تُكَ طُنْ طُنْ
"طرقاتُ المطرقة"
نص*: أوسامو دازاي**
ترجمة: ميسرة عفيفي
مع خالص التحية والاحترام.
أرجو منك أن تُعلّمني شيئا. فأنا في
مأزق.
لقد بلغتُ من العمر 28 عاما. وُلدت
في بلدة تيراماتشي بمدينة أَوَاموري. أعتقدُ أنك لا تعلم ذلك، ولكن في بلدة
تيراماتشي ثمة محل زهور صغير يسمى تومويا. أنا الابن الثاني لمالك محل تومويا هذا.
تخرجتُ من مدرسة أواموري المتوسطة، ثم بعد ذلك صرتُ عاملا في مصنع للمعدات الحربية
في يوكوهاما، عملتُ هناك لمدة ثلاث سنوات، ثم قضيتُ أربع سنوات أخرى مجندًا في
الجيش، ثم عدتُ إلى بلدتي بعد استسلام اليابان في الحرب بلا شروط، فوجدتُ بيت
العائلة قد احترق بأكمله، ويعيش أبي وأخي وزوجته في كوخ صغير بُنِيَ فوق أنقاض
البيت. لقد ماتت أمي وأنا في الصف الرابع من المرحلة المتوسطة.
بالتأكد كان من المستحيل أن أعيش
أنا أيضا مع أبي وأخي وزوجته في ذلك الكوخ الصغير، فتناقشتُ مع أبي وأخي، وقررتُ العمل
في مكتب بريد من الدرجة الثالثة في قرية "أ" التي تقع على ساحل البحر وتبعد
عن أواموري مسافة فرسخين تقريبًا. وكان خالي، أكبر أخوة أمي، رئيس مكتب البريد. مرت
الأيام بعد توظفي لأجد أنه قد مر عليّ سنة في ذلك العمل. ومع مرور الوقت بدأت أفكر
أنني إذا استمر الحال على هذا المنوال، سأصير شخصا تافها. ولذا أشعر بالقلق.
لقد بدأتُ أقرأ رواياتك عندما كنتُ
عاملا في مصنع المعدات الحربية. ومنذ أن قرأت قصة لك منشورة في مجلة "بونتاي"،
صارت هواتي البحث عن رواياتك وقراءتها. وبعد قراءة العديد من أعمالك عرفت أنك درستَ
في نفس مدرستي – أواموري المتوسطة – ولكنك تسبقني بأعوام عديدة، وكاد قلبي أن
ينخلع عندما عرفت كذلك أنك أثناء فترة الدراسة فيها كنت تقيم في بيت تويودا صاحب
محل الحياكة في بلدة تيراماتشي. فأنا أسكن في نفس الحي وأعرف آل تويودا جيدا. المالك
السابق للمحل فوتوزايمون كان شخصا سمينا، لذلك كان اسما على مُسمى. ولكن المالك
الحالي فوتوزايمون نحيفا
ونشيطا لدرجة تجعلك تريد أن تناديه هانيزايمون.
ولكنهم جميعا أناس طيبون. للأسف بيت تويودا كذلك احترق بأكمله بسبب القصف الجوي، ولتعاستهم
أن مخازنهم احترقت هي الأخرى. عندما علمتُ أنك كُنتَ تعيش في بيت تويودا، فكرت في
الذهاب إلى المالك الحالي فوتوزايمون وأطلب منه أن يكتب لي خطاب توصية وأذهب
لمقابلتك، ولكن بسبب جُبني، ظلت تلك، فكرة خيالية في ذهني فقط، ولم أتشجع لتنفيذها.
ثم أصبحتُ جنديا، وذهبت للدفاع عن ساحل
محافظة تشيبا، وظللتُ هناك حتى نهاية الحرب، لقد كان عملنا كل يوم هو حفر الأرض
فقط. وكنتُ مع ذلك إذا أُعطيت راحة لمدة نصف يوم، أخرج إلى مركز المدينة وأبحث عن
أعمالك في المكتبات وأقرأها. وبعد ذلك كم من مرة أردتُ الكتابة إليك! فأمسك القلم،
ولكني بعد أن أكتب "مع خالص التحية"، لا أجد ما أكتبه، فأنا بالنسبة لك
شخص مجهول تماما، فأظل ممسكا بالقلم محتارا كما أنا. أخيرا استسلمتْ اليابان بلا قيد أو شرط، ورجعتُ لبلدتي، وتوظفت في
مكتب بريد "أ"،
وعندما ذهبت منذ فترة إلى أواموري أخذت جولة على
مكتبات بيع الكتب، وبحثت عن مؤلفاتك، ثم عرفتُ من خلال مؤلفاتك أنك أتيت إلى بلدة كاناغيماتشي التي
وُلدتَ وعانيتَ فيها، ومرة أخرى أحسست بقلبي يتمزق. ومع ذلك لم أجد شجاعةً لزيارة
البيت الذي وُلدتَ فيه، ثم بعد تفكير عميق، قررت كتابة رسالة إليك. فهذه المرة لن
أحتار فيما أكتب بعد كلمة التحية. فهذه الرسالة لها هدف. هدف عاجل ومُلِحّ.
فأنا أريد منك أن تعلمني شيئا. أنا في مأزق حقيقي. بل المشكلة ليست مشكلتي وحدي،
فأنا أشعر أن كثيرين غيري يعانون مثل معاناتي، لذا أرجو منك أن تعلمنا جميعا.
عندما كنت في مصنع يوكوهاما وعندما كنت في الجيش، كنت أفكر في إرسال خطاب إليك، والآن
أخيرا كتبت إليك خطابي الأول هذا، لم أكن أفكر أو أريد أن يكون المحتوى محزنًا هكذا.
في يوم الخامس عشر من أغسطس عام 1945، جُمِعنا نحن الجنود في صفوف في
الساحة التي أمام عنابرنا لسماع الراديو وقت إذاعة خطاب جلالة الإمبراطور، كان الخطاب
مشوّشا بأصوات ضوضاء مزعجة وتقريبا لم نستطع سماع كلمة واحدة منه، بعد ذلك صعد إلى
المنبر سريعا ملازم شاب وقال:
"هل سمعتم؟ هل فهمتم؟ لقد قبلتْ اليابان إعلان بوتسدام واستسلمتْ.
ولكن هذا الاستسلام سياسي فقط. سنقاوم نحن العسكريين حتى النهاية ثم ننتحر دون أن يبقى
منا أحد، وبهذا نقدم اعتذارنا لجلالته. وأنا أول من عزم على ذلك، وأنتم جميعا
كونوا على هذه النية. أفهمتم؟ إذن، انصراف!"
قال الضابط الشاب ذلك ثم نزل من على المنبر وخلع نظارته، وظل يبكي وهو يمشي
وتتساقط منه الدموع. هل هذا ما يُسمّى التبجيل؟ أما أنا فقد بقيتُ واقفا حتى بدأتْ
الدنيا تُظلم بشكل ضبابي وتهب رياح باردة لا يمكن تحديد مصدرها، ثم أحسستُ أن جسمي
يغرق تلقائيًّا في قاع الأرض.
فكرت في الانتحار. فكرت أن الموت هو الحقيقة. كانت الغابة التي أمامي مقفرة
وكئيبة كآبة مرعبة وشنيعة، وبَدَتْ لي في غاية السواد، وفي قمتها طار فجأة سربٌ من
العصافير بدون أن يصدر عنها صوت، بدت وكأنها حفنة من حبات سمسم أسود رُمِيت في
السماء.
آه ... في ذلك الوقت، سمعت صوتَ مطرقةٍ تدق مسمارًا، صوت خافت يقول تُكَ طُنْ
طُنْ. في اللحظة التي سمعت فيها ذلك الصوت، اندهشت بشدة، فقد اختفى التبجيل
والشجاعة مع المعاناة، وكأنني قد تخلصتُ من روحٍ شريرةٍ كانت تتلبسني، وفقدتُ
اهتمامي، وبشعور وقح، أدرتُ بصري متأملا السهل الرملي في منتصف الظهيرة في ذلك الصيف،
ولم يكن لدي مشاعر على الإطلاق. وضعت في حقيبة الظهر أشياء متنوعة، وعدتُ شاردا
إلى قريتي.
محت طرقات تلك المطرقة الخافتة التي تأتي من بعيد، وهم النزعة العسكرية بدرجة
عجيبة، وبدا أنني لن أسكر مرة أخرى بذلك الكابوس الذي يشبه البطولة المأسوية والتبجيل،
ولكن ذلك الصوت المنخفض اخترق خلايا مخي كرمح أصاب قلب الهدف، فهو مستمر منذ ذلك
الوقت وحتى هذه اللحظة وأصبحتُ وكأنني مريض بمرض صرع مؤلم إيلامًا عجيبًا.
ومع قول ذلك، لم يكن يعني
قيامي بعمل عنيف. بل العكس من ذلك. فعندما أكون متأثرا بشيء ما، وأقف متهيجا بسببه،
أسمع ذلك الصوت الخافت لطرقات المطرقة؛ تُك طُن طُن، ولا أدري من أين يأتي؟
فأصاب بعدم الاكتراث، وكأنه المنظر الذي أمام عيني تغير تماما، يتوقف فجأة العرض
وتبقى الشاشة الناصعة البياض فقط، وكأنني أتأملها بغير تصديق، في شعور بائس وغبي
لا يحقق أي شيء.
في البداية، عندما أتيت
إلى مكتب البريد، قلت: حسنا من الآن فصاعدا سأستطيع أن أدرس ما أحب في حرية، أولا
فكرتُ أن أكتب رواية، ثم أرسلها لك لكي تقرأها، وفي فترات الفراغ من عمل مكتب
البريد، جربت أن أكتب انطباعات وذكريات الحياة في الجيش، وبذلتُ جهدًا كبيرًا في
كتابة حوالي مئة صفحة، وأخيرًا عندما جاء وقت اكتمال الرواية، وكان غروبَ يومٍ
خريفي، بعد الانتهاء من عملي في المكتب، ذهبت إلى الحمّام العام، وبينما كنت أتدفئ
بالماء الساخن، وإزاء تفكيري في كتابة أخر فصل من الرواية تلك الليلة، ليكون مثل
آخر فصل من رواية "أونيغين"، هل أجعل الخاتمة بذلك الحزن المنمق، أم
الأفضل أن تكون الخاتمة يائسة على طريقة رواية "قصة العراك" لغوغول؟ كنت
في حالة مريعة من الهياج والأمل، وعندما نظرتُ إلى ضوء مصباح الحمام العاري، سمعتُ
صوت المطرقة تُك طُن طُن يأتي من بعيد. في ذات اللحظة انسحبت الموجة تماما، وكنت ما
زلت في ركن مظلم من حوض الحمام، مرت أمامي هيئة عارية لرجل يحرك الماء محدثا صوتا
عاليا في الحوض.
إنها بالفعل ذكريات مملة، قمتُ من الحوض وأنا أزحف،
وأسقطتُ الأقذار من باطن قدمي، وأصغيتُ أذني لسماع أحاديث باقي رواد الحمام عن شُح
المواد التموينية. إن أسماء مثل بوشكين وغوغول تثير الاشمئزاز كأنها أسماء فرشاة
أسنان أجنبية الصنع. بعد أن خرجتُ من الحمام، عبرت الجسر، وعدتُ إلى البيت وتناولت
الطعام في صمت، ثم بعد ذلك دخلتُ إلى غرفتي، وقلبت بأصابعي مسودة الرواية البالغ
عددها مئة صفحة، التي فوق المكتب، ذُهلتُ من شدة غباء الأمر، وأحسستُ بالاشمئزاز
لدرجة أنه لم تنهض فيّ حتى الرغبة في تمزيقها، ومنذ ذلك الحين، وكل يوم أتمخط بها
كمناديل ورقية للأنف. ولم أكتب سطرًا واحدًا لشيء يشبه الرواية منذ ذلك الوقت وحتى
اليوم. في بيت خالي كان هناك خزين قليل من الكتب، فكنت أستعير منه أحيانا كتاب
مختارات الأعمال الروائية الرائعة وأقرأه، أتأثر به، أو لا أتأثر، وكنت بسلوك يتصف
بعدم الجدية الشديد، أنام مبكرا في الليالي ذات العواصف الثلجية، وأعيش حياة يومية
ليست "روحية" على الإطلاق، وخلال ذلك كنت أشاهد لوحات كتاب مختارات
اللوحات الفنية العالمية، ولكن لم أعد أحمل اهتمامًا كبيرًا بالانطباعيين الفرنسيين
الذين كنت أحبها بشدة قبل ذلك، وهذه المرة نظرت بدهشة إلى أعمال اثنين من الفنانين
اليابانيين من عصر غينروكو (1688 – 1704) هما كورين أوغاتا، وكنزان أوغاتا. وأعتقد
أن لوحة "شجرة الورد" لكورين أوغاتا تُعد أفضل من لوحات كل من سيزان
ومونيه وغوغان. وبهذا بدا أن حياتي النفسية عادت لطبيعتها تدريجيًّا، ولكن لم يقم
طموح داخلي في أن أصبح رسامًا عظيمًا مثل كُورين أو كِنزان. ولكن كان أقصى طموحي
أن أكون محبًّا للفن يعيش في قريةٍ نائية، ثم بعد ذلك أقوم ببذل جهدي قدر استطاعتي
في عد عملات الآخرين من الصباح إلى الليل وأنا أجلس في منفذ مكتب البريد، ولكن لم
تكن مثل هذه المعيشة حياة ساقطة بالضرورة لمن هو مثلي بلا مواهب ولا تعليم. ربما هناك
في الواقع فعلًا ما يسمى تاج التواضع. ربما يكون الاجتهاد في الأعمال اليومية
العادية، هو أعظم حياة روحية على الإطلاق. ولذا بدأت شيئا فشيء الاعتزاز والفخر
بمعيشتي اليومية، ووقتها كان وقت تغيير العملة اليابانية، تحول مكتب البريد مثل هذا
من الدرجة الثالثة في قرية نائية على النقيض إلى انشغال شديد، لا بل على العكس
فكلما صغر مكتب البريد كان عدد العاملين صغيرا لا يكفي الحاجة، فكنا نستقبل منذ
الصباح الباكر كل يوم طلبات فتح الحسابات، ونلصق إثباتات العملة القديمة من الين،
وأصبحنا مهلكين من الإرهاق بدون راحة، وبصفة خاصة، إذ كنت أراها فرصة لرد الجميل لخالي
حيث كنت عالة عليه، أصبحت أعمل لدرجة أن ثقلت يداي الاثنتان كما لو أنني أضعهما في
قفازات حديدية، ولا أشعر أنهما يداي.
كنت أنامُ بعد هذا
العمل وكأنني ميت، ثم بعد ذلك في الصباح التالي، أقفز من نومي في نفس الوقت عندما يرن
المنبه بالقرب من الوسادة وعلى الفور أذهب إلى مكتب البريد وأبدأ في أعمال النظافة
الكبرى. أعمال النظافة كانت من مهام الموظفات في المكتب، ولكن من بعد الفوضى التي
حدثت بسبب أمر تغيير عملة الين، حدثت في طريقة عملي قفزة غريبة، فإذ بي رغبة عارمة
في عمل كل شيء بنفسي، اليوم أكثر من أمس وغدًا أكثر من اليوم، ومع تسارع الخُطى تسارعًا
مهولًا، أمسيتُ كالمجنون، كأسد هائج لا يُقاوَم، وأخيرًا عندما قيل إنه هذا هو آخر
يوم لتغيير العملة، قمتُ كما هو متوقع في وقت لم تشرق الشمس فيه بعد وكانت الدنيا
ظلاما، وذهبتُ إلى المكتب للقيام بأعمال النظافة بحماس كبير، وبعد أن انتهيت من كل
شيء كما ينبغي، جلستُ في نافذة المعاملات المخصصة لي، وكانت أشعة شمس الصباح تنير
وجهي، فأغمضت عيني التي تشكو من قلة النوم، ورغم ذلك كنت أشعر برضا عظيم جدًا،
وتذكرتُ العبارة التي تقول إن العمل مقدس، وفي اللحظة التي تنهدتُ فيها، شعرتُ
أنني أسمع من بعيد صوت خافت ضئيل يقول تُك طُن طُن، وعندها في لحظة واحدة
تحول كل شيء إلى أمر عدمي، فنهضتُ واقفًا وذهبت إلى غرفتي، وتلحفتُ بالغطاء ونمت. وإذا
جاء من يخبرني بموعد تناول الطعام، أقول له بخشونة إن حالتي الصحية ليست على ما
يرام، فلن أستيقظ اليوم، وكان ذلك اليوم هو أكثر يوم انشغل فيه مكتب البريد على ما
سمعت، وقد تضرر الجميع بسبب أن أكثر النابهين في العمل وهو أنا، ظل طوال اليوم
نائمًا متكاسًلا، ولكن بقيتُ حتى نهاية اليوم حائرا بين النوم واليقظة. وحتى رد
الجميل إلى خالي، أثّر بسبب أنانيتي تلك تأثيرًا سلبيًّا ولم يكن لدي أي إحساس
بالرغبة في العمل، وفي اليوم التالي، تأخرت في النوم تأخرًا مريعًا، ثم جلست شاردًا
في النافذة المخصصة لي، وأنا فقط أتثائب طوال الوقت، معتمدًا أن زميلتي التي تجلس
بجواري ستقوم بأغلب الأعمال. ثم في اليوم التالي، بتُّ متجهمًا متكاسلًا بلا قوة
روحية، أي أنني عدّتُ إلى هيئة الموظف العادي الذي يعمل على شباك مكتب البريد.
حتى عندما سألني خالي:
"أما زالت حالتك
الصحية غير جيدة؟"
ابتسمت ابتسامة صفراء
وأجبت:
"ليس بي شيء. ربما
يكون مرض الوهن الذهني"
قال خالي بنبرة العارف:
"إنه كذلك حقا. إنه كذلك" ثم قال وهو يضحك:
"لقد كنتُ مثلك أحقد
أنا أيضا، لقد أصبحتَ كذلك لأنك مع غبائك تقرأ كتبًا صعبة، من الأفضل للأغبياء أمثالنا
ألا يفكرون في أمور صعبة الفهم"
فابتسمتُ أنا أيضا
ابتسامة متكلفة. من المفترض أن خالي هذا تخرج من معهد متخصص، ولكن ملامحه لا تدل
على أنه من النخبة المتعلمة.
ثم بعد ذلك، (تكثر في
حديثي عبارات ثم بعد ذلك، أليس كذلك؟ أعتقد أنها إحدى
صفات الأغبياء قليلي العلم. وأنا شخصيا تزعجني هذه الكلمات، ولكن للأسف
تظهر تلقائيًّا فاستسلم لها مرغمًا) ثم بعد ذلك، بدأ الحب. لا ... لا يجب أن تضحك.
لا ... حتى لو ضحكتَ فلن يتغير الأمر. لقد كنتُ أعيشُ شاردًا مثل سمكة "ميداكا"
في حوض الأسماك الذهبية، تبرز على ارتفاع بوصتين من القاع، وتقتل تحركاتها ساكنة
وكأنها حُبْلى، يبدو أنني بدأت حبا مخجلا بدون أن أعرف متى بدأ؟ بعد أن بدأ الحب،
سكنتْ الموسيقى جسدي. وأعتقد أن ذلك هو أول بوادر مرض الحب المؤكد.
إنه حب من طرف واحد.
ولكن كنتُ أحب تلك الفتاة حبًّا كبيرًا لا حدود له ولا حيلة لي فيه. كانت تلك
الفتاة تعمل في النُزل الوحيد بتلك القرية الصغيرة التي تقع على ساحل البحر. لم تكن
تبلغ العشرين عاما بعد. ولأن خالي مدير مكتب البريد كان يحب شرب الساكي كثيرا،
وإذا أُقيمت حفلة في القرية تُفتح قاعة الولائم في عمق ذلك النزل، وبالتأكيد كان
يهذب في كل مرة بدون أن يغيب، كان خالي وتلك الفتاة حميمين مع بعضهما البعض وعندما
تظهر الفتاة في إحدى نوافذ مكتب البريد لقضاء حاجة لها خاصة بمدخراتها أو
التأمينات أو ما شابه، كان خالي يقول لها مزاحًا قديمًا مملًّا لا يُضحك بتاتًا
ويسخر منها:
"من الواضح أن
حالتك المادية في الفترة الأخيرة جيدة وتبذلين كل جهدك في الادخار. أمر سعيد، أمر
مفرح. هل وجدت الزوج المناسب لك؟"
"أنت شخص
ملل!"
تقول ذلك ثم في الواقع يملأ
الملل وجهها. ليس كوجه المرأة في لوحة "فان دايك" ولكنه وجه يشبه وجهًا نبيلًا
شابًا. كان اسمها "هاناي توكيدا" كما في دفتر الادخار. ويبدو أنها كانت
تسكن في محافظة مياغي، فكان مكتوب في خانة العنوان عنوانها السابق في محافظة مياغي،
ثم شُطب عليه بخط أحمر وكُتب بجانبه العنوان الجديد هنا. في شائعات موظفات المكتب،
أنها كانت ضحية من ضحايا الحرب في مياغي، وجاءت مباشرة بعد استسلام اليابان بدون
شروط إلى هذه القرية بمجرد الصدفة، وفي شائعة أخرى أنها تقرب من بعيد لمالكة النزل،
ثم شائعة أن أخلاقها غير جيدة، فمع أنها ما زالت طفلة إلا أنها تعمل
"عاهرة"، ولكن لا يأتي شخص نازح بسبب الحرب إلى مكان ما وتكون سمعته حسنة
عند أهل ذلك المكان. وأنا لم أصدق ولو قليلًا أنها تعمل "عاهرة"، ولكن
مدخرات هاناي لم تكن فقيرة مطلقًا. هذا الأمر من الممنوع على موظفي مكتب البريد
إعلانه، ولكن على كل حال كانت هاناي مع سخرية مدير المكتب منها، تأتي كل أسبوع مرة
تقريبًا لتضع في حساب مدخراتها مئتي أو ثلاثة مئة ين من العملة الجديدة، وكان
المبلغ الإجمالي في زيادة مطردة. لا أعتقد أنها وجدت زوجًا جيّدًا، ولكن، مع كل
مرة أختم في دفتر حسابها بختم مئتي أو ثلاثة مئة ين، كان قلبي يدق بعنف ووجهي
يحمر.
ثم تدريجيًّا أصبحتُ أشعر
بالمعاناة. عندما أفكر أنها ليست محتالة بأي حال، بل أن أهالي القرية جميعًا يستهدفونها
ويعطونها المال لتفسد، ينفطر قلبي عليها، ويحدث أحيانا أن أقوم من النوم فزعًا.
ولكن هاناي تأتي بمعدل
مرة كل أسبوع بمنتهى الهدوء حاملة النقود. الآن لم يعد الأمر فقط أن صدري يخفق ووجهي
يحمر بل كان وجهي من كثرة المعاناة يصبح أزرقا وتنضح حبات العرق من جبهتي وبعد
انتهاء المعاملة، لا أدري كم مرة هاجمتني رغبة في التخلي عن كل شيء، أثناء عدي
لأوراق العملة من فئة العشرة ين المتسخة، واحد، اثنين الملصق عليها وثيقة الضمان.
ثم كنت أريد أن أوجه كلمة واحدة إليها. ... القول الذي يظهر في رواية الأديب كيوكا
الشهير وهي:
"لا تكوني لعبة في
أيد أحد حتى لو أدى ذلك إلى الموت!"
يا لتفاهتي! إنه هو قول
يستحيل على شخص جلف مثلي يعيش في الريف أن يقوله، ولكن كانت عندي رغبة قوية لا
أستطيع التخلص منها في قول هذه الكلمة. أقول لها: "لا تكوني لعبة لأحد حتى لو
أدى لموتك، إنها المادة ... إنها نقود"
إذا فكرتَ في أحد يفكر
هو كذلك فيك، هل فعلا هذا حقيقي؟ حدث ذلك بعد منتصف شهر مايو تقريبا. كانت هاناي كعادتها
قد ظهرت في الجهة الأخرى من نافذة المكتب الرائقة وقالت: "تفضل!" وهي
تقدم لي النقود ودفتر الادخار. تنهدتُ واستلمتُها، وعددتُ ورق العملات القذرة واحد،
اثنين، وأنا حزين المشاعر. ثم بعد ذلك كتبتُ المبلغ في دفتر الحساب البنكي، وأعدته
صامتا إليها.
"هل لديكَ وقت،
الساعة الخامسة تقريبًا؟"
لقد ارتبتُ في أذني، ربما
خدعتها رياح الربيع. كانت كلمات خفيضة سريعة لهذه الدرجة.
"إذا كان لديكَ
وقت تعال إلى الجسر"
قالت هاناي ذلك وابتسمت
ابتسامة خفيفة ثم غادرت على الفور المكان عائدة من حيث أتت.
نظرتُ إلى الساعة. كانت
قد تخطت الثانية بقليل. إنني أخجل من ذكر ذلك الحديث الأبله، ولكنني لا أستطيع أن
أتذكر مهما حاولت ما الذي فعلته منذ ذلك الوقت وحتى الساعة الخامسة. ربما بالتأكيد
كنت أمشي بوجه متجهم هنا وهناك، وفجأة قلت للزميلة التي بجواري بصوت عالٍ: "الطقس
جيد اليوم"، كان الجو سيئا والغيوم كثيرة، وعندما اندهشت الزميلة نظرتُ إليها
بعيون جاحظة ونهضتُ قائما للذهاب إلى دورة المياه، أي كنت أشبه بالمخبول. خرجت من
البيت في الساعة الخامسة إلا سبع أو ثمان دقائق. في منتصف الطريق، اكتشفت أن أظافر
أصابع اليدين طالت، وحتى الآن أتذكر جيدا أن هذا كان سببًا جعلني منزعجًا لدرجة
الرغبة في البكاء. كانت هاناي تقف عند مقدمة الجسر. وأعتقدُ أن جيبتها كانت أقصر
من اللازم. لمحتُ ساقيها الطويلتين العاريتين ثم غضضتُ بصري عنها.
قالت هاناي بنبرة هادئة:
"لنذهب في اتجاه
البحر"
مشت هاناي في المقدمة،
ثم تبعتها أنا بعد ذلك بعيدا عنها بخمس أو ست خطوات، وذهبنا مشيا ببطء في اتجاه
البحر. ثم بعد ذلك ومع بعدنا هذا أصبحتْ خطواتنا في لمح البصر، متوافقة معًا تمامًا،
مما سبب مشكلة لي. كان الطقس ممطرًا وغائمًا وتهب علينا رياحٌ خفيفة، وعند ساحل
البحر كان الغبار مرتفعًا.
"المكان هنا جميل"
دخلت هاناي بين سفينتي
صيد كبيرتين راسيتين على الساحل ثم بعد ذلك جلست على الأرض الرملية.
"تعال. الجلوس
يبعد عنك الرياح فلا تحس بالبرد. المكان هنا دافئ"
جلستُ على بعد حوالي
مترين من المكان الذي جلست فيه هاناي فاردة قدميها أمامها.
"أعتذر عن
استدعائك هكذا. ولكن، أنا لدي كلمة لا أستطيع أن أمنع نفسي من قولها لك. أنت تعتقد
أن موضوع ادخاري أمر غريب، أليس كذلك؟"
أنا أيضا كنت أعتقد أن
هذا هو السبب فقلتُ بصوت مبحوح:
"نعم أعتقد أنه
أمرٌ غريب"
"من الطبيعي أن
تعتقد ذلك"
قالت هاناي ذلك ثم نظرت
لأسفل وأخذت تغرف الرمل بيدها وترشه على ساقيها. ثم أضافت:
"هذه ليست أموالي.
لو كانت أموالي فأنا لن أدّخرها. فادخار المال كلما جاء أمر مزعج"
فكرت أن قولها مقنع
وهززت رأسي بالموافقة وأنا صامت.
"أليس كذلك؟ دفتر
الحساب ذلك ملك مالكة النزل. ولكن هذا سر بيننا. إياك أن تخبر به أحدًا. لماذا
تفعل مالكة النزل هذا الفعل؟ أنا شخصيًا أفهم بشيء من الغموض، ولكن ذلك أمر معقد
جدًّا، لا أريد إخبارك به. هو أمر مؤلم. ولكن هل تثق فيما أقول؟"
ضحكتْ قليلا وعندما
اعتقدتُ أن عينيها تلمع كان ذلك بسبب الدموع.
كنت لا أستطيع دفع
رغبتي في تقبيلها. أصبحتُ على استعداد لتحمل أي متاعب تحدث لي من أجلها.
"الناس في هذا
المكان سيئون كلهم. وأنا أردتُ ألا تُسيء أنت فهمي، لذا عزمتُ أن أقول لك الحقيقة،
ولهذا تشجعتُ اليوم ودعوتك"
في الواقع لقد سمعت في
ذلك الوقت صوت دق المسمار تُك طُن طُن يأتي من كوخ بجوارنا. ولكن لم يكن ذلك الصوت وقتها من
أوهام خيالي. فقد بدأ بالفعل ترتفع عاليا أصوات دق المسامير من المخزن الذي يملكه
السيد ساساكي على ساحل البحر. ارتفع صوت الدق تُك طُن طُن، تُك طُن طُن، تُك طُن طُن. نهضتُ واقفا وأنا أهز
جسدي.
"لقد فهمت. لن
أقول لأحد"
وقتها اكتشفت أن خلف
هاناي مباشرة كمية كبيرة جدا من براز الكلاب، وفكرتُ أنني يجب أن أحذر هاناي منها.
كانت الأمواج تلتوي بتراخٍ،
ومرت مركب ترفع شراعا قذرة، متباطئة بالقرب مباشرة من ضفة البحر.
"حسنا، إلى اللقاء"
كان الأمر صعب الإمساك
به. فأنا لا علاقة لي بموضوع مدخراتها. ففي الأصل أنا غريب عنها. فلو أصبحتْ لعبة
في أيدي الآخرين أو أي كان، فليس للأمر علاقة بي. إنه أمر في منتهى الغباء. لقد
جوعتُ.
وبعد ذلك أيضًا، كانت
تأتي بلا أي تغيير كل أسبوع أو عشرة أيام ومعها نقود تضعها في حساب مدخراتها، حاليًا
باتت المدخرات بعدة آلاف من الينات، ولكني لا أهتمّ بذلك. هل كما قالت هاناي هي
أموال مالكة النزل؟ أم هي كما المتوقع أموال هاناي نفسها؟ أي كان الأمر فليس لي به
علاقة.
بعد ذلك، إذا قلنا عن
ذلك من فينا الذي فقد حبيبه، كنت أشعر أنني أنا الذي فقدتُ الحبيبة، ولكن ما من
درجة من درجات الحزن لفقد الحبيبة، ولذلك أعتقد أنها كانت طريقة غريبة جدا لفقد حبيبة.
وبهذا صرتُ مرة ثانية موظف بريد عاديا، يعمل في شرود.
بعد دخول شهر يونية،
ذهبتُ إلى أواموري في أمر خاص بي، وبالصدفة شاهدت مسيرة للعمال. حتى ذلك الوقت لم
يكن لدي أي اهتمام بما يسمى النشاط السياسي أو الاجتماعي، أو يمكن القول إنني كنت
أشعر بما يشبه اليأس. فالنتيجة واحدة مهما كان الفاعل. وكذلك أنا مهما شاركتُ في نشاط
حركة ما ففي نهاية الأمر، سأكون مجرد ضحية في سفينة اختطفها زعيم الحركة بسبب
شهوته للمجد أو شهوته للحكم. يذكر برنامجه بثقة زائدة وبدون أي شك، ويأخذ وضع
الثقة المبالغ فيه وهو يقول: "إن اتبعتني فمن المؤكد أنني سأنقذك وأنقذ معك عائلتك
وأنقذ قريتك وأنقذ دولتك لا، بل وأنقذ العالم أجمع"، ثم يطلق كذبة أن الذي
يبعدنا على الإنقاذ هو عدم اتباع نصائحه. ثم ترفضه إحدى المومسات أكثر من مرة وفي
النهاية يصاب باليأس ويطلق صرخة إلغاء البغاء العام، ثم يلكمه زميله الذي غضب
فجأة، فيحتدم ويثور ليتم التعامل معه على أنه شخص مزعج، ويحصل على وسام بالصدفة، ويحمل
الرغبة في الارتفاع للسماء فيجري للبيت، ويقول لزوجته بوجه يملأه الزهو: "ها
هو يا زوجتي الحبيبة" ويفتح علبة ذلك الوسام ببطء فتقول له زوجته ببرود:
"ما هذا إنه وسام من الدرجة الخامسة، كان يجب أن يكون من الدرجة الثانية على
الأقل"، مما يُصيبه بخيبة أمل، ... وكأنه رجل نصف مجنون ويظن أنه غارقا لأم
رأسه فيما يسمى النشاط السياسي والنشاط الاجتماعي. وهكذا، في الانتخابات العامة التي
جرت في شهر أبريل من هذا العام، حتى لو حدث ضجيج وصخب عن ماهية الديمقراطية، فلم
تقم في نفسي أي رغبة في الثقة بهؤلاء الناس بتاتًا، فحزب الحرية والحزب التقدمي،
كلاهما يمتلئ بالرجال القدامى وبالتالي لن يكونا موضعًا لأي اعتبار، وكذلك الحزب
الاشتراكي والحزب الشيوعي، يفرحان بنمو شعبيتهما الشديدة، فهذا أيضا يمكن القول
عنه إنه حالة من حالات استغلال الهزيمة في الحرب، لم يقدرا على إزالة الانطباع
القذر عنهما أنهما مثل الديدان التي تجمعت على جثة "الاستسلام دون شرط"،
وفي العاشر من أبريل يوم التصويت رغم أن خالي نصحني أن أضع صوتي لمرشح حزب الحرية
السيد كاتو، إلا أنني قلت له: "سمعا وطاعة"، وخرجتُ من البيت وذهبت فقط
في نزهة على شاطئ البحر، ثم عدتُ إلى البيت. فأنا أعتقد الاكتئاب الذي نعاني منه
نحن في حياتنا المعيشية لا يُحل، مهما قيل عن المشاكل الاجتماعية والسياسية،
شاهدتُ في ذلك اليوم صدفة مسيرة العمال في أواموري، وانتبهت إلى أن كل أفكاري
السابقة كانت خاطئة.
هل من الأفضل لو قلت إنها
الحيوية والنشاط؟ حسنًا فقد كان التقدم يبدو ممتعًا. ولم أستطع إيجاد أي من آثار
الاكتئاب أو تجاعيد الخنوع. فقط القوة النشيطة المستمرة في الامتداد. تغني الفتيات
الشابات أغاني العمل وهن يمسكن في أيديهن بالأعلام، امتلأ قلبي بالعواطف فنزلت
دموعي. وفكرتُ أن هزيمة اليابان في الحرب كانت أمرًا جيّدًا. واعتقدتُ أنني أرى
الحرية الحقيقية لأول مرة منذ ميلادي. وفكرتُ أنه إذا كان الإنسان هو ابن الحركات
السياسية والاجتماعية فيجب عليه في أول الأمر تعلم الأفكار السياسية والاجتماعية.
وحاليًا أثناء رؤيتي
لتتابع أحداث المسيرة، أصبحتُ في مزاج سعادة شديدة أنني أخيرا تحسّستُ بلا أي شك
طريق النور الوحيد الذي يجب عليّ السير فيه، وانسابت الدموع على
خدي بمشاعر جيدة، كان المنظر حولي غائمًا غامضًا بلون أخضر وكأنني غطست في الماء
وفتحت عينيَّ، ثم بعد ذلك، وسط تحرك تلك الأمواج في الإضاءة الخافتة، والعلم المتوهج
باللون الأحمر، آه ذلك اللون، وأنا أبكي منتحبًا، وعندما فكرت أنني يجب ألا أنسى ذلك
حتى لو مت، سمعت صوت تُك طُن طُن يأتي
من بعيد، فكان ذلك آخر عهدي بهذا الأمر.
تُرى ما هذا الصوت؟ فلا
يبدو أنه يمكن تسوية الأمر ببساطة على أنه عدمية وكفى. فهذا الصوت الوهمي تُك طُن طُن، يخترق حتى العدمية
ويحطمها.
عندما جاء الصيف ازدهرت
فجأة حمى الرياضة بين شباب هذا الإقليم. ويبدو أنني بدرجة ما أميل إلى المذهب
النفعي الذي يتصف به كبار السن، فلم أفكر ولو لمرة واحدة أن أشترك في تلك الرياضات
التي يقوم بها الشباب بلا أي معنى مثل لعب مصارعة السومو عرايا تماما، والارتماء
من أحد ثم الإصابة بجرح كبير، أو التسابق في الجري بسرعة كبيرة لدرجة تغير ملامح
الوجه لمعرفة من الأسرع، رغم أني سأكون في مجموعة مئة أو مئتين متر في عشرين ثانية
بلا أي اختلاف حقيقي بينهم، أشعر أن تلك كلها أمور غبية. ولكن في شهر أغسطس من هذا
العام، كان هناك مسابقة عدو تربط بين محطات القطار على هذا الخط المحاذي لساحل
البحر يخترق القرى المختلفة، واشترك فيه عدد كبير من شباب هذه البلدة، وكان مكتب
البريد "أ" هذا أحد نقاط التواصل، اللاعبين الذين
انطلقوا من أواموري، يسلمون الراية هنا للاعبين التاليين لهم، وفي الصباح بعد الساعة
العاشرة بقليل، قيل أن اللاعبين الذي انطلقوا من أواموري على وشك الوصول إلى هنا، خرج
أفراد مكتب البريد جميعا خارج المكتب للمشاهدة، وبقينا أنا ومدير المكتب فقط، نرتب
أوراق التأمين على الحياة، أخيرا سمعنا صخب يقول: "جاء ... جاء"، وعندما
وقفنا لننظر من النافذة، كان ذلك ما يمكن تسميته النزع الأخير، يفرد أصابع يديه
وكأنها مثل أصابع يد الضفدع، وبحالة غريبة من هز الذراعين للتقدم للأمام ضاربا
بهما الهواء، ثم فوق ذلك عاري تماما إلا من سروال وحيد، وبالطبع كان حافي القدمين،
ويرفع صدره الكبير إلى أعلى، وملامحه تدل على ضيق التنفس، يحرك عنقه بألم شديد
بميل ناحية اليمين والشمال، جاء يجري مترنحا أمام مكتب البريد ثم وقع وهو يطلق
صيحة أنين عاليا. ثم كان هناك من خاطبه
صائحا:
"حسنا، لقد أديتَ أداء جيّدًا!"
وحمله عاليا، وجاء به إلى أسفل النافذة التي أشاهد أنا من خلالها، وسكب الماء
الذي كان معدا في الكوز على وجه ذلك اللاعب، وبدا اللاعب في حالة خطيرة بين الحياة
والموت، ووجهه أزرق في غاية الشحوب وينام في حالة استنزاف كاملة وأنا الذي كنتُ أتأمل تلك
الهيئة، في الواقع هجمت عليّ حالة من التأثر المريب.
إن الإسراف في استهلاك القوى إن وصل لهذا الحد فلا ريب أنه عملا جبارًا، إن
وصفتها بالجمال أنا الذي في السادسة والعشرين في العمر سأبدو مختالًا فخورًا، فربما
من الأفضل وصفها بالبراءة. إن هؤلاء الناس لن يشعر أحد باهتمام تجاههم حتى لو
حصلوا على المركز الأول أو المركز الثاني، ومع ذلك فإنهم يبذلون أخر جهد لديهم
مخاطرين بحياتهم نفسها. فما من أحد يملك مثالية محاولة إنشاء ما يسمى دولة الثقافة
من خلال سباق ماراثون المحطات هذا، ولذا هم لا يطلبون مديحا من أحد بالتحدث بتلك
المثاليات ولو ظاهريا فقط. وكذلك ليس لديهم أي طموح ليكونوا في المستقبل عداءين
ماراثون عظيمين، ولأنه سباق في قرية نائية فهم يعلمون تماما أن زمن الوصول لن يكون
موضع نقاش، وحتى بعد العودة إلى البيت، ليس في نيتهم التباهي والفخر أمام أهلهم،
بل على العكس، ربما ثمة قلق من تعنيف الأب بسبب ذلك، ولكن مع كل ذلك كانوا يرغبون
في العدو. يريدون تجربة ذلك مخاطرين بحياتهم نفسها. ولا ضرورة لمدحٍ من أحد. فقط تجربة
العدو. فعل بدون مقابل. إن تسلق الطفل شجرة خطيرة، لأن له رغبة في التقاط ثمرة
كاكا وأكلها، ولكن حتى ذلك منعدم في سابق الماراثون الذي يعرض الحياة للخطر. فكرت
أنه حماس العدمية. وأنها تناسب بالضبط حالتي النفسية العدمية في ذلك الوقت.
ثم بدأت أمارس هواية رمي كرة البيسبول مع زملائي في مكتب البريد. وعندما
أستمر في ذلك حتى الإرهاق التام، أشعر بإحساس منعش يشبه إحساس تغيير الحيوان لجلده،
ولكن في ذات اللحظة أسمع صوت تُك طُن طُن. كان صوت تُك طُن طُن ذلك يضرب حتى حماس العدمية ويلقيه صريعا.
وأخيرا في ذلك الوقت كنت أسمع تُك طُن طُن باستمرار، إذا فتحت الصحيفة على
وسعها لأقرأ مواد الدستور الجديدة مادة، مادة ... تُك طُن طُن، إذا سألني خالي واستشارني بخصوص
انتقال الموظفين في المكتب الحكومي ... تُك طُن طُن. إن طرأ على ذهني اقتراح رائع ... تُك طُن طُن، إن عزمت على قراءة رواية لك ... تُك طُن طُن، منذ فترة حدث حريق في القرية المجاورة وعندما أسرعتُ بالجري إلى مكان الحريق
... تُك طُن طُن، إن كنت مع خالي على طعام العشاء، وأتناول معه الساكي وأفكر في شرب المزيد
من الساكي ... تُك طُن طُن، عندما أفكر هل أنا جننت ... تُك طُن طُن، وإن فكرتُ في الانتحار ... تُك طُن طُن.
