تأليف: ميسرة عفيفي
لماذا تتجه اليابان نحو السعي إلى
دور عسكري؟ ولماذا يتم - في هذا التوقيت - تغيير تفسير المادة التاسعة من الدستور،
لتتيح لليابان المشاركة في عمليات عسكرية بحجة وجود أخطار عليها من دول أخرى؟ وهل
فعلا هناك أخطار عسكرية تهدد اليابان بعد مرور ما يقرب من 70 عاما على تخليها
عن استخدام القوة المسلحة وتخليها عن حقها في إنتاج السلاح وبيعه للغير؟ هل بعد
نجاحها في العيش في سلام على مدى 70 عاما بدون التورط في أية صراعات عسكرية
وحفاظها على مواطنيها من التحارب مع الغير، وعدم إطلاقها ولو رصاصة واحدة في
مواجهة عسكرية، هل بعد ذلك تخاف اليابان من غزو عسكري خارجي، يلزمها بتعديل
دستورها السلمي الذي ينص صراحة في مادته التاسعة بعدم امتلاك أية قوات عسكرية وبالسعي
لحل أي صراع مع دولة أخرى من خلال الوسائل السلمية والتفاوض؟
هل نزاعات اليابان مع كل جيرانها
المحيطين بها حول ترسيم الحدود وحق امتلاك جزر، هو سبب تغير اليابان واتجاهها نحو
التخلي عن دستور نبذ العنف ووضع تفسير له يسمح لها بالمشاركة في عمليات عسكرية
جماعية مع حلفاءها إذا تعرض حليف لها لعدوان عسكري؟
أرى أنه يوجد تفسير آخر ربما غاب عن
البعض وربما كان غريبا للكثيرين، ولكن يستحسن إلقاء نظرة سريعة على تاريخ اليابان
مع السياسة الدولية منذ بداية العصر الحديث.
تكاد اليابان تكون الدولة الأسيوية
الوحيدة التي نجت من محاولات احتلالها أو استعمارها من القوى الأوروبية رغم أنها
كانت من الدول التي وضعت أوروبا عليها عيونها وجاءتها حملات تبشيرية مسيحية بداية
من عام 1548 كمقدمة للحملات العسكرية، كما
كانت العادة وقتها، حيث جاء الراهب اليسوعي فرانشيسكو دي خافيير إلى اليابان ومكث
فيها حوالي عامين استعدادا لخلق جالية مسيحية ثم التدخل بحجة حمايتها والسيطرة على البلاد
والعباد وكادت تلك المحاولات أن تنجح لولا فطنة حكام اليابان في ذلك الوقت وهم
طبقة الساموراي الذين تنبهوا للغرض الحقيقي من ذلك، فقام الحاكم تويوتومي هيديوشي بالتصدي
لحملات التبشير للمسيحية في عام 1587 وبدأت اليابان في اضطهاد وقتل المسيحيين إلى
أن تم في عام 1612 إصدار قرار من حكومة توكوغاوا بمنع المسيحية والقضاء التام عليها.
وقضت بذلك
اليابان على "الفتنة" واتجهت إلى سياسة غلق منابع الفتنة فقامت حكومة اليابان أو
قيادة الساموراي بإصدار مرسوم في عام 1639 بالانغلاق التام والانعزال عن العالم
بمنع دخول أو خروج أحد من وإلى اليابان إلا في حدود الضرورة القصوى وهي التبادل
التجاري فقط لشراء المواد التي لا يمكن الحصول عليها أو الاكتفاء منها إلا من
الخارج ويكون ذلك تحت الرقابة الشديدة من حكومة توكوغاوا العسكرية وقامت بتخصيص
ميناء ديجيما في ناغاساكي فقط وحددت هولاندا فقط للقيام بمهمة إمداد اليابان باحتياجاتها
من البضائع الخارجية وبيع البضائع اليابانية. ظلت سياسة الانغلاق هذه ما يزيد على
القرنين حتى منتصف القرن التاسع عشر وبالتحديد حتى عام 1853.
في منتصف القرن التاسع عشر كانت قوة
استعمارية جديدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية قد ظهرت على الساحة العالمية باستحياء
وكانت تحاول البحث لها عن نصيب في كعكة المستعمرات. ولكنها لم تجد إلا أقل القليل
من الدول التي يمكنها الاستيلاء عليها واحتلالها. فاحتلت الفلبين ومجموعة جزر في
المحيط الهادي. وكانت السفن التجارية في حماية الأسطول الأمريكي تقطع المحيط
الهادي ذهابا وإيابا من وإلى مستعمراتها. وكانت تجد مشكلة في نفاد الوقود والماء
والغذاء، فحاولت أن تتفاوض مع حكومة اليابان على فتح موانئ اليابان لسفنها من أجل
التزود بما ينقصها في رحلاتها ذهابا وإيابا إلا أنها قوبلت بالرفض القاطع، فلجأت
إلى استخدام القوة. في عام 1853 توجهت سفن الأسطول الأمريكي بقيادة ماثيو بيري وصوبت
مدافعها على مقر حكومة إدْو معلنة عزمها على إنهاء العزلة الاختيارية لليابان
وإجبارها على توقيع اتفاقية تجارية بين البلدين تسمح بدخول السفن الأمريكية لموانئ
اليابان. ولأن الاتفاقية وقعت تحت تهديد السلاح وتحت إجبار فارق القوة العسكرية
الهائل بين البلدين فقد كانت شروطها في غاية الإجحاف لليابان، ولم يقف الأمر عند
هذا الحد، ولكن أصبحت تلك الاتفاقية مثلا يحتذى به فسارعت أغلب القوى الأوروبية
باستغلال الفرصة وأرغمت حكومة اليابان التي بدا ضعفها واضحا للعيان على توقيع اتفاقيات
مماثلة. وكان هذا الوضع المذل سببا في غضب مجموعات من شباب الساموراي الذين تربوا
على العزة والكبرياء وعدم تحمل الذل وتفضيل الموت عن الحياة في مهانة. فقاموا
بالثورة على حكومة توكوغاوا المترهلة التي تسبب طول حكمها وانغلاقها عن العالم في
تدهور وضع اليابان وعدم مواكبتها للعصر، فأنهى هؤلاء الشباب فترة الحكم العسكري
وقاموا بثورة إصلاحية وإعادة مقاليد الحكم إلى الإمبراطور الشاب الذي تولى العرش
في عام 1868 باسم ميجي وهو في السادسة عشرة من العمر، واتخذوا قرارا بضرورة نقل العلم
الحديث والتقنيات المتطورة من الغرب حتى لا تظل اليابان ضعيفة يتخطفها اللئام على
موائدهم وحتى تستطيع تعديل نصوص الاتفاقيات المجحفة التي وقعتها اليابان تحت تهديد
السلاح وتحت ميزان القوة الشاسع بينها وبين الدول الأوروبية. فقاموا بإرسال
البعثات إلى الغرب لدراسة أسباب تقدم الغرب، ووضعوا سياسة واقعية محتواها بناء
دولية عصرية حديثة وشعارها "جيش قوي ودولة غنية"، وللأسف وجدوا أنه لا
سبيل إلى تعديل الاتفاقيات المجحفة إلا بالدخول في زمرة الدول القوية، وكان معنى
ذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو التحول لدولة استعمارية
بدأت اليابان التوسع في الدول المحيطة بها لتطرد القوى الاستعمارية التي
أفل نجمها وتستولي على أراضٍ شاسعة من سواحل أستراليا جنوبا وحتى حدود ألاسكا
وسيبيريا شمالا ومن حدود الهند غربا حتى خط التاريخ الدولي شرقا مقتسمة الصين
بينها وبين بريطانيا. وبالطبع أدى ذلك إلى دخولها حروب عديدة بداية من حربها مع
الصين عام 1894 ثم حربها مع الإمبراطورية الروسية عام 1904 مرورا بالحرب العالمية
الأولى وانتهاءً بالحرب العالمية الثانية التي قضت على أحلام اليابان الاستعمارية
تماما وصفّت كل مستعمراتها خارج اليابان بل وتم احتلالها احتلالا مباشرا لمدة سبعة
سنوات (واحتلال جزر أوكيناوا لمدة ربع قرن) على يد قوات الحلفاء بقيادة الجيش الأمريكي،
وتحطيم البنية التحتية والصناعية وتدمير كل مقومات الدولة وأخيرا محو مدينتين محوا
تاما باستخدام قنبلتين ذريتين لأول وآخر مرة في التاريخ الإنساني حتى الآن. وخلال سنوات
الاحتلال السبع تم وضع سياسات واستراتيجيات اليابان التي استمرت عليها حتى الآن
ومن ضمنها الدستور السلمي الذي تنص المادة التاسعة منه على عدم امتلاك جيش وعلى
التخلي عن مبدأ الحرب. ونأت اليابان بعيدا عن مسرح السياسة الدولية تماما، ورضت
بموقف التابع للعم سام الذي يوفر لها الحماية تحت مظلته النووية، لتجتهد هي في
بناء الدولة التي تحطمت. وتركز جهودها تلك في الناحية الاقتصادية ولتحقق اليابان نجاحا
بمثابة معجزة أوصلتها لتكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. وهو
ما لم تستطع تحقيقه أية دولة في التاريخ البشري حتى الآن، أي تحقيق تقدم علمي
وصناعي ورفاهية اقتصادية هي الثانية عالميا دون وجود قوة عسكرية. أي نعم كانت مظلة الحماية الأمريكية موجودة
ولكنها بالطبع لا تقوم مقام جيش سيادي للدولة بل على العكس تحجم تلك الحماية من
حرية عمل الدولة اليابانية وجعلها لا تستطيع الاقتراب من المصالح الأمريكية، حتى
لو كانت المصالح الأمريكية تضرها فعليا. وأيضا وجود قوات أمريكية في أراض اليابان
هي فقط تحقق عامل الردع لأية قوة تحاول احتلال اليابان، ولكن كما نرى في عالم
اليوم القوة العسكرية ليست الغرض منها حماية حدود الدول فقط، يمكن القول إن القوة
العسكرية أحد أهم مصادر الدخل للقوى الكبرى. فجزء كبير من دخل الدول الاقتصادية
الكبرى يعتمد على إنتاج السلاح وبيعه، وحتى لو لم يتم بيعه فمجرد استخدام نسبة كبيرة
من إجمالي الدخل القومي في الإنفاق العسكري لتلك الدول يجعل هناك حلول لأية أزمة
اقتصادية. واليابان بعيدة تماما عن هذا المجال فميزانيتها العسكرية لا تزيد عن 1%
من إجمالي الناتج القومي لها. وكذلك عدم وجود جيش رادع قوي يفقد الدولة أي قوة
ناعمة لها سواء في محيطها الإقليمي أو على مستوى السياسة الدولية، وأعتقد أن هذا
أحد أسباب محاولة حكومة اليابان تغيير تفسيرات الدستور وجعله يسمح بالاشتراك في أعمال
عسكرية لو تعرض أحد حلفائها لعدوان. والسبب هو وصول اليابان إلى يقين أن تنمية
الاقتصاد بشكل سلمي وصلت إلى أقصى حد لها، وبدأت تلك التنمية تتراجع منذ منتصف
تسعينات القرن العشرين، وبدأت اليابان تعتقد بقوة أن عدم وجود قوة عسكرية تحمي
مصالحها الاقتصادية وتعطي لها ثقل كبير على مستوى السياسة الدولية هو سبب تراجعها
اقتصاديا أمام الصين واحتمال استمرار التراجع أمام دول أخرى مستقبلا. فالحكومة ترى
أن عدم وجود قوة عسكرية تساند وتدعم القوة الاقتصادية يجعل القوة الاقتصادية تضعف
تدريجيا. وعلى أرض الواقع المعاصر اليابان تعاني كسادا اقتصاديا بشكل مزمن منذ
النصف الأول من تسعينات القرن العشرين ولم تستطيع أن تتخلص منه، في حين أن دولا
أقل منها في الإمكانيات تنجح في تحسين الوضع الاقتصادي لو حدث له أزمة بسبب قوتها
العسكرية. بل أن هناك دولا ليس لديها إلا قوتها العسكرية فقط هي التي تعتمد عليها
اقتصاديا (من خلال تصنيع السلاح وبيعه). اليابان ترى أنها بإمكانيتها العلمية
والتكنولوجية والصناعية لا تأخذ نصيبها المستحق من كعكة الاقتصاد العالمي بسبب
ضعفها العسكري وبسبب تحجيم الدستور الحالي لإمكانية تطوير الأسلحة والمشاركة في
السوق العالمية للسلاح. ولذا بعد تعديل تفسير الدستور وتخفيف القيود
الصارمة التي كانت اليابان تلزم بها نفسها إزاء تصنيع وتصدير السلاح، تداولت وسائل
الإعلام قيام
اليابان بالتعاقد مع تركيا لتوريد شحنة أسلحة لها (يبدو أن هناك مشاكل تحول دون
إتمام الصفقة).
في الحرب العالمية الأولى كانت
اليابان حليفة بريطانيا وانتصرت معها في الحرب لتصبح قوى عظمى وعضو دائم في عصبة
الأمم، ولكن الحكومة العسكرية التي واصلت نهجها في تقليد الغرب وتوسيع رقعة
مستعمراتها اصطدمت بأمريكا وبريطانيا واضطرت للتحالف مع هتلر، ليكون مصيرها هو
الدمار الكامل وفقدان كل ما بنته في عقود.
ويبدو أن حكومة اليابانية
الحالية تحت قيادة شينزو آبيه أكثر أعضاء الحزب الليبرالي الديمقراطي ميلا إلى اليمين، تسير على نهج حكومات اليابان العسكرية في بداية القرن العشرين، حيث التحول
إلى القوة العسكرية والاعتماد عليها لدعم الاقتصاد والتخلص من الأزمة الاقتصادية التي تحاصر
اليابان. ونأمل ألا يكون مصير ذلك التوجه هو نفس مصير سابقه.