بحث في هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 4 فبراير 2023

مسيح نانكينغ تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

مسيح نانكينغ

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

(1)

 

أمسية في الخريف. بغرفة في بيت بشارع كيوانغ بمدينة نانكينغ، تجلس فتاة صينية شاحبة اللون على منضدة قديمة مستندة بخدها على يدها وتقزقز بملل لب بطيخ موضوع في آنية أمامها.

وفوق المنضدة وضع فانوس يشع إضاءة معتمة. والأحرى أن تُوصف الإضاءة بأنها تعطي تأثيرًا يزيد من كآبة الغرفة بدلًا من وصفها أنها تُضيئها. وفي ركن من الغرفة التي كاد ورق حائطها أن يتقشر كله، ثمة سرير من الخيزران فوقه بطانية تكاد تسقط من عليه وتتدلى من فوقه ستارة. ثم على الجانب الآخر من المنضدة، ثمة كرسي عتيق هو الآخر، وُضع في إهمال وكأن الدهر قد نسيه تمامًا. وفيما عدا ذلك مهما نظرنا لا نعثر على أي نوع من أنواع الزينة أو الأثاث الأخرى.

ورغم ذلك كانت الفتاة تتوقف عن قزقزة اللب وترفع عينيها الناعستين من حين لآخر لتحدّق طويلًا في الحائط المواجه للمنضدة. وعندما ننظر إلى الحائط ندرك السبب، فأمام أنفها مباشرة عُلق على مسمار معقوف صليب صغير مهيب من النحاس الأصفر. ونُقش فوق ذلك الصليب تمثال رديء الصنع لمسيح الآلام باسطًا ذراعيه عاليًا وتبرز حوافه التي انطمست من اللمس في ضبابية وكأنها ظلال غامضة. وفي كل مرة ترى الفتاة يسوعَ هذا تختفي للحظة آثار الوحشة خلف أهدابها الطويلة وعوضًا عنها ينبعث من عينيها في حيوية ونشاط شعاعٌ من الأمل الطفولي البريء. ولكنها إذ تحيد بنظرها عنه مرة أخرى تتسرب منها على الفور تنهيدة أسى مؤكدة، وتبدأ مجددًا في قزقزة اللب واحدة بعد أخرى وهي تدلي بكتفيها المغطاة بكنزتها الساتان التي انطفئ لمعانها.

اسم الفتاة هو جينهوا سونغ وهي عاهرة في بيت دعارة خاص في الخامسة عشرة من عمرها، تستقبل الزبائن ليلة بعد ليلة في تلك الغرفة لكي تعيل أسرتها الفقيرة. ولا شك أننا يمكننا العثور على عدد من الفتيات اللائي لهن نفس ملامح جينهوا وسط بيوت الدعارة الخاصة الكثيرة في حي كينهواي. ولكن ثمة شكوك حول وجود فتاة أخرى تحمل نفس طبيعة جينهوا الطيبة. فهي تختلف عن قريناتها من البغايا، فلا تكذب ولا تصر على شيء بأنانية، بل تبتسم كل ليلة ابتسامة مبهجة على وجهها وتلهو مع جميع أنواع الزبائن المختلفين الذين يزورون هذه الغرفة الكئيبة. وهكذا عندما تزيد النقود التي يتركونها عن المتفق عليه قليلًا، تجد متعتها في شراء كأس من الخمر التي يحبها والدها، فهو الوحيد الباقي لها من الأسرة.

ولا شك أن سلوك جينهوا هذا يعود بالتأكيد إلى طبيعتها التي وُلدت بها. ولكن إن وُجد سبب آخر غير ذلك فهو استمرارها منذ طفولتها في الإيمان بالكاثوليكية الرومانية التي علّمتها لها أمها المتوفاة كما يوضح ذلك الصليب المعلق على الحائط.

وعلى ذكر ذلك، حدث في ربيع هذا العام أن زار سائح ياباني شاب مدينة شانغهاي لمشاهدة سباق الخيل، فعرج على نانكينغ بحثًا عن المناظر الصينية التقليدية، ثم انصاع إلى فضوله فقضى ليلة في غرفة جينهوا. ثم وهو يحضن تلك الفتاة ضئيلة الحجم على ركبتيه بخفة وسهولة، لمح فجأة الصليب المعلق على الحائط، فسألها بلغة صينية مضعضعة وعلى وجهه ملامح الاستغراب:

-          هل أنتِ مسيحية؟

-          أجل. لقد تعمدت وأنا في الخامسة من عمري.

-          ثم تعملين في هذه المهنة؟

ويبدو أن صوته في تلك اللحظة احتوى على نبرة ساخرة. فتسربت من جينهوا ضحكتها المشرقة المعتادة دائمًا فبدت منها القواطع وهي تستند برأسها ذات الشعر الفاحم على صدره.

-          إذا لم أعمل في هذه المهنة فسوف نموت أنا وأبي جوعًا.

-          وهل أبوك شيخ كبير؟

-          أجل. وهو الآن مشلول لا يستطيع الوقوف.

-          ولكن؟ … ولكن ألا ترين أنك بالعمل في هذه المهنة لن تستطيعين دخول ملكوت السماء؟

-          أجل. بل سأدخل بالقطع.

نظرت جينهوا إلى الصليب نظرة سريعة وبدا على وجهها ملامح التفكير العميق.

-          لأنني أرى أن السيد المسيح في ملكوته سيتفهّم مشاعري بالتأكيد. … وإذا لم يفعل، فلن يختلف المسيح عن ضباط أقسام الشرطة الذين يجوبون حواري وشوارع ياوجيا.

ابتسم السائح الياباني الشاب. ثم بحث في جيب معطفه وأخرج منه زوجًا من الأقراط مزينة بحجر اليشم الكريم ثم أدلاهما من أذنيها بنفسه.

-          لقد اشتريتُ منذ قليل هذه الأقراط هدية أحملها معي إلى اليابان، سأعطيكِ إياها تذكارًا لهذه الليلة.

لأول مرة منذ الليلة التي بدأت فيها تستقبل زبائن، ترضى جينهوا عن نفسها مثل هذا الرضا المؤكد.

ولكن بعد شهر تقريبًا بدأ للأسف جسد هذه العاهرة المتدينة يعاني من أعراض مرض الزهري الفتاك. وعندما سمعت زمليتها شانتشا تشنغ بالأمر علمتها أن تشرب خمر الأفيون قائلة لها أنه مفيد في تسكين الألم. ثم بعد ذلك رأفت بها زميلتها الأخرى ينغتشون ماو فأحضرت لها خصيصًا ما تبقى لديها من كبسولات الزئبق الزرقاء ودواء كالوميل التي كانت تتناولهما بنفسها. ولكن لسبب مجهول لم تتحسن حالة جينهوا المرضية مطلقًا حتى مع انعزالها وعدم استقبالها للزبائن.

وهنا زارت غرفتها شانتشا تشنغ في أحد الأيام وقالت لها بيقين طريقة علاج تمتلئ بالخرافة:

-          لقد نقل إليك هذا المرض أحدُ الزبائن فيجب عليك إعادته سريعًا إلى زبون آخر. إنْ فعلتِ فلا شك أنه لن يمر عليك ثلاثة أيام إلا وأنت في صحة جيدة.

ظلت جينهوا تضع يدها على خدها ولم تتغير ملامح وجهها الحزينة. ولكن يبدو أن كلمات شانتشا حركت لديها حب الاستطلاع فسألتها ببساطة:

-          أحقًا ما تقولين؟

-         بالتأكيد. لقد ظلت أختي الكبرى مثلك لم يشف مرضها مهما فعلت. ومع ذلك عندما أعادت نقله إلى زبون، تحسنت صحتها سريعًا.

-          وماذا حدث لذلك الزبون؟

-          يا له من زبون تعيس! يُقال إن المرض طمس عينيه فأمسى كفيفًا.

بعد أن تركت شانتشا الغرفة، جثت جينهوا وحيدة بركبتيها على الأرض أمام الصليب المعلق على الحائط، ثم تلت الصلاة التالية بحرارة وحماس وهي تنظر عاليًا تجاه مسيح الآلام:

-          سيدي المسيح في ملكوت السماء، إنني أمتهن مهنة خسيسة لكي أعيل أبي. ولكن مهنتي تلك لا تلحق العار إلا بي وحدي ولا تضر أحدًا. ولهذا كنتُ على يقين أنني لو مُتُّ بحالتي هذه، فسأذهب إلى الملكوت. ولكنني حاليًّا إذا لم أنقل مرضي إلى أحد الزبائن فلن أستطيع مواصلة مهنتي كما كانت حتى الآن. ولكنني عقدت العزم أنني حتى وإن مت جوعًا – وفي هذه الحالة ستختفي آلام المرض على أي حال ‏–‏ فلن أنقل هذا المرض إلى أحد. وإلا فإنني من أجل سعادتي الشخصية سأتسبب في تعاسة إنسان لا يحمل تجاهي أي ضغينة. ولكن مع قولي هذا فأنا أنثى، ولست محصنة في كل وقت وكل حين ضد الوقوع في الغواية. ‏سيدي المسيح في ملكوت السماء، ‏أدعوك أن تحميني. فإنني فتاة لا ملجأ لي إلاك وحدك.

وهكذا ظلت جينهوا سونغ التي عزمت ذلك العزم ترفض بإصرار استقبال الزبائن، مهما حثتها شانتشا أو ينغتشون على ممارسة مهنتها. وأيضًا حتى لو جاء إلى غرفتها أحد زبائنها الدائمين للهو معها، لا تلبي مطلقًا رغبة أي منهم فيما عدا المشاركة في تدخين التبغ فقط.

ومع ذلك إذا كان الزبون مخمورًا وحاول أن يتعامل معها على حريته، كانت جينهوا دائمًا ما تقول له:

-          إنني أحمل داءً مخيفًا. وإذا اقتربتَ مني ستنتقل العدوى إليك.

ولم تكن تتردد حتى من أن تُظهر له فعليًّا برهان المرض. ولذلك تباعدت أقدام الزبائن عن غرفتها تدريجيًّا ولم يعد يزورها أحد حتى للهو. وبالتزامن مع ذلك ساءت حالتها الاقتصادية يومًا بعد يوم. ...

وهذه الليلة أيضًا اقتربت جينهوا من المنضدة وجلست عليها شاردة الذهن لوقت طويل. لم يتغير حالها بانعدام طيف لزبون يأتي لغرفتها. وأثناء ذلك مر الليل بدون استحياء، ولم تعد جينهوا تسمع شيئًا فما عدا نقيق جداجد تصيح في مكان بعيد. ليس هذا فقط بل بسبب انعدام أي أثرٍ لنيران التدفئة، هجمت عليها برودة الغرفة منطلقة من البلاط الحجري الذي فُرشت به الأرضية وعبرت تدريجيًّا حذائها المصنوع من قماش الساتان الرمادي كأنها ماء مثلج ووصلت إلى قدميها الهزيلتين داخل الحذاء.

كانت جينهوا منذ قليل تتأمل إضاءة الفانوس المعتم، ثم في النهاية هزت رعشةٌ مفاجئة جسدها فحكّت أذنها التي يتدلى منها قرط اليشم، ثم صدت تثاؤبًا خفيفًا في مهده. ثم في ذات اللحظة تقريبًا فُتح الباب الخشبي الذي تساقط طلاؤه باندفاع شديد، فدخل الغرفة بخطوات مترنحة أجنبي لم يسبق لها أن رأته من قبل. وربما بسبب ذلك الاندفاع الشديد زاد اشتعال لهب الفانوس الذي فوق المنضدة للحظة سريعة ففاضت بغرابة في أركان الغرفة أشعة لهب أحمر مختلط بالسخام. انصبت تلك الأشعة بأكملها على ذلك الزائر، فترنح للحظة ومال تجاه المنضدة ولكنها اعتدل واقفًا مرة أخرى ثم تراجع هذه المرة للخلف، وأسند ظهره بقوة على الباب المطلي الذي أغلق مرة أخرى. ولا إراديًّا نهضت جينهوا وافقة، وألقت عليه نظرات مذهولة. يبدو الزائر في الخامسة أو السادسة والثلاثين من عمره. يرتدي بدلة بنية مخططة وقبعة صيد من نفس القماش، عيناه واسعتان ولحيته تغطي ذقنه، وخداه بهما سمرة من لفح الشمس. والأمر الوحيد الذي لم تستطع معرفته هل هو غربي أم شرقي مع عدم الشك في أنه أجنبي. ولكن مظهره الواقف يسدّ الباب واضعًا الغليون المنطفئ في فمه وشعره الأسود يظهر تحت القبعة، يجعل جينهوا مهما نظرت إليه لا تراه إلا أحد المارة المخمورين الذين ضل بهم الطريق.

اجتاحت جينهوا مشاعر استياء خفيفة فوقفت جامدة أمام المنضدة وجربت أن تسأله وكأنها توبخه:

-          هل تريد شيئًا؟

فهز الرجل رأسه وأشار بما معناه أنه لا يفهم اللغة الصينية. ثم أبعد الغليون الذي كان يضعه في فمه بالعرض وتسربت منه جملة لا تدري معناها بلغة أجنبية سلسة. هذه المرة كانت جينهوا هي التي لم تجد بديلًا عن أن تهز رأسها، فتلألأ قرط اليشم على ضوء فانوس المنضدة.

وإذ رأى الزبون جينهوا وهي تقطب حاجبيها الجميلين فيما يبدو الانزعاج، أطلق فجأة ضحكات صاخبة وهو يلقي بقبعة الصيد بعشوائية بعيدًا، واقترب منها وهو يترنح. ثم جلس على المقعد في الجهة الأخرى من المنضدة وكأنه عاجز عن الوقوف. وإذّاك شعرت جينهوا تجاه وجه هذا الأجنبي بنوع من الألفة وكأنها سبق أن قابلته بالتأكيد حتى ولو لم تتذكر أين؟ ومتى؟ غرف الزبون بدون تحفظ من لب البطيخ الذي فوق الآنية، ولكن رغم قول ذلك فهو لم يقزقزه، بل ظل يرمق جينهوا بنظرات ثابتة، وأخيرًا بدأ يتحدث مجددًا بلغة أجنبية وهو يخلط ذلك بحركات مريبة بيده. لم تفهم كذلك معنى ما قال إلا أنها خمنت تخمينًا ضبابيًّا أن هذا الأجنبي يدرك إلى حد ما طبيعة مهنتها. فلم يكن من النادر بالنسبة لجينهوا أن تقضي ليلة طويلة حتى الصباح مع أجنبي لا يفهم من اللغة الصينية شيئًا. فجلست على المقعد وابتسمت ابتسامتها المحببة المعتادة وبدأت تمزح وتثرثر مع أن الطرف الآخر لا يفهم منها شيئًا. ولكن بدأ الزبون يستخدم إيماءات متنوعة بيديه أكثر كثافة من ذي قبل وهو يضحك ضحكات ابتهاج ويتحدث كلمة أو كلمتين لدرجة أنها اعتقدت أنه يفهم مزاحها.

تفوح من أنفاسه رائحة الخمر، ويمتلئ وجهه القاني من السُكر اللذيذ، طاقة ذكورية جعلتها ترى الغرفة الكئيبة في منتهى البهجة والمرح. على الأقل كان أكثر عظمة بالنسبة لها من أي أجنبي غربي أو شرقي رأته حتى الآن ناهيك عن صينيي نانكينغ التي اعتادت عليهم. ومع ذلك لم تتغلب على شعورها الذي شعرت به منذ قليل بأنها رأت ذلك الوجه من قبل مرة واحدة على الأقل. تأملت شعره الأسود المجعد المنساب فوق جبينه، وأثناء تصرفها معه ببساطة وجاذبية، حاولت جاهدة أن تتذكر متى قابلت ذلك الوجه لأول مرة.

-          هل هو ذلك الرجل الذي كان يركب المركب السياحي مع زوجته البدينة الذي رأيته مؤخرًا؟ كلا، كلا، فقد كان لون شعر ذلك الرجل أكثر احمرارًا. إذن ربما هو الرجل الذي كان يصور بكاميرته معبد كونفوشيوس في حي جينهواي. ولكنني أشعر أن ذلك الرجل كان أسنّ من هذا الزبون. أجل، أجل أذكر أنني عندما فوجئت بتجمهر الناس أمام مطعم بجوار جسر لي شي، رأيت رجلًا يشبه هذا الزبون يجلد ظهر مكاري ريكشا بعصا غليظة من الخيزران. ربما كان هو … ولكن ذلك الرجل كانت عيناه أكثر زرقة ...

أثناء ما كانت جينهوا غارقة في هذه الأفكار، ظل الأجنبي كما هو في حالة من البهجة وفي غفلة من الزمن أشعل غليونه وأخذ ينفث في الهواء دخانًا جيدة الرائحة. ثم قال شيئًا فجأة وهذه المرة كان يبتسم في هدوء ابتسامة صفراء، ثم بسط إصبعين من أصابع إحدى يديه ودفعهما أمام عيني جينهوا وهو يعطيها إيماءات تدل على الاستفهام. وبالطبع كان من الواضح لكل ذي عينين أن الإصبعين يعنيان دولارين. ولكن جينهوا التي قررت ألا تُبيت زبائن في غرفتها أظهرت له بوجه باسم بقدر المستطاع علامات الرفض مرتين. وعندها مد الزبون وجهه المخمور قريبًا جدًا من الفانوس المعتم فوق المنضدة وهو يستند بمرفقيه في عجرفة بالغة، وأخذ يراقب وجهها، وفي النهاية بسط ثلاثة أصابع وبدت على عينيه علامات انتظار الرد.

زحزحت جينهوا مقعدها قليلًا وبدت على وجهها علامات الحيرة وفمها يمتلئ بحبات اللب. من المؤكد أن الزبون ظن أنها ترفض إعطاءه جسدها بدولارين. ومع ذلك فهي تعتقد أنها لن تستطيع مهما حاولت أن تُفهم ذلك الزبون الذي لا يتحدث بلغتها تلك التفاصيل المعقدة. وهنا ندمت جينهوا بعد فوات الأوان على سلوكها المستهتر، ثم حولت نظراتها المنعشة عنه ولم تجد حيلة إلا أن تُظهر رفضها القاطع فهزت رأسها مرة أخرى.

ومع ذلك فقد ظهرت على وجه الأجنبي ابتسامة باهتة لفترة، ظهرت على وجهه ملامح التردد، ثم بسط أربعة أصابع وقال لها شيئًا بلغته الأجنبية مرة أخرى. وقعت جينهوا في حيرة شديدة جعلتها تغطي وجهها بيديها وتفقد القدرة على الابتسام، ثم حسمت قرارها أنه ما دام الأمر وصل إلى هذا الحد فليس أمامها إلا الاستمرار في هز رأسها بالنفي إلى ما نهاية في انتظار أن يتخلى هو عن رغبته. ولكن أثناء تفكيرها هذا كان الزبون قد فتح يده بخمسة أصابع وكأنه قد أدرك شيئًا لا يُرى.

ثم استمر الاثنان لوقت طويل في حوار بالإيماءات والإشارات. ظل الزبون يزيد بمثابرة وعزيمة من عدد الأصابع واحدًا بعد آخر وحتى بعد أن وصل المبلغ إلى عشرة دولارات في نهاية المطاف بدا على وجهه علامات تقول لها ليست خسارة فيك. ولكن العشرة دولارات التي تعد مبلغًا كبيرًا في دور الدعارة الخاصة لم تغير من عزيمة جينهوا. لقد ابتعدت منذ قليل عن مقعدها وتقف بثبات وقفة مائلة تجاه المنضدة وعندما أظهر لها الزبون أصابع يديه الاثنتين، تقدمت بقدمها خطوة للأمام في غضب وهزت رأسها عدة مرات متتالية. وفي تلك اللحظة لسبب مجهول تزحزح الصليب المعلق عن مسماره فوقع فوق البلاط الحجري بجوار قدميها مصدرًا صوت ارتطام معدني خفيف.

مدت جينهوا يدها بلهفة والتقطت الصليب باهتمام بالغ. وعندها نظرت نظرة عارضة إلى وجه مسيح الآلام المنقوش على الصليب، فكان وجه الأجنبي الجالس قبالتها على المنضدة لدهشتها هو الصورة الحية من ذلك الوجه.

-          ماذا! الوجه الذي ظننت أنني رأيته من قبل كان وجه السيد المسيح!

ألقت جينهوا بنظرة اندهاش لا إرادية تجاه الزبون على الجانب الآخر من المنضدة وهي تضم الصليب البرونزي إلى صدرها فوق فستانها المصنوع من الساتان الأسود. ظهرت على وجه الزبون ابتسامة ذات مغزى وهو ينفث دخان غليونه من حين لآخر وقد اشتعل وجهه المخمور تحت ضوء الفانوس. بل وبدا أن عينيه كانت تدور بلا انقطاع في أجزاء جسدها على الأرجح من عنقها الأبيض إلى منطقة الأذن التي يتدلى منه قرط اليشم. بدا منظر الزبون هذا لجينهوا وكأنه محاط بأحد أنواع المهابة.

وأخيرًا توقف الزبون عن تدخين الغليون وأمال عنقه متعمدًا ثم تحدث إليها ضاحكًا بكلمات ما. فأحدثت تلك الكلمات تأثيرًا يشبه إيحاء منوم تنويم مغناطيسي بارع في إذن ضحيته. فأغمضت جينهوا عينيها وهي تبتسم وكأنها نسيت تمامًا قرارها الصارم، واقتربت على استحياء من ذلك الأجنبي المريب وهي تلهو بصليب النحاس الأصفر بين يديها.

بحث الزبون في جيبه، وهو يصدر صوت نقود فضية صاخب، ويتأمل بعينيه التي ما زالت تبدو فيها ابتسامة خافتة، منظر جينهوا وهي تقترب منه في إعجاب. ولكن الابتسامة الخافتة التي في عينيه، تحولت إلى أشعة تشبه اللهب، ثم انقض واقفًا فجأة من على مقعده، وحضن جينهوا بكل قوته بين ذراعي بدلته التي تفوح منها رائحة الخمر. كانت جينهوا وكأنها فاقدة للوعي، رأسها التي يتدلى منها قرط اليشم تميل للخلف كأنها قد أُغمى عليه ولكن كانت أعماق خديها الشاحبين تنوه عن لون الدماء الصحي الزاهي وهي كما هي تصب نظرات عينيها المنتشية على وجهه المقترب من أنفها. وبالطبع لم تكن تملك رفاهية  التفكير في هل تُسلم جسدها لذلك الأجنبي العجيب ليلهو به كيف يشاء؟ أم تصد قبلاته بعنف لكيلا ينتقل إليه المرض؟ لم تدر جينهوا وهي تُسلم شفتيها لشفتي الزبون المحاطة بلحيته الكثيفة، إلا وقد اجتاحت صدرها بعنف نشوة حب مشتعل، نشوة حب تذوقها لأول مرة. ...

 

(2)

 

بعد عدة ساعات، أضاف صوت الجداجد الخافت داخل الغرفة التي انطفأ فيها الفانوس، وحدة خريفية موحشة إلى أنفاس النائمَيْن. وأثناء ذلك كان حلم جينهوا يرتفع عاليًا من ستائر السرير المتربة، إلى سماءالنجوم والقمر فوق السقف.

×                       ×                         ×                         ×

... تجلس جينهوا على مقعد مصنوع من خشب الورد، وتلتقط بعصتي الأكل أطعمة متنوعة مرصوصة فوق المائدة. ولا يمكن مهما أحصينا أن نحيط علمًا بكل الأطعمة … عش الحمام، زعانف سمك القرش، بيض مقلي على البخار، شبوط مدخن، خنزير كامل مسلوق، حساء خيار البحر …إلخ. بل وكانت الأطباق كلها عظيمة الشكل وسطحها مزين بالكامل بزهور اللوتس الزرقاء وطيور الفينيق الذهبية.

وخلف مقعدها ثمة نافذة تتدلى منها ستائر دانتيلا حمراء، وتجري من تحت تلك النافذة الأنهار فتسمع من مكانها خرير ماء وضربات مجاديف بلا انقطاع. شعرت أن هذا هو حي جينهواي الذي اعتادت عليه منذ طفولتها. ولكن مما لا شك فيه أنها الآن في قصر المسيح المنيف في ملكوت السماء.

توقفت جينهوا عن تناول الطعام من حين لآخر لتدور بعينيها وتتفقد ما حول المائدة. ولكنها لم تر في هذه القاعة عظيمة الاتساع إلا أعمدة منحوتة على هيئة تنانين وأحواض زُرعت بها زهور أقحوان عملاقة تظهر ضبابية خلف أبخرة الطعام ولم تر أثرًا لبشر.

ومع ذلك ما أن يخلو طبق من أطباق المائدة، يُحمل إليها على الفور طبق طعام جديد من مكان مجهول تفوح منه رائحة ساخنة. وفي نفس اللحظة وقبل أن تمد يدها لتناوله يرفرف طائر التدرج المشوي بجناحيه مطيحًا بقنينة الخمر ليطير متراقصًا تجاه سقف القاعة.

وأثناء ذلك شعرت جينهوا بشخص ما يقترب من خلف مقعدها دون أن يحدث صوتًا. فالتفت للخلف بهدوء وهي ممسكة بعصاتي الأكل. وعندها لسبب مجهول اختفت النافذة التي ظنّت أنها موجودة، ورجل أجنبي لم تألف رؤيته يجلس على مقعد من خشب الورد وُضعت عليه وسائد من الساتان الفاخر، ويضع في فمه غليون نارجيلة من النحاس الأصفر.

ألقت جينهوا نظرة واحدة عليه فعرفت أنه الرجل الذي جاء للمبيت في غرفتها هذه الليلة. ولكن الاختلاف الوحيد عنه أن هذا الأجنبي فوق رأسه هالة من النور تشبه الهلال تمامًا.

وفي تلك اللحظة حُمل فجأة طبق كبير من طعام لذيذ تفوح منه أبخرة وكأنه يطفو عاليًا فوق المائدة. فرفعت على الفور عصاتيها وحاولت أن تلتقط بهما الطعام النادر الذي فوق الطبق ولكنها تذكرت فجأة الرجل الأجنبي الجالس خلفها، فالتفتت للخلف ونظرت إليه من فوق كتفيها وقالت له بصوت بالغ الحياء:

-          ألا تأتي أنت أيضًا؟

-          لا بأس. تناولي أنت فقط طعامك. إذا تناولتِ هذه الأطعمة سوف يُشفى مرضك خلال هذه الليلة.

ثم تسربت من ثغر الأجنبي الذي أحاطت هالة النور برأسه، ابتسامة تحتوي على حب لا نهائي، وهو يلقم غليون النارجيلة بفمه.

-          ألا تأكل معي؟

-          أنا؟ إنني أكره الطعام الصيني. ألم تدركي بعد من أنا؟ إنَّ يسوع المسيح لم يسبق له أن ذاق الطعام الصيني ولو مرة واحدة من قبل.

قال مسيح نانكينغ ذلك ثم ابتعد ببطء عن مقعد خشب الورد وطبع قبلة حانية على خد جينهوا في غفلة منها.

×                       ×                         ×                         ×

وإذ بدأت أشعة فجر الخريف تمتد داخل الغرفة الضيقة ناشرة فيها برودة خفيفة كان حلم ملكوت السماء قد انتهى. ومع ذلك تبقت عتمة خافتة مليئة بدفء حار داخل السرير الذي يشبه القارب الصغير الذي تتدلى منه ستائر ذات رائحة متربة. وبرز وسط تلك العتمة وجه جينهوا شبه الناظر إلى السقف، وذقنها المدور البسيط مختفيًا تحت بطانية قديمة باهتة لا يمكن معرفة لونها الأصلي، ولم تفتح حتى الآن عينيها الناعستين. ويلتصق شعرها المشعث على خديها الشاحبين وكأنه مطلي بالزيوت ربما بسبب عرق ليلة أمس، وظهرت أسنانها الرفيعة الشبيهة بحبات الأزر متخفية في بياض خافت من بين ثغرها المفتوح قليلًا.

حتى مع يقظتها الحالية، ظل قلب جينهوا هائمًا في نعاس لذيذ مع ذكريات الحلم المتنوعة مثل زهور الأقحوان وخرير الماء والتدرج المشوي ويسوع المسيح. وأثناء ذلك وكلما زاد ضوء النهار فوق السرير تدريجيًّا، حتى قلبها الغارق في تلك الأحلام الممتعة، بدأ يعي بوضوح الحقيقة الوقحة أنها صعدت الليلة الماضية إلى سرير الخيزران هذا مع أجنبي عجيب.

-          ماذا لو نقلتُ عدوى مرضي إلى ذلك الرجل ...

وإذ طرأت هذه الفكرة على ذهن جينهوا، شعرت أنها لن تتحمل رؤية وجهه هذا الصباح. ولكنها ما دامت قد استيقظت بالفعل لم تقدر على الصبر أكثر من ذلك على عدم رؤية وجهه الذي اشتاقت إليه والذي سفحته الشمس. ففتحت عينيها برهبة، بعد تردد ودارت بعينيها داخل السرير الذي بات الآن غارقًا في إضاءة باهرة بالفعل.  ولكن على غير ما توقعت، لم يكن هناك باستثناء جسدها المغطى بالباطنية أثرًا لبشر بما في ذلك بالطبع شبيه يسوع الصليب.

-          هل كان حلمًا إذن؟

أبعدت الباطنية التي تغلغل بها العرق وأسرعت بالنهوض من على السرير. ثم بعد أن دعكت عينيها بيديها رفعت الستائر المتدلية بثقل عظيم ودارت بنظراتها التي ما زالت متجهمة على كامل الغرفة.

ترسم الغرفة في هواء الصباح البارد، تضاريس مختلف الأشياء بوضوح يصل لدرجة الوحشية؛ المنضدة العتيقة، الفانوس المنطفئ، ثم بعد ذلك المقعد الساقط على الأرضية، والمقعد الآخر المواجه للحائط ... كل شيء كما تُرك في الليل. ليس هذا فقط بل حتى صليب النحاس الأصفر الصغير كان يشع بريقًا معتمًا على أرض الواقع وسط لب البطيخ المتناثر فوق المنضدة. طرفت عينا جينهوا المنبهرة عدة مرات ولكنها لم تستطع تعديل جلستها الجانبية الباردة فوق السرير لفترة من الزمن وهي مذهولة تدور بناظريها في المكان.

-          كما توقعتُ، لم يكن حلمًا.

وهي تهمس هكذا، فكرت في كل الاحتمالات المتنوعة وغير المفهومة لمصير ذلك الأجنبي. وبالتأكيد بدون الحاجة إلى تفكير أحست أنه تسلل خفية من غرفتها أثناء نومها ورحل إلى الأبد. لم تصدق أنه رحل هكذا دون كلمة وداع واحدة وهو الذي أغرقها بالمداعبات لتلك الدرجة، أو الأحرى القول إنها لم تكن على استعداد لتصديق ذلك. وعلاوة على ذلك فقد نسيت أن تأخذ من ذلك الأجنبي المريب العشرة دولارات التي وعدها بها.

-          أتساءل هل رحل فعلًا؟

بقلب ثقيل بدأت جينهوا ترتدي فستان الساتان الأسود الذي خلعته ورمته فوق البطانية. ولكنها فجأة أوقفت يديها، فقد بدأت الحيوية تتدفق في وجهها في لمح البصر. أكان السبب هو أنها سمعت خطوات أقدام ذلك الأجنبي المريب خلف الباب المطلي بالبوية؟ أم السبب أن رائحته المخلوطة بالخمر التي تغلغلت في الوسادة والباطنية استدعت لديها فجأة ذكريات ليلة أمس المخجلة؟ كلا، بل أن جينهوا في تلك اللحظة أدركت أن المعجزة التي حدثت لجسدها قد شفتها من مرض الزهري الفتاك في ليلة واحدة دون أن يترك أي أثر.

-          معنى هذا أن ذلك الرجل كان السيد المسيح.

ولا إراديًّا زحفت جينهوا بملابسها الداخلية فوق السرير ونزلت من عليه وكأنها تتدحرج، ثم جثت على ركبتيها فوق بلاط الغرفة الحجري البارد، وبدأت ترفع صلاتها الحماسية مثل مريم المجدلية الجميلة التي تحدثت مع الرب بعد قيامته. ...

 

(3)

 

في ليلة من ليالي الربيع من العام التالي، زار السائح الياباني الشاب غرفة جينهوا سونغ مرة أخرى، وتحت إضاءة الفانوس المعتم جلس على الجانب المواجه لها من المنضدة.

-          أما زال الصليب معلقًا كما هو؟

قال لها ذلك في مناسبة ما وهو ما زال يسخر منها، فغدت جينهوا جادة فجأة ثم بدأت تحكي له تلك الحكاية العجيبة عن نزول السيد المسيح إلى نانكينغ في إحدى الليالي وشفائه لمرضها.

وأثناء سماعه إلى تلك الحكاية كان السائح الياباني الشاب يفكر في سرّه بما يلي. ...

-          إنني أعرف ذلك الأجنبي. إنه رجل نصفه ياباني ونصفه أمريكي واسمه على ما أتذكر جورج موراي. لقد تفاخر ذلك الرجل أمام صديق لي يعمل مراسلًا صحافيًّا لوكالة رويتر الإخبارية وحكى له كيف قضى ليلة مع عاهرة تؤمن بالمسيحية في أحد بيوت الدعارة الخاصة بمدينة نانكينغ ثم تسلل هاربًا خلسة أثناء غرقها في نوم عميق كالأطفال. لقد صادف أنه كان يقيم في نفس الفندق الذي أقمتُ به في المرة الماضية في شانغهاي ولذلك أتذكر ملامح وجهه بدقة حتى الآن. كان يدّعي كذلك أنه مراسل صحافي لجريدة إنجليزية ولكنه كان إنسانًا ذات طباع شريرة لا تتناسب مع ما يقوله. وربما يكون سبب إصابته بمرض الزهري الفتاك ثم جنونه في النهاية من هذا المرض، أن عدوى المرض انتقلت له من هذه الفتاة. ولكن هذه الفتاة ما زالت تؤمن حتى الآن أن ذلك الرجل الهجين الخسيس هو يسوع المسيح. أيجب عليَّ أن أكشف عنها جهلها وأقول لها الحقيقة؟ أم يجب أن أصمت للأبد وأجعلها تواصل رؤية ذلك الحلم الذي يشبه الأساطير الغربية القديمة؟ ...

وفي الوقت الذي أنهت جينهوا حكايتها، حك الشاب الثقاب وكأنه قد تذكره فجأة ونفث من فمه رائحة السيجار العطرة. ثم تعمد أن يتخذ ملامح الحماس وهو يسألها هذا السؤال الشائك:

-          أحقًا؟ إنها حكاية عجيبة. ولكن، ... ألم يصبك شر بعدها أبدًا؟

-          أجل. لم يصبني شر ولو مرة واحدة.

بدون أية لحظة تردد أو حيرة أجابت جينهوا هذه الإجابة وهي تقزقز لب البطيخ ووجهها يتألق بإشراق بالغ.

 

أثناء كتابتي لهذه القصة اعتمدتُ بقدر غير قليل على قصة "ليلة في جينهواي" للأديب جونئتيشيرو تانيزاكي. وإذ أذكر هذا هنا أعبر له عن عظيم الشكر.

(يونية 1920م)