بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 22 يونيو 2021

ملخص الحقول الذابلة تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

 

ملخص الحقول الذابلة

 

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

«دعا باشو، جوسو وكيوراي، وتحدّث إليهما عن الأرق الذي أصابه ليلة أمس بسبب فكرة طارئة، فنادى على دونشو وأملاها عليه، وطلب من الجميع أن يقرأها:

مريض في ترحالي، فأسرعت أحلامي، تجول في الحقول الذابلة»

يوميات محل بيع الزهور

 

عصر اليوم الثاني عشر من الشهر العاشر في العام السابع من عصر غِنروكو. أغرت السماء التي احترقت لوقت قليل بوهج الصباح، عيني تاجر أوساكا بالنظر إلى الجهة الأخرى من سطح القرميد البعيد مظنة أن المطر سيهطل كما هطل أمس هطولاً متقطعاً، ولكن لحسن الحظ ما من أمطار لدرجة انبعاث دخان من أغصان شجر الصفصاف التي تهتز أوراقها. ومع الغيوم أضحت السماء أخيراً منيرة إنارة خافتة فغدا الظهر شتائيّاً هادئاً. حتى مياه النهر الذي ينساب انسياباً عادياً بين بيوت المدينة المتراصة جنباً إلى جنب، أطفأت لمعانها اليوم بغموض، مما يجعلك تظن أن لونَ نفايات البصل الأخضر الطافية في تلك المياه بارد. ناهيك عن شرود ذهن المارين على الضفة وهم يضعون غطاءً على رؤوسهم، ويلبسون حذاءً جلديّاً، وكأنهم جميعا في غمرة نسيان هبوب رياح الشتاء الباردة. ألوان ستائر المحلات، وحركة مرور العربات، وصوت آلة الشاميسن الآتية من مسرح العرائس البعيد، كل ذلك يحمي في سكون ظهيرة يوم شتائي هادئ وخافت الإضاءة لدرجة لا تحرك تراب المدينة المتراكم فوق زينة الجسر. ...

في ذلك الوقت، في الغرفة الخلفية لمحل بيع الزهور نيزائمون في حي كيوتارو الجنوبي لبلدة ميدوماى، كان باشو ماتسوو الذي يُبجل بصفته المعلم الأكبر لشعر الهايكو، يحتضر في هدوء «كنارٍ تبرد تحت الرماد» بعد حياة بلغت أحداً وخمسين عاماً، محاطاً برعاية تلاميذه الذين تجمعوا من كل أنحاء البلاد. يقترب الوقت من الساعة الرابعة عصراً. أُزيلت الحواجز والأبواب التي بين الغرف فاتسعت الغرفة اتساعاً بالغاً ليرتفع بخور عطري حُرق لتوه عند الوسادة في خيط رفيع. وتحجز الأبواب الورقية الجديدة الشتاء عند حافة الحديقة، ولكن ظلال لونها تخلق ظلاماً يجعل البرودة تخترق العظام. رقد باشو في وحدة تامة ووسادته في اتجاه ذلك الباب الورقي، ويحيط به: أولاً الطبيب موكوستسو، الذي وضع يده تحت الغطاء ليجس نبضه المضطرب بجبين مقضّب. ولا شك أن من يجلس خلفه منكمشاً وما ينفك يسبّح باسم بوذا في صوت خافت، هو الخادم العجوز جيروبيه الذي جاء معه خصيصاً من مدينة إيغا. وهنا أيضاً لا تخطئ العين كيكاكو الذي يجلس بجوار موكوستسو بجسده البدين المتين وقد انتفخ جيب الكيمونو الحريري بسخاء يراقب وضع المعلم الصحي مع كيوراي مهيب الطلعة الذي يرتدي كيمونو أسود اللون. وخلف كيكاكو، يجلس جوسو جلسة الراهب المتمرس واضعاً في رسخه سبحة من خشب الجميز، وبجواره أوتوكوني الذي بات لا يحتمل حزنه الجياش فلا ينقطع النشيج الصادر من أنفه. ويتأمله بنظرات اشمئزاز الراهب إينن قصير القامة الذي يرتدي رداء رهبان أسود عتيق مرقع الأكمام وقد أشاح ذقنه في غلظة، وهو يشترك في الجلوس بجوار موكوستسو مع شيقو ذي الطباع الشرسة والبشرة السمراء. ويحيط بفراش المعلم عدد آخر من التلاميذ يجلسون يميناً ويساراً في هدوء تام لا يند عنهم جميعاً نفس واحد، تملؤهم حسرة لا حدود لها على فراقه. والشخص الوحيد الذي يتسرب منه صوت النحيب هو سيشو القابع في ركن الغرفة يكاد يكون جاثياً تماماً فوق حصير التاتامي. ولكن صمت الغرفة الباردة قليلاً لجم ذلك النحيب، فلم يصدر صوت يشوش على رائحة البخور الخافتة عند الوسادة.

ألقى باشو وصية مضطربة منذ قليل بصوت مبحوح بسبب البلغم، ثم دخل في غيبوبة بعينين شاخصتين. نحفت عظام وجنتي الوجه المليء بالبقع الخفيفة فظهرت بارزة، وشحب لون شفتيه المحيطتين بالتجاعيد تماماً. وما يثير الألم أكثر هو لون تنيك العينين إذ انبعث منهما شعاع شارد ينظر بلا طائل إلى مكان بعيد وكأنه يتأمل السماء الباردة برودة لا حد لها على الجانب الآخر من السقف. «مريض في ترحالي، فأسرعت أحلامي، تجول في الحقول الذابلة» هكذا بالضبط كما رثى نفسه بنفسه بذلك الهايكو قبل ثلاثة أو أربعة أيام، وسط تلك النظرات التي بلا ضابط ولا رابط، ربما كان الشفق وقتها يطفو كالحلم في الحقول الذابلة ذات الاتساع اللانهائي وقد انعدم أي ضوء للقمر.

التفت موكوستسو أخيراً إلى جيروبيه الجالس خلفه ثم قال له في هدوء:

-        أحضر الماء.

وكان ذلك الخادم العجوز قد أعد من قبل كوباً من الماء مع عود ينتهي بريشة. رصهما الخادم بوجل على مقربة من وسادة سيده، ثم وكأنه تذكر فجأة عاد للتسبيح بتركيز باسم بوذا المقدس. وربما السبب في ذلك أن قلب جيروبيه البسيط الذي نشأ في بيت جبلي، قد رسخ في جذوره إيمان لا يتزعزع بوجوب تضرع الجميع - سواء باشو أو غيره - إلى بوذا بمساواة عند الانتقال إلى حالة النيرڤانا بمساواة.

على الجانب الآخر، في لحظة نطق الطبيب موكوستسو بكلمة «أحضر الماء»، وقع في براثن شكه الدائم الذي يجعله يتساءل: هل استنفد حقاً كل الوسائل والطرق المتاحة له؟ ولكنه على الفور شعر بالرغبة في تشجيع نفسه فنظر إلى كيكاكو الجالس بجواره، وأعطاه إشارة صامتة. انبعث في تلك اللحظة التوتر سريعاً في قلوب جميع المتحلقين حول فراش باشو لإحساسهم باقتراب الأجل. ولا خلاف أنهم شعروا – قبل وبعد لحظة الشعور بذلك التوتر – بما يشبه الاطمئنان، أي أنهم شعروا بنوع من الاسترخاء لأن ما يجب أن يأتي قد أتى أخيراً. ولكن بسبب طبيعته المريبة لم يحاول أي منهم الاعتراف بذلك الوعي داخله. حتى أن كيكاكو وهو أكثر الحاضرين واقعية، والذي كان يتبادل النظرات من حين لآخر مع موكوستسو، عندما قرأ بريبة نفس المشاعر في عينه، لم يحتمل الإحساس بالفزع. فأشاح عينيه جانباً وأخذ منه الريشة، وحيّا كيوراي المجاور له بقوله:

-        حسناً، اسمح لي بالسبق.

ثم غمس تلك الريشة في كوب الماء ولوي ركبته السميكة وألقى نظرة عميقة على وجه معلمه في لحظة احتضاره. وإن تحدثنا بصدق فلا يعني ذلك عدم تفكيره بما يشبه التوقّع أن لحظة فراقه مع أستاذه في هذه الدنيا ستكون مؤلمة حقاً قبل حدوثها. بيْد أنه لمّا أخذ في يده ماء الاحتضار أخيراً، خانت مشاعره الفعلية ذلك التوقع المسرحي تماماً فكانت صافية صفاءً بارداً. ليس هذا فقط، بل ما لم يتوقعه هو أن منظر معلمه المُريع في لحظة احتضاره وقد أمسى نحيلاً ذابلاً، جلداً على عظم حرفياً، أيقظ داخله مشاعر كراهية عنيفة لدرجة أنه لم يطق النظر إليه وأشاح وجهه بعيداً عنه. كلا، مجرد وصفها بالعنف فقط لا يكفي. إنها الكراهية الأصعب احتمالاً على الإطلاق، إذ يصل تأثيرها إلى الضرر بوظائف أعضاء الجسم كأنها سُمّ لا يُرى. تُرى هل سقطتْ كراهيته لكل أنواع القبح، على جسد معلمه المريض لسببٍ عارض وقتها؟ أم تُراه وهو المُلتذ «بالحياة» رأى في حقيقة «الموت» التي رُمِز لها هنا تهديداً طبيعيّاً يجب لعنه بشدة؟ في أي حال، شعر كيكاكو بنفور يصعب وصفه من وجه باشو وهو على شفا الموت، ولم يشعر بأي قدر من الحزن تقريباً، فانتهى من تبليل تلك الشفاه القرمزية الذابلة بالماء من خلال لمسة سريعة من الريشة ثم قضّب وجهه وتقهقر للخلف. ولاح على مشاعره لحظياً إحساس يشبه تأنيب الضمير بالضبط في الوقت الذي تقهقر فيه، ولكن يبدو أن الكراهية التي شعر بها آنفاً كانت أقوى من يضع اعتباراً لهذا الحس الأخلاقي.

بعد كيكاكو، أخذ الريشة كيوراي الذي بدا أنه فقد اتزان مشاعره بالفعل منذ أن أعطى موكوستسو إشارة البدء قبل قليل. انحنى كيوراي المتواضع عادةً، للحاضرين انحناءة خفيفة، ثم زحف مقترباً من وسادة باشو، ولكنه عندما تأمل وجه شاعر الهايكو العجوز الراقد هناك وقد ذبل جراء المرض، اضطر على كرهٍ منه أن يتذوق مشاعر عجيبة يختلط فيها الرضا بالندم. رضا وندم ينوءان بحمل الذرائع والأسباب التي لا تنفصل عن بعضها البعض كالضوء والظلال، والواقع أنه لم يتوقف، وهو الجبان صاحب القلب الضعيف، عن الاضطراب والقلق منذ أربعة أو خمسة أيام. فهو لم يكسل عن تمريض معلمه يوماً واحداً منذ أن وصله نبأ مرضه بمرض الموت فركب على الفور مركباً من مدينة فوشيمي ثم طرق باب محل بيع الزهور هذا غير مبالٍ بتأخر الوقت ليلاً. فبعد أن طلب من شيدو توفير الخدم، قام هو وحده تقريباً بكل أمور الرعاية الواجبة، كأن يرسل إلى معبد سوميوشي من يُدعو له للشفاء من مرضه، وكأن يستشير نيزائمون بائع الزهور لشراء ما يلزم من أدوات وتجهيزات. وكل ذلك بالطبع بمبادرة شخصية من كيوراي نفسه، فالحقيقة أنه ليس لديه أي نية البتة في تحميل ذلك الجميل لأحد. ولكن وعيه الذاتي بانغماسه الكامل وحده في رعاية وتمريض أستاذه، نثر بذور كبيرة للرضا في أعماق قلبه. ولم يكن يعي بهذا الرضا وسط المشاعر الدافئة التي امتدت في خلفية نشاطه، ويبدو أنه من الأصل لم يشعر بأي حاجة له في حياته اليومية. وإن لم يكن الأمر كذلك، لم يكن ليقضي وقتاً طويلاً ساهراً تحت ضوء المصباح غارقاً مع شيقو في أحاديث متفرقة يبوح فيها عمّا في داخله من أفكار، متعمداً شرح فضيلة البر، وأنه يخدم معلمه كما لو أنه يبر بوالده. ولكنه لحظة أن لمح ابتسامة ساخرة تلمع على وجه شيقو سيئ الطباع، أدرك خللاً مفاجئاً في التوافق الذي وجد حتى تلك اللحظة. ثم اكتشف أن سبب الخلل هو وجود ذلك الرضا عن النفس الذي لاحظه لأول مرة وتقييمه الذاتي له. إنه يمرّض معلمه في مرضٍ قد يؤدي بحياته ربما غداً، فينظر إليه بعين راضية عمّا بذله من جهد في تمريضه وليس بعين جزعة على حالته الصحية. وبالتأكيد هذا يؤنب ضمير إنسان صادق مثله ولا شك. وبسبب التناقض بين الرضا والندم بدأ كيوراي منذ ذلك الحين يشعر تلقائياً بقيد في كل ما يفعله. وفي اللحظة التي يرى فيها صدفة داخل عيني شيقو وجههاً مبتسماً، وعيه الذاتي بذلك الرضا يزداد وضوحاً فتكون النتيجة في النهاية هي إحساسه بالخزي تجاه وضاعته. استمر ذلك لعدة أيام متواصلة، واليوم أمام مثل هذا التناقض النفسي كان اضطرابه، وهو الموسوس أخلاقيّاً وذو الأعصاب الحساسة على غير المتوقع، عند تقديم ماء الاحتضار لمعلمه، أمر يؤسف له ولكن لا حيلة فيه. ولذلك لحظة إمساك كيوراي بالريشة تصلّب جسمه كله صلابة مريبة، واجتاحه هياج غير طبيعي لدرجة أن طرف الريشة الأبيض المحتوي على الماء، اهتز عدة مرات وهو يلمس شفتي باشو. ولكن لحسن الحظ رافق ذلك أن تجمعت قطرات دموع في رموش عينيه، فعلى الأرجح أن جميع التلاميذ الناظرين إليه، حتى شيقو شديد القسوة ذاته، فسروا ذلك الهياج بأنه نتيجة حتمية لحزنه الشديد.

وأخيراً رفع كيوراي كتفي ردائه مرة أخرى، وعاد إلى مكانه متوجساً، ثم سلّم الريشة إلى جوسو الجالس خلفه. ولا ريب أن هيئة هذا التلميذ المخلص في المعتاد وقد نكّس رأسه متمتماً داخل فمه بصلاة هامسة، وهو يبلل في هدوء شفتي معلمه قد انعكست هيبة وجلالاً في عيون الجميع. ولكن في لحظة الهيبة تلك سُمع فجأة صوت ضحكة مريبة من أحد أركان الغرفة. كلا، على الأقل يُعتقد أنه سُمعت في ذلك الوقت. كان صوتاً يشبه قهقهة صاخبة ترتفع من قاع البطن ومع احتجاز الحنجرة والشفاه لها، إلا أنها لم تقدر على تحمل الفكاهة، فانفجرت خارجة من فتحي الأنف خروجاً متقطعاً. ولكن، لا داعي بالتأكيد للقول إن لا أحد في هذه الحالة قد أفلتت من فمه الضحكات. إن الصوت في الواقع هو نحيب مكتوم بأقصى درجات الكتمان لسيشو الذي حيرته دموعه منذ برهة، فشقّت صدره وانفجر نحيبه. وبالطبع لا خلاف على أن ذلك النحيب وصل لأقصى درجات الحزن. وربما أغلب تلاميذ باشو تذكروا شعر أستاذهم الشهير: «حرّك الجثوة، صوت بكائي، قبض الريح». ولكن إزاء ذلك النحيب الرهيب، لم يستطع أوتوكوني وهو على وشك أن تختنق عبراته أيضاً، إلا أن يشعر بالاستياء قليلاً، بسبب المبالغة فيه، وإن لم يكن ذلك وصفاً لطيفاً، فبسبب نقص قوة الإرادة التي يجب أن تسيطر عليه. إلا أن طبيعة ذلك الاستياء، على الأرجح ليس إلا مجرد شيئاً فكريّاً محضاً. وفي نهاية المطاف امتلأت عيناه بالدموع، إذ تأثر قلبه على الفور بصوت نحيب سيشو الحزين على الرغم من رفض عقله له. ومع ذلك لم يتغير إحساسه بالاستياء من نحيب سيشو، ناهيك عن عدم شجاعة دموعه شخصيّاً. بل سالت دموع أوتوكوني أكثر، وفي النهاية بكى بنشيج عفويّ ويديه فوق ركبتيه. ولم يكن أوتوكوني هو الوحيد وقتها الذي تسربت منه بوادر النشيج والنحيب. بل سُمع في نفس الوقت تقريباً نشيجاً متقطعاً للأنوف يهز هواء الغرفة المغلف بالحزن، من عدد من التلاميذ المتحلقين حول فراش باشو.

وأثناء الأصوات الحزينة المؤلمة تلك، عاد جوسو الذي وضع في رسخه مسبحة خشب الجميز إلى مكانه الأصلي بهدوء، ثم تقدم شيقو الجالس في مواجهة كيكاكو وكيوراي مقترباً من الوسادة. ولكن يبدو أن شيقو المعروف بسخريته لم تغره مشاعر المحيطين لكي يكون عصبيّاً وحساساً بحيث يذرف دموعه بلا طائل. فعلت وجهه الأسمر كالمعتاد ملامح استغباء الآخرين كالمعتاد، وأظهر وهو يبلل شفتي المعلم بعشوائية غطرسة مريبة كالمعتاد أيضاً. ولكن لا خلاف على أنه في موقفٍ مثل هذا حتى هو تأثر إلى حد ما بالطبع.

جمجمة في العراء، قلب في الرياح، تُرى هل الجسم ارتاح!

كان معلمه يكرر منذ بضعة أيام شكرهم بقوله: «منذ زمن، وأنا أفكرُ أنني سأموت مفترشاً الحشائش ووسادتي التراب، ولكن ما يسعدني أكثر من أي شيء آخر هو قدرتي على تحقيق أمنية الرحيل للأرض الطاهرة فوق هذا الفراش الجميل» ولكن من المؤكد أن الأمر لا يختلف كثيراً سواء كان في هذه الغرفة الخلفية لمحل بيع الزهور، أو في منتصف الحقول الذابلة. وواقعياً ها هو الذي يُبلل فمه الآن، ظل قلقاً قبل ثلاثة أو أربعة أيام لعدم تأليفه هايكو لشكر المعلم. ثم وضع أمس خطة لجمع أشعار المعلم بعد رحيله. وها هو اليوم في النهاية، يتأمل معلمه الذي يقترب مع كل لحظة من الموت، بعيون فاحصة وكأنه يحمل عناية خاصة بتلك المراحل. لو تقدمنا للأمام خطوة وفكرنا بسخرية نستطيع أن نقول إنه ربما توقّع خلف هذا التأمل حتى الجملة التي سيكتبها بنفسه فيما بعد في «تسجيل وقائع الموت». في هذه الحالة فإن ما سيطر على عقله تماماً أثناء رعايته للمعلم في أواخر حياته، أمور ليس لها أي علاقة مباشرة بموته مثل سمعته بين مدارس الشعر الأخرى، ومصالح التلاميذ المتضاربة، أو اهتماماته هو شخصياً. ولذلك يمكن القول إن المعلم يموت مهملاً في الحقول الذابلة كما توقع بشجاعة في الكثير من أشعاره. فتلاميذه لا ينعون معلمهم في نهاية حياته بل ينعون أنفسهم لفقدهم المعلم. لا يأسون على القائد الذي يعاني من عذاب الموت في الحقول الذابلة، بل يأسون على أنفسهم لأنهم فقدوا القائد في حلكة الظلام. ولكن مهما انتقدنا ذلك من الناحية الأخلاقية، فما العمل في البشر الذين خُلقوا من الأصل بلا مشاعر؟ ومع غرقه في مثل هذه المشاعر المتشائمة، وهو البارع حقاً في الغرق فيها، انتهى شيقو من تبليل شفتي أستاذه، وأعاد الريشة إلى مكانها الأصلي في الكوب، ثم دار ببصره على التلاميذ الذين ينتحبون بالدموع في نظرات حادة وكأنه يسخر منهم، فوقف وعاد إلى مقعده ببطء شديد. تعرُّض رجل طيب السريرة مثل كيوراي لهذا التعامل البارد منذ البداية جدد لديه قلقه السابق مرة أخرى. ويبدو أن إحساس كيكاكو بانزعاج قليل من طبيعة تصرفات شيقو تلك إذ يحاول إنجاز كل شيء بوقاحة هو سبب ظهور ملامح دغدغة على وجهه بمفرده.

