نجاة غير
المسلمين في شرق آسيا
حسن كو ناكاتا (Hassan
Ko Nakata)
الأستاذ السابق في كلية الإلهيات ـ جامعة دوشيشا
1.
مقدمة
هدف هذا البحث هو بيان أن إمكانية النجاة في الإسلام متوفّرة
ليست فقط للمسلمين بل لغير المسلمين أيضا، تركيزاً على شرق آسيا.
قبل دخول الموضوع أودّ أن أُحدِّدَ معنى لفظ "النجاة".
كلمة "نجاة" مُشتَقَّة في الأصل من عدد من الحروف
الساكنة وهي النون والجيم والواو، وهناك أربع وثمانون كلمة في القرآن مشتقة منها.
ومن بَيِنِها الاسمُ الوحيدُ مع أداة التعريف "النجاة" وتعني
"النجاة من النار" كما تُستعمَل "النجاة" مقابلَ
"النار" في الآية التالية: ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة
وتدعونني إلى النار. (40 غافر: 41) علاوة على ذلك، لا تعني "النجاة
من النار" سوى دخول "الجنة" كما هو في الآية التي تسبق تلك: ومن
عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة. (40 غافر: 40).
ويسمى عذاب النار في الآخرة "بالعذاب الأشد" لأنه
أشد بكثير ولا يقارن بعذاب الدنيا وبلائها كما في الآية: ولعذاب الآخرة أشد
وأبقى (20 طه: 127).
إن للنجاة معان واسعة
، إلا أنه في الخطاب الديني المعاصر في الغرب وفي اليابان أيضا، غالباً ما تستخدم
للإشارة إلى الظواهر النفسية مثل "إزالة المعاناة النفسية"،
"التحرر من الرغبات الدنيوية"، و"الراحة من الشعور بالألم".
والحقيقة أن الإسلام يشير إلى "النجاة" بهذا المعنى، الذي هو
شغل الصوفية الشاغل، ولا يتناول هذا البحث هذه المعاني الأخيرة
"للنجاة". بل يشير إلى "النجاة من النار" بدلاً عن ذلك.
2.
حكم الإسلام
أما معنى الإسلام والمسلم، فالإسلام دين كل الأنبياء منذ سيدنا
آدم فبالتالي، جميع الرسل والذين استجابوا لدعوتهم هم مسلمون فلا يقتصر إطلاق لفظ
"المسلم" على أفراد "أمة محمد" بل يمكن على سائر أتباع
الأنبياء والرسل حيث أن دعوتهم واحدة وهي عبادة الله لا
شريك له أي التوحيد كما قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت...(16 النحل:36) فقال الرسل:
يا قومِ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...(7:59 نوح، 7:65 هود، 7:73
صالح، 7:85 شعيب، 11:50 هود، 11:84 شعيب).
ولكن هناك شبهة في تحديد المسلم في الزمن بعد بعثة رسول الله. هناك أحاديث
عديدة تفيد أن مجرد كلمة التوحيد هي شرط الإسلام
مثل حديث أبي هريرة: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
ومن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. (أخرجه
البخاري) وحديث محمود بن الربيع الأنصاري: فأن الله قد حرّم على النار من قال
لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله. (أخرجه البخاري).
ولكن هناك أيضاً أحاديث تفيد أن شرط الإسلام إقرار التوحيد مع
نبوة سيدنا محمد كما في حديث ابن عمر المشهور في صحيح البخاري: بُنِيَ الإسلام
على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وفي مسند أحمد، عن
رِفاعة الجُهني: قال رسول الله: أشهد عند الله لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا
الله وأني رسول الله صِدقاً من قلبه ثم يسدِّدُ إلا سُلِك في الجَنّة.
فلذلك قد فرّق الأحناف شروط إسلام الناس طِبقَ انتسابهم الديني
السابق فقسّموهم خمسة أصناف كما يقول الحَصْكَفي (توفي عام 1088 هـ / 1677 م) صاحب
الدر المختار شرح تنوير الأبصار: الكفار أصناف خمسة، من يُنكِر الصانعَ
كالدهرية، ومن يُنكِر الوحدانية كالثنوية، ومن يُقرّ بهما لكن يُنكِر بعثة الرسل
كالفلاسفة، ومن يُنكِر الكلّ كالوثنية، ومن يقرّ بالكلّ لكن ينكر عموم رسالة
المصطفى صلى الله عليه وسلم كالعيسوية، فيكتفي في الأولَيْنِ بقول لا إله إلا الله
وفي الثالث بقول محمد رسول الله وفي الرابع بأحدهما وفي الخامس بهما مع التبريء عن
كل دين يخالف دين الإسلام. (محمد أمين المشهور بابن عابدين، حاشية رد المختار
شرح تنوير الأبصار، القاهرة، 1966، المجلد الرابع، ص 226 ـ 227، وراجِعْ الموصلي الحنفي، الاختيار،
المجلد الثاني، بيروت، 1998 ص 424).
ويوافق موقف الأزهر الشريف هذا التعريف لاشتراط التبرّيء من
المسيحية واليهودية بالإضافة إلى الشهادتين أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في مصر التي لا يوجد
فيه دهرية ولا وثنية إلا أهل الكتاب.
3.
شرق آسيا
قد توقّف انتشار الإسلام عند تركستان الشرق والفليبين ولم يضمّ شرق
آسيا، أيْ الصين وكوريا واليابان، إلى دار الإسلام أصلاً. فتتّصف شرق
آسيا بدار الحرب في منظور الشريعة باعتبار عدم قيام الحكم الإسلامي فيها. والسمة
الثانية لشرق آسيا في منظور الشريعة هي كون سكّانُها غيرَ أهل الكتاب لأنهم
انتسبوا إلى الكونفوشية أو البوذية تاريخياً وأسماء الأنبياء والرسل التي ذُكِرَتْ
في الكتاب المقدّس ليست معروفة عند عامّتهم. فلا بُدّ لها من التعامل الخاصّ بها على أحكام الشريعة.
من المعروف أن جميع الأمم سبقت لهم
بعثة كما قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا
الله واجتنبوا الطاغوت...(16 النحل:36)
وقال: وما أرسلنا من رسولٍ إلا بِلسانِ قومِه ليُبَيِّنَ لهم.(14إبراهيم
:4)
والمسلم من أقرّ بالتوحيد استجابةً
لدعوة رسول من الله والكافر من رفض دعوة الرسول. فيسمي علماؤنا الأقوام الذين نسوا
رسالة التوحيد بعد زمن طويل بعد وفاة رسولٍ "أهلَ الفترة". فينبغي لنا
المقارنة بين أهل شرق آسيا وبين أهل الفترة.
4. مناقشة الأشاعرة والماتريدية حول نجاة أهل
الفترة
يُبلِّغُ الرُسُلُ رسالات الله للناس، ويُدعَى الناس الذين
يعيشون بين وفاة رسول وبين بعثٍ آخَرَ جديدٍ "أهل الفترة".
تختلف الآراء في الإسلام حول نجاة "أهل الفترة"،
وأنا أرى أن تراث المذهب الأشعري في هذه المسألة يجب أن يكون أساسُ إعادةَ بناءِ
علاقةِ التعايُشِ بين الإسلام والديانات الأخرى، فنُحلِّل المناقشات حول نجاة
"أهل الفترة" في عقيدة أهل السنة.
أولاً، نُطلِع على
حُجّةِ المرحوم عبد الله الغماري من بحثه بعنوان "أهل الفترة ناجون" ضمن
مجموعته المنشورة بعنوان "خواطر دينية" وقد ولد الغماري في مراكش
في أسرة ذات تاريخ طويل من العلماء وكان يسمى "بخاري عصره" فهو من علماء
الحديث الكبار في القرن العشرين.
يُعرِّف الغماري "أهل الفترة" بأنهم "الذين
عاشوا في زمن لم يكن فيه رسول إليهم" (عبد الله بن محمد بن الصديق الإدريسي
"أهل الفترة ناجون"، في كتاب خواطر دينية. القاهرة، 1968، ص،
116). يقول الغماري في رأس مقالته: والحكم فيهم عند الجمهور أنهم ناجون ولو عبدوا
الأصنام لقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (17 الإسراء: 15) و:
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ – أي بشرك – " وأهلها
غافلون. (6 الأنعام: 131) أي لم يُرسل إليهم رسول.
ولدى تفسير كلام الله "وما كنا معذبين" فهذا
يعني أن الله لا يفعل ذلك حتى يبعث رسولاً يبين الأحكام حول الذنوب مثل الزنى
والخيانة، ويقدم البعض الحجة التالية: باعتبار أن الإنسان قد كُلِّف بالتوحيد منذ
أن بعث الله آدم رسولاً لأبنائه فإن "أهل الفترة" يستحقون العذاب في
النار وهو موقف الماتريدية كما يقول ابن عابدين (توفي عام 1252 هـ. / 1836 م)،
الذي يقال عنه بأنه المرجع النهائي في المذهب الحنفي الحديث، من: أصول الأشاعرة أن
من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا، أما الماتريدية فترى إنه إن مات قبل مضى مدة
يمكنه فيها التأمُّل ولم يعتقد إيمانا وكفرا فلا عقاب له بخلاف ما إذا اعتقد كفرا
أو مات بعد المدة غير معتقد شيئاً. (من كتاب محمد أمين المشهور بابن عابدين، حاشية
رد المختار شرح تنوير الأبصار، القاهرة، 1966، المجلد الثالث، ص. 185).
ويقول النابلسي (توفي عام 1308 هـ / 1891 م): وأهل الفترة بين نبيَّيْنِ ليس في
أعمالهم ذنوب، لِعدمِ حُصولِ التبليغ في زمانهم، ... وأما ذنب الكفر بالله تعالى
فلا يعذر فيه أحد لأن العقل كاف في معرفة ذلك. (عبد الغني بن اسماعيل النابلسي أسرار
الشريعة أو الفتح الرباني والفيض الرحماني، بيروت، 1985، ص. 78)
وقد أبدى الغماري معارضته لهذا الرأي بقوله: الآيات الآنفة
الذكر واضحة وحاسمة وتثبت بحقٍ كرم الله وفضله، أما الأحاديث المخالفة لهذا فلا
تعتمد أساساً ولا تكفي لتردَّ ما انتهى إليه القرآن بجلاء وجزم. (الأحاديث الواردة
بخلاف ذلك معلولة والصحيح منها آحاد ثم هي تحتمل التأويل لأنها آحاد لا تقوى على
معارضة القرآن. راجع "أهل الفترة ناجون"، ص، 116).
تقدم الآيات التالية من القرآن دليلاً إضافياً على نجاة
"أهل الفترة".
"وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على
أصنام لهم (يعبدونها)
قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبرَّ
(هالك) ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. (7 الأعراف: 138).
ملخص ذلك أن سكان فلسطين الأصليين كانوا يعبدون الأصنام، على
الرغم من أن وثنيتهم كما يقال غير حقيقية وسبب قولهم بعدم استحقاقهم للعذاب في
النار هو أنهم خلافاً لبني إسرائيل لم يبعث فيهم رسول، لذلك لم يكلفوا باجتناب
الشرك، فلا يعذبون في النار لممارستهم الشرك، حتى ولو سمعوا بموسى ورسالته، فهذا
لا يعني أن رسولاً قد بعث فيهم. وطبقاً لهذا يقدم القرآن دليلاً مماثلاً لنجاة
"أهل الفترة":
يا أهلَ الكتاب قد جاءكم رسوُلنا (محمد عليه السلام) يُبَيِّنُ
لكم (الدين أصوله وفروعه) على فترة (انقطاع) من
الرسل (لأجل) أن (لا) تقولوا (يوم القيامة) ما
جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير (فلا عذر لكم
بعد مجيئه). (5 المائدة: 19).
حتى وإن وجد تحريف وتبديل في النصوص الأصلية لتوراة اليهود
وإنجيل المسيحيين والذين عليهم أن يعرفوا أنهم مكلَّفون بالتوحيد، فإنهم لا زالوا
في حصانة من العذاب لأن النبي محمد لم يبعث مُجدَّداً فيهم، فإن كان الأمر كذلك،
فإن "أهل الفترة" الذين لم يعلموا أياً من الكتب المقدسة لا بد أن
يستحقوا النجاة أكثر من غيرهم (نفس المصدر ص 117 ـ 118).
5.
حكم من لم تبلغه الدعوة بعد البعثة
محمد "خاتم النبيين" (33 الأحزاب: 33)
بعث كافة للناس و"رحمة للعالمين" (الأنبياء: 21) متجاوزاً
الخلافات العرقية وستظل رسالته وشريعته باقية في كل زمان ومكان، فمنذ بعثته لم يعد
يوجد "أهل الفترة". مع ذلك على الرغم من أن رسالة محمد عالمية وبلا
حدود، كان بعض الأرض ما زال متبقّيا على حال عدم وصول الدعوة المحمّدية طول الزمن.
فيمكنّا قياس حكم أهل الفترة على من لم تبلغه الدعوة المحمّدية بعد بعثته على أصل
الأشاعرة أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا.
يقول عبد الله الغماري: أما بعد البعثة المحمدية التي عَمّتْ
أصل أهل الأرض جميعاً فلا يوجد أهل الفترة ولا محل لافتراض وجودهم. لكن قد يعتبر
وجود من لم تبلغه الدعوة. فلو افترضنا وجود شخص في مجاهل القارة الإفريقية مثلاً
لم يسمع بالإسلام ولا بالقرآن ولا عرف شيئاً عن توحيد الله تعالى وعاش بين الجبال
والغابات فإنه ناج بلا شك حتى ولو اعتنق بعض الديانات الشركية كالنصرانية مثلاً.
ذلك لأن بلوغ الدعوة شرط في توجيه التكليف للشخص. فحيث لم تبلغه بدون تقصير منه لم
يكلف. (نفس المصدر ص. 118).
وفي الواقع قد سبق بحث
عبد القاهر البغدادي (توفي عام 429 هـ / 1037 م) في هذه المسألة في كتابه
"أصول الدين" ويقول في قسم "مسألة بيان حكم من لم تبلغه دعوة
الإسلام" في الفصل الثاني بعنوان "أصل بيان أصول الإيمان": قال
أصحابنا إن الواجبات معلوم وجوبها بالشرع ، وقالوا فيمن كان وراء السد أو في قطر
من الأرض ولم تبلغه دعوة الإسلام ينظر فيه، فإن اعتقد الحق في العدل والتوحيد وجهل
شرائع الأحكام والرسل فحكمه حكم المسلمين وهو معذور فيما جهل به من الأحكام لأنه
لم يقم به الحجة عليه، ومن اعتقد منهم الإلحاد والكفر والتعطيل فهو كافر بالاعتقاد
وينظر فيه، فإن انتهت إليه دعوة بعض الأنبياء عليهم السلام فلم يؤمن بها كان
مستحقاً للوعيد على التأبيد، ومن لم تبلغه دعوة الشريعة بحال لم يكن مكلفاً وليس
له في الآخرة ثواب ولا عقاب.
كما رأينا آنفاً تلجأ حجة المذهب
الأشعري المتأخر حول نجاة "أهل الفترة" إلى مفهوم "من لم تبلغه
دعوة الإسلام" وهي تقوم على مبدأ أن لا عذاب طالما أنه لم يأت فيهم نبي، في
حين أن نظرية نجاة "أهل الفترة" في العصر المتأخر قد تطورت على خلفية
مسألة إن كان والدا الرسول (اللذان ماتا وهما يجهلان دعوة الإسلام) سوف ينجوان أم
لا، فإن شاغل البغدادي الرئيسي كان في الإمكانية النظرية لنجاة غير المسلمين
المعاصرين أي الناس الذين لم تصلهم الدعوة في حيز "المكان" مقابل أجيال
الناس الذين لم تصلهم الدعوة في حيز "الزمان"، أي "أهل
الفترة".
يمكن اختصار نتيجة بحث البغدادي في جملتين: الأولى أن من لم
تصله الدعوة المحمّدية بعد بعثته وهو يؤمن بوحدانية الله وعدله بمفرده بدون تعريفه
من قِبَل الرسول فحكمه أنه من المسلمين والثانية أن من لم تصله دعوة نبي ما أصلاً
برغم أنه عاش بعد البعثة المحمّدية فحكمه أنه من أهل الفترة.
6.
تطبيق حكم من لم تبلغه الدعوة على أهل شرق آسيا
لم نجد في تاريخ شرق آسيا أثر دعوة نبي بالتوحيد بالدليل
القطعي. إذاً هم أهل الفترة في حقّ العصر قبل البعثة المحمّدية بلا شكّ. وأما من
بعد البعثة فلا بد من تدقيق البحث. وهنا ينبغي أن نُميِّزُ بين الصين وبين كوريا
واليابان حيث أن الصين مع أن معظم سكانها لا يعرف عن الإسلام إلا بعض طقوسه
وتقاليده، كانت لها علاقة رسمية مع الخلافة العباسية منذ القرن الثاني الهجري و استوطن
المسلمون العرب والفرس فيها منذ ذلك الوقت و يوجد عدد يزيد عن عشر ملايين مسلم حتى
الآن، بينما كوريا واليابان بسبب سياسة العزلة عن العالم لهما ليست لديهما أية
علاقة رسمية ولا شعبية مع العالم الإسلامي أصلاً حتى أواخر القرن التاسع عشر
الميلادي. فنستطيع أن نطبّق أحكام أهل الفترة على أهل كوريا واليابان قبل العصر
الحديث بدون تردد. وأما الصين فهناك شبهة فلا يمكن تطبيقها على جميع أهلها فلا بد
من تدقيق الفحص لأفرادهم على حِدَةٍ بحسب عصرهم وحالتهم.
أما أهل كوريا واليابان المعاصرون فهل يمكن تطبيق حكم من لم
تبلغهم الدعوة عليهم أم لا؟ هنا نستشهد بقول د. محمد خير هيكل في هذا الموضوع،
فيقول: - هل مجرد استفاضة شأن الإسلام في الشرق والغرب يألف حجة على الشعوب والدول
الداخلة في إطار تلك الاستفاضة، إذ تعتبر في
هذه الحال مما يبلغهم الدعوة، فتجري عليهم الأحكام على هذا الاعتبار؟ كما
قد يفهم مما ورد في بعض الفقه - أم لا بد من التبليغ الرسمي من السلطة الإسلامية
للشعوب، أو لمن يمثل الشعوب حتى يصدق عليهم أنهم قد بلغتهم الدعوة؟ ... والذي أراه
أنه لا بد من التبليغ الرسمي من السلطة الإسلامية للشعوب، أو لمن يمثل الشعوب حتى
يصدق عليهم أنهم قد بلغتهم الدعوة بالنسبة للأحكام الإسلامية الدولية. وبالتالي:
يطبق عليهم أحكام من بلغتهم الدعوة على نحو ما تقدم بيانه... مجرد الاستفاضة لا
يدل على أن شرط بلوغ الدعوة متوفرة فيها، وشرطها هو البلاغ المبين، كما تقدم،
بدليل أن بقاعاً كثيرة من العالم اليوم، يسمعون الإسلام، ولكنهم يأخذون عنه، وعن
أهله فكرة مشوهة مما ينفر الناس عن الإسلام، ولا يرغب فيه. فلا يقال والحالة هذه
إن تلك الشعوب قد وصلها الإسلام بصورة (البلاغ المبين). والذي يحقق شرط (البلاغ
المبين) في الدعوة إنما هو الخطاب الرسمي من السلطة الإسلامية التي يجب عليها
الدعوة على وجه يحقق الشرط المذكور. حتى إذا كانت هناك تساؤلات، واستفسارات لدى من
توجه اليهم الدعوة بشأنها تقدمت السلطة الرسمية بالأجوبة المعتمدة على تلك
التساؤلات والاستفسارات. (محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية،
دار البيارق، بيروت، 1996-1417، ط.2، ج.1، 772-791)
فأرى حجّته موافقة لعقلية الإسلام تماماّ وملائمة لمنهج الدعوة
للمجتمع غير الإسلامي على وجه العموم وشرق آسيا على وجه الخصوص.
لم تنضّم شرق آسيا إلى دار الإسلام
أصلاً كما تقدم ذكره فلا بد فيهما من التبليغ الرسمي للإسلام على الصورة الشاملة
الحقيقية بدون تشويه ولا تحريف حتى تتوفّر فيها شروط وصول الدعوة الإسلامية
لأهلها. فيعتبر أهل شرق آسيا من لم تبلغه الدعوة حيث لم يتحقّق التبليغ الإسلامي
على هذا الشكل الذي أوضح د.
محمد خير هيكل فحكمهم حكمه إلا أن هناك شبهة في حقّ الصين باعتبارها متّصلة
بالخلافة الإسلامية منذ العصر العباسي.
7. خاتمة
هنا نُلخِّص نتائج البحث السابق للمذهب الأشعري في قضية من لم
تبلغه الدعوة في ما يلي:
(1) أهل الفترة ناجون من النار مهما كانت عقيدتهم على كل من
الأصلين أن الواجبات معلوم وجوبها بالشرع وأن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا،
لقوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً".
(2) من يصل إلى التوحيد بالبصيرة بمفرده من أهل الفترة حكمه
حكم المسلم.
(3) من لم تبلغه الدعوة المحمدية بعد بعثته حكمه حكم أهل
الفترة.
(4) حكم أهل دار الحرب الذين لم يصل إليهم التبليغ الرسمي من
قِبَل السلطة الإسلامية حكم أهل الفترة.
(5) حكم عموم أهل شرق آسيا وخصوصا أهل كوريا واليابان حكم أهل
الفترة.
و نستنبط الآثار العملية في منهج الدعوة في هذه المنطقة من هذا
البحث في ما يلي:
(1) إباحة الاستغاثة لأجل الأجداد. وله أهمية كبيرة في شرق آسيا
التي في مجتمعها تعليم الكنفوشية من بر الوالدين سائدٌ مُجذرٌ عميقٌ ويرتبط الناس
بقوة باحترام الأجداد. فتحريم الاستغاثة لأجل الأجداد إذاً عقبة كبيرة في طريق
الدعوة للإسلام في هذه المنطقة وطلب المغفرة لأصحاب النار مُحرَّمٌ لقوله تعالى: ما
كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين
لهم أنهم أصحاب الجحيم. (9 التوبة: 113) إلا أن أهل شرق آسيا حكمهم حكم
أهل الفترة من النجاة فلا بأس بالاستغاثة لأجل الأجداد.
(2) التواضع في الدعوة مخالف لبعض المتكبّرين المدّعين للدعوة
الذين تعاملوا مع أهل البلد كأنهم أصحاب الجنّة والمخاطَبون أهل النار ولكن بحثنا
قد بَيَّنَ أن العكس هو الصحيح أَي أنه لا ذنب لأهل البلد لأنهم لم تبلغهم الدعوة
فليس لديهم تكليف أصلاً بينما نحن مُقَصِّرون في الدعوة لعدم وفاء شروطها بل شوهنا
صورة الإسلام حتى حُلنا دون وصولها إليهم.
(3) التعامل مع مُوَحِّدي هذه المنطقة بحُكمِهِ مُسلِماً
امتثالاً بقوله صلى الله عليه وسلم :ومن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله
ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، وينبغي أن نحتضنَهم مع المحبة والأخوة
الإسلامية حتى تصبِح في قلوبهم محبّة للإسلام فيقتدوا بنا في التزام الشريعة
المحمدية بحسب تعميق فهم الإسلام ومحبّته تدريجياً. وهذا الذي هدف إليه سماحة
الشيخ أحمد رحمه الله تعالى.
وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق