بحث في هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 7 يناير 2023

قواعد كتابة الرواية العشر: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة ميسرة عفيفي

قواعد كتابة الرواية العشر

ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة ميسرة عفيفي

القاعدة الأولى:

اِعلم أن الرواية هي أكثر أنواع الأدب بُعدا عن الأدب. وأن الشعر فقط هو الأدب الوحيد بين جميع أنواع الأدب. بمعنى أن الرواية لا تكون عملا أدبيا إلا بما تحتويه من شعر. وبالتالي لا تختلف الرواية في قليل أو كثير عن التأريخ وكتابة السير.

القاعدة الثانية:

على الروائي إن يكون مؤرخا وكاتبَ سير مع كونه شاعرا. وبالتالي لا يجب عليه أن ينفصل عن مختلف مناحي الحياة (في عصره وبلده). وتبرهن أعمال الروائيين اليابان على ذلك منذ شيكيبو موراساكي وحتى سايكاكو إيهارا.

القاعدة الثالثة:

يتوجه الشاعر دائما بمشاعره الخاصة إلى أحد ما (اِنظر إلى ميلاد شعر الغزل من أجل خطب ود المرأة). يجب على الروائي أن يجتهد في أن يكون مؤرخا وكاتب سير مع كونه شاعرا بالفعل. يتواجد كاتب السيرة الذاتية والتي هي أحد أنواع كتابة السير داخل الروائي. وبالتالي يجب أن يشعر الروائي بالكآبة والمعاناة في حياته أكثر بكثير من الشخص العادي. والسبب هو أن الشاعر الذي داخل الروائي عادة ما يكون ضعيفا في تنفيذ أفكاره. وإن كان الشاعر الذي داخل الروائي أكثر قوة من المؤرخ وكاتب السير، فسيلمع نجمه ويستطيع الهرب من المعاناة في النهاية. ويُعدّ آلان بو مثالا جيدا على ذلك. (ولا داعي للقول إن نابليون ولينين لو كانا شاعرين لأصبحا روائيين لم يظهر مثلهما في التاريخ).

القاعدة الرابعة:

من خلال الشروط الثلاثة التي ذكرتُها عاليه، تتكوّن موهبة الروائي من المواهب الثلاث التالية: موهبة الشاعر وموهبة المؤرخ أو كاتب السير وموهبة خوض غمار الحياة. وأطلق الأقدمون على التغلب على المواهب الثلاثة تلك أصعب الصعاب. (ومن لا يعتبرها أصعب الصعاب فهو محدود الموهبة). من يريد أن يكون روائيا، لا يستطيع أن يأمل في سلام أو أمان طوال حياته كلها، مثل سائق يقود سيارة في طرقات المدينة فجأة بدون رخصة ولا تعليم.

القاعدة الخامسة:

إن كان لا يأمل في سلام أو أمان طوال حياته، فيجب أن يعتمد على المال والقوة البدنية والحرية الشخصية (أي الحياة البوهيمية). وثمة فاعلية للاثنين لكن يجب أن يضع في اعتباره أن تلك الفاعلية أقل مما يتوقع. وإن كان يرغب في أن يعيش في سلام نسبي، فلا يجب عليه أن يكون روائيا. من خلال النظر إلى تفاصيل سيرتهم الذاتية الكاملة، يجب تذكّر أن الروائيين الذين يعيشون في سلام نسبي دائما روائيون مبهمون.

القاعدة السادسة:

بالتالي يجب على الروائي الذي يحاول أن يعيش حياة سلام نسبي في هذه الدنيا، أن يصقل موهبة خوض غمار الحياة أكثر من أية موهبة أخرى. ولكن ليس معنى هذا أنه سيترك أعمالا أدبية رائعة (التناقض أيضا موجود بالطبع). وموهبة خوض غمار الحياة أعلاها هو السيطرة على القَدَر (ولكن ما من ضمان يضمن القدرة على تلك السيطرة من عدمها) ويصل أدناها إلى التعامل بحرص وأدب مع أي غبي مهما كانت درجة غبائه.

القاعدة السابعة:

الأدب هو فن يعتمد على الأسلوب والتعبير. وبالتالي من المؤكد أن الروائي لا يجب أن يتكاسل في صقل أسلوبه. ويجب أن يدرك الروائي أن به عيوبا غير قليلة في مؤهلاته لكي يصبح روائيا إن كان لا يستطيع الإحساس بالنشوة من جمال كلمة واحدة. وبالتأكيد لم يكن حصول سايكاكو على لقب “سايكاكو الهولندي” لأنه كسر قواعد وقيود ذلك العصر في الرواية فقط، بل لأنه كان يعلم جمال الكلمات التي فهمها جيدا من خلال شعر الهايكو.

القاعدة الثامنة:

روايات عصر واحد في دولة واحدة تكون ملتزمة من نفسها بقيود متنوعة (هذا ما أقرّه التاريخ). ومن يريد أن يصبح روائيا يجب عليه أن يجتهد في إطاعة تلك القيود. وفوائد إطاعة القيود هي، أولا: سيستطيع تأليف رواياته الذاتية على أكتاف السابقين الأولين من الأدباء، ثانيا: سيمنع عنه ذلك نباح كلاب عالم الأدب لأنه سيبدو لهم جادا. ولكن هذا أيضا ليس معناه أنه سيترك أعمالا أدبية رائعة. (لا داعي للقول إنه لا تناقض هنا). وأكثر العباقرة هم الذين يحطمون القيود التي تقابلهم تحت أقدامهم. (ولكن ما من ضمان أنهم يحطمونها للدرجة التي يفكر بها الناس العاديون). إنهم من أجل ذلك يهربون – حتى وإن كان بدرجة قليلة – بعيدا عن قَدَرِهم، بمعنى بعيدا عن تقدم (أو تغير) عالم للأدب، ولا يستطيعون التدفق مثل تدفق المياه في الميزاب. ويجب عليهم البقاء ككوكب سيّار خارج النظام الشمسي للأدب. وبالتالي فعدم فهم جيلهم لهم أمر مؤكد، وإن تعرّفت عليهم الأجيال التالية فسيكون ذلك فقط من حسن حظهم. (ينطبق ذلك على جميع أنواع الأدب وليس الروايات فقط).

القاعدة التاسعة:

يجب على من يريد أن يكون أديبا أن يحذر دائما من التفاعل مع الأفكار الفلسفية والفيزيائية والاقتصادية. فلا يستطيع أي نوع من الأفكار أو النظريات أن يسيطر على حياة الإنسان الحيواني طالما ظل الإنسان الحيواني ​مستمرا. وبالتالي، يجب العلم أن التفاعل مع الأفكار (على الأقل بوعي) يُصعّب من عمر – أي حياة – الإنسان الحيواني. إن النظر إلى الشيء كما هو والتعبير عنه كما هو يُسمى الوصف الحي. وما من وسيلة أسهل للروائي من الوصف الحي. ولكن يجب القول إن كلمة “كما هو” هنا تعني “كما يراها هو بعينيه”. وليس معناها “كما يراها بناء على أسلوب مستعار من آخرين”.

القاعدة العاشرة:

ما من قاعدة ذهبية بين جميع قواعد كتابة الرواية. وبالتأكيد “قواعد كتابة الرواية العشر” هذه ليست قواعد ذهبية. وفي النهاية من لديه مقومات أن يكون روائيا سيكون روائيا، ومن ليس لديه لن يكون.

ملحق:

أنا أتبع مذهب الشك في كل شيء. ولكن مهما كانت رغبتي في اتباع مذهب الشك، فأنا أعترف أنني لم أستطع حتى الآن أن أكون متشككا تجاه الشعر مطلقا. وفي نفس الوقت أعترف كذلك أنني أجتهد على الدوام أن أكون متشككا تجاه الشعر.

