بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 8 يناير 2023

عيون الاحتضار تأليف: ياسوناري كاواباتا ترجمة: ميسرة عفيفي

 

عيون الاحتضار

تأليف: ياسوناري كاواباتا

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

جاء السيد يوميجي تاكيهيسا هذا الصيف إلى ينابيع إيكاهو الساخنة لبناء بيت صيفي على ضفاف بحيرة هارونا. في جلسة منذ أيام قليلة مضت بمناسبة مرور سبعة أيام على رحيل هاروئه كوغا، انتقل مجرى الحديث دون أن ننتبه من تقييم رسامي الرسومات التوضيحية داخل الكتب ذات الشعبية الكبيرة بين الفتيات والسيدات حاليًّا، إلى حديث الذكريات وكلمات الاشتياق إلى السيد يوميجي، وقال الرسام ماكوتو كوريبارا في تلك الجلسة، إن السيد يوميجي عظيم في كل الأحوال منذ عصر ميجي وحتى عصر تايشو سواء بصفته رسام لوحات للحياة المعيشية وإن لم يكن فبصفته رسام لوحات مناظر طبيعية. ولا يصل إلى قامته أي من رسامي اللوحات التوضيحية في  هذا العصر في نقطة هيمنته على هذا الجيل، فقد استولى على قلوب ليس الفتيات فقط بل الفتيان حتى وصل إلى من يكبرهم في السن من الرجال أيضًا. ولا شك أن لوحاته نضجت مع مرور السنين، ولكن لأن السيد يوميجي لم يرتبط إلا بأحلام مراهقتي فقد صعب عليَّ تخيل يوميجي العجوز ولذا لم أتوقع منظره الذي رأيته لأول مرة في ينابيع إكاهو.

أسرع الانحلال من شيخوخة يوميجي جسدًا وروحًا فباتت هيئته مؤلمة لمن يراها حتى وإن كان في الأصل رسام انحلال. بدا الانحلال في الواقع أسرع طريق يصل إلى الإله رغم أنه الطريق العكسي. وإن كانت الهيئة التي رأيتها أمام عيني هي هيئة فنان عظيم أسرع الانحلال من شيخوخته، فذاك حقًا أكثر قسوة وإيلامًا. ومثل هذا قليل بين الأدباء عامة ومنعدم بين أدباء اليابان تقريبًا. كان يوميجي أكثر تساهلًا، واستخدم طريقُ الرسم الذي سلكه حتى اليوم جسد يوميجي نفسه ليعطي انطباعًا أنه لم يكن الطريق الصحيح. على الأرجح أن تلك التعاسة لا يمكن تفاديها بصفته فنانًا ولكنها ربما كانت سعادته كإنسان. بالطبع هذه كذبة. لا يجب السماح بمثل هذه الكلمات الغامضة حتى لو لجأنا إلى تسوية مرضية، ولكنني أشعر الآن برغبة في النسيان مع هبوب رياح الجنوب. يستطيع الإنسان العيش لأنه يظن أنه يعرف عن الموت أكثر مما يعرفه عن الحياة. لقد وقع ستريندبرغ في مآسي الحب الغريبة لأنه حاول «التصالح مع الإنسانية عن طريق المرأة». وإذا كان حثه جميع الأزواج على الطلاق ليس جيدًا، فإن عدم رغبته هو نفسه أن يصبح أديبًا حقيقيًّا، دليلًا على  نزاهته.

حتى فيما حولنا نحن أيضًا، لا أظن أن أي أديب لديه رغبة شديدة في أن يغدو ابنه أديبًا، على الرغم من أن أبناء ريويو هيروتسو ودوبّو كونيكيدا وشوسيه توكودا وغيرهم صاروا أدباء. وأرى أن الأديب أو الفنان لا يصح إلا أن يولد عصاميًّا (لا يرث الفن ولا يورثه). أن يكون وردة واحدة تفتحت أخيرًا بعد أن تواصلت دماء الجدود عبر عدة أجيال. ثمة استثناءات قليلة العدد، ولكن عندما نبحث في أدباء اليابان فقط نجد أن أكثرهم من عائلات ساموراي. وإذ نقرأ المجلات النسائية ذائعة الصيت، ونرى حوارات مشاهير الممثلات حول حياتهن ونجاحهن الفني، نجد أن كلهن من أصول عريقة وعائلات شهيرة انهارت في عصر الأب أو الجد، وليس بينهن فتاة واحدة من أصل وضيع، لدرجة تجعلنا نذهل من هذا التجمع. وإذا اعتبرنا الممثلة التي تعد دمية للشركات السينمائية فنانة، فعلى الأرجح أن ذلك الحديث ليس بالضرورة مصطنعًا بغرض الدعاية أو المباهاة الفارغة كما يظن. ويمكن كذلك التفكير أن يلد تعليم الفن المستمر جيلًا بعد جيل للعائلات العريقة، أدباء أيضًا، ولكن من جهة أخرى، فغالبًا تكون دماء العائلات العريقة ضعيفة ومريضة، مثل الضوء المتبقي في المصباح بعد انطفائه، دماء على وشك الاندثار، تزداد اشتعالًا في نهاية احتضارها، فتُرى وكأنها أديب. إنها بالفعل مأساة. فلا أعتقد أن ذرية الأدباء يزدهرون بقوة. أما الأمثلة الواقعية لذلك فأظن أن خيال القراء مفعم بالعديد منها.

إن صراع إنسان مثل شيكي ماساؤكا مع الأدب بعنف وهو يئن من آلام الموت أمر شائع بين الأدباء والفنانين العظماء، إلا أنني ليس لدي أي نية لتقليده. أريد إذا رقدت على فراش مرض الموت، أن أنسى الأدب وكل ما يتعلق به. وإذا لم أستطع نسيانه، أريد أن أصلي وأدعو بكل خشوع لكي أدفعه بعيدًا عني على اعتبار أن دعائي حتى الآن لم يصل. وكشخص يعيش في هذا العالم في وحشة دون وجود من أعتمد عليه، فالموت ليس غريبًا بالنسبة لي مطلقًا فقد اقتربت منه من حين لآخر لدرجة الأنين، وعندما أنظر للخلف، ولا أجد أنني كتبت عملًا يعد عملًا حقيقيًّا، والعمل الذي كنت أريد كتابته عاجلًا أم آجلًا، قد طرأ على ذهني ولا أستطيع الموت حتى وإن جاءت ساعة موتي، ولكن إن تغيرت نظرتي للأمور فجأة، بمعنى أن هذه هي الحيرة والضلال، فأنا أعتقد أن وقتها عدم ترك أي أعمال أدبية كافية هو على العكس لن يكون عائقًا لإنهاء حياتي والموت موتًا مطمئنًا. وأحد أسباب كرهي للانتحار هو نقطة أن تموت وأنت تفكر في الموت. وبعد كتابتي لذلك فلا شك أنه كذب. فأنا لم يسبق لي مطلقًا أن واجهت الموت وجهًا لوجه. ولو جاءني الموت لربما حركت يدي في الهواء حتى النزع الأخير بلا جدوى وكأنني أكتب في ورق المخطوطة كالمعتاد. ومع ذلك لقد انزعجت قليلًا عندما مات ريونوسكيه أكوتاغاوا وأنا أتسائل لماذا يكتب من في مكانته وصية بعنوان «رسالة إلى صديق قديم» وقد (استمر لا يفكر إلا في الموت فقط على مدار العامين الماضيين)؟ بل لدرجة أنني فكرت أن تلك الرسالة هي وصمة العار في موت السيد أكوتاجاوا.

ولكن وأنا أكتب هذه الكلمات الآن بدأت في قراءة «رسالة إلى صديق قديم»، فشعرت فجأة أن الأمر ليس بهذه الأهمية بل مجرد أن أكوتاغاوا كان يريد الحديث عن أنه إنسان عادي. في نهاية الرسالة كتب أكوتاغاوا بنفسه حاشية لها:

 

لقد قرأت سيرة أمبادوقليس وشعرت إلى أي مدى قِدم الرغبة في أن يصبح الإنسان إلهًا. في حدود ما أعي فرسالتي هذه تهدف إلى عدم الرغبة في أن أكون إلهًا. كلا، بل أريد أن أكون أقل من الإنسان العادي. من المؤكد أنك تتذكر عندما تناقشنا قبل عشرين عامًا حول «أمبادوقليس جبل إتنا» تحت شجرة الزيزفون؟ لقد كنتُ وقتها أحد الذين يرغبون في أن يكونوا آلهة.

 

ولكنه كتب قبل الحاشية في نهاية الرسالة الأصلية:

 

إن ما يُسمّى بقوة الحياة في الواقع لا يزيد عن مرادف للقوة الحيوانية. أنا أيضًا إنسان حيواني. ولكن عند النظر إلى مللي من الطعام فعلى الأرجح أنني أفقد القوة الحيوانية تدريجيًّا. إن ما أعيش فيه حاليًّا هو عالم الأعصاب المرضي الشفاف كالثلج. في الليلة الماضية كنتُ أتحدث مع إحدى العاهرات عن أجرتها (!) فشعرتُ حتى النخاع بالشفقة لنا نحن البشر الذين «نعيش من أجل أن نعيش». لو استطعنا أن نغرق في نوم أبدي مذعنين، حتى ولو لم يكن في ذلك سعادة فلا شك أنه سيكون سلامًا. ثمة شك في متى أستطيع الانتحار بشجاعة! ولكن في حالتي تلك دائمًا ما تكون الطبيعة أكثر جمالًا عن المعتاد. من المؤكد أنك ستضحك على تناقضي لأنني أحب جمال الطبيعة ومع ذلك أخطط لكي أنتحر. ولكن ذلك لأن جمال الطبيعة ينعكس في عيوني عند الاحتضار.

 

في «العالم الشفاف كالثلج» يسمع الراهب المتدرب صوت احتراق البخور وكأنه صوت احتراق بيت، ويسمع صوت سقوط رماده وكأنه صوت سقوط صاعقة مدوية، وهذا حقيقي على الأرجح. إن جوهر كل الفنون يكمن في «عيون الاحتضار» تلك. لم أستطع تبجيل السيد أكوتاغاوا تبجيلًا عظيمًا سواء كأديب أو ككاتب. ومن المؤكد أن السبب هو الاطمئنان لكوني أصغر منه عمرًا. ومع هذا الاطمئنان وإذ اقترب عمري من عمر السيد أكوتاغاوا عندما مات، أعدت النظر في الفقيد فوجدت أنني يجب أن أغلق فمي، وإذا تغاضينا عن ذلك، فمع شعوري بالخجل فقد شعرت بالراحة مع نوع آخر من الاطمئنان وهو أنني أمامي وقت طويل لكي أموت مرتاحًا. ومع ذلك عند النظر إلى آراء ومقالات أكوتاغاوا الأدبية نجد أنها لا تتوقف عند السيف السحري الاحتيالي للمعرفة الموسوعية والذاكرة الحديدية فقط. بل إن قصة «تروس» التي كتبها قبل موته كانت منذ البداية محل تقديري العظيم، وإن قلنا «عالم الأعصاب المرضي» فلا كلام، ولكني شعرت بأقصى قوة «بعيون احتضار» أكوتاغاوا، رعب كأنني دخلت مرحلة الجنون. وبالتالي، الذي أعطته عيون الاحتضار إلى أكوتاغاوا، إما قرار الانتحار الذي استمر يفكر فيه لمدة سنتين، وإما شيء يكمن في روح وجسد أكوتاغاوا أوصله إلى هذا القرار، ويبدو أن هذا الخليط يتخطى علم سبب الأمراض النفسية، ويمكننا على الأرجح القول إن أكوتاغاوا رهن حياته للتكفير عن عمليه «الإنسان الغربي» و«تروس». وعندما نشر السيد ريئتشي يوكوميتسو قصة «آلة»، التي تُعدّ تحفته الرائعة بل وتحفة الأدب الياباني الرائعة التي لا مثيل لها، وكتبتُ عنها «إن هذه القصة تجعلني أشعر بالسعادة وفي نفس الوقت أشعر بنوع من التعاسة العميقة»، قبل أن أعبر عن حسدي أن حتى تهنئتي لعمل صديقي، شعرت نوعُا ما بالقلق، وسيطرت عليَّ حالة من الكآبة الغامضة. زال القلق حاليًا بقدر كبير، وبديلًا عن ذلك أضيفت معاناته أكثر.

«أكثر البارعون منا نحن الروائيين هم رواد التجارب»، «أريد منكم أن تحفظوا أن كل المعايير سواء في النثر أم في الشعر تطلق جذورها في أعمال العباقرة. لو كان يجب علينا افتراض أننا اكتشفنا بالفعل الشكل الأفضل لكل شيء وأننا يجب أن ننتقد تحطيم قواعد الأدب الذي استخرجناه من أبحاث الأدباء العظام وأغلبهم كانوا في بدايتهم محطمين للأصنام ومحطمين لقداسة الأصنام بسبب أنها خارجة عن التقاليد، ثم إذا حدث ذلك فمعناه أننا أوقفنا نمو وتطور أدبنا بأنفسنا. كذلك يجب أن نعترف خاضعين أن من يوقف نموه فقد مات» (جيه ديبرسفورد «تجارب الرواية» ترجمة السيد سابورو أكيساوا والسيد تاداشي موريموتو) وحتى وإن كان انطلاق التجربة في أقصى حالاته انطلاقًا مريضًا قليلًا، إلا أنه ممتعًا وشبابيًّا، وكما أتوقع أن «عيون الاحتضار» أيضًا «تجربة» على الأرجح، وفي أغلب الحالات لها نفس خصائص توقع الموت.

لست من النوع الذي يجتهد في كل وقت وكل حين على ترديد مقولة «لا يجب أن أندم على أي شيء»، إلا أنني ربما بسبب طبيعتي في النسيان الدائم للأحداث الذي يصل إلى حد الذهول، أو ربما بسبب نقص الوازع الأخلاقي، لم يسبق أن سيطر عليَّ شيطان الندم ولو مرة واحدة من قبل. ولكن إذا أجريت عملية حسابية لكل الأحداث بعد وقوعها، أجد أن ما يجب أن يحدث قد حدث وما يجب أن يكون قد كان، ولا أشعر بأي دهشة أو تعجب. ربما يكون هذا فضلًا من الإله. أو ربما يكون شقاء البشر. في كل الأحوال، هذا الاعتقاد ينطبق على غير المتوقع مع قوانين السماء. ومهما قال عن نفسه إنه إنسان عادي إلا أنه كما سمعت وصل مرارًا وتكرارًا إلى لحظة «إنكار الذات والالتزام بقوانين السماء» التي كانت شعار سوسيكي ناتسوميه في الحياة. فالموت على سبيل المثال، حتي لو كان شخصًا من الصعب تخيل أن يموت، إذا مات بالفعل من المؤكد أن نشعر أنه كانت هناك مقدمات لموته. ويكثر بشدة وجود تنبوءات للموت في أعمال الأدباء والفنانين العظماء. وهذا سبب الرعب من أن العمل الإبداعي لا يمكن تفسيره بالعلوم البدنية أو النفسية التي وصلنا إليها اليوم.

لقد فرق الموت مبكرًا جدًا بيني وبين فنانين صديقين لي. هما موتوجيرو كاجيي وهاروئه كوغا. «حتى لو ثمة فراق مع المرأة في الحياة، إلا أن الفراق الوحيد مع صديق الفن هو الموت، ولا يوجد فراق في الحياة. حتى وإن انقطعت عني أخبار الأصدقاء القدامى، أو افترقنا بسبب شجار نشأ بيننا، إلا أنني لم أفكر مطلقًا أنني فقدتهم كأصدقاء» أنا الذي أنسى الأحداث سريعًا حتى لو قررت الكتابة عن ذكرياتي مع السيد كاجيي أو السيد كوغا لا ينطبع عنهما في ذاكرتي انطباع محدد بدون أن أسأل زوجتي أو أحد المحيطين بالراحلين عن كل تفصيلة من تفاصيل ذلك. ولكن ذكرياتي مع كلا الصديقين الراحلين في الواقع كثيرة لدرجة لا تصدق رغم أنه من السهل تصديقها. وعلى العكس إنني أرتاب من عنف الكلمات التي حاول بها السيد ريوئيتشي أوانا الكشف بها عن موت السيد ريونوسكيه أكوتاغاوا في «لوحتان». فقد كتب السيد أكوتاغاوا نفسه: «لدي صديقين أو ثلاثة أصدقاء لم أكذب عليهم قط، حتى وإن لم أقل لهم كل الحقيقة. لأنهم كذلك لم يكذبوا عليَّ» (كلمات القزم)، لا أعتقد أن «لوحتان» كذبًا، ولكن لن يكون مغالطة القول إن الأعمال التي تتخذ من الواقع موديلًا لها كلما حاول المؤلف الالتزام بالحقيقة، على العكس يبتعد كثيرًا عن الموديل في الحقيقة. ولا تختلف طريقة أنطون تشيخوف في الكتابة عن طريقة جيمس جويس في نقطة أنهما لا يمثلان الموديل كما هو.

 

تنشأ كل الأنواع الأدبية عن استخدام معين للكلمات، فالرواية تعلم تمامًا كيف تسيئ استخدام قدرة الكلمات على التعبير عن المعني المباشر والهام لكي توصل لنا أكثر من حياة خيالية. ثم تحدد أدوار هذه الحيوات الخيالية، وتحدد الزمان والمكان، وتحكي حوادثها إلخ وتربط كل ذلك في النهاية بظلال من السببية الكافية إلى حد ما.

في حين أن الشعر والغناء هو حده الأقصى يتدخل مباشرة في كياننا الحي، ويمثل تمرينًا في الاتصال الدقيق والمستمر بين السمع وشكل الصوت والتعبير المفصلي،‏ على العكس من ذلك تحاول الرواية أن تثير فينا ذلك التوقع العام وغير المنتظم، أي توقعنا لأحداث حقيقية، وتحاول أن يستمر. بمعنى أن مهارة الأديب هي في تقليد استنتاجاتها الغريبة أو تقليد تسلسلها العادي. وأيضًا بينما يكون عالم الشعر منغلقًا انغلاقًا جوهريًّا ومكتملًا في حد ذاته، لأنه نظام خالص مكوّن من زخارف اللغة وإمكانياتها، نجد أنه على العكس في عالم الرواية حتى الأمور الوهمية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع الحقيقي مثلما تفعل اللوحات خداع البصر البارعة (ترمبلوي) التي تجعل المتفرج يدور حولها معتقدًا أنها أشياء ملموسة.

إن ظهور «الحياة» و«الحقيقة»، وهما موضوع حسابات وطموحات الروائي، يرجع إلى الملاحظات التي يُدخلها الروائي في تصميمه، بمعنى أنها تعتمد على إدماجه المستمر للعناصر التي يمكن التعرف عليها. يربط نسيج من التفاصيل الاعتباطية قابلة للفحص، وجود القارئ الحقيقي بوجود الشخصيات المزيف داخل الرواية. ثم بعد ذلك تأخذ هذه المحاكاة بشكل متكرر قوة حياة عجيبة ومن خلال قوة الحياة تلك تصبح تلك المحاكاة قابلة للمقارنة مع شخصيات حقيقية داخل عقولنا. ودون أن نعي ذلك نُعير هذه المحاكاة كل البشر الموجودين داخلنا. لأن قدرتنا على العيش تعني ضمنًا أن نعطي الحياة. وكلما أعرنا تلك المحاكات أكثر زادت قيمة العمل الفني أكثر.

(من مقالة بول فاليري «تحية لمارسيل بروست» ترجمها لليابانية كل من كِنزو ناكاجيما وماسا أكي ساتو)

 

مرت ثلاث سنوات بالفعل على رحيل موتوجيرو كاجيي، وبعد غد يمر الأسبوع الرابع على رحيل هاروئه كوغا ولكني ما زلت غير قادر على الكتابة عنهما. ولكن لا يجعلني ذلك أرى أنني صديق سيئ. وحتى السيد أكوتاغاوا ذكر في «رسالة إلى صديق قديم» ما يلي: «ربما لا يعدم الأمر أن أنتحر وكأنني قد متُ من مرض ما. عندما أفكر بتمعّن في الموت، أتخيل أنني في النهاية أرسو على التفكير أن الموت الطبيعي هو أفضل طرق الموت. فمهما كانت درجة كراهية هذا العالم والبعد عنه، إلا أن الانتحار ليس هو طريق الاستنارة. مهما كان ذا أخلاق عالية إلا أن المنتحر أبعد ما يكون عن القديس». ورغم أن كلا من السيدين كاجيي وكوغا عاشا حياتهما في انعزال، فمن المؤكد أنهما كانا يشتعلان بالطموح، ومع أنهما بديا كأنهما من الفضلاء الذين لا مثيل لنوعهم، كان كلاهما وخاصة السيد كاجيي وكأنهما تتلبسهما الشياطين، ولكن من المؤكد أنهما وهما اللذين كانا بروح يابانية شرقية شديدة لا ينتظران مني كتابة ذكرياتي معهما بعد موتهما. وكما عرفت فقد ظل السيد كوغا أيضًا يفكر في الانتحار لسنين طويلة. وسمعت أن كلامه المفضل دائمًا كان: لا فن يفوق الموت، أو الموت يعني الحياة، إلا أن هذا ليس مديحًا للموت على الطريق الغربية، إذ أنني أفسره بأنه تجسيد للأفكار البوذية التي تغلغلت عميقًا في روحه بسبب ولادته في معبد بوذي ولتخرجه منمدارس تتبع الديانة البوذية. وكما سمعت ففي النهاية استقر رأي السيد كوغا أيضًا على الموت الطبيعي هو أفضلطرق الموت. وربما كانت أمنيته الحقيقية أن يعود طفلًا رضيعًا تمامًا، وتستمر الحمى لعشرين يومًا تقريبًا، ثم يفقدالوعي ويلفظ أنفاسه الأخيرة وكأنه يغرق في نوم عميق.

لن أفصح عن السبب الذي جعل السيد كوغا يخصني بالمودة إلى حد ما. أبدو للناس أنني ألاحق على الدوام كل اتجاه جديد في الأدب وكل شكل جديد فيه، وأنني أسعى في طلب ذلك أيضًا. سمعتي أنني أحب الجديد والغريب، وأهتم بالأدباء الجدد. لدرجة أنني لذلك أملك فخر أن أُسمّى «أستاذ الغرائب والعجائب» وإذا كان الأمر كذلك، فأنا في هذه النقطة أشبه حياة السيد كوغا كرسام. فقد كان السيد كوغا لا يفتأ أن يطمح دائمًا في رسم كل ما هو ريادي وكان لديه فكرة طاغية بأنه يجب عليه أن يجتهد من أجل لعب دور تقدمي في عالم الرسم، ومن أجل أن تحولات طريقة رسمه بدت غير عادية، من المؤكد أنه شخص يمكن أن يُعامل مثلي على أنه «أستاذ غرائب وعجائب». ولكن هل نحن فعلًا نستحق في النهاية أن نكون «أساتذة غرائب وعجائب»؟ على الأرجح أن الطرف الآخر يقصد الاحتقار ولكنني عندما أطلق عليَّ اسم «أستاذ الغرائب والعجائب» ابتسمتُ في سري ابتسامة ساخرة. والسبب أن الحزن الذي في قلبي لم يصل إلى الطرف الآخر الذي هو واحد من آلاف العميان. وإن كان يعتقد في ذلك بجدية، فسيكون أحمقًا خدعتُه بمنتهى السهولة. ورغم قول ذلك، فأنا لا ألهو «بالغرائب» من أجل خداع الناس. ولكن لا يزيد الأمر عن أن يكون تجسيدًا لصراعي الضعيف مع أحزان قلبي. ولا شأن لي بماذا يطلق الناس عليَّ من ألقاب. لا علم لي إن كان نفس الأمر مع بابلو بيكاسو ذلك الوحش الأجنبي الرهيب ولكن السيد كوغا الذي كان مثلي ضعيف الروح والبدن، إلا أنه على النقيض مني أبدع أعمال عظيمة تجتاح لقوة هائلة وفي نفس الوقت، ألم يعانِ قلبه من أحزان تشبه أحزاني؟

ما من أي افتراض أن أفهم أنا اللوحات السريالية، ولكن لو كانت لوحات السيد كوغا من نفس المذهب لها طباع عتيقة، فأعتقد أن السبب هو المرض الشاعري عتيق الطراز للشرق الأقصى. ينساب ضباب الاشتياق البعيد على سطح مرآة الأفكار. من الصعب على غير المتخصص قراءة تركيبة الأفكار أو منطقها وفلسفتها من مجرد النظر إلى سطح اللوحة فقط، ولكنني عند مواجهة لوحات السيد كوغا أشعر أولًا باشتياق بعيد واتساع دافئ لا جدوى له. إيجابية تفوق العدم. وبالتالي فهو يتشابه مع القلب الطفولي البريء. كثير من اللوحات تشبه حكايات الأطفال. ليست مجرد حكايات الأطفال. بل أحلام الدهشة الفخمة للقلب الطفولي البريء. لوحات ذات طابع بوذي شديد. على سبيل المثال لوحة «مناظر من أعماق البحار» التي عُرضت في معرض جمعية نيكاكاي هذا العام، سلب جمال غرائبيتها المريب ألباب الناس، ولكنها تبدو كذلك وكأنها تبحث عن بوذية الغرائب الجذابة في «أعماق البحر». وكذلك النمر في لوحة «مناظر من السيرك» التي عرضت في نفس الوقت، يُرى وكأنه شبيه بالقط، وعلى ما يبدو أن النمر في سيرك هاغنبرغ الذي كان موضوع اللوحة، كان يبدو بالفعل وديعًا هكذا، ولكن على العكس من أجل أن يخلب نمر القلوب هكذا، بالطبع يعتمد هذا على التركيبة العددية لقطعان النمور، ولكن أليس الرسام نفسه يحكي قائلًا: لقد حاولت أن أرسم نوعًا ما مشاعر الهدوء التام والشرود؟ لقد حاول السيد كوغا استخدام روح الثقافة الغربية الحديثة بكثرة في لوحاته، إلا أن أغاني الطفولة البوذية ظلت تنساب في أعماق قلبه دائمًا. ومن المؤكد أن هذا سبب وجود الوحشة الدافئة حتى في اللوحات المائية الجميلة المشرقة التي تشبه حكايات الأطفال. تتسلل أغاني الطفولية العتيقة تلك أيضًا إلى داخل قلبي بسهولة. ولكن ربما تآلفنا نحن الاثنين مع الأغاني القديمة التي تخفي خلفها وجهًا جديدًا. وهذا هو سبب أن أسرع لوحات أستطيع التعرف عليها التي من أيام تأثره ببول كلي. تحدث السيد ريكيزو تاكادا الذي ظل يتابع لوحات السيد كوغا عن قرب لفترات طويلة، تحدث في معرض اللوحات المائية التي تركها السيد كوغا بعد وفاته، فقد انطلق السيد كوغا من الألوان على الطريقة الغربية، ثم انتقل إلى التلوين على الطريقة الشرقية، ثم بعد ذلك عاد مرة أخرى إلى الألوان الغربية، والآن كما يتضح في لوحة «مناظر من السيرك» وغيرها يحاول العودة مرة أخرى للألوان الشرقية. لوحة «مناظر من السيرك» هي آخر ما رسم. وعلى الأرجح أنه بعد ذلك كان يرسم فقط الورق الملون في غرفته بمستشفى شيمازونو للأمراض الباطنة.

وعلى الأرجح أن الأطباء كانوا في منتهى الدهشة كيف يستطيع أن يرسم بحالته الصحية تلك جسديًّا ونفسيًّا تلك اللوحات على الورق الملون التي وصلت في أقصاها إلى عشر ورقات في اليوم، ولكن كانت دهشتي أنا من لماذا يرسمها؟ ذهبنا ثلاثة أنا وموراو ناكامورا وتسوتومو نارازاكي للعزاء ببيت السيد توشيرو ساساكي، وجدنا أربع أو خمس مجاميع قصصية من أعماله قد وُضعت فوق الصندوق الذي يحتوي على رماده. فصدرت مني دون وعي تنهيدة أسى. ولأن السيد هاروئه كوغا كان في الأصل رسام لوحات مائية فقد وُضع معه في التابوت ألوان مائية وفرشات رسم مائية. وعندما رأي السيد سيجي طوغو هذا قال: هل السيد كوغا سيرغم على الرسم في العالم الآخر أيضًا؟ يا له من مسكين! ولقد كان السيد أديبًا أيضًا. بصفة خاصة كان شاعرًا. كان يشتري أغلب المجلات الأدبية للهواة ويقرأها. أولًا لا يوجد أديب يشتري مجلات الهواة. أنا أؤمن أنه سيأتي يوم تظهر فيه الأشعار التي تركها السيد كوغا وتُقرأ على نطاق واسع، ولكنه شخصيًا كان يستمتع بالأدب. وبالتالي فهو على الأرجح لن يشتكي من اصطحابه لكتبه التي أحب قراءتها معه في رحلة الموت، ولكن ربما كانت ريشات الرسم معاناة له. ولكنني أجبت على السيد طوغو بقولي: لأن السيد كوغا كان يحب رسم اللوحات إلى هذه الدرجة فمن المؤكد أن عدم وجود أدوات الرسم سيجعله يشعر بالوحدة من أنه خالي الوفاض.

وقد كتب السيد سيجي طوغو كثيرًا أن السيد هاروئه كوغا قد حامت حوله هواجس الموت. ويقول أنه شعر بذلك بصفة خاصة من الغرابة الملحة التي تلاحق المشاهد في اللوحات التي عُرضت في معرض نيكاكاي لهذا الخريف. وشخص غير متخصص مثلي لا يفهم هذا الأمر، ولكنني عندما سمعت منه أن اللوحات انتهت وذهبت لمشاهدتها أمام الثلاث لوحات من حجم مئة التي استنفدت قوة جبارة، أنا الذي أعرف جيدًا حالة السيد كوغا الصحية، كانت مشاعري على الأحرى هي الذهول وعدم التصديق. كانت لدرجة لا يمكن تصديقها فجأة. مثلًا آخر لوحة «مناظر من السيرك»، كان قد فقد القدرة البدنية على عمل الطبقة التحتية من التلوين، فكان كما سمعت يمسك الألوان بقبضة يده ويصطدم بجسده باللوحة وكأنه يتصارع مع قماش اللوحة، فيلكمها بقبضة يده بعنف أهوج، ولا يدرك ولا يهتم إن سقطت قدم الزرافة. فكيف إذن تصبح اللوحة التي نتجت عن هذه الطريقة في الرسم بكل هذا الهدوء والسكينة؟ وكذلك كما في لوحة «مناظر من أعماق البحار» مع استخدامه فرشاة الرسم بدقة متناهية، إلا أنه لا يستطيع الكتابة بالأحرف اللاتينية لأن يديه ترتعشان فكان السيد ريكيزو تاكادا هو الذي وضع التوقيع على اللوحة. شيء ما خارق للطبيعة جعل يده تعمل بمهارة من أجل الرسم ولكن من أجل الكتابة كانت لا تتحرك إلا بفظاظة. وكما سمعت فقد كانت الجمل التي كتبها في نفس فترة رسم اللوحة في منتهى التناقض والإبهام فكلماتها ناقصة وحروفها ضائعة. وكأنه سيودع هذا العالم عندما انتهى من الرسم تحمل على نفسه وذهب لزيارة مسقط رأسه بعد غياب طويل ثم عاد ودخل المستشفى. وسمعت أن رسائله من مسقط رأسه كانت غير مفهومة. وحتى في المستشفى بجوار رسم اللوحات استمر يكتب الشعر أيضًا. عرضتُ على السيدة زوجته تبيض تلك الأشعار ونشرها، ولكن حتى زوجته المعتادة على خطه قالت لي إنها تعاني من فهم كلماته فتصاب بالصداع من مشاعر الألم وهي تحملق في تلك الحروف في محاولة لحل ألغازها. ولكن على الجانب الآخر كانت اللوحات منظمة ومرتبة. حتى وإن بدأت فرشاة الرسم تغدو مشوشة إلا أنها ذات معنى. وفي النهاية عندما أصابه الوهن فاللوحات التي كانت آخر ما رسم حرفيًّا مجرد أنه لونها بعدد من الألوان بلا شكل ولا معنى. حتى وصوله لهذه الدرجة كان السيد كوغا يرغب في الإمساك بأنابيب الألوان المائية. بهذا الحال، وسط العديد من القوى المعنوية والبدنية، كانت موهبة الرسم هي التي امتدت لأطول وقت، ثم ماتت في النهاية. كلا ربما ما زالت حية تنبض داخل جثمانه. ظهرت فكرة تزيين آخر لوحاته تلك في جنازته ولكن اعترضت زوجته أن ذلك يشبه عرض آلامه ومعاناته على الملأ، فألغيت الفكرة، ولكن ربما كان وضع الألوان وفرشات الرسم في التابوت ليس إثمًا. فلا شك أن الرسم كان بالنسبة للسيد كوغا هو طريق خلاص الروح، وربما كان كذلك طريقه إلى السقوط في الجحيم. فموهبة السماء الفنية تشبه الكارما.

كانت حياة دانتي الذي كتب الكوميديا الإلهية عبارة عن مأساة. سمعت أن والتر ويتمان كان يُري الزائرين صورة دانتي وهو يحكي لهم قائلًا: «هذا وجه رجل زالت عنه قذارة هذه الحياة. ولكي ينال مثل هذه الوجه، فقط بقدر ما نال بقدر ما فقد» سوف يتغير مجرى الحديث إلى اتجاه لم أتوقعه، ولكن السيد يوميجي تاكيهيسا بسبب شدة تميز وفرادة لوحاته، وبالمرة بسبب ذكر «فقط بقدر ما نال بقدر ما فقد»، لأذكر أمر السيد هاكوتيه إيشيي. في الحفل الذي أقيم للاحتفال بعيد ميلاد السيد هاكوتيه الخمسين، ألقى السيد إيكوما أريشيما كلمة من منضدته فقال مازحًا: «إن السيد إيشيي كان بلا حيرة في عمر العشرين، وبلا حيرة في عمر الثلاثين، وبلا حيرة في عمر الأربعين وبلا حيرة في عمره الخمسين، وعلى الأرجح أنه لحظة وُلد صارخًا واء، كان بلا حيرة» لو كان طريقي السيد هاكوتيه بلا حيرة، فتُرى هل كان طريقي السيد يوميجي بلا حيرة يوم واحد كل عشرة سنوات؟ من المؤكد أن هناك من انفجر ضاحكًا من مفاجأة المقارنة. في حالة السيد يوميجي كان أسلوبه في الرسم هو عقابه المصيري.

إذا اعتبرنا لوحات السيد يوميجي في شبابه «عذراء متجولة»، فربما كانت لوحاته الآن «عجوز بلا مأوى». وهذا هو القدر الذي وجب على الأديب أن يتهيأ له كذلك. فحتى لو قلنا إن تساهل السيد يوميجي هو الذي أهلكه، ولكنه هو الذي أنقذه كذلك. كان السيد يوميجي الذي رأيته في ينابيع إيكاهو قد شاب شعرت بالفعل وتراخى لحم جسده، وبدا نوعًا ما قد في ضعف الشيخوخة المبكرة، ولكنني أعتقد أيضًا أن لون عينيه كان في الواقع في منتهى الشباب.

كان السيد يوميجي هذا يصطحب معه الطالبات ويستمتع بقطف زهور النباتات في الهضاب العالية. ويرسم اسكتشات سريعة من أجل الفتيات الصغيرات. وكان ذلك طبيعيًّا جدًا بما يليق بالسيد يوميجي. كنت أنظر إلى هذا العجوز الشاب الذي ينطبق عليه المثل الياباني «روح الطفل في الثالثة من عمره تستمر معه حتى مئة عام»، هذاالرسام التعيس في سعادته تلك فأشعر بالسعادة تارة وبالحزن الخفي تارة أخرى - فقد سُحرتُ من عنفوان الفن الغامض مهما كانت القيمة الحقيقية للوحات السيد يوميجي. أعطت لوحات السيد يوميجي للمجتمع قوة غير عادية، ولكن في نفس الوقت من المؤكد أنها كانت سببًا في تآكل ومعاناة غير عادية للرسام.

قبل عدة سنوات من لقائه في إيكاهو، سبق أن صحبني السيد كوراسكيه واتانابه تلميذ ريونوسكيه أكوتاغاوا لزيارة بيت السيد يوميجي. فلم يكن هناك. وجدنا فتاة تجلس أمام مرآة. وقد شككت في عيني لأنها كانت صورة طبق الأصل من إحدى لوحاته. ثم نهضت أخيرًا وودعتنا وهي تمسك بيدها باب المدخل. فكان سلوكها وكل حركة من حركات يديها وكل خطوة من قدميها قد انتزعت من لوحات يوميجي أفقدني ذلك النطق من الدهشة والحال هكذا. فمن الثابت أن كلما تغيرت حبيبة الرسام يتغير وجه المرأة في لوحاته. وحتى الأديب كذلك. وحتى غير الأدباء والفنانين، فالزوجان لا يتشابه وجهيهما فقط بل وطريقة التفكير كذلك تغدو واحدة. ليس بالأمر النادر البتة ولكن فقط كان وجه المرأة في لوحات يوميجي في غاية التميز، وكان ذلك زاهيًّا فقط. فلم يكن ذلك رسمًا من وحي الخيال. فقد رسم يوميجي لوحاته كاملة على جسد فتاته. على الأرجح أن ذلك انتصار للفن، ولكنني شعرت كذلك أنه هزيمة تجاه شيء ما. تذكرت هذه الأمور في إيكاهو، فرأيت في هيئة شيخوخة السيد يوميجي وحشة إلى حد ما التي يختص بها الفنان وحده.

بعد ذلك انبهرت مرة أخرى بجمال المرأة الصناعي العجيب حينما رأيت كريمة السيد مانغيو مياغاوا في حفل خريجات المعهد العالي للثقافة. وسط تجمع الفتيات التي تزين على الطريقة الحديثة بما يليق بذلك المعهد، اندهشتُ من زينتها التي اتخذت هيئة دمية على طراز عصر إيدو، ليست غيشا صغيرة من طوكيو وليست غيشا محترفة من كيوتو بل ليست فتاة من الحي الشعبي لمدينة إيدو (طوكيو القديمة) ولا من لوحات الفن الياباني العتيق ولا الأدوار النسائية لمسرح الكابوكي ولا عرائس مسرح الجوروري بل ما يبدو أنه تجميع لجزء من كل ذلك معًا، كانت تجسيد حي لعمل من أعمال السيد مانغيو الذي يهوي عصر إيدو. من المستحيل وجود شخص مثلها في الحياة المعاصرة جميلة جمالًا جعلني أنبهر بقولي لنفسي هل يصل الأمر إلى القدرة على صنع هذه الابنة بناء على التفاني والاجتهاد؟

... انتهت بذلك مقدمة بسيطة طالت قليلًا لهذه المقالة. في البداية وضعت لها عنوانًا «مخطوطة وأشياء أخرى». كانت خطتي محاولة الإحساس بشيء ما بشأن طريقة كتابة الرواية عندما قابلت السيد يوميجي قابلت في إيكاهوري في نفس الوقت أيضًا الذي قابلت فيه السيد يو ريوتانجي لأول مرة أُعرف بمخطوطات السيد ريوتانجي وأسلوبه في الكتابة، وأنا أتطرق إلى عدد من الأدباء. لو نويت من البداية الكتابة عن «عيون الاحتضار» أعتقد أنني كنتُ سأستعد من نفسي بمواد من نوع مختلف وبعزم ونية مختلفين.

ومع ذلك، حاولت أن أغمس قلمي بأحبار «طريقة كتابة المسرحيات» فالتقطت العدد العاشر من سلسلة «المسرح» كانت بجواري وبدأت قراءة عشوائية في مقالة «طريقة كتابة المسرحيات» لسانت جون إرڤين (ترجمة تاكاشي سوغاوارا) فوجدت ما يلي:

«منذ عدة أعوام صدر في بريطانيا كتاب بعنوان «طريقة النجاح في عالم الأدب». وبعد عدة أشهر انتحر المؤلف لفشله في أن يكون أديبًا»

 

(مجلة الآداب والفنون عدد ديسمبر من عام ١٩٣٣)