بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 1 أبريل 2020

جحيم الوحدة تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


جحيم الوحدة

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

لقد سمعتُ هذه الحكاية من أمي. وقتها قالت لي أمي إنها سمعتها من جدها الكبير. ولا أعلم مدى صحة تلك الحكاية.
ولكنني فقط أعتقد من خلال معرفتي بشخصية جدي الكبير وسلوكه، أن تلك الحكاية ممكنة الحدوث بشكل كبير.
كان جدي الكبير محبا للفن والفنانين، وله عدد كبير من الأصدقاء بين الأدباء والفنانين والمشاهير في نهاية عصر إيْدو. على سبيل المثال موكوامي كاواتاكيْه، وتانيكازو ريوكاتيْه، وإيْكي زِنزايان، وكذلك توئيه زنزايان، ودانجيرو العاشر، وشيبون أوجي، وسنتشو مياكو، وريوساي كِنْكونبو وغيرهم الكثير. ومن بينهم اتخذ موكوامي جدي الكبير ذلك نموذجا له عند كتابته شخصية بونزائيمون كينوكونيا في قصة "إيدوزاكورا كيوميزوسيغن". لقد مر خمسون عاما تقريبا على وفاته، ولكن أثناء حياته أُطلق عليه لفترة لقب إيماكيبون، ولذا حتى الآن ربما هناك من الناس من سمع باسمه فقط. كان لقب عائلته سايكي واسمه طوجيرو. واسمه الشعري كوي، واسم الشهرة تسوطو ياماشيروغاشي.
يوما ما تقرّب تسوطو هذا من أحد الرهبان في محل تامايا الكائن بحي يوشيهارا. كان اسم الراهب على ما سمعت زِنْتشو وهو الراهب المقيم بأحد معابد الزِنْ في منطقة هونغو. كان من زبائن تامايا الدائمين وعلى علاقة وثيقة بفتاة غيشا اسمها نيشيكيغي. ولأنه في ذلك العصر كان محرما على الرهبان أكل اللحم والزواج لذا فقد كان في العلن أنه خارج سلك الرهبان الرسمي. وكان يرتدي كيمونو أصفر من الحرير وفوق عباءة نصفية عليها شعار عائلته ويقول للناس إنه طبيب. ومن قبيل المصادفة تقارب تسوطو منه.
الصدفة تلك كانت في إحدى الليالي أثناء فترة إضاءة القناديل، في الطابق الثاني من محل تامايا أثناء عودة تسوطو من دورة المياه وهو يمشي في الممر شاردا، وجد رجلا يتأمل القمر وهو يستند على الدرابزين. رجل حليق الرأس يميل إلى القصر والنحافة. واعتقد تسوطو في ضوء القمر أن الطبّال تشيكوناي يتنكّر في زي الأطباء.
لذا عندما مر بجانبه مد يديه وشد أذنه قليلا. لأنه كان يفكر أن يضحك عليه عندما يلتفت للخلف مندهشا.
ولكن عند النظر إلى الوجه الذي التفت للخلف على العكس كان تسوطو هو الذي أصابته الدهشة. فلو استثنينا رأس الراهب الحليقة، لا يوجد أي شبه له بتشيكوناي. ورغم أن الطرف الآخر جبهته عريضة إلا أنه مقارنة بذلك المسافة بين كل حاجب وآخر قصيرة بشكل حاد. ولابد أن سقوط لحم الوجه جعل العيون تبدو واسعة. وحتى في ذلك الوقت ظهرت بوضوح الشامة السوداء الكبيرة التي على خده الأيسر. وكانت عظام الفك مرتفعة. دخلت ملامح ذلك الوجه فقط بعنف وكثرة وبشكل متقطع نظر تسوطو.
قال ذلك الراهب بصوت يبدو عليه الغضب: "ماذا تريد؟" وبدا أنه سكران.
لقد نسيتُ كتابة ذلك فيما سبق، ولكن كان يرافق تسوطو وقتها إحدى بنات الغيشا وأحد الطبّالين. ولم يكن من المقبول في هذه الحالة أن يتقبّل الاثنان أن يعتذر تسوطو. وهنا قام الطبّال بالاعتذار لذلك الزبون عن هذا الخطأ غير المقصود نيابة عن تسوطو. وهكذا أثناء ذلك اصطحب تسوطو الغيشا وعاد سريعا إلى المحل. وبدا أن الموقف كان سيئا حتى لرجل محب للفن مثل جدي الكبير. وعندما سمع الراهب تفاصيل الخطأ من الطبّال اعتدل مزاجه وضحك ضحكا طويلا. ولا داعي للقول إن ذلك الراهب كان زنتشو ذاته.
بعد ذلك أرسل تسوطو من يحمل آنية حلوى إلى الراهب للاعتذار له. وأحس الراهب هو الآخر بالشفقة فجاء خصيصا لشكره. وبعد ذلك توثقت بين الاثنين علاقة الصداقة. ولكن رغم قول توثقت العلاقة ولكن يبدو أنهما لم يتبادلا الزيارات بل فقط يلتقيان في الطابق الثاني من محل تامايا. لا يشرب تسوطو ولو قطرة واحدة من الساكي، ولكن على العكس كان زنتشو من كبار محبي الساكي. وبعد ذلك كان الحال أن زنتشو هو الذي غرق في الرفاهية والبذخ. وأيضا كما هو متوقع كان الذي غرق لأذنيه في عشق النساء بإفراط هو زنتشو. ونقد تسوطو ذلك الأمر قائلا إنه لا يدري من فيهما الراهب الزاهد. كان تسوطو ضخم الجثة دميم الملامح وبصلعته التي تصل إلى نصف رأسه وتميمة الحماية المتدلية بسلسلة فضية على صدره، يحب في المعتاد أن يرتدي كيمونو متواضع من خيطي القطن والتيل ويربطه بحزام محل شيروكي من الكتان الأبيض.
في أحد الأيام، قابل تسوطو الراهب زنتشو، وكان زنتشو يلتحف بعباءة نيشيكيغي ويعزف على آلة الشاميسن. كان عادة شاحب الوجه يبدو عليه المرض، ولكن كان ذلك اليوم بصفة خاصة صحته أسوء. وكانت عيناه حمراء بلون الدم. وأحيانا ما يرتعش جلد بشرته على مقربة من الفم الذي فقد مرونته. وعلى الفور فكر تسوطو أن شيئا ما يقلقه. وإذا كان يمكن لشخص مثلا أن يستقبل نصيحته فهو على أتم الاستعداد لذلك. هكذا جرب أن يبوح له بمثل تلك الكلمات، ولكن لا يبدو أن ثمة ما يصارحه به. ولكنه صار قليل الكلام على غير المعتاد، وبعد مرور قليل من الوقت كان يميل إلى عدم الكلام. وهنا فسر تسوطو الأمر على أنه الملل الذي كثيرا ما يصيب فجأة الشخص كثير اللهو. إن الملل الذي يصيب شخصا غرق في لذة الخمر كما يحلو له، لا يمكن أن يشفيه إلا لذة الخمر ذاتها. من مثل تلك الحالة تحدث الاثنان بحديث من القلب للقلب أكثر من المعتاد دائما. ويبدو أن زنتشو قال ما يلي وكأنه تذكر شيئا فجأة.
طبقا لتعاليم البوذية، ثمة أنواع مختلفة من الجحيم، ولكن في الأغلب أولا يقال إنه يمكننا تقسيم الجحيم إلى ثلاثة أنواع هم: جحيم المركز، وجحيم الجوار، وجحيم الوحدة. ومنذ قديم الأزل والمعتقد غالبا أن الجحيم تقع تحت الأرض، لأنه توجد جملة تقول: "الجحيم أي المكان الذي يقع على بعد خمسمئة يوجانا تحت قارة جامبودڤيپا الجنوبية. ولكن بين أنواع الجحيم الثلاثة، يظهر جحيم الوحدة فقط فجأة في مكان ما وسط السماء الواسعة بين الجبال وتحت الأشجار. بمعنى أن منظر العالم الذي أمام أعيننا حاليا يتحول كما هو فورا إلى عذاب الجحيم. لقد سقطتُ في تلك الجحيم منذ سنتين أو ثلاثة سنوات. أفقد دائما الاهتمام المتواصل تجاه أي شيء. ولذلك أعيش دائما أطارد الحدود من حد إلى حد. ومع ذلك لا أنجو من الجحيم. وعدم تغييري الحدود يجعلني أعاني أكثر وأكثر. وهنا أعيش الحياة متنقلا بين الحدود كل يوم لأنسى تلك المعاناة اليومية. ولكن إنْ أصبحت تلك المعيشة أيضا معاناة في النهاية، فليس أمامي إلا الموت. في الماضي كنت رغم المعاناة أكره الموت ولكن الآن ...
لم يسمع تسوطو آخر جملة. وذلك لأن زنتشو تكلم بصوت خفيض وهو يدَوْزِن ثانية آلة الشاميسن. ولم يأتِ زنتشو إلى محل تامايا بعدها مرة أخرى. وما من أحد يعرف ماذا حدث لراهب الزِنْ المسرف في الضلال هذا بعد ذلك. فقط في ذلك اليوم الذي غادر الراهب زنتشو مكان نيشيكيغي، نسي هناك كتاب سوشو من سوترا كونغوكيو. وبعد سنوات عندما ذهب عن تسوطو مجده واعتزل في منطقة ساموكاوا بمقاطعة شيموسا، كان الكتاب الموضوع دائما فوق مكتبه طوال الوقت كان هو كتاب سوشو هذا. وكتب تسوطو بخط يديه على الغلاف الخلفي للكتاب بيت من الشعر من تأليفه هو:
"عمر الأربعين سنة حيث تنتبه للندى والبنفسج"
ولكن فُقد ذلك الكتاب الآن. وربما لا يتذكر أحد حتى ذلك الشعر.
كان ذلك في العام الأول لعصر "أن سيه" [1857م]. حفظتْ أمي – كما ذكرت لي – تلك الحكاية بسبب اهتمامها بكلمة الجحيم.
أما أنا الذي كنتُ أعيش أغلب ساعات اليوم في غرفة المكتبة، فلو تحدثنا من ناحية المعيشة، كنتُ إنسانا يعيش في عالم لا علاقة مطلقا بجدي الكبير أو راهب الزِنْ ذلك. وحتى لو قلنا من منطلق الاهتمام فقط، فلم يكن لدي أي اهتمام خاص بالمسرحيات واللوحات الفنية لعصر عائلة توكوغاوا. ومع ذلك ومن خلال المشاعر التي أحملها داخلي تجعلني حكاية جحيم الوحدة تلك أشعر بالتعاطف قليلا مع حياتهم المعيشية. ولا أفكر في إنكار ذلك التعاطف. وإذا سُئلت عن السبب، فلأنني بمعنى من المعاني واحد من الذين يعانون من جحيم الوحدة.

(الشهر الثاني من العام الخامس لعصر تايشو [فبراير 1916])

أشعاري النثرية تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


أشعاري النثرية

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا 
ترجمة: ميسرة عفيفي

ليلة خريفية

عندما أردتُ أن أزوّد المدفأة بالفحم،
لم أجد إلا قطعتين فقط.
ثمة أوراق شجر جاف مطوي
في قاع مخزن الفحم
وداخل مسحوق الفحم.
من أي جبال
أتت تلك الأوراق؟
كما ذكرتْ الطبعة المسائية
من صحيفة اليوم،
فقد هطلت بوادر الثلوج
على قمة جبل كيسونوأوندكه
مبكرا كثيرا عن موعدها
المعتاد كل عام.
"تصبح على خير يا أبي"
فُتح كتاب
"ديوان أشعار سيْسيْه مورو"،
عند الصفحة المطوية موقّتا
فوق المكتب الأحمر القديم.
"أحزن عندما أمسك قلمي"
لم يكن ذلك تحسرا
من الشاعر فقط.
فلقد أحس
هذه الليلة أيضا
بنفس الإحساس العميق بالوحدة
عندما تناول الشاي وحيدا.
"يا تيه! لقد حان وقت إغلاق البوابة الأمامية"
اشتريتُ هذا القدح الخزفي الملون
منذ عشر سنوات.
"أحزن عندما أمسك قلمي"
تُرى متى عرفتُ مثل هذه الحسرة بعد ذلك؟
حدثت تشققات بالقدح
منذ زمن بعيد.
وكذلك برد الشاي تماما.
"أيها الزوجة، ألا تُدخلين مدفئة الماء الساخن؟"
وعندها ارتفع فجأة
خيط رفيع من الدخان
داخل مدفأة الفحم.
وعندما قلّبتُ المدفأة
لاستجلاء الأمر،
كانت ورقة من أوراق الشجر
سالفة الذكر
هي مصدر الدخان.
من أي الجبال أتت تلك الورقة؟
بمجرد شم تلك الرائحة فقط،
بدا وكأنني أستطيع
رؤية الجبال
تحت سماء القمر والنجوم
خلف رف الكتب
ذلك الذي يحجب الحائط.
"هل لديك نار؟ فأنا سأستأذن لكي أنام قبلك"

شجرة البلوط

ما أجمل شجرة البلوط!
يُظهر الجذع والأغصان
في كل موضع منها
قوة كامنة كبيرة.
وتلمع الأوراق
التي تحمي الأغصان العالية
كأنها حديد صلب.
لا تستطيع الأيام والسنين
إسقاط تلك الأوراق.
فلا يزيد الأمر عن مجرد
أن تنقلب الأوراق مرة واحدة
إذا هبت الرياح الشمالية
لتُبدي ظهرها باللون البني.
يرتفع صوت ضحكات رجولي.
ولكن شجرة البلوط
ليست متوحشة.
فثمة هدوء واستقرار
في لون أوراقها
وحركة أغصانها.
ولها خِفر وجلال
لا يعيبان رجلا راقيا
تربّى على الأخلاق والتقاليد.
شجرة السنديان
لا تعرف ذلك التواضع.
ولكنها فقط تتفاخر
بقوتها العنيفة أثناء
تناحرها مع الشتاء.
وفي نفس الوقت
شجرة البلوط لا تعرف كذلك التردد.
وعلى الأرجح لا تعرف شجرة البلوط
خفة أشجار الكافور
التي تلعب مع نسائم الريح.
إن شجرة البلوط
شجرة أكثر كآبة.
ولكن عوضا عن ذلك
أكثر ثباتا ورسوخا.
وعلى الأرجح تستدعي
شجرة البلوط فينا الألفة
بفضل ذلك التواضع.
وأيضا من أجل
أثر الاكتئاب ذلك،
فهي تحذرنا من النفاق.
"أيكةٌ من أشجار الصيف، وفي القلب منها البلوط"
يعرف الشاعر باشو
الذي قال ذلك
طبيعة شجرة البلوط
منذ أكثر من مئتي عام.
ما أجمل شجرة البلوط!
وخاصة منظرها
الذي يقترب
من الهيبة والجلال
وهي تعلو سامقة في هدوء
بينما تمد أغصانها الكثيفة
في السماء الصافية
تحت أشعة الشمس.
لا ريب أن عباقرة اليابان
القدماء الفطاحل
كانوا جميعهم شجعانا شامخين
في هيبة وجلال
مثل شجرة البلوط في شيخوختها.
وهي تُبقي آثار الأمطار والرياح
على أغصانها وجذوعها الغليظة. ...
حسنا ما أريد إضافته أخيرا،
هو أن أسلافنا كانوا
يقدسون شجرة البلوط
تماما مثل تقديسهم شجرة الأرْز.

تهوية الملابس

كان جدي الكبير
يرتدي هذا الرداء الكتاني الكحلي.
كان جدي الكبير
راهبا في المعبد القلعة الحربية.
أنا لا أتذكر جدي الكبير هذا.
ولكنه كان يبدو عجوزا عنيدا
في صورته التي نقدم لها
خمر الساكي في ذكرى
يوم وفاته من كل عام،
والتي يرتدي فيها
الكيمونو الأسود الرسمي
المنقوش عليه اسم العائلة.
وكما سمعت
كان جدي الكبير هذا
يحب شعر الهايكو.
وعلى أرض الواقع
جمع عددا منه
مكتوبا في مفكرته القديمة.
"ألا إن لسيف المُسِنّ ثقلا وانتعاشا"
(آه! هناك صورة شيء منعكسة!
على النافذة الغربية
التي يتسرب منها
بصيص من الشمس)
كانت أمي ترتدي
تلك العباءة النسائية
ذات العلامة الصغيرة.
أمي كذلك ماتت
منذ زمن بعيد.
ولكني أتذكر
ركوبي القطار مع أمي
في إحدى المرات.
أكانت في ذلك اليوم
ترتدي تلك العباءة؟
أم ذلك الكيمونو المخطط؟
في كل الأحوال كانت أمي
تعطي ظهرها للنافذة
وهي كما هي تضم بحزم
ركبتيها وتضع على فمها
غليونا صغيرا.
وتنظر من حين لآخر
إلى وجهي وتبتسم
دون أن تقول شيئا.
(وما هذا! غصن خيزران؟
هل هو خيزران نبت هذا العام؟)
كنتُ أنا الذي يستخدم
هذا الحزام ذو اللون البني الفاتح.
لقد كنت طفلا ضعيفا مريضا.
وفي نفس الوقت كنت
طفلا كثير الحمّى.
يبرز في ذاكرتي وجه
طفلة لونه أسود.
تُرى لماذا أتذكر
وجه تلك الطفلة؟
لماذا تلك الطفلة
التي تبدو قبيحة
عند النظر إليها بعيني الحالية؟
الذي يمكنه الإجابة
على مثل هذا التساؤل
هو فقط هذا الحزام.
أنا فقط أعرف
رائحة الذكريات
التي تشبه الأورام.
(تهز الرياح أغصان الخيزران.
تهتز من رياح عالم البشر)

بخور

رفعتُ صدفة ستارة القماش المتدلية. ...
صباح يوم غائم من أيام يونية المريبة.
في غرفة ما من ماخور بادافوتون[1].

تضع صبية صينية
جميلة وحيدة في الغرفة
التي رُفعت عنها
ستائر القماش المتدلية
مرفقيّها ببالطو أبيض
على طاولة سوداء
كبيرة من الخشب.
وأنا أشعر بالحرج لوقاحتي
حاولت أن أُنزل
ستارة القماش المتدلية كما كانت.
ولكن ما طرأ على ذهني فجأة
أن الصبية جلست في صمت
دون حتى محاولة
تغيير موضع رأسها
كلا، بل كانت على ما يبدو
لا تنتبه من الأصل لوجودي.
صببتُ نظراتي على الصبية،
وعندها أغمضتْ جفونها
قليلا على غير المتوقع.
ربما تكون في الخامسة عشرة
أو السادسة عشرة من عمرها.
الوجه مُسحت منه
المساحيق البيضاء تماما،
وكان بيضويا برموش طويلة.
رُبط الشعر برباط بلون لبني،
شعر متدلي مثل فتيات اليابان،
وبالطو المستشفى الأبيض الذي ترتديه،
يلاحق الموضة على ما يبدو
مصنوع من الحرير أو ما شابه.
وكذلك في صدر ذلك البالطو الطري
بروشيه من الألماس
يطلق أشعة مائية رطبة.
هل فقدت الصبية بصرها؟
كلا، ففي مقدمة أنفها
دخان عود بخور
في مبخرة صغيرة من النحاس
على شكل زهرة لوتس.
دقة ذلك العود من البخور
واهتزاز الدخان الذي يتصاعد منه،
... بالطبع الصبية بمجرد
أن أغمضت عينيها
شمّت رائحة البخور.
اقتربتُ من الطاولة المستديرة
وأنا أكتم أصوات أقدامي.
ولكن الصبية رغم ذلك
لا تحرك ساكنا.
كانت الطاولة المستديرة
السوداء الكبيرة كأنها بالضبط
مثل سطح ماء رائق،
تعكس صورة
الصبية في سكون تام.
الوجه والبالطو الأبيض
وبروشيه الألماس ...
لا يتحرك شيء واحد.
في وسط ذلك فقط
عود البخور يضئ
نقطة واحدة من النار
وفي طرفها يتحرك الدخان مهتزا.
هل تحب الصبية
السكينة والسلام
في عود البخور هذا؟
كلا عند الانتباه
والنظر أكثر،
الذي يظهر على وجه الفتاة
لم تكن مشاعر الهدوء والسكينة.
فطرف أنفها يهتز بلا توقف.
وشفتاها أحيانا ما تبدو متشنجة.
وعلاوة على ذلك
تلمع حبات عرق خفيفة
في صدغها النحيل
الذي برزت فيها العروق. ...
اكتشفتُ فجأة.
المشاعر التي تفيض
من ذلك الوجه!
صباح يوم غائم
من أيام يونية المريبة.
في غرفة ما
من ماخور بادافوتون.
لحسن الحظ أم لسوء الحظ،
لم أقابل بعدها أبدا
وجها مؤلما يعاني من
الرغبة الجنسية بشكل مرضي،
لدرجة وجه تلك الصبية الجميل.

مريم العذراء في اليابان

رسم الفنان إموساكو يامادا
لوحة زيتية لتقبل العذراء
جنينها على ساحل البحر
في منطقة أماكوسا.
وعندها نزلت "مريم" العذراء
سلالم الحلم
وأتت لمخدعه تلك الليلة.
"يا إموساكو! صورة مَن هذه؟"
وقفت "مريم" أمام اللوحة
ونظرت للخلف ناحيته وكأنها تشتكي.
"إنها صورتك أيتها العذراء"
"صورتي؟
ولكن هل تشبهني تلك الصورة؟
أليست تلك صورة
لفتاة ذات وجه أصفر؟"
"من المفروض ألا تشبهك. ..."
تابع إيموساكو كلامه في احترام بالغ.
"لقد رسمت صورتك المبجلة
وكأنك فتاة من هذه البلاد.
بل وكما ترين هي ترتدي
ثياب زرع شتلات الأُرز.
ولكن بسبب هالة النور المقدسة
لا يمكن اعتبارها فتاة
عادية من هذا العالم.
وتظهر في الخلفية أحواض الأرز
بعد سقوط المطر،
وخلف أحواض الأرز
مدينة ماتسوياما.
أرجو أن تتفضلي
بالنظر إلى قوس قزح
الذي يبدو معلقا بشكل خافت
في سماء ماتسوياما.
ومن أجل أن أجعل
روح القدس تظهر تحته
رسمت حمامة تطير
وهي تعلق سِبْحة.
بالطبع ربما لا يروق لكِ
أنني جعلتك بهذا الشكل.
ولكن كما تعلمين
أنا رسّام ياباني.
والرسام الياباني ليس أمامه
وسيلة أخرى إلا تصويرك في صورة يابانية.
ألا ترين أنه ما باليد حيلة؟"
بدا أن "مريم" اقتنعت أخيرا
وتألق وجهها في ابتسامة سماوية.
فصعدت وحدها مرة أخرى
في هدوء إلى سماء الليل
التي ينيرها القمر والنجوم. ...

مدخل البيت

أنا أعرف مدخل بيت ما،
تظهر النار حمراء متألقة
على بابه الورقي
في الشوارع الخلفية الباردة ليلا.
مدخل البيت،
ولكني لم أدُس بقدمي
خطوة واحدة داخل
بوابة ذلك البيت
المصنوعة من خشب الصنوبر،
وبالتالي فالعالم الذي تحجزه
تلك البوابة عني
هو عالم مجهول لي تماما.
ولكني أعلم.
الدراما الذي وراء ذلك المدخل.
الملهاة الإنسانية
التي تجلب حتى الدموع.
أين ذهب قبقاب العجوز الخشبي
الذي كان موجودا هناك
في صيف العام الماضي؟
قبقاب المرأة القديم
وقبقاب فتاة صغيرة،
كان دائما مع قبقاب العجوز
فوق صخرة خلع الأحذية.
ولكن في نهاية خريف العام الماضي،
جاءت إلى هذا المكان تلك الأحذية
وذلك القبقاب الخشبي الرجالي،
من مكان مجهول.
لا ليست الأحذية فقط.
ولكن تلك المظلة الغربية الرفيعة
التي سببت لي الاستياء أكثر من مرة!
أتذكر حتى الآن،
أنني كنت أحمل
تعاطفا عميقا
لقبقاب الفتاة الصغيرة فقط.
وأخيرا عربة الطفل الرضيع!
تلك في النهاية منذ أربعة أو خمسة أيام مضت،
أصبحت توضع داخل البوابة الحديدية.
انظر! بين الأحذية الرجالي والحريمي سقطت "بزازة"!
أنا أعرف مدخل بيت ما،
تظهر النار حمراء متألقة
على بابه الورقي
في الشوارع الخلفية الباردة ليلا.
مثلما أعرف محتوى
فهرس كتاب لم أقرأه بعد.

(الشهر الثاني عشر من العام الحادي عشر لعصر تايشو [ديسمبر 1922])



[1] حي شعبي في وسط بكين عاصمة الصين