بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 23 مايو 2013

مقالة قديمة جديدة: من هو شينزو آبه رئيس وزراء اليابان


من هو شينزو آبه رئيس الوزراء الياباني الجديد
يوصف بأنه من الصقور المحافظين في الحزب المؤيدين
للولايات المتحدة المطالبين بمواقف مشددة تجاه كوريا الشمالية
بقلم: ميسرة عفيفي
أجريت يوم 20 / 9 انتخابات رئاسة الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في اليابان الذي سيكون الفائز فيها تلقائياً رئيساً للوزراء في الحكومة الائتلافية اليابانية. تقدم للترشيح للمنصب الهام ثلاثة مرشحين هم شينزو آبه وزير شئون مجلس الوزراء والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، وتارو آسو وزير الخارجية، وساداكازو تانيغاكي وزير المالية.
وكانت النتيجة هي فوز الأول شينزو آبه بنسبة تفوق 66 بالمئة من الأصوات وبالتالي سيتولي في الأسبوع القادم منصب رئيس الوزراء رقم تسعون في تاريخ اليابان.
في يوم 21 / 9 يبلغ شينزو آبه عامه الثاني والخمسين، فهو من مواليد عام 1954 وبذلك سيصبح أول رئيس وزراء لليابان يولد بعد الحرب العالمية الثانية. في عدد اليوم من إحدى الجرائد الصباحية اليابانية كاريكاتير يصف حيرة آبه من طلب تورتة الاحتفال، هل يطلب اثنين واحدة لعيد الميلاد والأخرى لتنصيبه رئيساً للوزراء، أم لا؟
إن كل التوقعات كانت تشير إلى فوز آبه بمنصب رئيس الحزب الحاكم وبالتالي رئيس الحكومة. جريدة الواشنطن بوست الأمريكية في عددها الصادر يوم 19 / 9 تُحلل ذلك بأن الخوف الياباني من السلاح النووي الكوري الشمالي مع الخوف من التقدم الصناعي الرهيب للصين هو الذي ساعد في الدفع بمتشدد مثل آبه إلى سدة الحكم. وتصفه الجريدة بأنه من الواضح نرجسيته الشديدة.
من هو آبه؟
شينزو آبه (52 عاماً) يشغل حتى هذه اللحظة منصب وزير شئون مجلس الوزراء والمتحدث الرسمي باسم الحكومة. في حين أنه شغل منصب الأمين العام السابق للحزب الحاكم، ونائب وزير شئون مجلس الوزراء وأيضاً نائب السكرتير العام للحزب الحاكم. وهو ابن شينتارو آبه السياسي المحنك والوزير السابق الذي كان قاب قوسين أو أدنى من منصب رئيس الوزراء. وهو أيضاً حفيد نوبوسكيه كيشي رئيس الوزراء الياباني الشهير في نهاية الخمسينيات. ويقال إن شينزو آبه ورث من جده هذا اتجاهاته السياسية، فهو يُصنّف من كبار الصقور اليمينية في الحزب الحاكم. دخل آبه عالم السياسة بعد وفاة والده المفاجئة وكان عمره 38 عاماً. حيث انتخب عضواً في مجلس النواب ليخلف والده وكان آبه يعمل سكرتيراً لوالده حتى وفاته.
لم يظهر شينزو آبه على السطح السياسي إلا في آواخرعام 2000 حين عُين نائباً لوزير شئون مجلس الوزراء في وزارة يوشيرو موري. وبدأ يلمع أكثر في عهد رئيس الوزراء الحالي كويزومي. وبدأت شعبيته تتزايد مع تطورات علاقة اليابان بكوريا الشمالية، مع حديثه لوسائل الإعلام بشكل مستمر مطالباً بالضغط على كوريا الشمالية لحملها على إيقاف تطويرها للسلاح النووي وحل مشكلة اليابانيين المختطفين لديها.
ويقال إن له علاقات طيبة بالولايات المتحدة ويتخذ موقفاً شديد الصرامة ضد كوريا الشمالية ولايمانع من فرض حصاراً اقتصادياً عليها لكي تستجيب لما يُطلب منها خاصة فيما يتعلق بقضية اليابانيين المختطفِين لديها وترفض إرجاعهم لذويهم. وكذلك قضية تطوير السلاح النووي.
وآبه أيضاً من الساعين إلى إحداث تغييرات جوهرية على الدستور الياباني لكي تتمكن اليابان من أن تلعب دوراً عسكرياً وسياسياً في الساحة الدولية.
وأيضاً هو من الزائرين سنوياً لمعبد ياسوكوني الشنتوي الذي يضم رفات الجنود اليابانيين الذي قضوا في الحرب العالمية، مع رفات القادة الذين حكم عليهم بالإعدام بتهمة إرتكاب جرائم حرب. وهو ما تعترض عليه الدول التي اُرتكب بحقها هذه الجرائم مثل الصين والكورتيين. وقد لاقى مجرد ورود اسمه ضمن المرشحين لرئاسة الوزراء في اليابان امتعاضاً وقلقاً من دول الجوار وخاصة الصين. التي تعاني الأمرين من أفعال كويزومي فما بالك بشينزو آبه الذي يقال إنه أكثر تطرفاً منه فيما يتعلق بالعلاقات مع دول المنطقة.
لكن آبه منذ أن بدء يفكر في الدخول في انتخابات رئاسة الحزب الحاكم هو يلزم نفسه بإبداء آراء أكثر اعتدالاً من آرائه السابقة. ويعمل على الظهور بمظهر الساعي إلى إقامة علاقات قوية ووطيدة مع الجيران. حتى أنه قال إنه سيعمل على إنجاز لقاء قمة بأسرع وقت ممكن مع الزعيم الصيني الذي رفض لمدة خمسة أعوام كاملة مقابلة كويزومي بسبب زياراته السنوية لمعبد ياسوكوني. وفي موضوع كوريا الشمالية يؤكد على سيره على نفس النهج الذى سار عليه كويزومي باستخدام سياسية "الضغط والحوار" أو ما يمكن تسميته سياسية "العصى والجزرة" لحثها على الاعتدال.
الخبراء يقولون إن التغير الذي طرأ على تصريحات آبه لا يعني أن آرائه تغيرت ولكن يعني أن الرجل الذي على وشك الوصول إلى مقعد رئيس الوزراء يجب ألا يصرح بما في قلبه. أولاً لأن ذلك سيصعب من مهمته القادمة وثانياً لأنه بعد وصوله إلى منصب رئيس الوزراء لن يمثل نفسه فقط كما في السابق ولكنه سيمثل الدولة ككل.
من الواضح أن شينزو آبه أكثر تشدداً في آرائه من كويزومي، إلا أنه لا ولن يتمتع بالشعبية التي حصل عليها الأخير أثناء توليه منصب رئيس الوزراء لفترة تقارب الخمسة أعوام ونصف العام. ومن المتوقع أن يقع في العديد من المشاكل والأزمات بسبب صغر سنه النسبي وقلة خبرته السياسية بالإضافة إلى تشدده في آرائه وإلى نرجسيته وعناده الواضحين.

الثلاثاء، 21 مايو 2013

اليابان وثقافة الانتحار



اليابان وثقافة الانتحار

بقلم: ميسرة عفيفي


انتحر وزير الزراعة الياباني توشيكاتسو ماتسؤكا (62 عاما) في الثامن والعشرين من شهر أيار/ مايو 2007 على خلفية اتهامات له بالفساد واستغلال المنصب الوظيفي في أعمال غير مشروعة. وقد أصيب المجتمع الياباني بصدمة من هذا الحادث لأن هذه هي المرة الأولى التي ينتحر فيها وزير وهو في منصبه. الوزير ماتسؤكا كان من كبار متشددي المحافظين في الحزب الحاكم الذين يعارضون التقدم والإصلاح. وكان من المجاهرين بمعارضتهم لرئيس الوزراء السابق كويزومي الذي كان يعمل على إحداث إصلاحات سياسية وهيكلية. مما يجعل الناس تحتار في إقدامه على الانتحار.

عدد المنتحرين اليابانيين يزيد على الثلاثين ألف شخص للعام التاسع على التوالي، وصل العدد في عام 2006 إلى 32,155 شخص. أي بمعدل انتحار شخص كل 18 دقيقة. وهي من أعلى النسب في العالم والنسبة الأعلى في الدول الصناعية الكبرى. وإذا أضافنا عدد محاولات الانتحار التي يخفق منفذوها في التخلص من حياتهم فيها وهي أكثر من حالات الانتحار نفسها، نجد أننا أمام ظاهرة خطيرة ومنتشرة في اليابان.
والسؤال هو لماذا يُقْدم الياباني على التخلص من حياته بهذه السهولة؟
بالطبع أسباب الانتحار المباشرة كثيرة ومتنوعة وهي لا تختلف كثيراً عنها في الدول والبلاد الأخرى. لكن ما أريد مناقشته في هذه المقالة هو لماذا يقدم عدد أكبر من البشر في اليابان عنه في باقي بقاع العالم على الانتحار؟
بل يصل الأمر وكما نعلم جميعاً أن اليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي لها طريقة معينة في الانتحار مسجلة باسمها، وهي طريقة "الهاراكيري" وتعني "قطع البطن".
أعتقد أن ثقافة الانتحار في اليابان أتت في الأصل من ثقافة "الهاراكيري" التي اشتهر بها المحاربون القدماء "الساموراي".
فما هو تاريخ هذه العادة التي انفردت بها اليابان عن العالم أجمع؟
الهاراكيري هي قيام الفرد بقطع أحشائه بسيف صغير (خنجر) وذلك بشق بطنه بخط أفقي من الشمال إلى اليمين ثم يواصل الشق رأسياً إلى أسفل البطن. ولأن هذه الطريقة لا تسبب الموت الفوري بل يظل المنتحر يعاني من الآلام الرهيبة فلابد من وجود شخص يقوم بقطع رقبته على الفور حتى يريحه من هذه الآلام.
يقال إن أول من أقدم على الانتحار بطريقة "الهاراكيري" في اليابان هو المحارب "ميناموتو نو تاميموتو" في عام 1177 ميلادياً، وانتشرت بعد ذلك بين الساموراي منذ ذلك العصر وحتى عصر انتهاء طبقة الساموراي بانتهاء الحكم العسكري وانتهاء المجتمع الطبقي في عصر ميجي. ولكنها استمرت بعد ذلك أيضاً وإن قلت نسبتها طريقة مفضلة للانتحار لدي بعض اليابانيين من العسكريين واليمينيين الذين يحنون إلى عصر الساموراي المجيد. ونعرف أن 
يوكيو ميشيما (1925 ~ 1970) أشهر كُتّاب اليابان بعد الحرب انتحر بطريقة "الهاراكيري" في عام 1970.
اكتسبت "الهاراكيري" مقوماتها ومجدها الشهير في عصر الحرب الأهلية التي استمرت ثمانين عاماً من أواخر القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن السادس عشر. وبعد انتهاء الحرب الأهلية وتوحيد البلاد تحت قائد واحدة تغيرت الهاراكيري قليلاً. فبعد أن كان الأصل أن الساموراي المهزوم وخاصة القائد يُقْدم على الانتحار بطريقة الهاراكيري خوفاً من أن يقع أسيراً في يد أعداءه ويعدم ذبحاً وهو ما كان يعتبر عاراً كبيراً بالنسبة للساموراي، أصبحت أسباب الهاراكيري متنوعة، كأن يُقْدِم الساموراي المنهزم على الهاراكيري بدافع تحمل مسئولية الهزيمة. أو لكي يلحق بقائده الذي قُتل في المعركة، أو لكي ينال نفس الشرف الذي ناله رفيقه المنتحر، أو لكي يعلي من شأن عائلته بهذا الشرف .. إلخ. ثم صارت الهاراكيري طريقة من طرق الحكم بالإعدام وخاصة في عصر إدو ضد الساموراي. ولكن يبقى السبب الأكثر شهرة وكثرة هو قطع البطن "الهاراكيري" دليلاً على تحمل مسئولية الهزيمة أو الخطإ أو لمسح العار الذي يلحق بالشخص المنتحر. وهناك كلمة نقد شديدة القسوة لا تقال إلا في أشد حالات الغضب والانفعال، ألا وهي "اقطع بطنك"، تقال لشخص ما لحثه على وجوب تحمل مسئولية الخطإ أو ضرورة الإحساس بالندم والعار مما سبّبه عن قصد أو حتى عن خطإ وإهمال. وسرعان ما يندم قائلها لأنه يعلم أنها كلمة لا يجب أن تقال تحت أي ظرف كان.
إذاً الانتحار في اليابان على طريقة الهاراكيري يعني في الماضي أولاً تحمّل المسئولية، ثانياً يمسح الخزي والعار، ثالثاً يمتدح فاعله لأنه قدّم حياته في سبيل ذلك.
رغم اختلاف الأوضاع كثيراً بعد انتهاء عصر الساموراي الذين انقرضوا بعد ثورة ميجي الإصلاحية، إلاّ أنه خلال الحرب العالمية الثانية فوجئ العالم بظهور قوات "الكاميكازيه" التي هي عبارة عن فرق خاصة تقوم بعمليات عسكرية انتحارية ضد الجيش الأمريكي من أجل الإمبراطور الذي يعتبرونه إله ويعتبرون أن بذل النفس من أجله غاية المجد والشرف. وهي عمليات عسكرية أفقدت أمريكا صوابها. فكان أول ما عملت علي تنفيذه بعد احتلالها اليابان هو نزع صفة الألوهية عن الإمبراطور وجعله إنساناً عادياً في عيون اليابانيين، بل ونزع كل سلطاته السياسية وجعله مجرد رمز للدولة "لا سلطة له" كما يقولون. وبسبب هذا الاحتلال اختلفت النظرة إلى الانتحار وزاد البعد عن الثقافة اليابانية الخاصة بذلك بسبب طغيان الحياة المادية الغربية على نمط الكثير من مناحي الحياة، إلاّ أنه لا زال يبقى في أعماق اليابانيين بعضاً من هذه الثقافة التي تمجد تحمل المسئولية، وأن من أخطأ سواء عن قصد أو عن إهمال يجب أن يكفّر عن هذا الخطإ بأية طريقة كانت، وإن انعدمت طريقة الهاراكيري إلا فيما ندر كما هو الحال في حادثة انتحار ميشيما. وبالمناسبة ميشيما انتحر لفشله في حثّ أفراد قوات الدفاع الذاتي على التمرد على الأوضاع الذي أُجبرت عليها اليابان بعد هزيمتها أمام أمريكا وخاصة الوضع المزري للإمبراطور، بعد أن ظل يخطب فيهم حوالي نصف ساعة، فشل في حثهم على القيام بانقلاب عسكري يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب. فانتحر بطريقة الهاراكيري وهو يهتف "يعيش جلالة الإمبراطور".
إذاً الانتحار سواء بالهاراكيري أو بوسيلة أخرى هو بصفة عامة فعل ينّم على تحمل المسئولية وينم على الندم والأسف. وفي الماضي كان يمجد من ينتحر لهذه الأسباب.
إذاً الانتحار بسبب اليأس من الحياة أو اليأس من الفقر أو اليأس من المرض .. إلخ هو وإن كان سبباً ظاهرياً في الكثير من حالات الانتحار التي تحدث حالياً، إلاّ أن الواقع يقول إنه لأن اليابانيين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فالمنتحر في أغلب الأحوال يعتقد أنه السبب في كل ما يجري له، وأن هناك حوله الكثيرون الذين يعانون بسببه سواء كانوا أهله أو مرؤسيه أو رؤساءه أو حتى عامة الناس. وأن تخلصه من حياته هو عمل يقتضيه منطق الشرف والأمانة، وإنه بذلك سيريح ويستريح. خاصة أن أغلب اليابانيين الآن يؤمنون بتناسخ الأرواح، وأنه سيولد مرة أخرى في هذه الحياة وسيكون وضعه فيها بناء على أفعاله فيها فإن فعل خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ذكرتُ في أول المقالة أن عدد المنتحرين في اليابان فاق الثلاثين ألف شخص للعام التاسع على التوالي. هذه السنوات التسع هي محصلة والمتوقع أن تستمر لفترة، للكساد الاقتصادي الذي تعاني منه اليابان منذ منتصف التسعينات في القرن الماضي وحتى الآن وإن تحسّن الأمر نسبياً مؤخراً. أكثر من عانى من هذا الكساد الاقتصادي هي الشركات الصغيرة والمتوسطة التي وقعت في أزمات مالية متوالية الأمر الذي أدى بالكثير من هذه الشركات إلى إعلان الإفلاس والإغلاق. عدد كبير من أصحاب ومدراء هذه الشركات يقدم على الانتحار عندما يرى أن شركته التي يملكها أو يديرها مضطرة إلى الإفلاس مما يسبب العديد من المآسي للعاملين فيها وأسرهم. على اعتبار أن هذه هي الطريقة التي يعتذر بها عما حدث. وهذا هو السبب الذي جعل عدد المنتحرين في اليابان يزيد بمقدار أكثر من عشرة آلاف شخص في العام بين ليلة وضحاها. فبعد أن كان متوسط عدد المنتحرين في اليابان في العشرين سنة منذ عام 1978 إلى عام 1997 هو 22,523 شخص في العام، أصبح متوسط العدد منذ عام 1998 وحتى العام الماضي هو 32,501 شخص في العام الواحد. ويرى الخبراء أن الأزمة الاقتصادية التي حدثت بعد انتعاش اقتصادي مبالغ فيه وقع بشكل فجائي هي السبب الرئيسي في هذه الزيادة. للأسباب التي تحدثنا عنها.
الانتحار في الأديان السماوية وخاصة الإسلام محرّم بإطلاقه. لأن حياة الإنسان هي هبة من الخالق الذي نفخ فيه من روحه، ولذا لا يحق للإنسان أن ينهي هذه الحياة التي لا يمتلكها في الواقع، وإن كان له الحرية الكاملة على أفعاله، إلا أنه سيجازى على ذلك الجزاء الأوفى. ولكن هناك من يقول "إنه لا يوجد نص صريح في القرآن يُحرّم الانتحار، وإن كان هناك أمر بعدم اليأس من رحمة الله. إلا أن الانتحار ندماً أو الانتحار تحملاً للمسئولية يختلف في الواقع عن اليأس من رحمة الله."
وهناك قصة في التاريخ اليهودي تثير الانتباه وهي ما تُسمى قصة الماساداه.
"وقصة الماساداه تتلخص في أنه بعد أن دمّر الرومان مملكة القدس اليهودية في عام 70 بعد الميلاد لجأت جماعة تتجاوز ألف شخص من غلاة اليهود المتعصبين لديانتهم إلى جبل الماساداه المطل على البحر الميت وتحصنوا في أعلاه.الرومان ردوا على ذلك بأن أقاموا سوراً حول الجبل لمحاصرة اليهود الذين رفضوا الاستسلام بعد أن دُمرت مملكتهم.وفي سنة 73 ميلادية أرسل الإمبراطور الروماني فرقة عسكرية للقضاء على اليهود المتحصنين بالجبل.
وعندما أدرك اليهود أنهم خاسرون في تلك المواجهة، اتخذوا قراراً بالانتحار الجماعي ولكن لأن الانتحار مُحرّم في الديانة اليهودية، أمر كبيرهم اليعازر بن يائير عشرة منهم بقتل الآخرين، ثم قتل واحد من العشرة التسعة الآخرين، ثم انتحر."
(بالنص عن مقالة لأمير العمري من موقع بي بي سي بالعربي)
وهذا بالضبط ما كان يحدث في الهاراكيري، إذ أن الشخص المنتحر في الأغلب الأعم كانت تطير رأسه قبل أن يقطع أحشائه، للتردد الذي يصيبه في اللحظة الأخيرة، أو لاستعجال الشخص المكلف بقطع الرأس لكي يخفف عن المنتحر الآلام. وليس هناك أي شك في أن ما حدث في الماساداه إن كان حقيقياً فهو انتحار جماعي حتى لو لم يتم بيد المنتحر. يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: "وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم باتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ."
(البقرة آية 54)
والله أعلم.

الأحد، 19 مايو 2013

حرب مع البلدية المجاورة


حرب مع البلدية المجاورة
بقلم: ميسرة عفيفي
فجأة وبدون أية مقدمات تنشب حرب شرسة بين مدينتين متجاورتين في أحد أقاليم اليابان. هذا هو محتوى الرواية التي حازت على جائزة العمل الأول لمجلة سوبارو الأدبية في دورتها السابعة عشر لعام 2004. المؤلف أكي ميساكي وُلد عام 1970 في مدينة فوكوأوكا بأقصى جنوب اليابان، تخرج من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة كوماموتو. وكما ذكرنا هذا هو العمل الروائي الأول له.
تقع الرواية في 196 صفحة وصدرت الطبعة الأولى لها في يناير 2005. (في اليابان غالباً ما يُنشر العمل على شكل حلقات في إحدى المجلات الأدبية أو الجرائد ثم يُطبع في كتاب بعد ذلك، وفي حالة العمل الأول يشترك العمل في مسابقة تسمى مسابقة العمل الأول، وإذا حصل على إحدى الجوائز تصبح الجائزة هي جواز المرور للنشر.)
يعلم كيتاهارا الذي يعمل موظفاً في شركة بنشوب الحرب بين المدينة التي يسكن فيها والتي اختارها للسكن، فقط لقربها من محل عمله، وبين جارتها بطريق الصدفة وبشكل غريب، إذ يقرأ إعلاناً في النشرة الإعلامية النصف شهرية التي تصدرها بلدية المدينة يقول إن حرباً ستنشب بين هذه المدينة والمدينة المجاورة. وعلى الطريقة اليابانية مكتوب موعد محدد باليوم والساعة لبدء الحرب وكذلك نهايتها المتوقعة. لا يهتم كيتاهارا بالموضوع كثيراً، بل إنه وحتى بعد الموعد المحدد لبداية الحرب لا يرى ولا يحس بأن هناك أية حرب دائرة بين المدينتين، خاصة أنه يخترق المدينة المجاورة بسيارته يومياً في ذهابه وإيابه من العمل. إلا أنه يكتشف من خلال النشرة الإعلامية أن الحرب فعلاً دائرة وعدد ضحاياها من مدينته فقط وصل إلى 12 فرد قُتلوا في العشرة أيام الأولى للحرب.
ثم يفاجأ كيتاهارا بخطاب من البلدية يطلب منه أن يعمل مراسلاً للمعلومات لصالح مدينته. يحاول أن يتهرب من قبول هذه المهمة إلا أنه في النهاية يقبل عندما يجد أن الموضوع لا يزيد عن إخبار البلدية بما يشاهده أثناء مروره بالمدينة المجاورة عند ذهابه وإيابه من عمله. لكنه يُفاجأ عندما يقرأ النشرة الإعلامية التالية أن عدد القتلى من مدينته وصل إلى 53 قتيل في الأسبوعين الآخيرين.
أين تدور هذه الحرب؟ وكيف لا يشعر بها ولا يرى لها أثراً في حياته اليومية؟ وهل المعلومات التافه التي يرسلها إلى البلدية تتسبب في قتل أحد؟! موظفة البلدية المسئولة عن الاتصال به أبلغته أنهم في البلدية يشكرونه على ما يقدمه من معلومات. بل أنه لا يعرف ولا يمكن أن يفهم السبب وراء قيام الحرب أصلاً. يكاد كيتاهارا أن يجن.
في أحد الأيام يأتي تليفون في منتصف الليل من كوساي الموظفة المسئولة في البلدية لتقول له إن البلدية قررت إرساله في مهمة استطلاعية لأرض العدو. أرض العدو هذه يُراد بها المدينة المجاورة التي لا تبعد سوى دقائق بالسيارة. وتأخذ العملية الاستطلاعية هذه شكل الزواج الشكلي من كوساي الموظفة بالبلدية والانتقال إلى عش الزوجية في المدينة المجاورة. حتى بعد الانتقال للمدينة المجاورة لا يرى كيتاهارا أي أثر للمعارك أو القتال. المدينتان وسكانهما في حالة طبيعية جداً.
لكن في وقت متأخر من ليل أحد الأيام يأتيه تليفون من زوجته التي لا زالت في عملها تخبره أنه جاءتهم معلومات تفيد حدوث تفتيش على المنزل من قبل أجهزة عسكرية تابعة للعدو تحت مسمى إجراء استبيان لحالة المواطنين، وتطلب منه سرعة الهروب من المكان حاملاً معه كل الملفات والوثائق السرية التي توجد في غرفتها.
لأول مرة يشعر كيتاهارا بطعم الحرب ويقضي ليلة هي الأولى والأخيرة التي يمكن أن يتذوق فيها الإحساس بخوض حرب فعلية وليس من خلال الكلام فقط. تظل كوساي على اتصال به من خلال التليفون الجوال لتعطيه تعليمات تساعده في الهرب من المدينة المجاورة إلى مدينته حيث توجد هي. وبالفعل ينجح كيتاهارا في الوصول إلى حدود مدينته بعد أن حصل على مساعدة أفراد من المدينة الأخرى يعملون كجواسيس لصالح مدينته. ومن هذه الحدود تأتي سيارة فارهة تقودها كوساي وبها كبار موظفي البلدية تنقله إلى مقر البلدية. ومع وصوله إلى البلدية تشرق الشمس لتعلن بداية يوم جديد فيذهب إلى عمله ثم يعود منه إلى الشقة التي هرب منها في الليل ليمارس حياته كما هي قبل التفتيش لكن بعد أن أخلى المكان من أي وثيقة يمكن بها محاسبته. لكن هذه الليلة التي شعر فيها كيتاهارا بطعم الحرب، لم تكن كما توقعها. أي نعم لقد ظل طوال الليل هارباً من شيء ما لكنه لم يشاهد هذا الشيء فعلياً كل ما هنالك أن كوساي على الطرف الآخر من الهاتف تسأله عن ما يشاهده فيقول لها مثلاً أنه يرى من بعد أنواراً داخل النفق المؤدي إلى مدينتهما فتطالبه بالهرب السريع لأن هذا يعني أن داخل النفق حملة تفتيشية من الجهة العسكرية المسئولة في المدينة المجاورة. لم يرى كيتاهارا على أرض الواقع أي شيء يمكن أن يشير إلى وقوع قتال في أي مكان مر به. ولم يسمع حتى أي صوت يمكن اعتباره صادراً عن معارك. حس كيتاهارا لذلك بخيبة أمل دفينة في داخله.
كما بدأت الحرب فجأة تنتهي فجأة من خلال تليفون من كوساي تخبره فيه أن الحرب قد انتهت وبالتالي انتهت مهمته الاستطلاعية في أرض العدو ويمكنه بعد الانتهاء من الإجراءات أن يعود إلى بيته الأصلي.
وفي الموعد المحدد وهو الحادي والثلاثون من مارس تنطلق ضربات المدفع من مقر البلدية لتعلن انتهاء الحرب بشكل رسمي. يقول كيتاهارا في نفسه أن أول مرة يسمع فيها صوت إطلاق النيران هي التي تعلن نهاية الحرب.
رواية غريبة الشكل غريبة الفكرة. الحديث عن الحرب في اليابان ينحصر في الكلام عن الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة اليابان واحتلالها بواسطة جيش الحلفاء وإقرارها لدستور سلمي يتخلى عن اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل النزاعات ويرفض امتلاك الدولة لجيش.
أما أن تعود الحرب بهذا الشكل الإقليمي بين مدينة وجارتها فهو ما يدخل ضمن تصنيف الخيال العلمي. لكن الرواية غارقة في الواقعية باستثناء الفكرة كل التفاصيل فيها تُبنى على أرض الواقع الحالي لليابان.
من وجهة نظري الشخصية الرواية تريد أن تناقش نقطتين رئيسيتين، الأولى هي استسلام الشعب الياباني التام للبيروقراطية ولأوامر طبقة التكنوقراط التي تقرر كل شيء في حياة الشعب دون أن يعترض أحد، حتى لو قررت الحرب على الجيران. فحتي بطل الرواية الذي يرفض نظرياً قبول منطق الحرب نجده يستسلم للأمر الواقع ويشارك فيها أسوء أنواع المشاركة. مواطني المدينة عندما يحضرون اجتماع لشرح أسباب انتشار الحرب وتداعياتها على حياتهم لا يصدر منهم صوت يتسائل عن سبب وجدوى الحرب وهل لم يكن هناك سبيل غيرها. بل نجدهم على العهد بهم يسألوا عن ساعات القتال التي قرر أن تكون من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساءً وهل يمكن تفادي موعد عودة التلاميذ من مدارسهم أم لا. أو من يستفسر عن التعويضات لمن يتضرر من الحرب كأن يكسر زجاج النافذة أو أشياء من هذا القبيل. شئ لا يصدقه عقل ولكن بالفعل هذا هو الحال إذا ما قررت البلدية أن تنفذ مشروعاً ما في داخل نطاق المدينة كأن تبني جسراً أو تسوي طريقاً. لكن هل فعلاً سيصل الأمر إلى التعامل مع الحرب بذات المنطق؟
النقطة الثانية التي يريد المؤلف عرضها هي قضية الحرب ذاتها. بتصغير حالة الحرب إلى حجم مصغر لها بين مدينتين صغيرتين يتضح عبثية الحرب ولا معقوليتها. وإنها أولاً وأخيراً تتم بناء على رغبة فئة محدودة هي المستفيدة من قيام الحرب. ولكن من أجل إعطاء شرعية لهذا العمل الإجرامي تبذل هذه الفئة، وهي هنا طبقة التكنوقراط كل ما في وسعها لتضليل الناس وإشعارهم أن هذه الحرب ضرورية لهم للحفاظ على الرفاهية التي هم عليها الآن. وأن بذل النفوس في سبيل ذلك شئ لا مفر منه. بل أنهم يقدمون الحرب كمشروع استثماري سيجلب الخير والرخاء للناس.
لا زالت الرواية تثير العديد من النقاش والإعجاب في اليابان. واحتلت بعد صدورها في كتاب مرتبة عالية في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الأسواق.

شون مْدوروما و"قطرات الماء"


شون مْدوروما و"قطرات الماء"

بقلم : ميسرة عفيفي

شون مْدوروما روائي من محافظة أوكيناوا، التي تتكون من عدة جزر في أقصى جنوب غرب الأرخبيل الياباني، على مقربة من تايوان.
كانت أوكيناوا في الماضي مملكة مستقلة بذاتها تُسمى "مملكة ريووكيو" لها ثقافتها الخاصة ولغتها الخاصة التي مازالت آثارها موجودة في اللغة المحلية لسكان أوكيناوا.
وُلد شون مْدوروما في عام 1960 وتخرج من كلية الآداب و القانون بجامعة ريووكيو بأوكيناوا. عمل بعد تخرجه في عدة وظائف مثل فرد أمن لحراسة المباني ومعلم في فصول التقوية الأهلية، وحتي الآن لا يزال يعمل كمعلم مع عمله في كتابة القصص.   حصل عام 1983 على جائزة ريووكيو شين بو للقصة القصيرة في دورتها الحادية عشر عن قصته "حكاية سرب الأسماك". وحصل في عام 1986على أوكيناوا الجديدة للآداب في دورتها الثانية عشر عن مجموعته القصصية "مشياً في شارع السلام".  في عام 1997 حصل على جائزة الأدب بمهرجان كيووشيوو للفنون في دورته السابعة والعشرين عن قصة "قطرات الماء" ثم بعد ذلك على جائزة "أكوتاغاواشو" العريقة عن نفس القصة ليصبح رابع كاتب من أوكيناوا يحصل على هذه الجائزة. يُصنّف  شون مْدوروما على أنه كاتب معارض للنظام وفي مجموعته القصصية "مشياً في شارع السلام" يهاجم الإمبراطور والنظام الإمبراطوري بطريقة غير مباشرة. أغلب إنتاجه عبارة عن مجموعات قصص قصيرة لكنه يكتب في الجرائد والمجلات المحلية (خاصة في أوكيناوا) عدد كبير من الأعمدة والمقالات النقدية والأدبية *.

تدور أحداث قصة "قطرات الماء" في أحدى قرى أوكيناوا عن زوجين عجوزين يعملان في الزراعة وليس لهما أولاد، تبدأ القصة بسقوط الزوج فجأة طريح الفراش بسبب مرض غريب لا يُعرف له اسم ولا سبب. فقد تورمت قدمه اليمنى من أسفل الركبة ليصبح حجمها  أكبر من الفخذ مع ارتفاع درجة حرارتها وتحول لون البشرة إلى اللون الأخضر الفاتح. ثم بدأ يتساقط من بين الأصابع سائل يشبه قطرات الماء. أصبح الزوج واسمه توكوشو طريح الفراش لا يستطيع الحركة أو الكلام لكن رغم ذلك لم يفقد الوعي. بدأ ينتشر في القرية خبر توكوشو وقدمه فأقبل الناس بدافع الفضول يأتون لزيارته أو بالأحرى لمشاهدة هذه القدم العجيبة.
بعد أيام بدأ توكوشو يلاحظ في الجزء الأخير من الليل قدوم شباب في عمر الزهور يلبسون ملابس عسكرية قديمة. يقفون في طابور طويل وهم يتلهفوا على شرب قطرات الماء التي تنزل من قدم توكوشو وأغلبهم مصاب بإصابات خطيرة أو قاتلة.
يبدأ توكوشو في التعرف عليهم  واحداً بعد الآخر. إنهم زملاءه الجنود الذين كانوا محاصرين معه في أحد الكهوف أثناء الحرب العالمية الثانية حيث انقطع عنهم الماء والطعام.

تتفق "أوشي" زوجة توكوشو مع أحد أقرباءها على أن يرعى زوجها المريض أثناء غيابها للعمل في الحقل. وبطريق الصدفة يكتشف هذا القريب أن الماء الذي يخرج من قدم توكوشو له فوائد عدة مثل علاج الصلع والعنة وزيادة القوة الجسمانية. فيبدأ في تعبأته في زجاجات وبيعه على أنه الماء المعجزة ويكّون ثروة طائلة من ذلك.

أما توكوشو فيبدأ في استرجاع ذكرياته عن الحرب وخاصة الأجزاء التي حاول طيلة عمره أن يمحيها من ذاكرته ولم يخبر بها أحداً حتى الأقربين.
حيث أنه أثناء الحصار في الكهف خان زملاءه أو بالأحرى فضل نفسه عليهم عندما شرب آخر كمية ماء موجودة رغم أنه لم يكن أحوج الناس إليها وخرج من الكهف واعداً الباقين بالحصول على الماء وجلبه لهم، لكنه عندما وجد أول فرصة للهرب بحياته لجأ اليها ناسياً الجرحى والمصابين الذين كانوا ينتظرونه في الكهف متلهفين على قطرة ماء.

عندما يسترجع توكوشو ذكرياته ويقر بفعلته المخزية ويعترف بأنه أخطأ في حق زملاءه، بل ويعتذر لهم ويطلب منهم السماح، هنا يكف الجنود عن المجئ ليلاً، وتكف قطرات الماء عن تساقطها من قدمه ويتعافي توكوشو ويذهب تورم قدمه كأنه لم يكن.
في ذات اللحظة يتوقف مفعول الماء المعجزة بل وتصبح حالة من تناوله أسوأ عن ذي قبل ويطارد المشترون من باعه لهم على أنه نصاب ويحيلون بينه وبين ثروته الحرام.

تُظِهر هذه القصة وجهة نظر كاتبها في الحرب التي لم يعاصرها والتي وُلد بعد 15 عاماً من نهايتها. يرى أن الأمراض التي يعاني منها المجتمع سببها عدم الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت أثناء الحرب وأن هناك من يتاجر بهذه الأمراض أو بأعراضها ويحقق ثروات هائلة في الخفاء (وأحياناً في العلن). ويرى أن العودة إلى الأصل ومعالجة الأخطاء السابقة ربما ستحل الكثير من المشاكل القائمة التي هي مجرد أعراض أو استغلال لهذه الأعراض من جانب عديمي الضمير.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المرجع : مقالة لـ إيجي كايانو باللغة اليابانية على الإنترنت

ناتسوهيكو كيوغوكو وأحلام العِظام المجذوبة


أحلام العِظام المجذوبة

 

بقلم :   ميسرة عفيفي

 "ناتسوهيكو كيوغوكو" روائي ياباني في الخمسين من عمره، حصل عام 2004على أكبر جائزة يابانية في الأدب هي جائزة "ناوكي شو" عن آخر رواية كتبها وقتها وهي جزء من سلسلة طويلة اسم السلسلة "الحكايات المئة". ولم تنتهي بعد هذه السلسلة.

يكتب كيوغوكو رواياته في قالب غامض تحيط به الإثارة والتشويق، لكنها ليس من نوع الروايات البوليسية التي تهدف إلى التسلية فقط. في رواياته يمتزج الماضي بالحاضر، الحوادث التاريخية بالأحداث الجارية، الفسلفة بعلم النفس، الإثارة بالرعب الممنطق. أغلب رواياته ذات حجم ضخم يجهد المرء في مجرد قراءتها لإحتواءها علي كمية لابأس بها من المصطلحات والكلمات الغريبة وأيضاً الكلمات المهجورة في اللغة اليابانية.

لا أدري إن كان قد تَرجمت أعماله إلي لغات أجنبية أم لا. لكن أدعو المهتمين بآداب الشرق الأقصى الانتباه إلى هذه الشخصية التي أتوقع أن تبزغ في سماء الأدب العالمي. بل لا أظن أن جائزة نوبل عصية عليه إذا تمت ترجمة أعماله بشكل جيد إلى اللغات الحية.

رواية "أحلام العظام المجذوبة" سِفر بالغ الضخمة في أدب الروايات البوليسية تفوق فيه "كيوغوكو" على ما سبقوه في هذا المجال، ووصل آعالي شاهقة في الحبكة الدرامية التي ليس بها أي ثغرة أو افتعال. ويصل بقارئه إلى الاقتناع بكل ما مر عليه من أحداث في غاية الغرابة، والتي تبدو للوهلة الأولى تقع في نطاق اللامعقول أو الخيال العلمي، لكن كاتبنا يقول أنه لا يؤمن باللامعقول.

تقع أحداث الرواية في منتصف القرن الماضي بعد مرور سنوات قليلة على هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. لكنها تغوص في أعماق الماضي ثم تعود إلى الحاضر، وبما أن عنوان الرواية عن الأحلام فلم يترك الكاتب أي رأي قيل في تفسير الأحلام لعلماء النفس ولم يذكره.

تقع الرواية في حوالي الألف صفحة من القطع المتوسط. وتتعدد فيها الشخصيات بشكل هائل، وتتنوع فيها الأحداث، ولكن رغم ذلك تجبرك على الاستمرار معها لمعرفة تفسير ما جرى ويجري من أحداثها الغامضة بل واللامعقولة.

إلا أن المفاجأة هي أن لكل حادثة تفسيرها المنطقي الذي يكشفه لنا بطل الرواية بائع الكتب القديمة الذي يلجأ إليه أكبر المحققين وأعتى العقول ليفسر لهم الأسرار التي تحيط بالجريمة أو على الأصح جرائم القتل التي لا تنتهي، والغريب أن الضحية شخص واحد، ما يلبث ان يُقتل حتى تعود إليه الروح ليقتل من جديد. وعلى يد من؟ إنها زوجته السابقة. التي قتلته في المرة الأولى لتتخلص من عار هروبه من الاستدعاء إلى ساحة الشرف.

في الصفحات الأربع الأولى من هذه الرواية يكتب "ناتسوهيكو كيوغوكو" على لسان الزوجة النص التالي :

 

أكره صوت البحر.

من الأفق البعيد، من مكان بعيد يبعث على اليأس من بلوغه، يأتي متتابعاً في هدوء مريب. صوت مدمدم ذو لهجة تهديدية صاعقة. أين مصدره بالتحديد؟ صوت ماذا؟ ما الذي يصيح؟ هل هو صوت الماء؟ أم على العكس صوت الريح؟ أم هو صوت شيء ما آخر سواهما. إنه يسبب الإحساس بالإتساع اللانهائي والعمق الفارغ من المعنى، ولاغير.

ولايسمح بأي إحساس بالاطمئنان.

أصلاً، أنا أكره البحر.

أنا الذي تربيت في مكان لا يوجد به بحر، عندما رأيت هذا الشيء لأول مرة انحصر تفكيري في شيء واحد، من أين إلى أين يسمى بالبحر. هل البحر هو الماء؟ أم هو أرض القاع أسفل الماء؟

أولاً هذا غير واضح تماماً. سطح الأرض التي تغوص بالماء هل هي فعلاً البحر؟

إذا كان الأمر كذلك، فماذا تكون هذه الأمواج العاتية التي تثير الإحساس بالضغينة؟

الموج أيضاً، التفكير فيه يدعو إلى الاستياء. يتتابع من الأفق البعيد متماوجاً ثم يرحل عائداً إلى حال سبيله. عندما أتذكر أنه في هذه اللحظة يتتابع ويتكرر بلا انقطاع وبنفس الشكل على سواحل بحار العالم أجمع، أكاد أن أُصيب بالجنون. معنى ذلك أن البحر ينتفخ بلا هوادة موسعاً لحدوده أو مضيقاً لها.

أصلاً، ساحل البحر إن كان رملاً او حتى صخراً، فهو بلا أي شبهة خطأ  أرض قارية. لا توجد أي علامة لتحدد لنا  من أين يبدأ البحر.

وإذا سألنا، من ماذا يتكون ماء البحر؟ في الأصل إنه في منتهاه ماء رائق شفاف. فقط مجرد أن الماء تجمّع في أرضٍ منخفضة. شيء لا غرابة فيه على الإطلاق.

ومع ذلك، الماء الذي من المفترض أنه شفاف ورائق، في غفلة من الزمن يكوّن لون البحر الأزرق الذي يثير الخوف، ثم يبدأ في الإعراب عن وجوده الطاغي.

في اعتقادي أن هذه هي القوة البلهاء للكم. إنه حتى مجرد الوجود الشفاف، الخائب إذا تجمع بشكل كهذا، يبدأ في التعبير عن النفس الطاغية. البحر إن كان صغيراً لا يعتبر بحراً. يصبح مجرد ماء. إذاً هذه الكميات المهولة من الماء هي التي تجعل من البحر بحراً.

يا له من تعبير غبي.

أيضاً، لم يصل تفكيري إلى أنه توجد بحار عميقة إلى حد لا تستطيع قامتي الوقوف فيها. لا ليست مسألة قامتي فقط. أن مجرد التلميح إلى أنه توجد بحار يصل عمقها إلى أضعاف، بل آلاف الأضعاف من طول قامتي لم أكن أعتبره إلا مجرد قدح من الخيال تخطى حدود المعقول. ولكنها الحقيقة.

لا يوجد أي شيء أسفل القدم. رعب السقوط دون أن يكون هناك شيءٌ ما يستقبلك. هل هناك ما هو أكثر رعباً من ذلك.

إن السقوط من مكان عالٍ يختلف تمام الاختلاف. مهما بلغ ارتفاع مكان السقوط الشيء الأكيد أن الأرض في انتظارك.

ولكن البحر يختلف. إذ ربما لا يوجد للسقوط نهاية.

يقولون أن أعماق البحار لا يصلها شعاع الشمس.

الماء الذي يفترض أنه شفاف، لماذا يصبح حاجباً حتى لأشعة الشمس. شئ يستحيل عليَّ فهمه.

بمعنى أن الكميات الهائلة وقدرتها على التعبير عن ذاتها، تبتلع حتى أشعة الشمس.

شئ يثير الضجر.

لا يوجد شاطئ على الجانب الآخر علاوة على ذلك لا يوجد قاع.

أنا أكره البحر،.....أخافه.

 

 

 

السبت، 18 مايو 2013

"مفاكهة الخلان في رحلة اليابان"


قراءة في كتاب
"مفاكهة الخلان في رحلة اليابان"

بقلم : ميسرة عفيفي

صدر كتاب "مفاكهة الخلان في رحلة اليابان" للكاتب والروائي يوسف القعيد عن دار الشروق بالقاهرة للمرة الأولى عام 2001. ويقع في 317 صفحة من القطع الكبير.
يحكي فيه الكاتب عن رحلته في بلاد الشمس المشرقة مدعواً من قِبَل الحكومة اليابانية ممثلة في مؤسسة تدعى "مؤسسة اليابان" هي الذراع الثقافي لوزارة الخارجية كما يقول الكاتب في الصفحة الثامنة من الكتاب في المقدمة التي أراد لها اسم "المصافحة الأولى". فترة الزيارة هي أسبوعان اثنان فقط لاغير. أقول ذلك لأن أول انطباع أخذته من الكتاب هو قدرة الكاتب على كتابة اثنين وثلاثين فصلاً إضافةً إلى المقدمة والخاتمة في ما إجماله 317 صفحة من القطع الكبير كما ذكرنا، عن بلد لم يقم فيها إلا 14 يوماً بالتمام والكمال بعد خصم يومي السفر ذهاباً وإياباً. لكن لن نندهش إذا علمنا أنه وصل إلى طوكيو وبدأ الكلام عنها في الفصل الرابع الذي يبدأ من الصفحة رقم 60 من الكتاب. أي أن الأستاذ يوسف القعيد استهلك 60 صفحة كاملة لكي يحكي لنا عن الظروف والملابسات التي أدت إلى السفر إلى اليابان ثم عن الطريق من القاهرة إلى طوكيو.
 ما علينا نعود إلى الكتاب الذي يصنف ضمن كتب الرحلات، وكتب الرحلات من الكتب ذات الأهمية الكبرى في أصناف الكتابة الأدبية. وأرى أن أي منها له أهداف عديدة يريد الكاتب أن يحققها من تسجيل تجربته في كتاب. لعل أهم هذه الأهداف هي  أولاً تعريف جانب عريض من القراء بمكان لم تتح لهم فرصة زيارته وذلك بإعطاءهم كمية كبيرة من المعلومات والانطباعات عن البلد محور الزيارة أو الرحلة. وتكون هذه المعلومات في شكل شيق وجذاب لكي يسهل استيعابها من القارئ. أمّا القارئ الذي يقتني كتاباً يحكي عن رحلة لبلدٍ ما فله أيضاً أهدافه التي يبغي تحقيقها من قراءة الكتاب، مثل الحصول على معلومات وحكايات أو انطباعات عن بلدٍ لم تتح له الفرصة لزيارتها وربما لن يستطيع زيارته مستقبلاً. وهناك من يقرأ الكتاب لأنه على موعد لزيارة هذا البلد في المستقبل القريب ويريد معرفة معلومات أكيدة عنه، ومعرفة تجارب من سبقوه إلى الزيارة. وهناك من زار هذا البلد من قبل بالفعل ويريد من قراءة الكتاب استرجاع ذكريات سعيدة قضاها فيه. هذا غير المتخصص الذي يحاول قراءة كل ما يستطيع في مجال تخصصه. هذه بالطبع بعض الأهداف وهناك الكثير والكثير الذي يقال في هذا المجال.
الكاتب يوسف القعيد لخص هدفه من هذا الكاتب في مقدمته قائلاً:
" ... وهكذا كان هذا الكتاب الخارج من رحم الصدمة، وأملى الوحيد أن يُحدث للقارئ نفس هذه الصدمة، وفى هذه الحالة فقط، أكون قد حققت بعض ما أهدف إليه."
لقد أحدث هذا الكتاب لي صدمة، لكنها ليست الصدمة التي أرادها كاتبه. يمكنني القول إنها صدمة عكسية تماماً. فالكتاب يحتوي على كمية هائلة من المعلومات الخاطئة التي لو كلّف الكاتب نفسه التأكد منها لكان الكتاب من أفضل الكتب التي كُتبت عن اليابان باللغة العربية خاصة وأن الكاتب، لكونه روائي، يمتاز برشاقة الأسلوب وبلاغة التعبير. وربما يكون هذا هو الفارق بين الروائي الباحث عن الجمال وبين العالِم الباحث عن التدقيق في كل ما يقول أو يكتب، فيحاول التأكد من كل معلومة يذكرها ويوثقها إن استطاع من مصدرها الأصلي.
سبب آخر من أسباب صدمتي بالكتاب، هو أن الكاتب من أول الكتاب إلى آخره ينعي على المصريين تخلفهم وتأخرهم عن الركب، ويحاول من خلال جلد الذات (وهي هنا عموم المصريين) أن يستحثهم على النهوض من أجل اللحاق بالركب وتحسين أحوالهم، إلاّ أنه عند الحديث عن شخصه نجد الكتاب يحتوي على نرجسية مروعة ونجده يدافع بكل من أوتي من قوة عن أخطاءه وتصرفاته وعيوبه التي يجعلها من مميزاته وحسناته. ونجده يخصص فصلاً كاملاً بعنوان "عندما قابلت أبي في جامعة طوكيو" يحكي فيه عن أحد أساتذة الجامعة اليابانيين الذي يخصص له في مكتبه بالجامعة ملفاّ عنه وعن والده مطعم بالصور له ولوالده.
طبعاً أنا اتفهم فرحة الكاتب إنسانياً بوجود صورة والده في أقصى بقاع الأرض. لكن هذا من الممكن أن يكون موضوع حديث مع صديق في المقهى أو حديث تليفوني مع زميل في العمل.
أمّا أن يخصص لذلك فصلاً من كتاب فهو كثير. بالمناسبة الجامعة هي جامعة طوكيو للغات الأجنبية وهي تختلف تماماً عن جامعة طوكيو العريقة التي تعتبر أشهر وأفضل جامعة في اليابان، ويشار إلى طلابها وخريجيها بالبنان، فما بالنا بأساتذتها. ما علينا كنت أريد أن أقول إن الكاتب كان عليه التفرقة بين الجامعتين.
الكتاب كما ذكرت بالغ الضخامة والتعرض له كله في مقالة صغيرة ربما يكون صعباً ولكنها محاولة لقراءة الكتاب. وسأذكر بعضا من المعلومات الخاطئة التي لفتت نظري فيه مع ملاحظة أنني أعتمد على نسخة من الطبعة الأولى للكتاب التي ظهرت عام 2001، ولا أدري إن كان تم تعديل أو تنقيح الكتاب في الطبعات التالية أم لا.

يقول الأستاذ يوسف القعيد في الصفحة رقم 57 ما يلي:
"قبل أن نصل إلى المكان الذي كان عبارة ركن صغير كانت هي تبحث عنا. اسمها كريمة موروكا. وموروكا اسم عائلة أمها واسمها المصرى: كريمة على السمنى، ووالدها جاء إلى اليابان من مصر وعاش فيها حوالى عشرين عاما، وأنجبها هي وأخت لها، اسمها إيمان واسمها هنا نامه لأن إيمان من الصعب العثور على نطق يابانى له.
الأب مصرى والأم يابانية، وقد تعلمَت فى مصر وتخرجت في العام الماضى في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وكان تعليمها قبل الثانوى هنا فى اليابان "طبعا فالتعليم الجامعي في مصر ببلاش يابلاش" ثم جاءت لتعمل هنا، وقررت أن تكون يابانية. تعمل مترجمة مستقلة، أى مترجمة ولكنها لا تعمل في أى مؤسسة. هى نفسها المؤسسة، وعندها في البيت التليفون والفاكس وكل مستلزمات العمل، وتتفق على أى عمل يطلب منها، وتحدد شروطها غير أنها تكتب عقدا وتسجله في الشهر العقاري. هكذا تسير الحياة بطريقة آلية تماما."
انتهى الاقتباس من الكتاب الأصلي. حوالي عشرة أسطر بها العديد من الأخطاء والخطايا!!. أولاً ما قاله عن اسم إيمان غير صحيح بالمرة فـ "إيمان" من الأسماء القليلة جداً في اللغة العربية التي تنطق كما هي دون تحريف في النطق. مثله مثل اسم كريمة وربما هذا هو سبب اختيار الأب هذين الاسمين لبنتيه اللتين شاء القدر لهما العيش بين مصر واليابان. اسم كاتب الكتاب ينطقه اليابانيون هكذا " يوسوفو الكوأيّدو" في حين أن إيمان ينطق كما هو "إيمان" واسم كريمة ينطق "كَريما" أي نفس النطق العربي.
أمّا ما أضحكني هو كلمة " تكتب عقدا وتسجله في الشهر العقاري" شهر إيه؟ وعقاري إيه؟ ولماذا يجب توثيق عقد عمل في شهر "عقاري" يبدو أن كاتبنا لا زال متأثراً بالعهد الناصري والفكر الشمولي الذي حوّل حياة الناس إلى سلسلة لاحد لها من التعقيدات.
في اليابان الأمر أبسط من ذلك بكثير. فالمترجم الحر يتعامل مع المؤسسات سواء الأهلية أو الحكومية بعقد شرفي بالكلمة. وفي حالة الحاجة إلى عقد مكتوب، يوقع الطرفين على العقد ويحتفظ كلاهما بنسخة. ولا يظهر هذا العقد مرة أخرى إلا في حالة واحدة فقط هي لجوء أحد الطرفين إلى القضاء لحل أي نزاع نشأ بين الطرفين وهي حالة تكاد تكون معدومة في اليابان. لأن الكل يلتزم بعهوده ووعوده.
أمّا حكاية التعليم الجامعي في مصر ببلاش يا بلاش التي ذكرها الكاتب فبغض النظر عن الإجحاف وعدم النظر للأمور في شكلها الصحيح، إلا أني استغرب من الكاتب الذي لا زال (في كتاباته على الأقل) يشيد بالعهد الناصري وإنجازات العهد الناصري التي من ضمنها بالطبع مجانية التعليم. أم أنه يرى حرمان أبناء أي مصري عاش فترة بالخارج من مجانية التعليم؟!
لكن ماذا يقول الكاتب في نفس الكتاب صفحة 168 وصفحة 169 ؟ يقول ما يلي:
"... وكريمة هى ابنة الدكتور على السمنى. هاجر من مصر في زمن عبد الناصر العظيم، وأتى إلى هنا. ودرس اللغة لليابانيين وتزوج من يابانية تعمل الآن في السفارة اليابانية فى القاهرة فى حين أن على السمنى يعيش فى شبرا بالقاهرة.
كريمة تعلمت فى مصر حتى حصلت على الشهادة الجامعية من جامعة القاهرة. أعتقد من كلية الآداب جامعة القاهرة من قسم اللغة اليابانية، الذي يعد أقدم قسم يدرس اليابانية في مصر الآن."
ولا تعليق، إلا تأكيد ما قلت من أن الكاتب ترك لقلمه العنان ليكتب ما يشاء وقتما يشاء دون تدقيق أو توثيق.

في صفحة 101 يقول :
" إن أى سيارة بعد اثنى عشر شهرًا من الاستخدام تباع بنصف الثمن الذى بيعت به وهى جديدة، وبعد الاثنى عشر شهرا الثانية ينزل الثمن الى الربع، وبعد ذلك لا يعادل ثمنها ثمن حذاء، وبعد خمس سنوات من سنة الإنتاج لا يكون مسموحا بسيرها في الشارع ولا ترخص أصلا، ومصيرها هو الإلقاء في مقابر السيارات. "
طبعاً منتهى التهريج والاستخفاف في الدنيا. لم تصل الرفاهية بأي دولة في العالم أن تقنن عدم الترخيص للسيارات التي تعدي عمرها الخمس سنوات. وفي اليابان بالذات لا يوجد قانون أصلاً يقيد حركة سير السيارة أو الترخيص لها بناءً على سنة إنتاجها. القانون في اليابان يفرض على كل سيارة عمل فحص كل سنتين لتجديد الترخيص، وأي سيارة تجتاز هذا الفحص تستلم الرخصة وتسير في الشوارع مهما كان عمرها. ومن المعروف أن هناك هواة السيارات العتيقة الذين يركبون سيارات موديل قديم من خمسينات أو ستينات القرن العشرين. الشائع في اليابان أن الياباني يغير سيارته كل خمس سنوات في المتوسط. لكن هذا ليس معناه أن كل اليابانيون يشترون سيارة جديدة كل خمس سنوات. التبديل ليس بالضرورى تبديل جديد بقديم. بل أن سوق السيارات المستعملة في اليابان رائج للغاية. أما أسعارها فهي بالطبع تقل عن السيارات الجديدة. لكن ليس كما يقول الكاتب وهو يروي أسطورة من أساطير الرفاهية والبذخ الياباني.

في صفحة107 وما تليها يقول الكاتب:
"كنا فى جامعة أوزاكا قبل الموعد المحدد، وفي أوزاكا جامعتان. واحدة حكومية. وهي التى ذهبت إليها، والأخرى خاصة أقامتها الجمعية البوذية في اليابان."
مرة أخرى يذكر كاتبنا الهمام معلومات ما أنزل الله بها من سلطان ولا أدرى من أين حصل عليها، فأوزاكا هذه هي أوساكا ثاني أكبر المدن في اليابان، بها خمسون جامعة بالتمام والكامل، خمس جامعات حكومية وخمسة وأربعين جامعة خاصة. الحكومية  منها ثلاث قومية وواحدة تتبع محافظة أوساكا والأخيرة تتبع مدينة أوساكا. التي ذهب إليها الكاتب هي جامعة أوساكا للغات الأجنبية وليست جامعة أوساكا المشهورة وهما الاثنتان قوميتان.

يقول في الصفحة 110 مايلي:
"كل التاكسيات محدد لها خط سير. وهي جميعها تابعة لشركات كبرى عملاقة ولا تعرف اليابان التاكسى الفردى الذى يملكه صاحبه. أو التاكسى الذي يملكه إنسان ويحضر سائقا لكى يعمل عليه لحسابه."
طبعاً كلام في الهجايص، كما نقول في عاميتنا المصرية الرائعة، لأنه إذا تم تحديد خط سير لسيارات الأجرة والتاكسيات فسينتفي معناها تماما. أي شخص يفكر بطريقة سليمة يدرك ذلك. بالتالي لم ولن يحدد اليابانيون خطوط سير لتاكسياتهم لأنهم يفكرون بطريقة عملية عقلانية وليس بطريقة ميكروباصية على حسب تعبير الدكتور سراج الدين الحلفاوي. طبعاً يوجد في اليابان شركات عديدة وكبيرة للتاكسيات لكن يبقى العدد الأكبر هو للتاكسيات الفردية التي يقودها أصحابها أما الذي يملك تاكسي ويحضر له من يعمل عليه، فهو شركة وإن لم يملك إلا سيارة واحدة أو سيارتين. قلة عدد السيارات أو كثرتها لا علاقة له الموضوع.

في الصفحة 131 من الكتاب يقول الكاتب:
"استغرق القطار ساعتين، وكالعادة فإن معظم القطارات الفاخرة والغالية، ومعظم القطارات هنا فاخرة، تملكها شركتان، إحداهما صاحبها يعد من أغنى أغنياء العالم، وكل القطارات والمحطات والعاملين فيها مكتوب عليها جى.آر. وجى هو الحرف الأول من اسم اليابان والحرف الآخر هو الأول من اسمه."
هذه الفقرة بالذات هي ما حملتني على كتابة هذه المقالة لتصحيح أخطاء الكتاب. ما ذكر هو قمة الاستهتار بعقلية القراء. الكاتب معروف عنه أنه ناصري من أشد المعارضين لخصخصة القطاع العام وهو ما يقوله في هذا الكتاب أيضاً، لكني أعتقد إن زيارة اليابان إذا استغلها استغلالاً صحيحاً كان من الممكن أن يعثر على حل ما لهذه المعضلة الكبرى، والحل هو في اليابان. للأسف معلوماتي وعلاقتي بالاقتصاد لا تسمح لي بشرح ما تفعله اليابان في هذا الخصوص إلا أني أطلب من الجميع النظر إلى التجربة اليابانية في الخصخصة التي بلغت الذروة، حيث تخلت الحكومة للقطاع عن أغلب الخدمات ومنذ سنوات تم خصخصة هيئة البريد بعد معارك سياسية وبرلمانية كبرى.
أما حكاية السكك الحديدية اليابانية باختصار شديد فهي كالتالي: صدر قانون خصخصة هيئة السكك الحديدية اليابانية في عام 1987 وتحولت إلى سبع شركات مساهمة ولكنها لم تكن خصخصة فعلية إذ اُنشئت هيئة مستقلة هي التي تملك أسهم جميع هذه الشركات  وتدريجياً تم طرح الأسهم للجمهور في سوق طوكيو للأسهم، ثلاث شركات فقط من السبع شركات هي التي اكتمل بيعها الأولى في عام 2002 والثانية في عام 2004 والثالثة في عام 2006. أما الأربع شركات الأخرى فلا تجد لها مشترين لوجود بعض الصعوبات الفنية والإدارية. ولنأخذ مثال على إحدى الشركات المباعة وهي أكبرها شركة "جي آر شرق اليابان" عدد أسهم هذه الشركة يزيد على الـ 16 مليون سهم يملكه أكثر من 320 ألف مساهم (320483 مالك أسهم) أكبر عشرة حاملين للأسهم هم عبارة عن شركات تأمين وبنوك ونقابات العاملين في الشركة، مجموع ما يحمله العشرة الكبار من الأسهم هو 32% من الإجمالي. المركز الأول في قائمة العشرة يحتله بنك ائتمان ونسبته 6% من مجموع الأسهم.
إن أي شخص يرى على قطارات اليابان حرفين جى آر JR يتوقع دون أن يسأل أنها تعني جابان ريل وايز JAPAN RAILWAYS  سكك حديد اليابان، وليست اسماً لشخص أيّ كان.
هذا عن هيئة السكك الحديدية القومية التي تم خصخصتها والمعلومات الواردة حصلت عليها من الموقع الرسمي لشركة "جي آر شرق اليابان" على شبكة الإنترنت ولم يستغرق الأمر دقائق. أما شركات القطارات الأخرى فهي الشركات الخاصة التي بدأت من الأصل شركات أهلية ويسمونها هنا في اليابان شيتتسو بمعنى شركات السكك الحديدية الخاصة، وهي ليست واحدة أو اثنتان بل عدد هائل في طول اليابان وعرضها. وبعد البحث في الإنترنت وجدتُ أن عدد الشركات الخاصة المسجلة في اتحاد شركات السكك الحديدية الخاصة هو 71 شركة خاصة. هذا غير السكك الحديدية التابعة للبلديات والمحليات أي أنها شبه حكومية أو ما يسموه هنا في اليابان القطاع الثالث.
كنت أود أن يذكر الكاتب اسم صاحب الشركة الذي يكوّن أحد حرفي الـ جي آر حتى تكتمل النكتة لأن عدم ذكر الاسم أفسد طمعها حين ذكرتها لمعارفي وقلل ذلك نسبياً من كمية الضحك عليها.

في الصفحة 141 عند زيارة متحف القنبلة الذرية في مدينة هيروشيما يقول:
"كانت المفاجأة الأخيرة فى جولتى بالمتحف عندما وصلت إلى المرحلة النهائية، شاهدتُ بالقرب منى شخصًا ملتحيا له لحية كثيفة، أكثف لحية أراها حتى الآن. ربما جاء الإحساس بكثافتها الرهيبة، لأننى فى بلاد لم أر فيها شاربا واحدًا منذ حضورى، فالوجوه تلمع كأنها خارجة لتوها من حمام شعبى.
وياليت الأمر توقف عند هذا الحد. كان الملتحى يصطحب منقبة معه. نظرت إليهما طويلا، الجلباب الأبيض والسبحة التي تصل إلى الأرض، والطاقية البيضاء والبلغة السوقي البلدى. كان هذا زى الملتحى. أما المنقبة فهى قطعة من السواد، كأن الليل نسيها هنا قبل أن يرحل. نظرت لهما وقلت لنفسى، إن كان أجدادنا قد قالوا: اطلبوا العلم ولو الصين، فها أنذا أقول إن التطرف والإرهاب ورائي ولو في اليابان."
أريدُ أن اُشهد القراء. أين التطرف والإرهاب فيما وصفه الكاتب؟ لقد نقلت كل ما كتبه في وصفهما كلمة كلمة حرف حرف. رجل ملتحي يرتدي جلباباً أبيض ويصطحب معه إمرأة منقبة. أي إرهاب في ذلك؟ لم يقل لنا إنه شاهدهما يقتلان الناس في المتحف، أو رأى في حوذتهما قنابل ورشاشات. أم هل رأهما يعترضان الناس ويفرضان عليهم لبس الجلباب والنقاب. بالله إنه شئ مُحيّر. الكاتب المسلم لا يستحي أن يذكر أنه شاهد أفلام جنسية في غرفته بالفندق (صفحة 94)، ولا يستحي أن يقول إنه شرب الخمر والويسكي مع فلان وعلان ساخراً من المترجمة المسلمة التي لم تشاركه في ذلك (صفحة 122). هل هذا هو الإسلام المعتدل الذي يريده، ومجرد لحية وجلباب ونقاب يصبح إرهاباً وتطرف. لا أدري ماذا أقول !! لعل القارئ لديه الحكم  والقول المناسب.
في نهاية المقال لى كلمة أخيرة هي أنني لم أتطرق إلى الأخطاء التي ذكرها الكاتب عند كتابته الأسماء اليابانية فأخطئ فيها كلها أو أغلبها. لم أتطرق لذلك لأن الكاتب يخطئ حتى في اللغة العربية ( كما ترون في الأجزاء التي نقلتها كما هي ) التي من المفروض أنها بضاعته وصنعته التي يبيعها للناس، ويخطئ في الأسماء العربية نفسها، لتصبح قصيدة أحمد فؤاد نجم التي طارت شهرتها الآفاق تصبح "بقرة حاجة" وليس "بقرة حاحا".
ولله الأمر من قبل ومن بعد.