٤ مايو ١٩٢٦

* نُشرت لأول مرة في العدد التاسع من السنة الثانية لمجلة “شينتشو” الصادر في أول سبتمبر من عام ١٩٢٧ أي بعد انتحار أكوتاغاوا بشهر.

 

 

قارئ الرواية ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة ميسرة عفيفي

 

قارئ الرواية

ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة ميسرة عفيفي

من خلال خبرتي يمكن تقسيم قارئ الرواية الآن إلى ثلاثة أنواع على الأغلب؛ النوع الأول يقرأ محور تلك الرواية وحبكتها. ثم قارئ يحمل توقا إلى الحياة الموصوفة داخل تلك الرواية. وأحيانا أشعر بالدهشة تجاه ذلك.

وعلى أرض الواقع أعرف شخصا يعيش حياة بائسة ويعاني معاناة اقتصادية شديدة إلا أنه لا يحب إلا قراءة الرواية الشعبية التي لا يظهر فيها إلا الأغنياء والنبلاء. ليس هذا فقط، بل إن ذلك الشخص ليس لديه أدنى اهتمام بالروايات التي تصف حياة تشبه حياته.

والقارئ الثالث، على الضد من القارئ الثاني، لا يبحث في الروايات إلا عن الحياة القريبة من حياته هو شخصيا.

وأنا بالتأكيد لا أعتقد أن ذلك أمر سيء. إن تلك الرغبات الثلاث موجودة داخلي أنا شخصيا في نفس الوقت. فأنا أحب قراءة الروايات ذات الحبكة الشائقة. وبعد ذلك لا يمنع الأمر أن أحب قراءة روايات تصف حياة بعيدة عن حياتي الشخصية. وفي النهاية، بالطبع أحب قراءة الروايات القريبة من حياتي الشخصية.

ولكنني عندما أتذوق تلك الأنواع الثلاثة من الروايات، من المؤكد أن ما يقرر تقييمي لها ليس مشاعري بأي حال. وأنا أعتقد أنه إن كان ثمة اختلاف بيني (كقارئ) وبين قارئ الروايات العادي في المجتمع فهو هذا الأمر. وإن سُئلت عن الذي يقرر تقييمي للرواية، فالرد أنه لا شيء سوى عمق الأثر الذي تتركه لدي. وعلى الأرجح أن ثمة تأثير إلى حد ما بالطبع للحبكة الشائقة، وقرب أحداث الرواية من حياتي الشخصية أو بعدها عنها. ولكنني أؤمن أنه ما يزال ثمة شيء آخر يؤثر بخلاف تلك الأمور.

أي أن ذلك الأمر الآخر الذي يؤثر في جموع القراء هو ما يُسمى طبقة القراءة. أو ما يُسمى طبقة المعرفة الأدبية.

وتلك الطبقة على غير المتوقع ضيقة. والأرجح أنها أضيق بكثير من الغرب. أنا الآن لا أناقش صواب أو خطأ تلك الحقيقة. بل خطر لي فقط  أن أتكلم قليلا عنها كحقيقة واقعة.

مارس ١٩٢٧

 

ثلاثة خواتم: قصة تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة ميسرة عفيفي

ثلاثة خواتم[1]

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي

(١)

في قديم الزمان، كان متسول ينام أمام مسجد في بغداد. وفي ذلك الوقت انتهت الخطبة فبدأ المصلون يخرجون من المسجد، ولكن ما من أحد منهم حاول أن يعطي ذلك المتسول فلساً واحداً. ثم خرج من المسجد أخيراً رجل على شاكلة التُجّار، وعندما رأى المتسولَ وضع يده في جيبه وأخرج مالاً فأعطاه له. وعندها قام المتسول فجأة وقال: “شكراً لك يا مولاي، حماك الله ورعاك” لم يأبه له ذلك التاجر ومضى لحال سبيله، ولكن أوقفه المتسول وقال له: “توقف يا مولاي! عندي حديث لك” وعندها التفت الرجل الذي على شاكلة التجار وقال: “إنني لست مولاك” فقال له المتسول: “كلا، ولكن يبدو أنك يا مولاي ستلاقي في المستقبل مصاعب في هذه الدنيا، سترعى الإبل وتجلب الماء من الآبار. إنني منذ الفجر وأنا أستجدي الناس هكذا، ولكن لم يعطني منهم رجل واحد شيئاً. ورداً لجميلك يا مولاي سأعطيك خاتماً. لقد صَنع هذا الخاتم جنّي عربي، فإن حاول أحدهم أن يسمّك يا مولاي، سيتحوّل هذا الحجر الأحمر المُزيّن به الخاتم إلى لون أزرق” ثم وضع الخاتم في كف التاجر المندهش واختفى من أمامه وكأنه تبخّر في الهواء.

في غروب اليوم التالي، كانت نساء المدينة تتكالب على أحد آبار بغداد من أجل جلب الماء. وأمام ذلك البئر، كان التاجر الذي وصفه المتسول بمولاه، يتحدث مع إحدى الفتيات. كان مظهر تلك الفتاة في غاية التواضع، ولكنها كانت في منتهى الجمال وذات عيون صافية. وقتها قال التاجر للفتاة: “لقد مر وقت طويل جداً وأنا أتحدث معك كل يوم تقريباً، وفي كل مرة تحلين ألغازي على الفور. إنني منبهر بذكاء عقلك وجمالك الزائد. ألا تقبلين أن تكوني زوجة لي؟” وعندها قالت الفتاة له: “إن من يتزوجني يجب أن يحبني حبّاً حقيقيّاً. أنا لا يمكن أن أثق فيمن يقول تزوجيني بناء على جمال وجهي أو دمامته.” رد التاجر بالقول: “إذن، تعالي معي إلى بيتي وعيشي معي لتري هل أنا أحبك حقاً أم لا، وعندها إن عرفتِ مشاعر قلبي الحقيقية أرجو منك أن تقبلي الزواج مني. وخلال تلك المدة سأعاملك على أنك أختي الصغرى.” قالت الفتاة: “إنني أتحدث معك منذ زمن طويل وحتى الآن لا أعرف اسمك.” قال التاجر: “إنني عبد الله وقد ورثتُ العرش عن أبي وصرت ملك هذه البلاد.” ثم صفّر بفمه، فجاء من مكان مجهول حشد من العبيد يحملون محفة جميلة مصنوعة من العاج، فحملوا تلك الفتاة عليها وذهبوا بها إلى القصر.

حسناً، في صباح اليوم التالي لذهابه بالفتاة إلى قصره، أراد ذلك الملك التحدث مع الفتاة، فذهب إلى غرفتها، فاندهش من أن وجه تلك الفتاة بات مليئاً بالقروح والبثور بين ليلة وضحاها، وصارت امرأة لا يمكن النظر إليها مرة ثانية. وعندما رأى الملك ذلك فكّر للحظة سريعة أنه وقع في مأزق عميق، ولكنه اطمأن عندما أدرك أن شيئاً من صوتها وسلوكها وذكاء عقلها لم يتغير مطلقاً عمّا كان عليه في السابق.

في أحد الأيام، أثناء حديثه معها قال لها الملك: “إنني أحكم البلاد منذ زمن طويل، ولكنني حتى الآن لم أجد الوزير الذي ينال ثقتي، ألا تعرفين أحداً أجعله وزيري؟” فقالت الفتاة: “عندما كنتُ أعيش فقيرة في مدينة بغداد، كان في السوق عجوز يُسمّى القَلَّالي، ما رأيك لو استخدمتظه” وهنا أرسل الملك أتباعه لكي يحضروا من السوق العجوز القلَّالي بائع القِلال.

وفي اليوم التالي، بعد أن انتهى الملك من مراسم تنصيب الوزير، ذهب إلى غرفة الفتاة وهو في منتهى الاستياء والغضب وقال لها: “إنني لا يمكنني الوثوق بذلك العجوز مطلقاً. لقد حاول أن يضع لي السُّم” اندهشت الفتاة وسألته عن السبب فقال لها الملك: “لقد تحول الحجر الذي يزيّن خاتمي إلى اللون الأزرق، ولذا ارتبت في العجوز وفحصته فوجدته يحمل سمّاً.” قالت الفتاة: “إن هذا العجوز ليس ذلك الإنسان المتوحش. لا ريب أن في الأمر خطأ. أرجو منك أن تُحضر العجوز إلى هنا. سأسأله أنا عن الأمر. وأرجو منك أيها الملك أن تبقى في الغرفة المجاورة وتسمع ما سيقوله العجوز.” ولمَّا سألت الفتاة العجوز عن السّم، أجاب العجوز قائلاً: “عندما كنتُ في طريقي إلى القصر أوقفني متسول وأعطاني خاتماً حديديّاً. وقال لي إنني عندما ألبس هذا الخاتم سأعرف أسرار الناس جميعاً، ولكنني من خلال خبرتي الطويلة في الحياة أعرف أنه ما من ضرورة لمعرفة أسرار الناس، ولذا لم ألبس الخاتم ووضعته داخل حزام ملابسي. ولكنني أعرف أن كل الملوك أنانيون، لذا فكرت أنه أفضل لي أن أبتلع السّم وأموت، إن أجبرني الملك على فعل شيء يجلب لي العار، ولذا كنتُ أحمل السّم معي.” وسمع الملك في الغرفة المجاورة ذلك الحديث، فخرج يعتذر بشدة للعجوز على شكوكه الخاطئة تجاهه وقرروا تناول الطعام معاً في ذلك المكان. وعندما عادت الفتاة التي كانت قد ذهبت لتغيير ملابسها، أدهش الملك أن القروح والبثور التي ملأت وجهها اختفت، وباتت جميلة جمالاً لا يمكن مقارنته بما كانت عليه من قبل. قالت الفتاة للملك الذي ينظر إليها باندهاش: “أيها الملك، إنني لم أكن مريضة بمرض عضال. ولكنني كنتُ أحاول أن أختبر قلبك فوضعتُ على وجهي تلك القروح والبثور.” ثم أخرجت من درج المنضدة خاتماً وأكملت: “عندما كنتُ في المدينة، أعطاني متسول هذا الخاتم الفضي، قائلاً لي إنني إن لبست هذا الخاتم أستطيع أن أستولي على قلب أي رجل كان، ولكنني أدركتُ أن مثل هذه الوسيلة غير صالحة، لذا لم ألبس هذا الخاتم مطلقاً، وأنا سعيدة جداً أنني استطعت العثور على الشخص الذي يحبني حقاً دون أن أعتمد على الخاتم.” قال الملك: “إنني أنا الوحيد الذي لبس الخاتم فعلاً من بين الثلاثة الذين أُعطوا الخواتم، بل وكنتُ الوحيد الذي أخطأ. لا حاجة بي لمثل هذا الخاتم.” ورماه على الأرض فانشق الخاتم وخرجت منه نيران، وخرج الإله من وسط تلك النيران ووهب البركة لهؤلاء الثلاثة ثم اختفى.

وعندها تزوج الملك من تلك الفتاة وجعلها ملكة، وجعل من العجوز وزيراً يحكم سياسة الدولة. وبعد سنوات عديدة حدثت ثورة، وهرب الملك مع وزيره وزوجته الملكة من البلاد، وباتوا يوقفون على ضفاف نهر دجلة، يتسولون لقمة العيش. ولكنهم كانوا مستمتعين بذلك إلى حدٍ ما.

(٢)

أمام أحد مساجد بغداد. ينام متسول عجوز فوق بلاط الطريق. ولأن الصلاة كانت قد انتهت لتوها، فقد خرج من باب المسجد المعتم عرب كثيرون شباب وشياب متجهين إلى المدينة التي سقطت عليها شمس الصباح. ولكن ما من أحد منهم ألقى إلى ذلك المتسول بفلس واحد. وأثناء ذلك هبط تاجر شاب في هدوء سلالم المسجد الحجرية. وعندما رأى التاجر المتسول، لا ريب أنه أحس نحوه بالشفقة، فألقى إليه بعملة فضية.

المتسول: شكراً لك يا مولاي!

اندهش التاجر بشدة. فقد كان لقب مولاي يطلق على الخليفة (الملك) فقط. ولكن مر التاجر من أمام المتسول دون أن يقول شيئاً.

المتسول: عسى الله أن يحميك يا مولاي.

(٣)

حاول التاجر أن يمر من أمامه. ولكن لاحقه المتسول وكرر قوله مرة ثانية.

المتسول: شكرا لك يا مولاي! عسى الله أن يحميك يا مولاي.

توقف التاجر.

التاجر: ألستَ تنطق بشيء مبالغ فيه؟ إنني مجرد تاجر. إن اسمي الحاج وأتاجر في التمر. أرجوك أن تكف عن نعتي بمولاك.

المتسول: كلا يا مولاي لستَ تاجراً. إنك مولاي الخليفة عبد الله.

التاجر: أنا الخليفة عبد الله! هاهاها، إنه مجنون. وإن كان مجنوناً فما باليد حيلة. ولكن إن أبطأتُ فربما يصل به الظن إنني إله.

عبس التاجر بوجهه وحاول مرة ثانية الإسراع بالمرور من أمامه. ولكن أمسك المتسول طرف رداء التاجر بيده ذاته العظام القوية، واستمر في التحدث إليه بعناد.

المتسول: مولاي! لا يجب أن تُخفي الأمر. إنك يا مولاي الخليفة عبد الله المشهور بالفطنة والذكاء. إنك مولاي عبد الله الذي رأى شر السياسة وخيرها، أحياناً ما تكون تاجراً وأحياناً راعي إبل. أرجوك أن تعلن عن اسمك الحقيقي. كلا حتى وإن لم تعلن عنه، أرجو منك فقط قبول هذا الخاتم!

أعطى المتسول خاتماً للتاجر الذي وقف مذهولاً. كان خاتماً جميلاً من الذهب مُزيّن بقطعة كبيرة من الألماس.

المتسول: إنك يا مولاي الخليفة عبد الله المشهور بالفطنة والذكاء. ولكنك فقط لا تستطيع أن تكتشف الشرير الذي يريد أن يضع السُّم لك. ولكن عندما يحس الألماس في هذا الخاتم بالسّم، يتحول على الفور إلى لون أسود. ولذلك أرجو منك أن تلبس هذا الخاتم على الدوام. وبذلك حتى وإن كان بين الخدم العديد من الأشرار، فلم يقدر أحد منهم على أن يضع لك السُّم.

لم يقدر التاجر الذي أُخذ على غرة إلا أن يقارن بين المتسول وبين الخاتم فقط.

المتسول: إن ذلك ليس مجرد خاتم. إنه خاتم سحري كان أحد الجنّ يجعله كنز له. لقد وهبتني الآن يا مولاي مالاً. ولذلك أعطيك أنا هذا الخاتم علامة عن شكري لك.

التاجر: من أنت؟

المتسول: هل تسأل من أنا؟ لا أحد يعرف اسمي. لا يعرف ذلك إلَّا الله في عُلاه فقط.

قال المتسول ذلك واختفى أثره على الفور كأنه دخان بخور. لم يبق إلا بلاطات الطريق التي تنصب عليها أشعة شمس الصباح. تأمل التاجر الذي ادّعى أن اسمه الحاج، المكان حوله في عجب وهو يضع الخاتم فوق راحة يده.

(٤)

تمتد أوراق شجرة تين عملاقة فوق بئر سوق بغداد المتدفق. ويقف على يمين ذلك البئر المتدفق التاجر سالف الذكر الذي ادّعى أن اسمه الحاج، وعلى اليسار فتاة جميلة تُدلي من يدها إناء الماء. كانت الفتاة فقيرة الحال، ولكن في الواقع كان وجود فتاة على تلك الدرجة من الجمال نادراً في البلاد العربية الواسعة. وخاصة الآن وبسبب أشعة الغروب، لم يكن صفاء عينيها البارزتين في الضوء الخافت يقل روعة عن ضياء نجوم السماء اللامعة.

التاجر: “يا مارسينا، إنني أريد أن أتزوجك. إنك لا تضعين خاتماً. ولكنني أستطيع أن أعطيك خاتماً مزيّناً بكل أنواع الجواهر. وأنت كذلك لا ترتدين الحرير ولا الرقيق من الملابس. ولكنني أستطيع حتى حرير سيدي …”

أشارت الفتاة بيدها بما يدل على انزعاجها.

الفتاة: “إن من يتزوجني يكفي أن يحبني فقط. أنا فتاة فقيرة ويتيمة، ولكني لا أريد رفاهية

التاجر: “إن كان الأمر كذلك، أرجوك كوني زوجة لي. لأنني أحبك حقاً

الفتاة: “ولكنني لا أعرف حقيقة ذلك بعد. حتى وإن تفضلتَ بقول ذلك، فأنا أرى أنه يمكن أن يكون كذباً أيضاً

حاول التاجر أن يقول شيئاً، ولكن الفتاة قاطعته واستمرت في التحدث بكلمات سريعة.

الفتاة: “ربما تكون محباً لملامح وجهي. ولكن هل تحب روحي أيضاً؟ إن لم تكن تحب روحي فلا يمكنك القول إنك تحبني حقاً

التاجر: “يا مارسينا، إنني أحب روحك بنفس قدر حبي لملامح وجهك. وإن كنتِ تعتقدين أنني أكذب، أرجوك أن تأتي إلى بيتي. أرجوك أن تُقيمي معي لمدة شهر أو شهرين، أو لمدة عام كامل. أقسم بالله سوف أعاملك كما لو كنتِ أختي الصغرى. وأثناء ذلك إن شعرتِ بأي نقص لا مانع أن ترحلين من البيت في أي وقت

احتارت الفتاة قليلاً.

التاجر: “ومقابل ذلك، إن فهمتِ مشاعر قلبي، أرجو أن تصبحين زوجة لي. أنا أبحث عن امرأة أتزوجها على مدار السنوات الثلاثة الماضية. ولكنني لم أعجب بأية امرأة سواك. أرجو منك تحقيق أمنتي تلك

أجابت الفتاة أخيراً بصوت خافت وقد توّرد وجهها من حمرة الخجل.

الفتاة: “لقد قابلتك مرات عديدة في كل مرة آتي إلى هناك لجلب الماء. ولكنني لا أعرف حتى ماذا تُسمّى؟ ناهيك عن معرفة مكان إقامتك…”

هذه المرة كان التاجر الذي ادّعى أن اسمه الحاج هو الذي قاطعها. برزت الابتسامة على وجهه، وانحنى بأدب بالغ تجاه الفتاة.

التاجر: “إن كل من يسكن في مدينة بغداد يعرف أين أسكن. إنني الخليفة عبد الله. إنني الملك عبد الله وقد ورثت العرش عن والدي. أرجو منك أن تأتي إلى قصر الخلافة

وضع التاجر، … كلا بل الخليفة عبد الله، إصبعه على فمه سريعاً وأطلق صافرة حادة. ولأن الفتاة لم تكن تتوقع ذلك، ظلّت تتأمل وجه الخليفة وعيونها الصافية مفتوحة على اتساعها.

 

 

 



[1] ترك المؤلف هذا النص، ومن الواضح أنه كان مجرد مسودة غير مكتملة وبه بعض الاضطراب والنقص في بعض الكلمات القليلة حاولتُ إكمالها حسب الضرورة. (المترجم)