بحث في هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 14 أبريل 2018

فصل من رواية لهاروكي موراكامي لم تُنشر بأية لغة اسمها "المدينة وأسوارها غير المؤكدة



حقا! نحن جميعا نسير ونحن نجر خلفنا ظلالنا.
لا أملكُ في هذه المدينة ظلا. نحس عندما نتخلى عن ظلنا، لأول مرة بذلك الثقل. لا ريب أن البشر صاروا منعدمين الإحساس تجاه ثقل ظلالهم تماما كما هو حالهم مع الجاذبية.
بالطبع التخلي عن الظل ليس أمرا بهذه السهولة. إن وداع شيء اعتدتَ عليه وألفته لشهور وأعوام طوال، أي كان هذا الشيء لهو أمر على درجة من الصعوبة والمعاناة.
عندما أتيتُ إلى هذه المدينة، كان عليّ إيداع ظلي لدى حارس بوابة المدينة.
"لا يمكن الدخول إلى المدينة وأنت تحمله معك"
قال حارس البوابة ذلك بكل حسم، ثم أضاف: "لا يوجد إلا أمرا من اثنين، إما أن تتخلى عن ظلك، أو أن تيأس من دخول المدينة"
اخترتُ أن أتخلى عن ظلي.
أوقفني الحارس تحت أشعة الشمس وأمسك بظلي.
"لا تقلق، فلا يوجد ألم وسينتهي الأمر سريعا"
قاوم الظل قليلا، ولكنه لم يكن بمقدوره مقارعة حارس البوابة ضخم الجثة، وسرعان ما فقد قوته بعد أن سُحب وسُلخ، فتداعى ساقطا على المقعد الطويل. بدا الظل الذي شُد سلخا من جسمي فقيرا هزيلا على غير ما كنت أعتقدُ وأتوقع. وكذلك بدا عليه التعب والإرهاق الشديدين. سقطت أهميته وصار لا علاقة لوجوده بي من قريب أو بعيد، مثل حذاء قديم خُلع ورُمي، أو مثل ضرس مسوس مخلوع.
"ما رأيك، ألا تحس بشعور غريب بعد انفصال هذا الظل عنك؟"
"هو كذلك"
"مثل هذا الشيء لا نفع له ولا فائدة. ورغم ذلك تجد لسانه حاضرا قويا. قائلا: لا أريد ذلك، أنا أحب هذا. هل أتى على الظل زمنا كان فيه ذا نفع؟ ولو لمرة واحدة؟"
"لا، ولا مرة"
"أليس كذلك؟"
قال حارس البوابة ذلك بكراهية شديدة، ثم أضاف:
"من المؤكد أنك لن تندم على ذلك"
"أتمنى ذلك"
"على كل الأحوال سأحتفظ لك بظلك هذا. ولن أسيئ إليه. ولن أجعله يعاني"
"هل يمكن أن أسألك سؤالا؟"
"بالطبع، تفضل"
"ماذا سيصنع ظلي أثناء غيابي؟"
"مثل الجميع. يمشي، ويفكر، وسأجعله يتريض مرة في اليوم. ثم عند مجيء الشتاء يزداد عملي، فيجب أن يعاونني. في التخلص من الوحوش مثلا"
"التخلص من الوحوش؟"
"أجل. عند مجيء الشتاء أنت أيضا ستفهم ماذا أعني"
"بالمناسبة إذا فكرت أن أستعيده مرة أخرى ماذا يجب عليّ فعله؟"
كان يبدو على حارس البوابة أنه لم يفهم معنى سؤالي.
"تستعيد الظل؟"
"أجل"
عقد الحارس ذراعيه وغرق في تفكير عميق.
"لم يسبق أن حدث مثل هذا من قبل. لم يمر عليّ شخص طالبا استعادة ظله ... إن الظل يعني القلب المظلم الضعيف. من ذا الذي يريد مثل هذا الشيء؟"
قلتُ لا أدري.
"إن العديد من الذباب يتجمع حول ذلك القلب الضعيف المظلم. الكراهية، المعاناة، الضعف، الغرور، الشفقة على الذات، الغضب ..."
أضفتُ أنا قائلا:
"الحزن"
فكرر هو:
"والحزن"
ثم أضاف:
"من الذي يريد مثل هذا الشيء؟"

قلت لكِ: إننا جميعا كنا نسير ونحن نجر ظلالنا. في الوقت الذي توجد فيه أشعة، تلتف الظلال حولنا، وفي الظلام تهجم الأحلام على نومنا.
"لماذا لا يتخلى الجميع عن ظلالهم؟"
"لم يعرفوا طريقة التخلي عنها. ولكن حتى لو كانوا يعرفون ربما لم يكن ليتخلوا عنها"
"لماذا؟"
"لأننا تعودنا على ذلك الثقل. أننا نواصل التعود على أي شيء. كانت تلك هي مدينتي"
يوجد مركب مربوط بحبل في جذع أحد أشجار الصفصاف النهري التي تنبت متفرقة في الجزيرة النهرية، وحول تيار المياه الجارية، يصدر المركب صوتا تشتاق إليه وكأنه من بقايا آثار الصيف.ش
"إين ذهبت ظلالكم أنتم؟"
"لقد نسيتُ ذلك تماما. فالجميع في هذه المدينة قد انفصلوا عن ظلالهم من الصغر. في الوقت الذي تتبدل فيه أسنانهم. ثم تُطرد الظلال إلى خارج أسوار المدينة"
"هل تعيش الظلال بعد ذلك كظلال فقط؟"
"أجل، هذا ما أعتقده. لكن ظلي مات في الربيع منذ خمس سنوات مضت. حارس البوابة وجد ظلا يحتضر خارج الأسوار فحمله إلى الداخل. ومات بعد ثلاثة أيام حسب ما سمعت. ودفنه الحارس في المقابر التي تقع في غابة أشجار التفاح"
"ألم تقابليه؟"
"أقابل ظلي؟"
"أجل"
ضحكتِ ثم قلتِ:
"أوه! ماذا سأقوله له عندما أقابله؟"
رحلت طيور العندليب بالفعل، وغلبت على المكان رياح شهر أكتوبر الباردة.
"علاوة على ذلك، فالقلب المظلم لا بد له من الموت يوما ما"
قمنا ثم صعدنا درجات السلم الحجرية، وعبرنا إلى الضفة المقابلة وكتف أحدنا في كتف الآخر.
قلتِ: "قريبا جدا سيموت ظلك أنت أيضا" ثم أضفتِ: "إذا مات الظل، تموت الذكريات المظلمة. ثم يجيء السلام النفسي"
"ثم تقوم الأسوار بحماية ذلك من أجلنا"
"أجل" قلتِ ذلك ثم أضفتِ: "أصلا، ألم تأت أنت إلى هذه المدينة من أجل ذلك؟"
ربما كان الأمر كذلك، أو ربما لم يكن. لقد أخذتني فجأة الأفكار التي ليس لها ملجأ التي تشبه تجمعات المياه التي تُركت على حافة ضربتها الأمواج. ولكن هذه الأحاسيس، استمررت فقط حتى عبور الجسر.

ليست هناك تعليقات: