العراق: خطورة سقوط الموصل
تأليف: كيكو ساكاي
ترجمة: ميسرة عفيفي
(البروفيسورة كيكو
ساكاي ولدت في عام 1959، وتخرجت من جامعة طوكيو القومية، ثم حصلت على ماجستير من جامعة
درهام البريطانية مركز أبحاث الشرق الأوسط والإسلام. عملت كباحثة في مركز أسيا
للدراسات الاقتصادية، وأستاذة في جامعة طوكيو للغات الأجنبية، وتعمل حاليا كأستاذة
في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والقانون في جامعة تشيبا القومية. تعتبر
البروفيسورة ساكاي أكثر اليابانيين معرفة وتخصصا في الحالة العراقية سياسيا
واقتصاديا. عملت لفترة كباحثة في السفارة اليابانية في بغداد في منتصف الثمانينات
من القرن العشرين، ودرست لفترة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة كباحثة زائرة في
منتصف التسعينات.)
بدأ - ما كنت أخاف وقوعه - يقع بالفعل.
الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)
"ISIS"،
شديدة التطرف - لدرجة قطع علاقتها مع تنظيم القاعدة نفسه - بدأت في اجتياح العراق
ووضعت يدها على الموصل ثالث أكبر المدن العراقية. وكانت داعش قد أنشأت لها معاقل بالفعل
في الفلوجة غرب العراق منذ بداية هذا العام، ودارت بينها وبين الجيش العراقي
مناوشات ومعارك متكررة، ثم حاولت في بداية شهر يونية اجتياح مدينة سامراء التي
تبعد حوالي 125 كيلومتر شمال بغداد، موسّعة بذلك من نطاق عملياتها القتالية بسرعة
كبيرة. وفي العاشر من هذا الشهر وصل الأمر إلى سقوط مدينة الموصل عاصمة محافظة
نينوى التي يوجد بها مقر المحافظة. وقد أحكمت الجماعات المسلحة التابعة لداعش سيطرتها
على المراكز الحيوية في المدينة مثل مقر مجلس وبلدية المدينة والمطار. أما قوات
الشرطة والجيش العراقيين، التي من المفترض أن تحمي المدينة فقد هرب جنودها
بأجسادهم بعد أن خلعوا زيهم العسكري، وأما سكان الموصل المدنيين الذين فقدوا من
يحميهم فقد حارت بهم السبل وهم يحاولون الهرب خارج حدود المدينة وحدود المحافظة.
ويقال إن عدد النازحين المدنيين وصل إلى 450 ألف شخص. ولكن رغم ذلك إقليم الحكم
الذاتي الكردي المجاور الذي اندفع إليه النازحين طلبا للأمان، أغلق أبوابه في وجوههم
في محاولة مستميتة لتجنب التورط في الصراع.
بدء الوضع الأمني في العراق يزداد سوءا مع
الوقت بعد جلاء قوات الاحتلال الأمريكي في عام 2011، ولكن منذ بداية هذا العام وصل
متوسط عدد القتلى من المدنيين إلى حوالي 50 شخصا في اليوم الواحد. وبالمقارنة مع
متوسط عدد القتلى في اليوم الواحد في عامي 2011 – 2012 - الذي كان حوالي 10 أشخاص
- نجد أن عدد القتلى تضاعف خمسة مرات. علاوة على ذلك في الأسبوع الأول فقط من شهر
يونية هذا، تخطى متوسط عدد القتلى حاجز الثمانين شخصا، وإذا استمر الحال على ذلك،
فمن السهل توقع أن يعود الوضع القهقري إلى ما كان عليه بين عامي 2006 – 2007 حيث
شهدت البلاد أسوء حرب أهلية في تاريخها والتي كان متوسط عدد القتلى في اليوم
الواحد وقتها يفوق المئة شخص.
لماذا وصل الأمر إلى هذا الحال؟!
من المفترض أن رغبة الحكومة العراقية الجيش
الأمريكي في إنهاء الحرب الأهلية واستخدامهما كل الوسائل المتاحة، قد أنهت بشكل
كبير النشاطات القتالية لدولة العراق الإسلامية في عام 2008. ففي محافظتي الأنبار
ونينوى غرب العراق حيث كانت الجماعات المسلحة تقاوم الجيش الأمريكي بشراسة، نجحت
الحكومة في قطع الطريق على وجود أي علاقة تعاون بين المواطنين وبين الجماعات
المسلحة من خلال دعم وتقوية الجماعات العشائرية المتعاونة مع الحكومة العراقية
والتي أطلق عليها اسم مجالس الصحوة. تلك الطريقة في "استمالة قلوب
المواطنين"، أُطلق عليها وقتها اسم "معادلة بتريوس"، لدرجة أن يقال
عنها إنها أكثر الأمثلة نجاحا لإنهاء الجيش الأمريكي لحروبه.
ورغم ذلك، لماذا عادت الحرب الأهلية لتشتعل
من جديد؟!
من الواضح جدا تأثّر العمليات القتالية في
داخل العراق بنشاط الجماعات المسلحة في سوريا، لدرجة تسمية التنظيم "الدولة
الإسلامية في العراق والشام"، ولكن الفشل الأكبر هو إضاعة الحكومة العراقية
لقلوب المواطنين التي نجحت في استمالتها سابقا.
كان أحد سبل استمالة قلوب المواطنين هو توزيع
حقائب وزارية على الفئات المهمشة البعيدة عن التيار الرئيس للسلطة الحاكمة، وكذلك خلق
حالة وعي بضرورة المشاركة في العملية السياسية لدى السُنة الذين يشعرون بعدم الرضا
من الوضع السائد. ظلت حكومة المالكي وحتى عام 2010 - أي حتى بداية فترة حكمه
الثانية – تحافظ على مبدأ تقاسم السلطة من خلال إعطاء مناصب حكومية هامة للسياسيين
الرئيسين من السُنة. ولكن بعد جلاء الجيش الأمريكي تبدّل الحال وبدأت عملية إبعاد
السياسيين السنة واعتبارهم أعداء سياسيين.
ومن ضمن ذلك، ما حدث في عام 2012 - وسبّب
أزمة سياسية كبرى - ألا وهو البدء في إبعاد رافع العيساوي وزير المالية المنتمي لمحافظة
الأنبار. وكانت تلك القضية أحد أسباب عودة حالة انعدام الثقة في الحكومة لدى أهل
الأنبار التي كانت قد هدأت وخفت حدتها. ولذا استمرت المظاهرات المعارضة للحكومة في
محافظة الأنبار، وليس من الصعب تخيل قدرة مجموعات مسلحة من أتباع دولة العراق الإسلامية
في بناء معاقل لها مرة أخرى في تلك المنطقة وسط الفوضى التي حدثت أثناء إخماد
الحكومة العراقية للمظاهرات بعنف وصرامة.
حاولت الحكومة العراقية إعادة استخدام مجالس
الصحوة مرة ثانية، تلك التي كان استخدامها في الماضي سببا في استمالة قلوب
المواطنين، ولكن من الصعب جدا استعادة الثقة التي فقدتها مرة.
ولكن مقارنة بأحوال محافظة الأنبار تلك، فإن
سقوط الموصل هذه المرة يشكل كارثة في منتهى الخطورة. والسبب أن سكان الموصل السنة
ورغم وجود إحساس بالغبن وعدم الرضا تجاه الحكومة، إلا أنهم ظلوا مشاركين في
العملية السياسية من خلال النظام النيابي والبرلمان. فبخلاف السياسيين السنة في
محافظة الأنبار الذين تم إبعادهم، يوجد مثلا من السياسيين من أهل مدينة الموصل،
أسامة النجيفي رئيس البرلمان الذي له قاعدة قوية في الموصل ويعتبر حاليا من أكثر
السياسيين السنة تمتعا بتأييد الجماهير. لو افترضنا أن وقوع محافظة الأنبار في
براثن الجماعات المسلحة هو نتيجة طرد سياسيّها من السلطة، فلم تكن الموصل في نفس
الظروف. لو بدّلنا القول، فذلك يعني أن قوات دولة العراق الإسلامية المقاتلة أصبحت
تملك قوة تجعلها قادرة على إخضاع مدينة كبرى بأكملها، رغم عدم وجود ثغرات تنفذ
منها الجماعات المسلحة وتحصل على تأييد المواطنين.
ربما تكون الأوضاع قد أصبحت أكثر خطورة من
حالة الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 2006 – 2007. والسبب أن ما يجري الآن
ليس صراعا دينيا. ففي وقت الحرب الأهلية كانت توجد ضرورة لدى الجماعات المسلحة للانخراط
وسط المواطنين، فقامت متعمدة بعمليات إرهابية عشوائية من أجل إشعال فتيل الصراع
الديني. وتفجير ضريح الإمام العسكري في مدينة سامراء أحد الأماكن المقدسة للشيعة،
يعتبر أشهر الأمثلة على ذلك. ولكن الذي يحدث حاليا عبارة عن عمليات عسكرية حقيقية
لجيش شبه نظامي، وليست مجرد عمل أخرق لتحدي مشاعر الآخرين الدينية. أثناء مواجهة
عمل أخرق يستفز مشاعر الصراع الديني، كانت توجد قدرة على التعامل معه بضبط النفس وعدم
الانجرار وراء الاستفزاز. ولكن في مواجهة الهجوم الأخير مهما قام المواطنين بضبط
النفس، فلن يكون لذلك أي فائدة.
بعد سيطرتها على الموصل والأنبار أصبحت دولة
العراق الإسلامية، تطل على بغداد من غربها وشمالها. وأصبح يحيط بالعراق قلق محتواه
أن كابوس سقوط بغداد في يد داعش، ربما لم يعد الآن مجرد كابوس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق