بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 19 فبراير 2021

الإله أجني تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

الإله أجني

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي


1

 

حي في مدينة شانغهاي بالصين. في الطابق الثاني لبيت يظل معتمًا حتى في النهار، تتحدث عجوز هندية بملامح وجه كريهة مع تاجر أمريكي.

قال الأمريكي وهو يشعل النار في سيجارة جديدة:

"أتيتُ إليك أيها العجوز لكي أطلب منك قراءة الطالع. ..."

فقالت العجوز وهي تنظر إلى وجه محدثها بإمعان وكأنها تسخر منه:

"قراءة طالع؟ لقد قررت ألا أقرأ الطالع لأحد أبدًا. ففي الآونة الأخيرة لا أحد يقدم لي شكره بعد قراءة الطالع له"

"بالتأكيد أنا سأقدم لك الشكر"

وضع التاجر الأمريكي أمام العجوز شيكًا بمبلغ ثلاثمئة دولار دون أي تردد ولا ندم.

"في البداية سأترك لك هذا. وبالطبع لو تحققت نبوءاتك سأقدم لك المزيد من الشكر ..."

عندما رأت العجوز شيكًا بمبلغ ثلاثمئة دولار انفرجت أسارير وجهها.

"إن إعطائي مثل هذا المبلغ الكبير، على العكس يجعلك أنت المسكين! ولكن ما الذي تريد أن أقرأ لك الطالع بشأنه؟"

"إن ما أريد معرفته هو ..."

وضع التاجر الأمريكي السيجارة في فمه وعلى الفور ظهرت ابتسامة تردد على وجهه.

"متى ستبدأ الحرب بين أمريكا واليابان؟ إذا علمنا فقط هذا الأمر، فنحن التجار نستطيع أن نحقق أرباحًا خيالية فورًا"

"إذن تعال غدًا. وحتى ذلك الوقت سأكون قد قرأت طالعك"

"حسنًا، أرجو منكِ عدم الخطأ ..."

لوّحت العجوز الهندية بصدرها للخلف في مباهاة.

"إن نبوءاتي لم تخطأ مرة واحدة على مدى خمسين عامًا. فإن الإله أجني هو الذي يبلغني تلك النبوءات بنفسه"

غادر التاجر الأمريكي، فذهبت العجوز إلى باب الغرفة التالية.

ونادت قائلة: "يا إرين! إرين!"

خرجت من الغرفة فتاة صينية جميلة استجابة لذلك النداء. ولكن كانت خدود تلك الفتاة الممتلئة ذات لون يشبه الشمع، ربما بسبب المعاناة.

"ما هذا التباطؤ! يا لك من فتاة لئيمة. من المؤكد أنك كنت تنامين جالسة في المطبخ مرة أخرى أليس كذلك؟"

مع كل التوبيخ، ظلت إرين واقفة منكسة الرأس.

"اسمعيني جيدًا. إنني الليلة سأوجه أسئلة للإله أجني بعد غياب طويل، كوني على أهب الاستعداد"

رفعت الفتاة عينيها الحزينة إلى وجه العجوز حالك السواد.

"الليلة؟"

"في الساعة الثانية عشرة الليلة. هل تفهمين؟ حذار من النسيان!"

رفعت العجوز الهندية أصبعها وكأنها تهددها.

"إن حدث مثل المرة السابقة وكنتِ سببًا لإزعاجي، هذه المرة بحق ستفقدين حياتك! إنني إن أردتُ أن أقتلك فالأمر أسهل من خنق عنق فرخ طير! ..."

قالت العجوز ذلك ثم عبس وجهها سريعًا. وعندما نظرت فجأة إلى الطرف الآخر كانت إرين قد ذهبت إلى جوار النافذة وأخذت تتأمل الطريق المجهور من زجاج النافذة التي كانت مفتوحة بالضبط.

"إلى ماذا تنظرين؟"

شحب وجه إرين في النهاية، فنظرت عاليًا مرة أخرى إلى وجه العجوز.

"إن كنتي تظنين أنني غبية، فأنت لم تكتفي بعد من العذاب الأليم؟"

لوّحت العجوز بالمنكسة التي كانت بجوارها وعيونها تمتلئ بالغضب.

وفي ذات اللحظة بدا أن شخصًا أتى في الخارج، وفجأة سُمع صوت طرق عنيف على الباب.

 

2

 

في نفس اليوم، وتقريبًا في نفس التوقيت، كان شاب ياباني يسير في الطريق خارج ذلك البيت. ولا يُعرف في ماذا كان يفكر! ولكنه عندما نظر نظرة واحدة إلى الفتاة الصينية التي يظهر وجهها من نافذة الطابق الثاني، وكأنه قد أُخذ على حين غرة ظل واقفًا في شرود دون أن يحرك ساكنًا.

وتصادف أن مر في الطريق عجوز صيني يعمل حوذي لعربة ريكشا.

فسأل الياباني ذلك الحوذي العجوز فجأة:

"مهلًا، ألا تعرف من الذي يسكن في الطابق الثاني من هذا البيت؟"

نظر الحوذي عاليًا تجاه الطابق الثاني العالي وهو يمسك كما هو بذراع الريكشا، ورد ردًا وهو يشعر بالنفور: "أين؟ هذا البيت؟ تسكن فيه فلانة العجوز الهندية" ثم كان على وشك الرحيل سريعًا.

"انتظر من فضلك! وماذا تعمل تلك العجوز؟"

"قارئة طالع. ولكن شائعات هذا الحي أنها تستخدم كل أنواع السحر. ولذا إن كنت تخاف على حياتك فمن الأفضل لك عدم الذهاب إليها"

بعد أن رحل الحوذي الصيني، شبك الشاب الياباني ذراعيه وبدا أنه يفكر في أمر ما، ثم بدا أنه أخذ قراره ودخل على الفور إلى ذلك البيت. وعندها سمع فجأة صوت العجوز الذي يصب اللعنات مختلطًا بصوت بكاء الفتاة الصينية. وبمجرد سماع الياباني لذلك أسرع بصعود درجات السلم المعتم درجتين وثلاث درجات في كل خطوة.  ثم بدأ يطرق باب بيت العجوز بكل قوته.

فُتح الباب فورًا. ولكن عندما دخل الرجل الياباني، كانت العجوز الهندية فقط تقف وحيدة تمامًا، والفتاة الصينية ليس لها وجود ولا أثر، ربما تكون قد اختبأت في الغرفة التالية.

نظرت العجوز محدقة في وجه الطرف الآخر بارتياب شديد وقالت:

"هل تريد شيء؟"

أعاد الرجل الياباني النظر شزرًا إلى العجوز وهو يشبك ذراعيه كما هو وقال:

"ألستِ تقرأين الطالع؟"

"بلى"

"إذن ألا تعرفين ماذا أريد دون توجيه سؤال؟ أنا أيضًا جئت لكي تقرأين لي الطالع"

"تريد أن أقرأ لك الطالع بشأن ماذا؟"

فحصت العجوز هيئة الرجل الياباني بعد أن زادت شكوكها.

"إن ابنة سيدي مفقودة لا نعرف مصيرها منذ ربيع العام الماضي. وأريد منك أن تعرفيه لنا ..."

قال الرجل الياباني ذلك وهو يضع كل قوته في كلامه حرفًا، حرفًا.

"إن سيدي هو قنصل اليابان في هونغ كونغ. واسم ابنته هو تايكو. وأنا اسمي إيندو السكرتير. ... ما رأيك؟ أين تلك الابنة؟"

قال ذلك ووضع يده في الجيب السري لمعطفه، ثم أخرج منه مسدسًا.

"أليست موجودة بجوارنا؟ بناء على تحريات شرطة هونغ كونغ فمن خطف الابنة شخص هندي، ... لن يفيدك الإخفاء"

ولكن لم يُبد على العجوز الهندية مظهر من مظاهر الخوف ولو قليلًا. كلا ليس هذا فقط بل على العكس برزت على شفتيها ابتسامة استهانة.

"ماذا تقول؟ إنني لم أر وجه تلك الابنة في حياتي قط"

"لا تكذبي. فبالتأكيد من رأيتها تقف عند هذه النافذة هي الآنسة تايكو"

كان إيندو يمسك بإحدى يديه المسدس ويشير باليد الأخرى على باب الغرفة التالية.

"ومع ذلك، إن كنتِ تصرين على قولك، اذهبي وأحضري لي الفتاة الصينية التي هناك"

"إنها ابنتي بالتبني"

ضحكت العجوز بينها وبين نفسها ضحكات ماكرة كأنها تسخر منه.

"سنعرف من نظرة واحدة إن كانت ابنتك بالتبني أم لا. إن لم تأتي بها فسوف أذهب أنا وأراها"

كان إيندو على وشك الدخول للغرفة التالية، فوقفت العجوز الهندية وحجبت عنه الباب بسرعة.

"إن هذا بيتي. ولا أسمح لشخص غريب لا أعرفه مثلك أن يدخله"

"ابعدي! إن لم تبعدي سأقتلك بالرصاص"

رفع إيندو المسدس. كلا، بل حاول أن يرفعه. ولكن في لحظة أصدرت تلك العجوز صوتًا كنعيق الغربان، فسقط المسدس من يده وكأن تيار كهربائي صعقه. ومن المؤكد أن حتى إيندو الذي تصرف بشجاعة قد أصابه ذهول شديد فظل لفترة من الوقت ينظر بدهشة في المكان من حوله، ولكنه استعاد سريعًا شجاعته مرة أخرى.

ثم انقض على العجوز كالنمر وهو يلعنها: "أيتها الساحرة الشريرة!"

ولكن العجوز لم تكن إنسانًا عاديًّا. فحركت جسمها برشاقة لتتفاداه ثم أمسكت المكنسة التي كانت بجوارها وكنست بها قمامة الأرضية على وجه إيندو التي كان ما زال يحاول الإمساك بها. وعندها تحولت القمامة كلها إلى شرارات نارية تحرق وجهه دون التفرقة بين عينيه وفمه.

وفي النهاية لم يستطع إيندو المقاومة فتوجه للخارج هاربًا وهو يتدحرج والشرارات النارية تلاحقه على شكل رياح دوامة.

 

3

 

اقترب الوقت من الثانية عشرة في تلك الليلة، كان إيندو يقف وحيدًا أمام بيت العجوز، وهو يتأمل بحسرة ظلال النيران المنعكسة على زجاج نافذة الطابق الثاني.

"من الأسف أنني لا أستطيع استعادة سيدتي الصغيرة رغم استطاعتي الوصول إلى مكان وجودها. هل من الأفضل إبلاغ الشرطة؟ كلا، كلا، لقد عانينا كثيرًا من بطء الشرطة الصينية حتى في هونغ كونغ. لو افترضنا جدلًا أن هربت مننا هذه المرة بالبحث عنها مجددًا سيكون معاناة شديدة. ومع قول ذلك فهذه الساحرة العجوز حتى المسدس لا يفيد معها ..."

مع تفكير إيندو هكذا، سقطت من النافذة قطعة من الورق.

همس إيندو لنفسه: "أوه! لقد سقطت قطعة من الورق، ... تُرى هل هي رسالة من سيدتي الصغيرة؟"

ثم التقط الورقة خفية وأخرج خُفية مصباح الجيب ونظر إليها تحت أشعة الضوء الدائرية. فكانت الرسالة المكتوبة في قطعة الورق بها آثار قلم رصاص يكاد أن ينمحي هو خط تايكو بلا أي شك.

 

"سيد إيندو! إن العجوز صاحبة هذا البيت ساحرة مخيفة. فهي تجعل إله هندي يُدعى أجني في مرات عديدة يحل في جسمي في منتصف الليالي. وأكون أنا نائمة كالميتة في الفترة التي يحل فيها ذلك الإلهة في جسمي، ولذلك لا أدري ما الذي يحدث أثناء ذلك، ولكن طبقًا لما تقوله العجوز، فالإله أجني يستعير فمي ويتنبأ بالعديد من الأمور. وستقوم العجوز الليلة أيضًا بإنزال الإله أجني في الساعة الثانية عشرة. ما يحدث دئمًا أنني أغيب عن الوعي تدريجيًّا دون أن أدري، ولكن الليلة قبل أن يحدث ذلك، سأتظاهر متعمدة بأنني وقعت في السحر. ثم سأقول للعجوز إن لم تعيدني إلى أبي فإن الإله أجني سيقتلها. أعتقد أن العجوز إن سمعت ذلك ستعيدني لأبي بالتأكيد، لأنها لا تخاف من شيء أكثر من الإله أجني. أرجو منك أن تأتي مرة ثانية في صباح غدٍ إلى العجوز. فليس لدينا وسيلة للهرب إلا هذه الخطة أمام قدرات تلك العجوز. الوداع"

 

بعد أن انتهى إيندو من قراءة الرسالة، أخرج ساعة الجيب ونظر فيها. الساعة الآن الثانية عشرة إلا خمس دقائق.

"لقد حان الوقت المحدد، فالطرف الآخر هي تلك العجوز! وسيدتي الصغيرة ما زالت طفلة، ما لم يكن لها مقدار عظيم من الحظ ..."

قبل أن ينهي إيندو كلماته على الأرجح بدأ السحر بالفعل. نافذة الطابق الثاني التي كانت مضاءة حتى الآن، فجأة أظلمت تمامًا. وفي نفس الوقت، فاحت في هدوء رائحة بخور عجيبة لدرجة أنها تغلغلت في أحجار الطريق المبلط به شوارع المدينة.

 

4

 

في ذلك الوقت، كانت العجوز الهندية، تفرد فوق المكتب غرفة الطابق الثاني التي أُطفأ مصباحها كتاب السحر، وتردد طلاسم وتعاويذ مرة بعد مرة. كان الكتاب يجعل حروفه فقط تبرز عالية في غموض حتى في عتمة الغرفة التي ليس بها إلا أشعة نيران المبخرة.

تجلس إرين الذي بدا عليها القلق، بلا حراك على المقعد أمام العجوز ... كلا، بل هي تايكو التي أُلبست ملابس صينية. تُرى هل وصلت الرسالة التي ألقيتُ بها من النافذة منذ قليل إلى يد السيد إيندو بسلام؟ أعتقد أن ظل ذلك الرجل الذي رأيته في الطريق هو السيد إيندو بالتأكيد، ولكن أليس من المحتمل أنني أخطأت الشخص المطلوب؟ ... شعرت تايكو أنها لا تطيق هذه الفكرة. ولكن إن لمحت العجوز عليها هذا التفكير الآن في تلك اللحظة ستكتشف على الفور خطتها تلك للهروب من بيت الساحرة المرعب هذا. ولذا ضمت تايكو يديها المرتعشتين، وظلت تنتظر اللحظة التي خططت لها سابقًا بفارغ الصبر لكي تتظاهر أن الإله أجني انتقل إلى جسمها.

رددت العجوز التعاويذ ثم بدأت تشير بيدها بحركات متنوعة وهي تدور حول تايكو. تقف أحيانًا أمامها وهي ترفع كلتا اليدين على اليمين وعلى الشمال، ثم في أحيان أخرى تأتي خلفها وكأنها تغمي عينيها فتضع يدها بهدوء على جبهة تايكو. وفي ذلك الوقت، لو أن أحدًا كان يشاهد منظر العجوز من خارج الغرفة، فمن المؤكد أنه كان سيبدو له الأمر كما لو أن وطواط أو ما شابه يدور طائرًا داخل أشعة نيران المبخرة.

وأثناء ذلك كانت تايكو، كما جرت العادة دائمًا بدأت تظهر عليها بوادر النعاس. ولكنها لا يجب أن تنام الآن، فمن المنطقي أن نومها سيجعل غير قادرة على تنفيذ الخطة التي وضعها. ولا ريب أن عدم قدرتها على تنفيذ الخطة سيجعلها غير قادرة على العودة إلى أبيها مرة أخرى.

"يا آلهة اليابان! أتوسل إليكِ أن تحفظيني ولا تدعيني أنام. ومقابل ذلك لو استطعت أن أرى وجه أبي مرة واحدة فقط فلا مانع من أن أموت بعدها على الفور. يا آلهة اليابان، أتوسل إليكِ أن تعطيني القوة لكي أخدع تلك العجوز"

استمرت تايكو تدعو في قلبها مرات ومرات. ولكن كان شعورها بالنعاس يتواصل ويزداد أكثر وأكثر. وفي نفس الوقت بالضبط بدأ تصل إلى سمعها أصوات موسيقيّة خافتة مجهولة المصدر وكأنها تطرق ناقوسًا نحاسيًّا مسطحًا. من المؤكد أنها تلك الأصوات التي تسمعها دائمًا عندما ينزل الإله أجني من السماء.

وعند هذا الحد مهما اجتهدت في الصبر على النوم لم تقدر إلا على النعاس! وعلى أرض الواقع كانت نيران المبخرة التي أمام عينيها بل حتى العجوز بدأت هيئتها تختفي تدريجيًّا مثلما تذبل صور الأحلام البغيضة.

"أيها الإله أجني أتوسل إليكَ أن تسمع ما أقول!"

أخيرًا عندما رفعت الساحرة صوتها المبحوح وهي جاثية على ركبتيها فوق الأرض، دخلت تايكو في نعاس عميق دون أن تدري وهي جالسة على المقعد كما هي في حالة لا يُعرف تقريبًا هل هي حية أم ميتة!

 

5

 

لا ريب أن تايكو وبالطبع العجوز كذلك كانتا تعتقدان أن لا أحد يشاهد مشهد السحر هذا. ولكن في الواقع كان هناك رجل خارج الغرفة يتلصص عليهما من خلال ثقب مفتاح الباب. تُرى من يكون هذا الرجل؟ ... لا داعي بالطبع للقول إنه السكرتير إيندو ولا أحد غيره!

بعد أن قرأ رسالة تايكو، وقف لفترة في الطريق وقد قرر أن ينتظر إلى أن تشرق الشمس. ولكنه، عندما فكر في أمر سيدته الصغيرة، لم يستطع مواصلة الوقوف. وفي النهاية تسلل إلى داخل البيت خفية كاللصوص ووصل إلى تلك الغرفة بالطابق الثاني، وأخذ يتلصص عليها منذ فترة.

ولكن مهما قلنا إنه يتلصص، ففي أي حال هو مجرد ثقب مفتاح في الباب، ولذا ما أستطاع رؤيته هو مجرد وجه تايكو من الواجهة وقد بدت كالميتة وتنصب عليها أشعة نيران المبخرة البيضاء الشاحبة. بخلاف ذلك لا تستطيع عين إيندو أن ترى لا المكتب ولا كتاب السحر ولا هيئة العجوز الجاثية على الأرض. ولكنه كان يسمع بوضوح صوت العجوز المبحوح كأنه في متناول يده.

"أيها الإله أجني، أيها الإله أجني، أتوسل إليكَ أن تسمع ما أقول!"

عندما انتهت العجوز من قول ذلك، بدأت تايكو الجالسة وكأنها لا تتنفس تتكلم فجأة وعينيها مغمضة كما هي. بل كان ذلك الصوت صوتًا رجاليًّا غليظًا لا يمكن تصديق أنه يصدر عن فتاة رقيقة مثل تايكو مطلقًا.

"كلا! إنني لن أستمع إلى توسلاتك! فأنتِ قد خالفت ما أقوله لكِ وترتكبين الشر دائمًا! إنني قررت أن أتخلى عنك بعد الليلة. كلا! بل علاوة على ذلك قررت أيضًا أن أعاقبك على شرورك!"

من المؤكد أن العجوز قد أصابها الذهول! فقط ظلت لفترة لا تجيب بشيء بل تصدر عنها أنفاس لاهثة فقط. ولكن استمرت تايكو تواصل الحديث بمهابة دون أي مبالاة بالعجوز.

"لقد اختطفت هذه الفتاة من يد أبيها المسكين. إن كنتِ تشفقين على نفسك ولا تريدين الموت، فمن الأفضل أن تعيدي تلك الفتاة بأقصى سرعة، لن أقول غدًا، بل الليلة"

ظل إيندو يتلصص من ثقب مفتاح الباب منتظرًا رد العجوز. وهنا بدلًا من أن تندهش العجوز وقفت فجأة أمام تايكو وهي تضحك ضحكات حاقدة.

"كفي عن الاستهانة بي! ماذا تفكرينني؟ إنني لم أخرف بعد للدرجة أن أنخدع لكِ! أعيدك لأبيك بأقصى سرعة! ... إن الإله أجني لا يمكن أن ينطق بهذا القول، فهو ليس فردًا من الشرطة!"

شرعت العجوز سكينا لا ندري من أين أخرجتها ووضعتها أمام وجه تايكو مغمضة العينين.

"حسنًا، اعترفي بصراحة! أنها أنتِ التي تتظاهر باستخدام صوت الإله أجني أليس كذلك؟"

بالتأكيد حتى إيندو الذي يشاهد الموقف من بدايته لا يعرف هل تايكو نائمة حقًا أم لا! ولذا عندما رأى إيندو ذلك، ارتبك قلبه عفويًّا معتقدًا أن الخطة قد انكشفت! ولكن ظلت تايكو لا تحرك جفنًا واحدًا وأجابت وهي تضحك ساخرة:

"لقد اقتربت لحظة موتك! هل يبدو لك صوتي على أنه صوت بشري؟ إن صوتي إذا همس تشتعل منه السماء! ألا تعرفين ذلك؟ إن لم تعرفي فافعلي ما بدا لك! ولكنني سأسألك سؤالًا: هل ستعيدين تلك الفتاة على الفور؟ أم إنك ستخالفين قولي؟ ..."

احتارت العجوز قليلًا. ولكنها استعادت شجاعتها سريعًا، وجذبت تايكو ناحيتها بعنف وهي تمسكها من شعرها بيد وتمسك السكين باليد الأخرى.

"أيتها العاهرة! أما زلتِ تعاندين؟ حسنًا، حسنًا، كما وعدتك سوف أتقنص روحك بضربة واحدة!"

لوّحت العجوز السكين لأعلى. وإن تأخر لحظة فسوف تنتهي حياة تايكو. أنهض إيندو جسمه فجأة وحاول أن يفتح الباب المغلق بالمفتاح بالقوة. ولكن الباب لا ينكسر بسهولة. مهما دفعه أو طرقه يده فقط التي تُجرح.

 

6

 

فجأة تردد في الظلام صوت صراخ من داخل البيت. ثم بعد ذلك سُمع أيضًا صوت كأنه سقوط أحد على الأرض. اصطدم إيندو بالباب تقريبًا كالمجنون وهو يضع كل قوى جسمه في كتفه وينادي على اسم تايكو.

صوت انشقاق ألواح خشبية، صوت تطاير قفل حديدي، ... أخيرًا تحطم الباب. ولكن المهم أن الهدوء كان يسود الغرفة ولا أثر لبشر، بل فقط ما زالت نيران المبخرة البيضاء الشاحبة تشتعل فيه.

دار إيندو بنظره حوله برعب معتمدًا على تلك الأشعة.

وعلى الفور استطاع أن يرى تايكو التي تجلس على المقعد دون حركة كالموتى. ولسبب مجهول كانت تثير في إيندو مشاعر المهابة والجلال وكأن أشعة مبهرة تنطلق من رأسها.

"سيدتي الصغيرة!"

ذهب إيندو إلى المقعد وقرب فمه من أذن تايكو ونادى عليها بكل اجتهاد. ولكن كانت تايكو مغمضة العينين مطبقة الشفتين.

"سيدتي الصغيرة، أرجوك أن تستيقظي! أنا إيندو!"

أخيرًا فتحت تايكو عينيها فتحة ضئيلة وكأنها كانت تحلم.

"السيد إيندو؟"

أجل. أنا إيندو! لا تقلقي! أصبحتِ في أمان. هيا نسرع بالهرب من هنا!"

قالت تايكو بصوت ضعف وكأنها ما زالت بين الحلم واليقظة:

"لقد فشلت الخطة! لأنني نعستُ دون إرادتي، ... أرجو أن تصفح عني"

"لست أنت سبب انكشاف الخطة. ألم تنتهِ فعلًا من التظاهر بأن الإله أجني قد تقمصك؟ ... ولكن لا أهمية للأمر الآن. هيا نسرع بالهرب"

حضن إيندو تايكو وأنهضها من المقعد وهو في حيرة من الأمر.

"حقًا؟ لقد نمت بالفعل. ولا أدري ما قلتُ"

قالت تايكو بصوت هامس وهي تستند بجسمها على صدر إيندو.

"لقد فشلت الخطة. ولن أستطيع الهرب مطلقًا"

"لن أجعل ذلك يحدث. تعالي معي. سيكون الفشل هذه المرة مصيبة"

"أليست العجوز هنا؟"

"العجوز؟"

أدار إيندو بصره مرة أخرى على أرجاء الغرفة. كتاب السحر مفتوح فوق المكتب كما كان منذ قليل. ... وتحته كانت العجوز الهندية منبطحة على ظهرها. العجوز ميتة في بحر من الدماء تغرز بيدها السكين في صدرها.

"ماذا حدث للعجوز؟"

"ماتت"

قضبت تايكو حاجبيها وهي تنظر إلى إيندو.

"أنا لا أدري شيئًا مطلقًا. يا سيد إيندو ... هل أنت من قتل العجوز؟"

نقل إيندو عينيه من جثة العجوز ونظر إلى وجه تايكو. وكانت تلك اللحظة التي أدرك إيندو أخيرًا فيها غرابة قوة الأقدار، أنه بالرغم من فشل خطة الليلة إلا أن موت العجوز، أتاح له استرداد تايكو سالمة.

"ليس أنا من قتلها. إن من قتل تلك العجوز هو الإله أجني الذي تنزّل الليلة على هذه الغرفة"

هكذا همس إيندو بمهابة وهو يحتضن تايكو.

 

(ديسمبر 1920م)

الثلاثاء، 21 أبريل 2020

أنا والأدب الفرنسي ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


أنا والأدب الفرنسي
ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

في الصف الخامس من المرحلة المتوسطة قرأت ترجمة إنجليزية لرواية ألفونس دوديه "سافو". بالطبع لا يمكن الاعتماد على طريقة قراءتي لها. فقد كنتُ فقط أتنقّل بين الصفحات وأنا أبحث في القاموس بلا مبالاة، ولكن على أي حال كانت تلك هي أول رواية فرنسية أتعرف عليها عن قرب. ولا أتذكر بشكل مؤكد أأُعجبت برواية "سافو" أم لا؟ ولكن كان بها فقرة من خمسة أو ستة أسطر يصف فيها البطل مدينة باريس في وقت الغروب عند عودته من ذلك الحفل الراقص. أتذكر فقط أن تلك الفقرة أسعدتني.
بعد ذلك قرأت راوية "تاييس" لأناتول فرانس. والسبب أن الناقد ساداو ياسوناري كتب تعريفا بها في العدد الجديد من مجلة "أدب واسيدا"، وأتذكر أنني عندما قرأت ذلك التعريف بالرواية ذهبتُ مباشرة إلى محل ماروزن لبيع الكتب واشتريت الرواية. ولقد انبهرتُ كثيرا بها. (وحتى الآن إن سُئلتُ عن أكثر روايات أناتول فرانس إمتاعا لأجبتُ على الفور إنها "تاييس". ويليها رواية "الملكة بيدوك". ولا أعتقد أن روايته الأشهر "الزنبقة الحمراء" تفوقهما جودة) ولكن يبدو أن أكثر النقاش إمتاعا لم أفهمه إلا في أماكن قليلة متباعدة. ولكنني كنتُ أضع خطوطا بقلم رصاص ملون تحت سطور رواية "تاييس". إنني ما زلت أملك ذلك الكتاب حتى الآن، ولكن كانت أكثر كلمة وضعتُ تحتها خطا هي كلمة "نيسياس". وأكثر من كان يتفوه بكلمة نيسياس ككلمة تحذير هم الطبقة العليا من سكان مدينة الإسكندرية. كنتُ وقتها أيضا في الصف الخامس من المرحلة المتوسطة. بعد دخولي المدرسة الثانوية، ولأن مستواي اللغوي ارتفع، كنت أجرب من وقت لآخر قراءة روايات باللغة الفرنسية. ولكنني لم أقرأ باستمرار قراءة منظمة مثلما يقرأ المتخصصين في ذلك المجال. كنتُ أمر بعيني سريعا على أي شيء يصل إلى يدي بدون تمييز. وما أتذكره بين ذلك رواية تُسمى "إغواء القديس أنطون" لفلوبير. ولكنني لم أستطع قراءة ذلك الكتاب حتى نهايته مهما حاولت ذلك عدة مرات. وعندما رأيت نسخة مكتبة اللوتس الإنجليزية ذات اللون البنفسجي وجدتها مختصرة جدا وقراءتها للنهاية بدون صعوبة تذكر. وقتها أحسستُ أنني اقتنعت برواية "إغواء القديس أنطون"، ولكن الطبعة البنفسجية إياها في الواقع كانت معضلة. ومؤخرا عندما جربت قراءة كتاب "خطوط صغيرة" للبروفيسور رافائيل فون كويبر، وجدته يقول إن ذلك الكتاب وكتاب "سلامبو" مملان. وسعدتُ لذلك جدا. ولكن مقارنة بذلك ربما كان كتاب "سلامبو" ماتعا إلى حد ما بالنسبة لي على الأقل. وبعد ذلك كنت أكره دي موباسان حتى وإن كنت أحترمه كثيرا. (حتى الآن ما زلت أشعر بالنفور عندما أقرأ بعض أعماله) ثم بعد ذلك وحتى دخولي الجامعة لم أقرأ أي عمل طويل لإميل زولا لسبب لا أعلمه. وبعد ذلك بدأت أشعر منذ ذلك الوقت شعورا عجيبا وهو أن دوديه يشبه صديقي ماساو كوميه. ولأن ماساو كوميه وقتها كان ينشر بصعوبة شِعرا في مجلة أصدقاء المدرسة في الصف الأول الثانوي، فمن المؤكد أن دوديه أعظم منه جدا. وبعد ذلك كنتُ أقرأ لتيوفيل غوتيه باستمتاع. وكنتُ أستمتع بقصصه القصيرة ورواياته الطويلة على السواء لأنه بأي مقياس كان مبدعا جدا ولا شبيه له. ولكن لم أمتن لروايته ذائعة الصيت "الأنسة دو موبان" للدرجة التي استقبلها بها الغربيون. حتى قصصه القصيرة مثل "أفاتار" و"ليلة كليوباترا" لا أعتقد أنها كاملة بالرغم من أن شخص مثل جورج مور يحس بالخجل منها. حتى أسطورة الملك كانداوليس، فلقد ألف فريدريش هيبل "جيجس وخاتمه" المرعبة. ولكن عند إعادة النظر في قصة غوتيه القصيرة، نجد أن ثمة ميل إلى الحيوية في أبطاله سواء كان الملك أو غيره. ولكن أثناء قراءتي لمسرحية هيبل بعد وقت طويل من ذلك، ولأن المحرر كان له في المقدمة رأي في منتهى المنطقية أنه ربما أعطت قصة غوتيه القصيرة تلميحا إلى هيبل، مما دفع بي إلى أن قمتُ باستخراج قصة غوتيه وعمقتُ من إعجابي بها. بعد ذلك ... لقد مللت من استكمال الحديث.
فمهما قلتُ إنني قرأتُ في المرحلة الثانوية هذا وذاك ومن الكتب فلا يُفترض أن يمثل هذا الأمر أية متعة. بل الأمر في أقصى حدوده مجرد إبهار الآخرين بمعلومات يجهلونها. ولكن بما أنني بدأت هذا الحديث فأريد أن أضيف فقط ما يلي: وهو أنه في ذلك الوقت أو منذ ذلك الوقت لمدة خمس أو ست سنوات، كانت أغلب الروايات الفرنسية التي قرأتها كُتبت في عصر قريب، أو كانت لكتاب معاصرين. وعندما أعيد التفكير سريعا فيما قلت، أجد أنني لم أذهب إلى عصر أبعد من شاتوبريان أو إن قلنا على أقصى تقدير أقدم من روسو وفولتير. (كان موليير استثناءً من ذلك) وبالطبع لأنه في عالم الأدباء من هو ضليع المعرفة بالأدب الفرنسي، لدرجة ربما وجد خبير قرأ كتاب "مئة خبر: أخبار الملك لويس الحادي عشر" (Cent nouvelles Nouvelles du roi Louis XI). ولكن إن تغاضينا على ذلك الاستثناء، فيمكن القول إن مثل تلك الروايات التي قرأتُها هي في العادة روايات الأدب الفرنسي التي قرأها أغلب الأدباء في الوسط الأدبي الياباني. ولذلك عندما أتحدث عن الروايات الفرنسية التي قرأتها أنا، فهو أمر يتعلق كثيرا بقطاع عريض من الوسط الأدبي الياباني بشكل عام، ولذلك لا يجب الإنصات إلى ذلك بإهمال أو تسفيه. ... إن لم أعط أهمية لما سبق ولكن عدم قراءتي أنا إلا تلك الكتب يعني أنه لن نجد روايات أدب فرنسي أثرت على الأدب الياباني فيما عدا تلك الكتب التي ذكرتها. فلم يتأثر الوسط الأدبي الياباني بفرانسوا رابليه ولا جان راسين ولا بيير كورني. تأثر فقط بالكتاب فيما بعد القرن التاسع عشر. والدليل على ذلك أنه لا يمكن مشاهدة عمل للأدباء الأقدم مني المعجبين بالأدب الفرنسي انتشر وذاع صيته يعبّر عمّا يقال عنه "روح الغال" (الروح الفرنسية القديمة). حتى وإن تردد من حين لآخر صدى صوت الضحكات التي انطلقت من روح الغال بين كتاب القرن التاسع عشر وما بعده، لم يكن أمام الوسط الأدبي إلا أن يعيروا لها آذان صماء. وحتى في هذه النقطة كانت جنازة الوسط الأدبي اليابان، كما رواها الأستاذ أوغاي موري في رواية له، جادة للأبد. ... ربما كانت تلك حجتي. ولذلك فلا يجب في النهاية أن تستمعون إلى حديثي هذا وأنتم تظنون فيَّ الغباء.
(فبراير 1921)

الأربعاء، 15 أبريل 2020

الفصل الأول والثاني من رواية «الموسيقى» تأليف يوكيو ميشيما ترجمة ميسرة عفيفي



تمهيد من الناشر




هذا تقرير عن حالة مريضة ببرود جنسي كتبه الدكتور كازونوري شيومي ووضع له عنوانا باسم «الموسيقى». يعتمد التقرير على وقائع وسجلات حقيقية تماما مع إخفاء أسماء أبطالها الحقيقيين. ويُمثّل مدى إخلاص هذا الطبيب لروح البحث العلمي، ويوضح كذلك تفانيا نادر المثال لمحاولة إنسانية هادئة للتفكير ومحاسبة النفس. وبمجرد أن وصلت مخطوطة التقرير إلينا، لم نتردد في النشر مطلقا، إلا أنه ظهر رأي يقول إنه يجب قبل النشر لفت انتباه القرّاء مسبقا لنقطتين:
النقطة الأولى تتعلق بسياق الحديث عن الجنس عند المرأة في التقرير، ربما يُثير موقف الطبيب وتعامله المطلق بصفته عالِم دون أية مراعاة لذلك السياق، مشاعرَ غضبٍ واعتراضٍ، وخاصة من القارئات. لو كان ذلك التقرير عملا أدبيا، فلا خوف من أن يُعامل الجنس على أنه أمر موضوعي إلى هذا الحد، ولكن من المعتاد أن يتخفى بغض النظر عن صحة ذلك أو خطأه وراء حجاب من الزخرفة لإثارة خيال القرّاء، ولكن يفتقر هذا التقرير مثل تلك المراعاة، ربما تظهر وسط الكلام زخرفة باستخدام أسطورة من الأساطير الرمزية للجنس، وهي صادرة جميعها من تأثر الكاتب بأوهام المريضة.
والنقطة الثانية، أن محتوى تقرير الطبيب ينحرف انحرافا شديدا عن المنطق السليم، ويبعد تماما عن الحياة العاطفية للمرأة الطبيعية، مما يدعو إلى الخوف أن يُعد التقرير بأكمله عملا مختلقا غير قابل للتصديق. ولكن لا مفر لدينا من الإقرار على كره منا أن هذا التقرير كله يعتمد على حقائق واقعية، وإن اعترفنا بذلك، فلا مفر من الإقرار بعمق واتساع الجنس الذي لا يعرف له قاع أو حدود عند البشر. ولا يقتصر ذلك على ما يُسعِد القلب دائما، بل هو يمثل غابة من غابات الأساطير، إذا ظهر فيها أي نوع من أنواع الوحوش المخيفة فلن يستدعي ذلك اندهاش أحد أو تعجبه، وليس من يختزن ذلك داخل قلبه أنثى واحدة هي ريْكو بطلة هذا العمل، بل كل أنثى من القرّاء هي كذلك حقا.






الموسيقى


دراسة حالة لمصابة ببرود جنسي
من خلال طريقة التحليل النفسي


كتب التقرير: كازونوري شيومي






1


مرت خمس سنوات سريعا منذ أن افتتحتُ عيادة في الطابق الرابع بإحدى مباني منطقة هيبيا. ولقد تعودتْ الأعين والآذان تدريجيا على وظيفة المحلل النفسي التي لم يكن يعرفها في البداية إلا القليل، مع ذلك لا يجب بالطبع مقارنة الوضع في اليابان بالوضع المزدهر في أمريكا. إن قدرتي على تدبير عيشي ودفع إيجار باهظ الثمن وسط العاصمة، لهو أمر يدعو للسرور، ليس من أجلي فقط، ولكن من أجل مهنة التحليل النفسي عامة.
وأعتقدُ أن سبب النجاح الأول في ذلك، هو افتتاح عيادة في وسط العاصمة، مع خلق بيئة تساعد أي شخص أن يدخل العيادة بسهولة، وأن يستشير عن حالته استشارة سريعة. وحاليا ليس من النادر أن يزور العيادة فجأة وبدون موعد (مع الإقرار بالصراع النفسي)، موظفون وموظفات في طريق عودتهم من العمل، ببساطة وبدون تكلف، مثل من يذهب لقارئي الكف.
وكان واضحا وضوح الشمس أن زيادة عدد المرضى باضطراد، كان نتيجة تطور المجتمع بدرجة عالية، فالإنسان يُعامل معاملة الترس الذي يُركّب في آلة عملاقة، ولا يُسمح له بمقاومة. وأعتقد أن ذلك كان سببا كافيا لزيادة أعراض العُصاب أكثر وأكثر في اليابانيين، وخاصة من يسكن في المدن الكبرى، حتى وإنْ انعدم الصراع مع الضمير البيوريتاني المتأزم، كما الحال مع الأمريكيين.
ولذلك كما ذكرت منذ قليل فمن بين مرضاي موظفين وموظفات، ومنهم نادلات الحانات وربات البيوت ذوات الوقت الفارغ الطويل، ومنهم منتجو برامج تلفزيونية ولاعبو كرة البيسبول المحترف. ولن أكون مبالغا إذا قلت إنَّ المرضى يغطون جميع الوظائف الرائدة في العصر الحالي.
منهم من يأتي عبر مريض آخر، ومنهم من يأتي بتوصية من زملائي الأطباء. وفي كل الأحوال، يُعد انعدام شعور الْخِزْي والعار للعائلة كلها من تردد أحد أفرادها على مستشفى للأمراض النفسية، الموجود منذ القدم، تطورا كبيرا. ومع ذلك، يختلف الأمر بالتأكيد عن الذهاب إلى طبيب الأسنان، ويبدي الأغلبية خجلا من أعين الناس. ولكن الاتجاه الجديد مؤخرا، وما أعاني منه شخصيا هو كثرة عدد المرضى الذين يزورون عيادتي من أجل إرضاء ما يجب وصفه بمرض الاستعراض النفسي وعادة الاعتراف بلا داعي، وخاصة من النساء.
كنتُ أحصل على الأجر الكافي طبقا لما تقتضيه القواعد من أي مريض كان. وفي الواقع يُعدّ هذا جزءا من العلاج بالتحليل النفسي. فأنا أستهدف ضبط وتنظيم الحالة النفسية للمريض باستخدام وظيفة المال في اللاوعي. أتجنب أخذ التكاليف مرة واحدة قبل العلاج أو بعده، ووضعت قاعدة لدفع الأجرة بعد نهاية كل جلسة على حدة، عبر الدفع مباشرة للمعالج النفسي يدا بيد، وهو ما علّمني إياه أستاذي البروفيسور (ف)[1].
وإن قيل لي: «أعطنا مثالا من بين هذا العدد الكبير من المرضى، ترك انطباعا لا ينمحي من ذاكرتك» مع وجود أنواع متعددة من المرضى أصحاب المرض العضال، ومع وجود مرضى يشكون من أعراض غريبة، لا أَجِد مفرا من ذكر ريْكو يوميكاوا في البداية.
فعندما زارت عيادتي، لم تكن تشتكي، كما سأذكر فيما بعد، من مشكلة مخيفة. ولكنها جعلتني في النهاية أرتعد رعبا من غرابة روح الإنسان وجسده.
لقد تعاملت في عملي بالتحليل النفسي مع حالات متنوعة، وكنت أظن أن تراكم خبراتي وتدريبي لن يجعلني أندهش من أي حالة. ولكن كلما ازدادت معرفتي أجد أن عالم الجنس عند البشر عالم واسع لا حدود له، ويتعمق إحساسي بأنه ليس عاديا ولا يسري على نمط واحد. ففي عالم الجنس ما من سعادة واحدة تناسب جميع البشر. وأريد من القرّاء التأكد من وضوح ذلك الأمر في ذهنهم عند قراءة هذا التقرير.


2


صُممت جميع غرف التحليل النفسي الثلاثة الموجودة في عيادتي بجدران بحيث تمنع تسرب الصوت منعا صارما. ولكيلا يعيق تتبع المرضى الطبيعي لذاكرتهم من خلال محفّز غير مرغوب فيه، لم أزين أي منها بمزهرية واحدة أو لوحة. وبديلا عن ذلك جعلتُ غرفة الانتظار تعطي الزوار شعورا بأكثر أنواع الراحة قدر الإمكان، بنوافذها الواسعة جدا والتناسق بين ألوان الجدران والمقاعد المريحة، وجمّعتُ في رفوف المجلات جميع المجلات المصورة من الشرق والغرب وحرصتُ على ألا تنقطع الورود والزهور من المزهريات. وحدث عندما وضعت زهور الأقحوان في غرفة الانتظار أن أكلها أحد المرضى بعد أن غضب من طول فترة الانتظار، ولكن ذلك استثناء نادر حتى بين الاستثناءات ذاتها.
ذكرني موقف الأقحوان هذا أن الصباح الذي جاءت فيه ريْكو يوميكاوا لأول مرة كانت مزهرية غرفة الانتظار تتزين بزهور الأقحوان أيضا، فلا شك أنه كان صباح يوم خريفي مشمس.
حجزتْ ريْكو موعدا بالهاتف في اليوم السابق، وكانت أول زائر في ذلك اليوم. والانطباع الذي أخذته عنها من مكالمة الهاتف أمس أن صوتها منخفض قليلا، وبه نضارة محببة للنفس، ولاحظتُ في نبرة صوتها قلقا إلى حد ما، ولكنها أعطت لي انطباعا بأنها طبيعية. ولقد كانت تحمل معها خطابا يُعرّف بحالتها من أحد أصدقائي القدامى وهو طبيب باطنة بإحدى المستشفيات. وعند النظر إلى حالتها من عدة نقاط بدا لي أنها ليس بها مشكلة عويصة.
في ذلك الصباح وصلتُ إلى عيادتي، وألقيتُ تحية على المساعد كوداما والممرضة ياماؤتشي ثم ارتديتُ المعطف الأبيض، فجاء موعد ريْكو يوميكاوا سريعا. دخلتْ العيادة متأخرة سبع دقائق تقريبا وهي ترتدي معطفا بلون أحمر فاقع. وإلى حدٍ ما يُخفي تفضيلها لهذا اللون الذي يلفت أنظار الناس إليها، معنى نفسيا.
أذهلني جمالها، عمرها بين 24 و25 عاما، ومقابل المعطف الأحمر فاقع اللون، كانت مساحيق وجهها راقية وغير ملفتة وأعتقد أن سبب ذلك هو ثقتها الشديدة بجمال تقاطيع وجهها الأصلية.
ملامح وجهها متناسقة، ولكنها تخلو من برودة التناسق. أنفها الجيد يجعل وجهها الجانبي جميلا ولكن لم تكن أنفا مفرطة في النتوء مطلقا، وتحمل لطافة بدرجة مناسبة. ومع اكتناز شفتيها كان فكها دقيقا ورقيقا ويبدو رهيفا وحساسا. لا يُرى في عيناها الصافيتين وحركتهما غرابة أو شذوذ.
ولكن عندما خرجتُ لاستقبالها وإلقاء التحية عليها، كان واضحا أنها تحاول أن تُظهر على وجهها ابتسامة مشرقة، ولكن في تلك اللحظة ذاتها، جرت في خدها رجفة (tic).
رأيت تلك الرعشة في الوجه على الفور، وهي بدون أدنى شك بوادر الهستيريا ولكنني تعمدت إظهار عدم رؤيتي لها. ولم تكن رجفة شديدة بل مجرد رعشة مرتين أو ثلاث مرات مثل تموجات ضئيلة.
وعرفتُ فورا ما في داخل قلب ريْكو من اضطراب. فمع أنني ظننتُ أنني أتقنتُ التظاهر بعكس ذلك لإلا أنها استشفّتْ سريعا رؤيتي لتلك الرجفة. ربما كان تشبيها وقحا، ولكن كانت ريْكو في تلك اللحظة تشبه الجميلة التي اكتُشِف بنظرة سريعة أنها الثعلب المتنكر.
لا يتناسب مطلقا هذا الخيال الوهمي الذي طرأ على ذهني، مع غرفة الانتظار التي ينبهر بها كل من يراها متيقنا أنها عيادة حديثة جدا، ولا يتناسب أيضا مع المكاتب والمسارح والفنادق المتراصة في طريق آواخر هذا الخريف المشرق كأسنان المشط خارج النافذة.
أدخلتها غرفة التحليل النفسي، وبعد أن أقنعتها تماما أنه لا قلق من أن يراها أو يسمعها أحد، عرضتُ عليها الجلوس على المقعد المريح الذي يمكن من خلال ضبطه أن يصبح أريكة صالحة للنوم، وأما أنا فقد جلست على مقعد صغير، وأمامي المفكرة التي فوق مكتبي وتظاهرت أنني لا أنوي وضع أهمية مطلقا لتلك المفكرة.
بدأتْ بعد أن أصبحنا بمفردنا في شرح حالتها بصوت مريح للنفس فقالت:
«منذ بداية هذا الصيف، فقدتُ شهيتي للطعام نوعا ما، وفكرتُ أنه لا حيلة في ذلك بسبب الصيف، ثم تحول الأمر تدريجيا إلى الإصابة بالغثيان والرغبة في القيء. لم يحدث مرة واحدة فقط، ولكن عندما تأتيني تلك الرغبة مرة، تستمر مرة بعد مرة بإلحاح شديد، لذا اشتريت دواء للمعدة مما يباع في الأسواق وتناولته ولكنه لم يأت بنتيجة. وعند هذا الحد انتبهتُ إلى أمر فجأة فأصابني الرعب»
توقفت ريْكو عن الكلام وهي تبلل شفتها العليا بطرف لسانها الذي جعلته مدببا صلدا.
«فكرتُ: ألا يكون السبب هو الحمل؟»
فسألتها دون تردد: «وهذا يعني وجود سبب لهذا الشك، أليس كذلك؟»
«بلى»
هذه المرة أجابت ريْكو بجراءة بل على العكس بنبرة فخر ثم أضافت:
«... سوف أتحدث عن ذلك فيما بعد بالترتيب. ولهذا السبب ذهبتُ إلى الطبيب، فأخبرني أنه لم يعثر على مؤشر للحمل، وحوّلني على الطبيب (ر) أخصائي الباطنة، وبعد أن أجريت عنده فحوصات متنوعة، لم يصل إلى نتيجة، وبناء على ما شرحت له من أعراض حوّلني هذه المرة إليك»
ثم بدأت ريْكو تحكي قصة حياتها منذ نشأتها دون أن تُسئل عنها، وحرصتُ على أن أترك لها المجال تحكي ما تريد دون أن أقاطعها. وكان محتوى حديثها كما يلي: عائلة يوميكاوا، عائلة شهيرة من أثرياء مدينة قوفو ويمثل والدها الجيل السابع عشر في سلالة العائلة، ولكن بعد أن تخرجت ريْكو في مدرسة ثانوية للبنات في المدينة، وبرغبة شديدة منها واصلت الدراسة في جامعة (س) للبنات في طوكيو وأقامت في بيت الطالبات التابع للجامعة. ومع أنها وعدت والديها بالعودة مباشرة إلى بيت العائلة بعد تخرجها، إلَّا أنَّها رفضت بعناد العودة إلى بلدتها، لأنها تكره خطيبها (وهو قريب لها من نفس العائلة) والمقرر زواجهما منذ كانا أطفالا، واستطاعت إقناع والدها بضرورة الاستمرار في دراسة المجتمع والحياة من خلال العمل بوظيفة إدارية في شركة كبرى للاستيراد والتصدير. ومر عامان على ذلك، ولكن لأنها إن عادت إلى بلدتها لا ينتظرها إلا الزواج من خطيبها الذي تكره، فهي ما زالت تمدد إقامتها هنا حتى الآن، وتعيش في شقة بمفردها كما يحلو لها، ويحرص والدها، الذي يكتفي بإبداء غضبه بالكلام فقط، على عدم التأخر في تحويلاته المالية الكبيرة إليها. هذا هو وضعها الحالي.
أي أنها تعيش حياة جيدة ولا تأمل في حياة أفضل منها. تستخدم مرتب الشركة في مصاريفها اليومية وليس عليها واجب إرسال دعم مالي لأهلها في بلدتها، بل هم الذين يرسلون إليها تكاليف معيشتها المرهفة. على ما يبدو أن والدها لم يستطع التخلي تماما عن فكرة أن حصولها على حياة مترفة قادر على حمياتها من الوقوع في الخطإ.
... ولكن بعد أن دخل الخريف إضافة إلى فقدان الشهية والغثيان، بدأت الرجفة التي ظهرت عليها منذ قليل، تهاجمها.
«إنه أمر غريب جدا! وكأن وجهي يتحرك من نفسه حتى قبل أن أنتبه أنا إلى ذلك»
إن هذا تعبير نفسي ماهر جدا ويبرهن على قدراتها العقلية والمعرفية الجيدة، ولكن أثناء قولها هذا أيضا سرت الرجفة على وجهها. أحسستُ وكأن ريْكو تغمز لي بعينها لأنها في محاولتها لمقاومة الرجفة ظلت تحافظ على ابتسامة جامدة. وهكذا كلما حاولتْ أن تتفادى حدوث تلك الرجفة، كانت تحدث رغما عنها. وتلك هي مشاكسة الإرادة العكسية للهيستريا التقليدية.
وأثناء ذلك بدأت ريْكو فجأة في قول أمر مبهم وغامض تماما:
«ما السبب يا دكتور؟ إنني لا أستطيع سماع الموسيقى!»






[1] يُعتقد أن المؤلف هنا يشير إلى العالم النمساوي سيغموند فرويد (1856 ~ 1939) رائد علم التحليل النفسي، انظر الهامش الأول في آخر صفحة من الرواية / المترجم