اليهودي التائه
تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي
لا توجد
دولة مسيحية إلا وبها بقايا من أسطورة "اليهودي التائه". فقد وصلت تلك القصة
الفولكلورية إلى كل الدول تقريبا فتوجد في إيطاليا، وبريطانيا، وألمانيا، والنمسا،
وإسبانيا. وبالتالي، وُجد منذ وقت بعيد الكثير من الأعمال الفنية والأدبية التي
دار موضوعها حول تلك القصة. وتعُد لوحة جوستاف دوريه أشهر تلك الأعمال، وكتب كل من يوجين
سو ودكتور جورج كرولي روايتين عنها. وأتذكر أيضا أن "اليهودي التائه" ظهر
مع كل من "لوسيفر" و"راهبة الدماء" في رواية مونك لويس
الشهيرة. ومؤخرا، كتب وليم شارب المشهور باسم فيونا ماكلويد قصة قصيرة باسم ما مأخوذة
منها.
إذن ما هي
قصة "اليهودي التائه" تلك؟ إنها قصة يهودي حلّت عليه لعنة المسيح ليستمر
في التجوال إلى الأبد منتظرا مجيء يوم القيامة في الآخرة. ولا تحدد المصادر اسما
واحدا له. فاسمه أحيانا كارتافيلوس وأحيانا أحشويرش، وفي أحيان أخرى بوتاديوس، ويُسمى
أيضا إسحاق لاكيديم. إضافة أن الأقاويل تختلف تجاه مهنته كذلك. فمنها ما يذكر أنه
كان حارس السنهدريم[1] في
أورشاليم وتقول أخرى: لا بل إنه كان موظفا تحت إمرة بيلاطس. وكذلك هناك من يذكر أنه
كان إسكافيا. ولكن على الأغلب لا تختلف المصادر في سبب استحقاقه اللعنة.
فتقول المصادر إنه عندما كان المسيح يُقاد إلى جبل الجمجمة توقف أمام بيت اليهودي
محاولا أن يأخذ أنفاسه لفترة، فعنّفه بقسوة، بل أنه ضربه مرات عديدة. ووقتها كان اللعنة
التي حلّت عليه هي قول المسيح له: "إذا قلت لي ارحل، فلن أتأخر في الرحيل،
ولكن مقابل ذلك، انتظرني حتى أعود"
ولكنه بعد ذلك تعمّد على يد حنانيا – الذي عمّد بولس – وتسمّى باسم يوسف. بيد
أن اللعنة التي حلّت عليه مرة، لن تزول عنه حتى مجيء القيامة. وفي الواقع فقد كُتب
عنه في مذكرات "جوزيف فون هورماير" أنه ظهر في مدينة ميونيخ في اليوم
الثاني والعشرين من يونية عام 1721. ___
كان هذا أحدث
ما ذكر عنه، ولكن لو عدنا بعيدا إلى الكتابات القديمة سنجد ذكره في مواضع عدة.
وعلى الأرجح أن أقدم ما كُتب عنه هي المقالة التي ظهرت في حوليات دير سانت ألبانز
من إعداد ماشيو باريس. فطبقا لتلك المقالة التي نقلت عن الفارس الذي ترجم، قال بطريرك الأرمن العظيم أثناء زيارته
لسانت ألبانز إنه تناول الطعام مع
"اليهودي التائه" مرات عديدة في أرمينيا. ثم بعد ذلك، توجد مقالات قريبة
من تلك المقالة للمؤرخ الفرنسي فيليب موسكيه المتخصص في تاريخ بلاد فلاندر في
حولياته الشعرية التي كتبها في عام 1242. يبدو إذن أن "اليهودي التائه"
كان يجوب أوروبا تائها قبل القرن الثالث عشر الميلادي لدرجة لفتت انتباه الناس.
وفي عام 1505 استطاع نسّاج يُدعى كوكتو من إقليم بوهيميا أن يجد كنزا كان جده قد
دفنه قبل ستين عاما بمساعدة من اليهودي التائه. ليس هذا فقط. بل أنه في عام 1547
في ولاية شلسويخ الألمانية قابل كبير الرهبان الذي يدعى "باول فون أيتسن"
اليهودي التائه وهو يصلي في إحدى كنائس هامبورغ. وبعد ذلك وحتى بدايات القرن
الثامن عشر الميلادي توجد تسجيلات في غاية الكثرة تذكر ظهوره عبر أنحاء أوروبا
شمالا وجنوبا. ولو أعطيت أمثلة للحالات الأكثر وضوحا فقط، في عام 1575 ظهر في
مدريد، وفي عام 1599 ظهر في ڤيينا، وفي عام 1601 ظهر في ثلاث أماكن هي مدينة لوبيك
الألمانية، ومدينة ريڤال[2] الروسية ومدينة كراكو الپولندية. وطبقا لما قاله رودولف
بوتليوس فيبدو أنه ظهر كذلك في پاريس عام 1604 تقريبا. وبعد ذلك زار ليبزغ مارا بناومبورغ
وبروكسل، وفي عام 1658 يُقال إنه علّم رجلا يُدعى صامويل ووليس من مدينة ستامفورد كان
مصابا بمرض صدري، طريقة شفاء سرية من مرضه بشرب ورقتين من نبات المريمية الأحمر وورقة
من نبات الحُمّاض بعد خلطهم بالبيرة. وبعد ذلك تخطى مدينة ميونخ سابقة الذكر ودخل
إنجلترا ثانيةً، وبعد أن أجاب على تساؤلات أساتذة جامعتي كمبريدج وأوكسفورد ذهب
إلى السويد مارا بالدنمارك، وأخيرا فُقدت آثار أقدامه عند هذا الحد. وبعد ذلك وحتى
اليوم لا يوجد أي خيط يدل على مصيره.
أعتقدُ أنني أوضحتُ مما ذكرتُ عاليه أغلب ما يتعلق بمن هو
يا تُرى "اليهودي التائه"؟ وما هو ماضيه التاريخي؟ ولكن، لم يكن هدفي من
الكتابة مطلقا الإخبار بذلك فقط. ولكنني أريد الإعلان أنني كنتُ فيما مضى أحمل
داخلي تساؤلين حول تلك الشخصية الأسطورية، وأنني حصلتُ على إجابة هذين التساؤلين
من خلال مخطوطات أثرية قديمة وقعت في يدي عن طريق الصدفة البحتة. ثم أعلن كذلك
بجملة الأمر عن تلك المخطوطة القديمة. أولا: ما هما التساؤلان اللذان كنتُ أحملهما؟
___
التساؤل
الأول يتعلق كليا بحقيقة واقعية. ألا وهي أن "اليهودي التائه" قد ظهر في
أغلب البلاد المسيحية تقريبا. ألا يكون والأمر كذلك، أنه جاء أيضا إلى اليابان؟ فبغض
النظر عن اليابان في العصر الحديث، إلا أن أقاليم اليابان الجنوبية الغربية كلها على
الأغلب كانت تدين بالمسيحية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر[3]. عندما نرى كتاب
"المكتبة الشرقية" لمؤلفه الفرنسي بارتيلمي هِرْبلُو، نجد أنه كتب أن في بدايات القرن السادس عشر، عندما سقطت
مدينة "إلڤِن"[4]
في يد الفرسان العرب تحت قيادة خضر[5]، كان "اليهودي
التائه" يدعو مع خضر هاتفا Allah akubar (ربما تعنى الله أكبر)[6]. فبالفعل لقد فُقدت أثار
أقدامه وهو
يتجه شرقا. ولا يوجد أي افتراض أن اليهودي التائه لم يزر اليابان، فاليابان في ذلك
العهد كان النبلاء المُسمّون "داي ميو" في عصر الإقطاع الياباني، يعلقون
الصلبان الذهبية فوق صدورهم، وتجري على ألسنتهم كلمة "pater
noster"[7]، ___ وزوجاتهم يحركن
بأناملهن المسبحة المصنوعة من المرجان، ويَجْثُونَ على ركبهن أمام تمثال مريم العذراء، علاوة على أننا لو قلنا بطريقة حديث معتادة، ألم يوجد من
بين اليابانيين في ذلك العصر، من يستورد أسطورة اليهودي التائه كما جلبوا الأواني الزجاجية وألة الكمان؟
___ كان ذلك سؤالي الأول.
ويختلف السؤال الثاني قليلا في مدلوله مقارنة بالسؤال الأول.
تقول الأسطورة إن "اليهودي التائه" حمل على ظهره عبء مصير التجوال فوق
الأرض إلى الأبد بسبب سلوكه السيئ مع يسوع المسيح. ولكن في الوقت الذي وُضع فيه
المسيح فوق الصليب لم يكن من عذبه هو ذلك اليهودي بمفرده فقط. فأحدهم وضع على رأسه
تاج الشوك، وآخر لفه بالرداء البنفسجي. وكذلك لصق ثالث عليه وهو معلق فوق الصليب لوحة
كُتب عليها INRI[8].
فلا شك أن عدد من أذاه كان كبيرا لدرجة أننا لن نستطيع على الأرجح أن نحصيهم عددا
إذا وصلنا للحديث عمّن بصق عليه أو ألقاه
بالحجارة. ورغم ذلك ما السبب الذي جعله هو فقط الذي يتلقى لعنة المسيح؟ أو ما هو
التفسير الذي يمكن إعطائه لذلك "السبب"؟ ___ كان هذا سؤالي الثاني.
وقد بحثتُ ونقّبتُ
خلال سنوات عديدة في المخطوطات القديمة شرقا وغربا دون جدوى، فلم أستطع الحصول على
أي خيط يقود للإجابة على هذين السؤالين. في حين أن المصادر التي ذكرت قصة "اليهودي
التائه" كثيرة للغاية. ومن المحال – أو على الأقل من المحال وأنا مقيم في
اليابان – أن أستطيع قراءتها جميعا. وفي النهاية غمرني شعور أنني لن أستطيع
الإجابة على هذين السؤالين أبدا. ولكن حدث أمر مفاجئ في خريف العام الماضي الذي فقدتُ
فيه الأمل. ففي محاولة أخيرة مني زرتُ مدينتي هيغو وهيزن وجزيرتي هيرادو وأماكوسا[9]، وبعد العمل على تجميع عدد
من المخطوطات القديمة، استطعتُ أخيرا اكتشاف أسطورة تتعلق "باليهودي التائه"،
ضمن مخطوطات لسجل وقائع عصر بونروكو[10] وقعت في يدي عن طريق
الصدفة. لا يوجد متسع لدي الآن هنا لشرح ما يتعلق بمصداقية تلك المخطوطات القديمة.
ولكن يكفيني فقط القول إنها عبارة عن مذكرات مبسطة كُتبت باللغة المحكية لذلك
العصر سجلها كاتبها كما هي بعد أن سمعها من أحد المؤمنين بالمسيحية.
تذكر تلك
المذكرات، أن "اليهودي التائه" قابل فرانشيسكو خافيير أثناء عبوره البحر
في مركب قادما من جزيرة هيرادو إلى جزيرة كيوشو الأم. ووقتها كان ضمن مرافقي
خافيير شخصا يسمى القس سيمون، ومن فم سيمون هذا تم إبلاغ ما حدث إلى المؤمنين، ثم
انتشر تدريجيا بعد ذلك على نطاق واسع، وأخيرا بعد عشرات السنين وصل إلى سمع كاتب
سجل الوقائع هذا. وإذا وثقنا في كلام الكاتب كما هو، "فالحوار بين الراهب
فرانشيسكو وبين اليهودي التائه"، كان أحد أشهر الحكايات بين المؤمنين بالمسيحية
في ذلك العصر، ويبدو أنه اُستخدم كثيرا في الوعظ. وأنا بعد أن أنقل المحتوى العام
لتلك المذكرات وكتابة اقتباس أو أكثر من الأصل، أريد أن أتذوق فرحة حل السؤالين المذكورين
عاليه مع القراء. ___
أولا، تحكي
المخطوطة أن تلك المركب "كانت تمتلئ بالهدايا من الفاكهة". ولذا على
الأرجح كان الفصل هو فصل الخريف. وهذا أمر واضح بالنظر أيضا إلى ما قيل في الفقرة التالية
عن التين. وعلى ما يبدو لم يكن ثمة ركاب آخرين بخلافهم. وكان الوقت وقت الزوال. وهذا
فقط كل ما سجله الكاتب قبل أن يدخل في صلب الموضوع. ولذا إن أراد القارئ أن يتخيل
المنظر في ذلك العصر من خلال تلك البنود فقط المتبقية في السجلات، ليس أمامه إلا
أن يترك العنان لخياله فيرسم لوحة لسطح البحر الذي يعكس أشعة الشمس لتتلألأ زاهية
مثل قشر الأسماك، ولثمار التين والرمان التي تمتلئ بها المركب، ثم يتخيل ثلاثة
رجال بيض يجلسون وسط ثمار الفاكهة ويتحاورون بحماس وشغف. والسبب أن وصف ذلك الأمر
وصفا حيا وحماسيا أمر مستحيل بشكل نهائي لمجرد باحث عن الحقيقة مثلي أنا. ولكن إذا
أحس القارئ ببعض الصعوبة في ذلك، ففي كتاب "تاريخ ستامفورد" لمؤلفه
فرانسيس بيك، وصف لملابس "اليهودي التائه" بشكل إجمالي ربما يساعد
القراء على التخيل، أو ربما يكون له فاعلية ولو قليلة في ذلك. يقول بيك: "كان
معطفه بنفسجي اللون وأزراره مُقْفلة حتى الخصر، وكان السروال كذلك من نفس اللون،
ولم يكن زيه قديما حسبما يوحي به منظره. كانت جواربه ناصعة البياض، ولكن لا يمكن
معرفة هل هي مصنوعة من الكتان أم من الصوف. بعد ذلك كان شعر رأسه ولحيته أبيض
تماما. ويمسك في يده بعكازة" ___ كان ذلك هو تسجيل بيك لما شاهده عن قرب
صامويل ووليس مريض الصدر الذي ذكرته منذ قليل. ولذا لا ريب أن "اليهودي
التائه" كان يرتدي نفس نوع الملابس تلك عندما قابل فرانشيسكو خافيير.
وإذا سألنا
هنا لماذا عرفنا أن ذلك الرجل هو "اليهودي التائه"؟ فالسبب أنه "عندما
قام الراهب فرانشيسكو بالصلاة، صلى ذلك اللعين معه بخشوع" لذا بادر فرانشيسكو
بنفسه بالتحدث إليه شخصيا. ولكنه عندما تحدث لم يكن شخصا عاديا. فقد كان يختلف
تماما من حيث محتوى حديثه وطريقته عن المغامرين والرحالة الذين كانوا يجوبون الشرق
الأقصى في ذلك الوقت. فقد تحدث عن "تاريخ الهند وجنوب شرق أسيا وكأنه عاشه
بنفسه، مما أدهش ليس فقط القس سيمون بل والراهب فرانشيسكو ذاته". وعندما سأله
"من أين أنت؟" أجاب "أنا اليهودي الرحّال". ولكن لا ريب أن
الراهب حمل في البداية شكا في حقيقة ذلك الرجل. وتذكر المخطوطة أنه "عندما
قال الراهب فرانشيسكو له: "يجب عليك أن تُقْسِم بالفردوس الموعود" قال "أقسم"،
وبسبب ذلك تحدث معه الراهب بصراحة وتحاورا في أمور عديدة". وعندما ننظر إلى
ذلك الحوار نجد أنه في البداية مجرد استفسارات عن حقائق حدثت في الماضي فقط، ولم يتطرق
الحوار إلى أية قضايا دينية مطلقا.
أحاديث مثل
قصة استشهاد القديسة أورسولا مع أحد عشر ألف فتاة عذراء، ومرورا بقصة دخول القديس
باتريك المطهر، وتدريجيا وصل الحديث إلى محتوى الأناجيل الحالية، ثم في النهاية
تطرق الحديث إلى وضع يسوع المسيح على الصليب فوق جبل الجمجمة. وتذكر المخطوطة أنه قبل
الانتقال إلى تلك الحكاية مباشرة، أعطى البحار بضع من ثمار التين المكدسة في
المركب للراهب فأقتسمها مع "اليهودي التائه" وأكلا معا. وأذكرُ ذلك ثانية
هنا لأنني تحدثتُ عنه منذ قليل عند الكلام وقت اللقاء وفي أي موسم كان، بالطبع هذا
لا يعني أن ثمة معنى هام له. ___ حسنا، عند النظر إلى ذلك الحوار، نجد أنه على
الأرجح كان كما يلي:
الراهب: "هل
كنتَ في أورشاليم وقت صلب السيد المسيح؟"
اليهودي
التائه: "لقد رأيت بأم عيني هاتين آلام المسيح. أنا في الأصل اسمي يوسف، وكنت
أعمل إسكافيا في أورشاليم، عندما علمتُ أن المسيح سيُحاكم أمام محاكمة الحاكم بيلاطس
في ذلك اليوم، جمعتُ العائلة أمام مدخل البيت، حتى نشاهد ونحن نضحك ونسخر من
معاناة المسيح مع شعورنا بعدم كفاية ذلك"
تقول المخطوطة
إن المسيح مشى وهو يترنح "وسط الجموع التي اجتاحها الجنون" محاطا بالفريسيين
والحاخامات خلف مزارع يحمل الصليب على ظهره. يُعلق على كتفه رداءً بنفسجيا. ووضع فوق
جبينه تاج الشوك. وبعد ذلك، أيضا كانت يداه وقدماه باقية عليها آثار السوط والجروح
حمراء مثل الورد. فقط كانت العيون بلا أي اختلاف عما هي عليه في المعتاد. تمتلئ
"العيون الزرقاء الصافية مثلما كانت في الأيام المعتادة" بملامح عجيبة تخطت
مشاعر الحزن والفرح. ___ أعطى ذلك انطباعا غريبا حتى في قلب يوسف الذي لا يؤمن
بتعاليم "ابن النجار الناصري". وإذا استعارنا كلماته، فقد قال:
"وكنتُ أنا وقتها كلما أرى عيون المسيح، أشعر بشكل ما بالاشتياق، ربما لأنها
تشبه عيون أخي الأكبر الذي مات" وأثناء ذلك، توقفتْ قدمي المسيح الذي غرق في
العرق والغبار أثناء مروره أمام باب بيت الإسكافي، وحاول أن يرتاح قليلا. ومن
المؤكد أنه كان يوجد من الفريسيين من تمنطق بحزام جلدي وأطال أظافره عمدا، ومن
المؤكد وجود عاهرات وضعن مسحوقا أزرق على شعورهن ويفوح منهن رائحة زيت الناردين. وكذلك
ربما عكست الدروع التي حملها جنود روما، أشعة الشمس البراقة من اليمين ومن اليسار.
ولكن كان المسجل في المخطوطة فقط "كثير من الناس". ثم أراد يوسف "أن يُظهر إخلاصه للحاخامات أمام
هذا العدد الكبير من الناس" فعندما رأى قدمي المسيح تتوقف عن السير، قبض على
"ابن الإنسان" بإحدى يديه وهو يحتضن طفله باليد الأخرى، وراح يهزه بعنف
وغلظة. ___ "جسد بعد قليل سيتم صلبه في النهاية فيما تُريحه؟ وغيره من الكلام
البذيء، حتى أنه علاوة على ذلك رفع يده وضربه بها"
وعندها رفع
المسيح رأسه بهدوء ونظر إلى يوسف وكأنه يوبخه. نظر له طويلا نظرة لها جلال وهيبة
بعينيه التي اعتقد يوسف أنها تشبه عيني أخيه الراحل. "إذا قلت ارحل، فليس
أمامي إلا الرحيل، ولكن في مقابل ذلك انتظرني حتى أعود مرة ثانية" ___ ومع
النظر في عيني المسيح، أحس بأن تلك الكلمات أعنف من ريح السَّمُوم، وأنها قد احترقت
قلبه في لحظة. ولكن يوسف ذاته لا يدري بوضوح هل قال المسيح ذلك فعليا أم لا؟ ولكن
من المؤكد أن "تلك اللعنة اخترقت قلبه وتملكته فأصبح لا يستطيع احتمال أي شيء"
فتدلّت يده المرفوعة، واختفت الكراهية التي كانت في نياط قلبه من تلقاء نفسها، وبدون
وعي جثا على ركبتيه في الطريق حاملا طفله كما هو، وحاول في خوف أن يجعل شفتيه تلمس
قدمي المسيح التي نُزعت منها الأظافر. ولكنه كان قد تأخر بالفعل. فقد ابتعد المسيح
عن باب البيت بخمس أو ست خطوات، بعد أن دفعه الجنود للمضي في السير قُدُما. ثم وقف
يوسف شاردا، وبعد لحظات نظر مودعا رداء السيد المسيح البنفسجي الذي كان على وشك
الاختفاء بين الجمع الغفير. وفي نفس الوقت أدرك شعورا بالندم يندفع آتيا من أعماق
قلبه ولا يمكن التعبير عنه. ولكن لم يتعاطف معه أحد. حتى زوجته وأطفاله، فسَّروا
سلوكه هذا على أنه سخرية من المسيح تماما مثل تتويجه بتاج الشوك. ومن المنطقي
تماما أن تنفجر ضحكات المارة في الطرقات في استمتاع. ___ ظل يوسف جاثيا لا يتزحزح تحت
أشعة شمس أورشاليم القادرة على إحراق الصخور حتى تتفحم، ووسط هبوب عاصفة ضبابية من
الغبار والرمال، والدموع تلوح في مقلتيه، وقد نسي أن الطفل الذي كان على ذراعه قد
حملته عنه زوجته في غفلة منه. ___
ثم أجاب "اليهودي
التائه" في نهاية المخطوطة على سؤالي الثاني كما يلي: "إذا كان الأمر
كذلك ورغم القول إن أورشاليم عظيمة المساحة إلا أنه على الأرجح لم يدرك إثم ازدراء
المسيح إلا أنا فقط. فلقد أصابتني اللعنة بالذات بسبب معرفتي للإثم. فإن السماء لا
تُنزل عقابها على من لا يعتقد أن الإثم إثم. ويمكن القول إنني أنا الوحيد الذي
حُمّل ذنب صلب المسيح. ولكن تلقّي العقوبة هو الطريق الوحيد لغفران الذنب، ولذلك
نلتُ أنا في النهاية خلاص المسيح بأقصى ما يكون. فالسماء تنزل العقوبة والغفران
معا لمن عرف أن الذنب ذنب" ___ ولا يوجد داعي للبحث عن صحة تلك الإجابة لفترة
من الزمن. والسبب أن مجرد حصولي فقط على تلك الإجابة، أشبع غايتي بالفعل.
وأتمنى من أي شخص يكتشف إجابة ما على أسئلتي حول "اليهودي
التائه" في المخطوطات العتيقة سواء في الشرق أو في الغرب، ألا يحتفظ بها
لنفسه فقط وأن يُعْلِمني بها. أما بالنسبة لي فكنتُ أرغب في إنهاء هذا البحث الصغير
بذكر المصادر التي اقتبستُ منها ما كتبته عاليه ولكن للأسف، لم يتبق لي فراغ لفعل
ذلك. ولكني فقط أذكر هنا أنه توجد آراء ترى أن أصل أسطورة
"اليهودي التائه" أتت مما هو مذكور في الآية الثامنة والعشرين من
الإصحاح السادس عشر لإنجيل متى والآية الأولى من الإصحاح التاسع لإنجيل مرقص، ثم أتوقف
عن الكتابة عند هذا الحد.
(اليوم العاشر من الشهر الخامس في السنة السادسة لعصر
تايشو)
(10 مايو سنة 1917)
[2] كانت تعرف بهذا الاسم من القرن الثالث عشر ميلادي وحتى عام
1918م ثم تغير اسمها إلى تالين بعد الثورة البلشفية وهي حاليا
عاصمة جمهورية إستونيا / المترجم
[5] في الأصل الياباني النطق فضيرة أو فضيلة ويُعتقد أن أكوتاغاوا يقصد خير الدين بارباروسا قائد أسطول الدولة العثمانية
الذي كان أقوى أسطول في العالم في ذلك الوقت وكان مسيطرا على كل البحار التي تطل
عليها الإمبراطورية العثمانية وكان اسم خير الدين الأصلي خضر بن يعقوب واشتهر في
أوروبا باسم بارباروسا أي ذو اللحية الحمراء في قول وملك البربر في قولٍ آخر / المترجم
[6] ما داخل القوسين من النص الأصلي
الذي كتبه أكوتاغاوا وقد كتب عبارة الله أكبر بالحروف اللاتينية ثم شرحها
باليابانية بين قوسين / المترجم
[8] الأحرف الأولى من عبارة IESUS NAZARENUS REX IUDAEORUM
باللغة اللاتينية وتعني "يسوع الناصري ملك اليهود" وكانت تلك هي التهمة
التي قيل إن المسيح عليه السلام حوكم من أجلها / المترجم
[9] المناطق الأربعة توجد في منطقة
كيوشو جنوبي غربي اليابان وهي أكثر الأماكن التي وُجد فيها مسيحيون يابانيون في
القرن السادس عشر الميلادي قبل تحريم المسيحية والقضاء على معتنقيها في اليابان /
المترجم
[10] الفترة من عام 1592
وحتى 1596 التي حكم فيها هيديوشي تويوتومي اليابان بعد توحيدها، وهيديوشي هذا هو
أول من أصدر قرار طرد المبشرين المسيحيين من اليابان واضطهد معتنقي المسيحية من
اليابانيين / المترجم