ليلة أمس وأنا أجالس خالي وأتبادل معه شرب الساكي سألته بنبرة مزاح:
"إذا أردنا أن نصف حياة الإنسان في كلمة واحدة: ماذا تكون؟"
"حياة الإنسان! هذا ما لا أعلمه. ولكن هذا العالم هو الرغبة
والمتعة"
فكرتُ أن ذلك الرد المثالي على غير متوقع. ثم فجأة فكرت أن أعمل في السوق
السوداء. ولكن عندما تخيلتُ أنني أعمل في السوق السوداء وربحت عشرة آلاف ين، بدأت
أسمع صوت تُك طُن طُن.
أرجو أن تعلمني. ما هو ذلك الصوت؟ ثم ماذا أفعل كي أستطيع الهرب منه؟ فأنا
فعليا في هذه اللحظة لا أستطيع تحريك أي عضو من أعضاء جسمي بسببه. أرجو منك الرد
بأي حال.
وفي النهاية إذا سمحت لي أن أضيف كلمة واحدة، فأنا قبل وصولي لنصف هذا
الخطاب، أصبحتُ أسمع صوت تُك طُن طُن بكثرة. مللتُ من كتابة مثل هذا
الخطاب. ورغم ذلك، فقد تحاملتُ على نفسي وكتبت فقط ما سبق. ثم ولأن الأمر كان مملًا،
أحس أنني احتدمتُ وأن كل ما كتبته كذبا. فما من امرأة باسم هاناي، ولم أشاهد أية مسيرات.
وباقي الأمور الأخرى ربما كانت كذبا. ولكن يبدو أن تُك طُن طُن فقط حقيقة. سأرسل هذا الخطاب كما هو بدون أن أعيد قراءته.
مع خالص التحية والتقدير.
كان الكاتب المجهول الذي استلم هذه الرسالة الغريبة، رجلًا بلا علم أو فكر لدرجة
مخزية، ولكنه رد عليها بالرد التالي:
ردًا على رسالتك: أنت تتصنّع المعاناة. وأنا لا أتعاطف معك مطلقًا. فيبدو أنك
ما زلت تتفادى الظهور بمظهر شنيع لا يستقيم معه أي شرح أو دفاع رغم وضوح ذلك
للجميع. إن الأفكار الحقيقية تحتاج إلى الشجاعة أكثر من الحكمة. في إنجيل متى
الإصحاح العاشر الآية الثامنة والعشرين ما يلي: "لا تخافوا ممن يقتل الجسد
ولا يقدر على قتل الروح، ولكن خافوا ممن يهلك الجسد والروح معا في جهنم"
ويبدو أن كلمة "خافوا" هنا قريبة من معنى "عظّموا".
إذا استطعت أن تشعرك كلمة المسيح تلك، بالصاعقة فمن المفترض أن تتوقف هلوساتك
السمعية.
مع خالص تحياتي.
* نُشرت لأول مرة في مجلة "غونزو" عدد يناير من عام 1947م
** تعريف بالمؤلف: ولد أوسامو دازاي "اسمه الحقيقي شوجي تسوشيما"
في 19 يونية 1909 لعائلة غنية من كبار الملاك في محافظة أواموري شمال شرق اليابان
وكان الطفل العاشر بين أحد عشر طفلا لوالديه. كان والده عضوا في البرلمان الياباني
عن قريته وما زال ذلك المقعد حكرا على عائلة تسوشيما حتى الآن ويشغله حاليا؛ جون
تسوشيما حفيد دازاي من ابنته الكبرى سونوكو. كان متفوقا في دراسته حتى المرحلة
الثانوية رغم أنه كان في نفس الوقت كثير الشغب واللعب مع زملائه، وكان أيضا محبوبا
بين أقرانه. في السادسة عشر من عمره وبسبب تعلقه بأدب ريونوسكيه أكوتاغاوا كتب أول
أعماله الأدبية قصة بعنوان "آخر وصي على العرش" ونشرها في مجلة مدرسته. في
الثامنة عشر من عمره استمع إلى محاضرة من الكاتب ريونوسكيه أكوتاغاوا في مدينة
أواموري، وسبّب انتحار أكوتاغاوا في نفس العام صدمة عنيفة له. بدأ مستواه الدراسي
ينخفض تدريجيا بعد أن كان من المتفوقين وذلك بسبب تردده على محلات اللهو ومرافقة
بنات الغيشا، ووصل الأمر إلى طرده فيما بعد من جامعة طوكيو الإمبراطورية بعد تكرر
رسوبه ورفض أخيه الأكبر الاستمرار في إمداده بالأموال اللازمة لمصاريف الدراسة.
انخرط منذ بدايات شبابه في الحركة الماركسية، وقُبض عليه أكثر من مرة بسبب نشاطه
السياسي، إلى أن قرر في عام 1932 الابتعاد تماما عن أي نشاط سياسي أو معادي
للقوانين. كان دازاي مدمنا على عدة أنواع من المخدرات مثل الأفيون وغيره من
المخدرات والمهدئات، وكذلك كان مداوما على مقارعة الخمر واتخاذ عشيقات من النساء.
وكان مغرما بالانتحار الثنائي مع امرأة، وحاول ذلك عدة مرات فشلت جميعها إلى أن
نجحت المحاولة الأخيرة مع عشيقته تومئه يامازاكي؛ بإلقاء نفسيهما في مجرى قناة
تاماغاوا غرب طوكيو، واختفت الجثتين لمدة ستة أيام إلى أن تم العثور عليهما في 19
يونية من عام 1948، وهو اليوم الذي كان من المفترض أن يكمل فيه دازاي 39 عاما من
عمره. اشتبك مع الأديب الياباني ياسوناري كاواباتا – الذي حصل فيما بعد على جائزة
نوبل – في معركة أدبية على صفحات الجرائد والمجلات بسبب انتقاد كاواباتا لحياته
الشخصية وتأثيرها على أدبه ورفضه التصويت على إعطائه جائزة أكوتاغاوا الأدبية
المرموقة، رغم احتياج دازاي الشديد للجائزة المالية وقتها بعد انقطاع أخيه الأكبر
عن إمداده بالمال بسبب فضائحه الكثيرة. ذكر في وصيته الأخيرة التي أرسلها لزوجته
أنه انتحر لأنه يكره الاستمرار في كتابة الروايات. أغلب أعماله إما مستوحاة من
حياته الشخصية ويوميات أصدقائه ومعارفه أو تعتمد على التراث القديم / المترجم