بعد شيقو، زحف الراهب إينن مسافة قصيرة ساحباً أطراف رداء الرهبنة الأسود فوق حصير التاتامي، وأجل باشو يقترب حثيثاً. شحب وجهه أكثر من ذي قبل، وكأنه قد نسى التنفس، تتسرب أنفاس من حين لآخر من بين الشفتين اللتين بللهما الماء. تتحرك حنجرته حركة كبيرة وكأنها تذكرت عملها، فيمر خلالها هواء بلا حول ولا قوة. وفي عمق تلك الحنجرة، يتردد صدى خافت للبلغم مرتين أو ثلاث مرات. ويبدو أن التنفس بات هادئاً تدريجيّاً. أوشك الراهب إينن لمس الشفتين بطرف الريشة الأبيض، فبدأ يجتاحه فجأة رعب لا علاقة بالحزن على فراق الموت. إنه رعب بلا سبب تقريباً جعله يسأل: أليس هو التالي بعد المعلم؟ حتى وإن كان بلا سبب، ولكنه إذ بدأ ذلك الرعب يجتاحه مرة، فما من حيلة تجعله يصبر أو يقاوم. إنه في الأصل إنسان يرتعد قلبه رعباً عند ذكر الموت. ومنذ زمن بعيد يشعر برعب هائل يجعل العرق ينز من جسده كله عندما يفكر في لحظة موته، وحدث له ذلك حتى وقت ترحاله لصقل حِسّه الشعري. ولذا عندما يسمع بموت أحد، يطمئن أن الموت لم يختاره. وفي نفس الوقت، يشعر بالقلق من جهة أخرى، وهو يتساءل ماذا سيحدث عندما يموت؟ ولم تكن حالة باشو استثناء، أثناء ما كان الاحتضار بعيداً، حيث تنصب أشعة شمس الشتاء المشرقة على الباب الورقي، وتفوح رائحة النرجس النقية التي ترسلها سونوميه تلميذة باشو، ويتجمعون حول فراش معلمهم لتأليف هايكو يواسون به المعلم في مرضه، كان وقتها يتسكع تدريجيّاً بلا هدف بين فراغ هذين النوعين من المشاعر كالنور والظلام. ولكن، عند اقتراب النهاية شيئاً فشيئاً – في يوم لا يُنسى بدأ فيه مطر الشتاء – عندما رأى معلمه غير قادر على أكل حتى ثمار الكمثرى التي يحبها كثيراً، وأمال موكوستسو عنقه في قلق، منذ ذلك الوقت وقعت الطمأنينة في فخ القلق، وفي النهاية نشر ذلك القلق ببرودة خفيفة ظل الرعب الخطير فوق قلبه، رعبه من احتمالية موته هو في المرة القادمة. ولذلك جلس عند الوسادة، تطارده لعنة ذلك الرعب وهو يبلل شفتي أستاذه باجتهاد، فلم يستطع تقريباً النظر مباشرة إلى وجه باشو في لحظات الاحتضار. كلا، بل نظر مباشرة مرة واحدة فقط، وفي تلك اللحظة بالضبط سمع صوتاً خافتاً لانسداد حنجرة باشو من البلغم، فأدى ذلك إلى رِدّته عن الشجاعة التي واتته موّقتاً. «ربما أنا مَن يموت بعد المعلم» انكمش الراهب إينن بجسده الصغير خوفاً وهو يسمع ذلك الصوت النبوءة في أعماق أذنيه بلا انقطاع حتى بعد أن عاد إلى مكانه، فجعل وجهه العابس أكثر عبوساً، ونظر فقط لأعلى لكيلا يشاهد بقدر المستطاع وجه أي من الحاضرين.

ثم بلل تلاميذ المعلم المحيطون بفراش المرض شفتي معلمهم بالترتيب، أوتوكوني، سيشو، شيدو، وأخيراً موكوستسو. وأثناء ذلك كانت أنفاس باشو تذبل مع كل نفس وعددها ينخفض تدريجيّاً. والآن لم تعد الحنجرة تتحرك. تجمّدت ملامحه كلها في برودة إنسانية، وجه صغير يشبه الشمع مليء بالبقع الخفيفة، ومقلتان زائغتان شحب بريقهما تشخصان إلى مكان بعيد، ثم لحية بيضاء كالفضة امتدت حتى الفك السفلي، ويُعتقد أنه يرى أحلام الأرض الطاهرة المحتم عليه الذهاب إليها. في ذلك الوقت، بدا جوسو الذي حل محل كيوراي في مقعده، منكّس الرأس في صمت تام، جوسو راهب الزن المتمرس، بدأت تنساب داخل صدره ببطء مشاعر السكينة مع حزن لا حدود له وهو يتتبّع أنفاس باشو شديدة الخفوت. ولا داعي أصلاً لإضاعة الوقت في شرح مدى حزنه. كانت مشاعر السكينة تلك مشرقة لدرجة عجيبة، وكأنها ضوء فجر بارد يتمدد تدريجيّاً ليشق ظلام الليل. يُبعد في كل لحظة جميع أنواع الأفكار الدنيوية، بل حتى دموعه نفسها تتحول إلى حزن صافي بلا أدنى ألم يطعن القلب. تُرى هل فرح أن روح أستاذه تخطت مرحلة الموت والحياة ذات الأحلام العدمية، وعاد إلى أرض الجواهر في نيرڤانا أبدية؟ كلا، فهو نفسه لا يستطيع إثبات هذا السبب. لو كان الأمر كذلك ... آه، يا له من شخص متذبذب مشاكس، يحاول متعمداً أن يخدع نفسه بغباء. إن مشاعر السكينة تلك التي أحس بها جوسو، هي فرحة روحه الحرة التي خضعت عبثاً على مدى طويل لأغلال شخصية باشو القوية، التحرر الذي سيجعله قادراً على أن يمد أطرافه أخيراً من خلال قوته الحقيقية. ووسط تلك الفرحة الحزينة المشبعة بالنشوة، علت شفتيه ابتسامة خافتة وكأنه يزيل بها رفاقه المحيطين به الذين ينتحبون من مقلتيه، وصلى في مهابة وتبجيل وهو يسبّح بالمسبحة المصنوعة من خشب الجميز من أجل باشو المحتضر.

وهكذا لفظ باشو ماتسوو أعظم شعراء الهايكو على مر العصور، أنفاسه الأخيرة فجأة محاطاً «بحزن وأسى» لانهائيين من تلاميذه.

(سبتمبر 1918)

 

هامش 1: تغريدات للأستاذ عدي الحربش عن هذه القصة وعن الشاعر باشو ماتسوو هنا

هامش 2: مقالة للمؤلف ريونوسكيه أكوتاغاوا عن مراحل تأليفه للقصة هنا

 

ليست هناك تعليقات: