ألفيس بريسلي وآلان ديلون وفيدل كاسترو. وربما تتنبأ نهاية المقالة بما سيؤول إليه مصير الكاتب فيما بعد (المترجم).
[2] كايفو ناغاي (1879 ~ 1959): روائي ومترجم ياباني شهير، كان والده من كبار موظفي الدولة، وكان عمه محافظًا لإقليم فوكوي. حصل على نيشان الثقافة من الحكومة اليابانية عام 1952. أشهر أعماله روايات "حكايات بوكوتو الجميلة"، و"حكايات فرنسا"، و"حكايات أمريكا". (المترجم)
2 أوسامو دازاي (1909 ~ 1948): أديب ياباني، ولد في أسرة غنية من كبار ملاك الأراضي في شمال اليابان تشتغل بالسياسة، وعائلته حتى الآن هي التي تمثل تلك المنطقة في البرلمان الياباني. أشهر أعماله "شمس غاربة"، و"زوجة ڤيون"، و"إنسان فاقد الأهلية. انتحر مع عشيقة له بإلقاء نفسيهما في أعالي نهر تاماغاوا غرب طوكيو. (المترجم)

أُنْثى تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

أُنْثى

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي


تنصب أشعة شمس ذروة الصيف على أنثى عنكبوت تفكر طويلا في قاع وردة صينية حمراء.
وعندها سُمِع صوت رفرفة أجنحة في الهواء، وعلى الفور هبطت نحلة عسل فوق الوردة جاعلة إياها تهتز. فرفعت أنثى العنكبوت عينيها على الفور. وبقيت تموجات طفيفة من بقايا صوت رفرفة جناحي نحلة العسل، في هواء ذروة الظهيرة الهادئة تماما.
ثم بدأت أنثى العنكبوت تتحرك في الوقت المناسب في قاع الوردة دون أن تُصْدر صوتا. ووقتها كانت النحلة الملطخة تماما بغبار الطلع، تُغرز خرطومها في رحيق الزهرة المختبئ تحت ميسمها.
مرت ثواني من الصمت القاسي.
وأخيرا أطلقت بتلاتُ الوردة الصينية الحمراء، أثنىَ العنكبوت ببطء شديد خلف النحلة التي سَكِرت من امتصاص الرحيق. وفي ذات اللحظة قفزت أنثى العنكبوت لتقبض بشراسة على عنق النحلة. استماتت النحلة وهي تقعقع بجناحيها في محاولة للتركيز في لدغ عدوتها. أثار الجناحان زوبعة من غبار الطلع فتراقص الغبار عاليا تحت أشعة الشمس. ولكن مهما فعلت النحلة، لم تستطع إبعاد أثنى العنكبوت التي قبضت بفمها على عنق النحلة.
لم يدم الصراع طويلا.
وبعد لحظة لم يعد جناحا النحلة لهما تأثير. انتشر الشلل في أرجلها ثم في النهاية ضرب خرطومها الطويل عدة ضربات مرتعشة في الهواء. وكانت تلك النهاية مأسوية. نهاية مأسوية قاسية لا تختلف كثيرا عن موت إنسان. ... بعد لحظة أخرى، كانت جثة النحلة ملقية على جنبها في قاع الوردة الصينية الحمراء وهي تمد خرطومها للأمام. ويغطي غبار الطلع برائحته الفواحة جناحيها وأرجلها ...
بدأت أنثى العنكبوت تمتص دماء النحلة في هدوء دون أن تُحرّك ساكنا.
وأنارت أشعة الشمس التي لا تعرف الخجل، منظر أنثى العنكبوت التي تفتخر بانتصارها في تلك المذبحة واستيلائها على الغير، لتخرق كآبة ذروة الظهيرة التي عادت مرة ثانية إلى الوردة. بطنها رمادية اللون التي تشبه تماما قماش الساتان، وعيونها السوداء التي تُذكّر بخرز نانكين، ثم أرجلها المتصلبة بمفاصلها القميئة التي تبدو وكأنها مصابة بمرض الجذام. ___ كانت العنكبوت وكأنها تمثل "الشر" ذاته، وهي قابعة فوق النحلة الميتة تلتهمها بلا نهاية في مظهر يمثل قاع المشاعر المقززة. تكررت تلك المأساة المتناهية البشاعة بعد ذلك عدة مرات. ولكن كانت زهرة الوردة الصينية الحمراء وسط الأشعة الخانقة والحرارة تتفتح كل يوم في جمال يأخذ بالألباب. ___
وأثناء ذلك، وفي ذروة ظهيرة أحد الأيام، وكأن أنثى العنكبوت فكرت فجأة، دخلت في الفراغ بين زهرة الوردة وأوراقها، وزحفت عاليا فوق طرف أحد الأغصان. تشع عند ذلك الطرف حرارة من التربة التي انصبت عليها أشعة الشمس، وتفوح من برعم زهرة ذابلة رائحة معسولة خافتة وهي تلتوي قليلا بسبب ثقل بتلات الزهرة. وعندما صعدت أنثى العنكبوت إلى ذلك الحد، بدأت هذه المرة تتحرك حركة مستمرة ذهابا وإيابا بلا راحة بين ذلك البرعم وغصن الوردة. في الوقت ذاته، بدأت أعداد لا حصر لها من الخيوط اللامعة ناصعة البياض تدور حول طرف الغصن تدريجيا وهي تلتف حول ذلك البرعم الذابل تقريبا.
وبعد فترة من الوقت، نشأت حوصلة مخروطية الشكل كأنها مشدودة من الحرير في ذلك المكان تعكس إضاءة أشعة شمس ذروة الظهيرة في بياض ناصع لدرجة تعمي العيون.
وعندما أكملتْ أثنى العنكبوت بيتها، باضت في قاع تلك الحوصلة الهزيلة، أعدادا لا نهائية من البيض. ثم نسجت بعد ذلك بساط من الخيوط السميكة عند باب الحوصلة، ومع احتلالها هي نفسها المقعد فوقه، صنعت سقفا آخرا بأن شدت عليه غشاءً يشبه الشاش. كان الغشاء يحجب تلك العنكبوت الرمادية المتوحشة عن سماء ذروة الظهيرة الزرقاء تاركا نافذة واحدة فقط وكأنها قبة دائرية. ولكن، بدت العنكبوت – أثنى العنكبوت بعد أن أفرخ البيض – وكأنها تفكر تفكيرا عميقا في سكون راسخ لا تتحرك مطلقا، وهي ترقد على جنبها بجسمها النحيف الضعيف في المنتصف تماما من مساحة ناصعة البياض، وكأنها قد نسيت زهرة الوردة الصينية ونسيت الشمس، ونسيت صوت رفرفة جناحي النحلة.
ثم مرت عدة أسابيع.
وفي تلك الفترة، فتحت كائنات حية جديدة كانت تنام داخل أعداد لا نهائية من البيض أعينها داخل حوصلة العنكبوت. وكانت أنثى العنكبوت الأم هي أول من انتبه إلى ذلك قبل غيرها، وقد توقفت حتى عن الطعام وبلغت اليوم غاية مبلغها من الهِرم والعجز وهي ترقد على جنبها في منتصف ذلك الفراغ الأبيض تماما. حركت أثنى العنكبوت التي أحست أن الكائنات الحية الجديدة بدأت تتلوّى في غفلة من الزمن تحت بساط الخيوط، أرجلها الواهنة ببطء شديد، وقضمت سقف الحوصلة الذي يفصل بين الأم وأبنائها فقطعته. فبدأ ينهمر طوفان من صغار العناكب بأعداد لا نهائية فوق ذلك الفراغ. بل لدرجة أنه يجب القول بديلا عن ذلك إن البساط ذاته بدأ يتحرك وقد تحول إلى مئات من الحبيبات الضئيلة.
تخطى صغار العناكب نافذة القبة على الفور، وبدأوا في الطوفان فوق غصن زهرة الوردة الصينية التي يتردد عليها الهواء وأشعة الشمس. فهاجت جماعة منهم فوق بتلات الورد التي تسند بثقل لهب القيظ. وزحفت تلك الجماعة داخل الوردة الممتلئة بالرحيق طبقات بعضها فوق بعض والدهشة بادية عليهم. ثم بدأت جماعة أخرى تشد خيوط رفيعة بسرعة لدرجة لا يمكن رؤيتها في المسافة التي بين غصن وغصن آخر من أغصان الورد التي تشق السماء الزرقاء بالعرض. لو كان لتلك العناكب الصغيرة صوت، لصرخت تلك الوردة الصينية في وضح النهار بلا شك صراخا مزعجا وكأنها آلة كمان عُلقت على الأغصان لتعزف من تلقاء نفسها.
ولكن كانت العنكبوت الأم التي أصبح ظلها هزيلا هزالا شديدا، تربض بمفردها أمام نافذة تلك القبة في إحساس بالوحدة والكآبة. ليس هذا فقط، بل لم يبدُ عليها أية حركة من أرجلها مهما مر من وقت. ثم في نهاية الأمر ماتت تلك العنكبوت الأم وسط رائحة براعم الورود الذابلة وذلك الفراغ الأبيض الموحش، ماتت وهي تشعر بسعادة لا حدود لها لأنها أم حققت وظيفتها السماوية، ماتت تحت سقف الستارة التي تشبه الشاش في ذلك المكان الذي جمع بين كونه مفرخا ومقبرة في آن، ماتت أثنى العنكبوت التي أفرخت تلك الأعداد اللا نهائية من صغار العناكب. ___ تلك الأنثى التي تعيش في الطبيعة في عز الصيف والتي كانت تمثل "الشر" ذاته وهي تقتل النحلة وتلتهمها ...
(أبريل 1920)