ذكريات شخصية مع
"العنصرية" اليابانية
عندما أتيتُ إلى اليابان عام ١٩٩٦ لم أكن وحيدا. بل
كنا أربعة أصدقاء مصريين. جئنا في وقت واحد تقريبا وكنا ندرس في معهد واحد للغة
اليابانية. وكان من بين الأربعة صديق قد أتى إلى اليابان بنية الهجرة الدائمة
والإقامة فيها طويلا، في حين أن نيتي أنا كانت إقامة قصيرة أقلها سنة أو أطول
قليلا بغية إتقان اللغة اليابانية والتمكن منها كأهلها.
ولكن الصديق المصري عاد لمصر بعد سبعة أشهر فقط
والصديقين الآخرين عادا كذلك وكان آخرهم قد عاد بعد سنة ونصف. في حين بقيتُ أنا في
اليابان حتى الآن.
عندما سُئل الصديق الذي كان ينوي الهجرة عن سبب عودته
المبكرة على غير ما كان يخطط، كانت إجابته أنه لم يقدر على تحمّل عنصرية
اليابانيين ولا التعامل معهم.
ولكن خلال فترة إقامتي الطويلة حتى الآن في اليابان لم
أشعر لو مرة واحدة بأية "عنصرية" من اليابانيين. يا ترى ما السبب في
ذلك؟ بالطبع شعرت كثيرا أن اليابانيين يعاملوني بشكل مختلف ولكني كنت أرى ذلك أمرا
طبيعيا لأنني أجنبي ولست يابانيا مهما كانت درجة إتقاني للغة اليابانية ولم أطلب
يوما أن يعاملني اليابانيون تعامل بعضهم مع بعض بالعكس كنت أرى بعض الحرية في الهروب
بلؤم من التزامات عديدة بحجة أنني أجنبي. بالطبع هناك مواقف التعامل على أنك أجنبي
ربما يكون به رائحة عنصرية ولكني أرى أن "عنصرية" اليابانيين مع الأجانب
لها الجانب السلبي والجانب الإيجابي وعلى
الأجنبي المقيم اليابان الإكثار من إيجابيات "عنصرية" اليابانيين والتقليل
من السلبيات للحد الأدنى أنا مثلا كنتُ حسب ما أعتقد متفهما لذلك وبالتالي كنتُ
أتعامل مع الياباني الذي يبدو عنصريا بطريقة تجعله يدرك خطأ تقديره في طريقة
التعامل. وسأضرب هنا ثلاثة مواقف حدثت لي بالفعل بدون أية مبالغة مع الشرطة
اليابانية التي كانت أحد أسباب شعور صديقي سابق الذكر بالعنصرية.
أول موقف كان في بداية قدومي لليابان وكنت أدرس في
معهد لغة يابانية وأعمل بعد نهاية الدراسة في محل بقالة من المحلات التي تُسمى
كونفينياس ستور التي تعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم. وكنت أستخدم
دراجة عادية للذهاب من البيت إلى المعهد ومن المعهد إلى محل العمل ثم أعود إلى
البيت في ساعة متأخرة من الليل قد تصل في بعض الأحيان إلى الساعة الواحدة أو
الثانية من صباح اليوم التالي. وفي ذلك الوقت كانت حوادث سرقة الدراجات منتشرة.
ولذا كانت الشرطة دائما تستوقفني (وكذلك أي أجنبي) للتأكد من أن الدراجة ملكي
وليست مسروقة. ولكن في أحد الأيام وأنا أقف في إشارة المرور الحمراء جاء شرطي وطلب
مني السماح له بالكشف عن رقم الدراجة لأن كل دراجة لها رقم تصنيع يقوم مالكها
بتسجيله لدى الشرطة حتى إذا ما سُرقت يُبلغ الشرطة أن الدراجة رقم كذا سُرقت.
فيقوم الشرطي بقراءة رقم الدراجة وإبلاغه باللاسلكي لمركز به قائمة بأرقام
الدراجات المسروقة للكشف عنه سرقة الدراجة من عدمه. المهم نظرتُ إلى الشرطي وقلت
له أترى ذلك الرجل الياباني الذي هناك، إنه يقود دراجة مثلي بل إنه كسر الإشارة
الحمراء ومع ذلك تركته وجئت لي أنا الذي لم أرتكب أي خطأ، لماذا؟ كانت مشاعري ليست
غضب بل مجرد أنني كنت أريد أن أوضح له عنصريته رغم أنني كما قلت كنت متفهما بشكل
ما لسلوكه خاصة أن الإحصائيات وقتها كانت تقول بما لا يدع مجالا للشك أن أغلبية
سارقي الدراجات من الأجانب. وأن الموقف ليس به أي إهانة مجرد دقائق معدودة يتأكد
الشرطي من الرقم بمنتهي الاحترام والرقي في التعامل. المهم مرة أخرى ذلك الشرطي البسيط الذي يسمى في سلسلة
الرتب "جونسا" بمعنى شرطي الدورية وهو أقل رتبة أو وظيفة في الشرطة
اليابانية أجاب إجابة نموذجية جعلتني أكثر تفهما وأكثر تعاطفا مع الشرطة
اليابانية. ماذا قال ذلك الشرطي الذي وجد نفسه متلبسا بممارسة العنصرية وطالب
أجنبي يواجهه بذلك بلغة يابانية سليمة ليس بها عوج؟ ضحك ضحكة من قلبه وليست ضحكة
مصطنعة وقال لي: "لقد رأيتك من بعيد ووجدت أنك تلتزم بالإشارة في هذا الوقت
المتأخر رغم أن بعض اليابانيون كما تقول يكسرون الإشارة فأعجبت بك وأحببت أن أتعرف
عليك ولم أجد إلا هذه الطريقة لإيقافك والتحدث معك"
طبعا من المؤكد أن هذا كله كذب صريح. ولكن وقتها لم
يكن يهمني هل هو كاذب أم صادق، ما كان يهمني أنه أولا لم يعاند واعترف بخطئه
بطريقة غير مباشرة ثانيا أنه فكر (لا أظن أنهم في شرطة اليابان يدربونهم على ذلك)
وقال سببا أرضى به غروري على الأقل وجعلني أنا الآخر لا أعاند وأمتثل له دون تصعيد
الموقف أكثر من ذلك. أظن أن تعاملي أولا بتفهم لموقف الطرف الآخر ثانيا بهدوء ودون
عصبية أو تشنج له دخل في تغير تعامل الشرطي معي من موقف الاتهام والتربص إلى موقف
التعاطف أو حتى التملق في بعض الأحيان.
الموقف الثاني كان أشد من الأول لأنني تعاملت بغضب
وحدة مع الموقف.
في أحد الأيام كنت ذاهبا إلى عملي اليومي وقتها في
هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية NHK وهي هيئة قومية شبه حكومية، وكنت متأخرا
قليلا عن موعدي فأخذت أجري من محطة المترو حتى مقر عملي. ويوجد في الطريق نقطة
شرطة وعندما رأى الشرطي أجنبيا يجري بالقرب من مقر أهم وسيلة إعلامية في اليابان
على الفور استقل دراجة وجاء ورائي مسرعا ثم أوقفني ليستفسر عن أوراقي إلخ. قلت له
وأنا أجري: "إنني كما ترى على استعجال اتركني" إلا أنه وهذا حقه أصر على
أن يرى أوراقي. قلت في نفسي خلاص تأخر بتأخر، فوقفت وقلت له وأنا في قمة الغضب.
حسنا، سألتزم بما ينص عليه القانون وأبرز لك أوراقي لكن قبل ذلك عليك أن تلتزم أنت
أيضا بما ينص عليه القانون. قال لي كيف؟ قلت يجب أولا أن تقف وتعطي لي تحية ثم
تخلع قبعتك ثم تبرز أنت أولا بطاقة هويتك التي تدل على أنك شرطي وليس شخصا متنكرا
في زي شرطي ثم بعد ذلك تطلب مني ما تريد. طبعا كنتُ أبالغ فيما قلت ولكن في ذلك
الموقف فِعْل الشرطي ما قلتُ أمرا مستحبا وإن لم يكن ملزما به إلا أن إبراز هويته
على الأقل أمر ملزم، فاستجاب وأراني هويته، بعدها أبرزت له أوراقي وأوضحتُ له إنني
ذاهب لعملي في NHK وأنني متأخر عن الموعد لذا كنت أجري. ومر الموقف بدون أي
تصعيد لأن كل طرف منا كان متفهما رغم كل شيء لموقف الطرف الآخر.
الموقف الثالث ربما كان موقفا لطيفا وربما كنت أنا
المخطئ وكنتُ كلما أحكيه لصديق ياباني يستغرب وينتقد تصرف الشرطة.
وربما كان في الأمر شبهة ارتكاب جريمة ولكن أنا أحكي
الآن وأنا مطمئن فقد مر ما يقرب من عشرون عام على تلك الواقعة مما يجعل أية جريمة
تسقط بالتقادم. في إحدى ليال الصيف وبعد عراك عائلي كثيرا ما يحدث بين أي زوج
وزوجة تركت المنزل مندفعا هربا من الشد العصبي والنفسي. لأكتشف بعد فترة وجيزة من
خروجي أنني خرجتُ من المنزل بالترنج والشبشب وبدون أية متعلقات ولا نقود ولا أي
شيء بتاتا. فأخذتُ أتمشى في الطريق المحاذي لنهر تاماغاوا الواقع أمام منزلنا وهو
أحد أكبر أنهار اليابان ويفصل بين محافظة طوكيو العاصمة في الشرق ومحافظة كاناغاوا
في الغرب. وحدود المحافظات في اليابان كانت في الماضي البعيد بمثابة حدود بين دول
ولم يكن يُسمح بتجاوزها إلا بعد الاطلاع على الأوراق الثبوتية ومعرفة خط سير
الداخل والخارج.
ولكن الآن التنقل بين المحافظات اليابانية ليس بهذا
التعقيد إلا أن الشرطة تختلف من محافظة لأخرى ولها شبه استقلالية لأن قيادة شرطة
المحافظة تتبع سلطة المحافظ مباشرة وليس الحكومة المركزية وإن كانت القوانين واحدة
في كامل اليابان والأمر لا يشبه حدود الولايات المتحدة الأمريكية كما تصورها لنا
أفلام هوليود حيث يجتهد المطارد من الشرطة المحلية للوصول إلى حدود الولاية
وتخطيها وبالتالي لا تستطيع شرطة الولاية التي كان فيها من ملاحقته داخل الولاية
الأخرى. الأمر في اليابان ليس بهذا الشكل. ولكن يوجد عند كل جسر على نهر تاماغاوا
نقطة شرطة ربما كانت أثرا تبقى من نقاط الحدود التي كانت موجودة من قديم الزمان.
القصد وصلتُ بحالتي التي شرحتها حتى الجسر الذي إن عبرته كنت قد عبرت لمحافظة
أخرى وأكون وجها لوجه أمام نقطة الشرطة، فلمعت في ذهني الفكرة وقررت تنفيذها
وليحدث ما يحدث.
عبرت الجسر، وكانت الساعة قد تخطت الثانية عشر ليلا
وتعمدتُ أن أسير مترنحا أمام مدخل نقطة الشرطة بشكلي السابق ذكره أرتدي شبشب زيكو
المصري الشهير وترنج بلا جيوب ولا أحمل أية متعلقات حتى ألفت انتباه الشرطي
بالداخل. وفعلا خرج شرطي ونظر إلي، فلم أعره انتباها ومضيتُ في طريقي أتطوّح يمينا
ويسارا. فجاء الشرطي مسرعا يطلب مني أن أدخل معه نقطة الشرطة فرفضت متحدثا
بالعربية وقلت له باللغة العربية إنني لا أفهم ما يقول. نعم كانت تلك هي الفكرة أن
أقضي الليل مع عساكر نقطة الشرطة تلك بدون أن أتكلم إلا اللغة العربية وأنظر ماذا
يحدث. أوقفني الشرطي بلغة الإشارة وبسد الطريق أمامي وألح في أن أدخل معه مقر
الشرطة الذي على الحدود بين المحافظين. تظاهرتُ بأنني ليس أمامي إلا الإذعان له
ودخلت معه وهو يوجهني بيديه الاثنتين لكي أدخل. دخلت نقطة الشرطة أو "الكوبان" وهو عبارة مساحة صغيرة
بها مكتب واحد فقط وبضعة كراسي ولكن يبدو أنه توجد غرفة داخلية أو أكثر يمكن
لأفراد الشرطة النوم بها والاستراحة بالتناوب. كان يوجد شرطي آخر يجلس على المكتب وبعد
فترة خرج شرطي ثالث يبدو أنه كان في فترة راحته. وأخذ الثلاثة يحاوطونني بالأسئلة
والاستفسارات المعتادة في مثل هذا الموقف مثل السؤال عن اسمي وعنواني وبياناتي إلخ
آخره. ولكنني كما ذكرت لم أتكلم معهم إلا باللغة العربية وطلبت باللغة العربية
طبعا أن يستدعوا أحد يتحدث العربية كي أستطيع التفاهم معه. طبعا هم لم يفهموا ماذا
أقول. دخل أحدهم إلى الغرفة الداخلية وأحضر حلقة في حجم العملة المعدنية ومشبك بها
زرمة من الكروت في حجم الإصبعين وأخذ يردد عليَّ ما هو مكتوب في الكروت. وكانت
عبارة عن أسئلة بدائية باللغة الإنجليزية وكان ينطقها نطقا يابانيا بحيث أن من
يتكلم الإنجليزية لن يفهم ماذا يقول على سبيل المثال سؤال من أي البلاد أنت؟ يكون:
هوويرو يوو آرو فرومو؟ أو ما اسمك؟ يكون: هواطّو إيّزو يوا نيمو؟ غنى عن القول
إنني بالطبع لم أستجب لتلك الأسئلة وظللتُ أتحدث باللغة العربية قائلا إنني لا
أفهم ولا أتحدث إلا اللغة العربية طالبا أن يأتوا لي بمن يتحدث اللغة العربية.
طبعا المضحك أثناء ذلك أنني كنت أجيب على أسئلتهم التي كنت أفهمها بالطبع لأني
أتقنتُ اللغة اليابانية إلى حد كبير قبل ذهابي إلى اليابان أصلا لأنني درستها في
مصر لمدة ست سنوات كاملة قبل أن أذهب لليابان للمرة الأولى. المهم هو أن كل
إجاباتي باللغة العربية فقط لذا لم يفطنوا مطلقا أنني أفهم اللغة اليابانية حتى
بعد أن أخطأتُ خطأً بالغا وذلك أنهم أحضروا لي ورقة وقلم وطالبوا مني كتابة رقم
تلفون منزلي فاستجبت بغباء وكتبت رقم تلفون المنزل وكنت اعتبر ذلك نكاية في زوجتي
لأنهم سيتصلون بها ويطلبون منها المجيء لضماني من أجل إطلاق سراحي أو على الأقل
ستضمنني بالهاتف وتعتذر لهم وتطلب منهم إطلاق سراحي لأنني أسكن على بعد فركة كعب
من نقطة الشرطة ولكن على الناحية الأخرى من النهر. ولحسن الحظ لم ينتبه أحد من ثلاثي
الشرطة أنني فهمت ما قاله لي باللغة اليابانية وكتبت رقم تلفون منزلي بالفعل. ثم
اعتقدتُ أنا أن الموضوع انتهى عند هذا الحد وسيتصلون بزوجتي التي ستثبت شخصيتي
سواء بالحضور أو بالهاتف ويطلقون سراحي. ولكن كانت تلك أوهاما يتخيلها من لا يعرف
اليابانيين حق المعرفة. والسبب الذي سأقوله الآن لا يمكن لعربي التفكير فيه أو
الاقتناع به. الخلاصة أن الشرطة لم تتصل بالرقم الذي كتبته رغم أنني كما ذكرت كتبت
بخطأ قاتل مني الرقم كما طُلب مني بل وكتبت رقم هاتف منزلي فعلا. السبب أن الوقت
قد تخطى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. والشرطة لا تعلم الرقم الذي كتبته رقم من
وما هي علاقة أصحاب البيت بي؟ وهناك شك أنه توجد علاقة فعلا بين أصحاب البيت
وبيني. لذا استحالة أن تتصل الشرطة في ذلك الوقت من الليل بأناس لا تعرف من هم ولا
علاقتهم بي ولا تعرف حتى اسمهم. ولذا ظلت الشرطة تحاول معي وتحاول البحث عن مخرج
لهذا الموقف إلى أن وصلوا للحل الذي كما ذكرت كلما حكيته لصديق أو صديقة يابانية اندهشوا
بشدة وانتقدوا الشرطة على ذلك السلوك. وربما بعد قول ذلك يتوقع القارئ العربي عكس
الذي حدث حسب ما نحن متعودين عليه في بلادنا الحبيبة. الموقف انتهى أن الشرطة بعد
أن "غُلب حمارها" أطلقت سراحي بلا قيد ولا شرط وبدون أن تأخذ مني حقا ولا
باطلا، لا اسمي ولا عنواني ولا جنسيتي ولا صورتي ولا أية معلومة حقيقية، اللهم إلا
رقم هاتف المنزل المشكوك فيه من قبلهم. وأخذوا "يهشّونني" بأيديهم خارج
نقطة الشرطة للتخلص مني ومن لغتي العربية المبهمة التي كادت أن تُصيبهم بالجنون.
سلوكي وقتها وقد مر ما يقرب من عشرين عام على تلك
الواقعة كان اعتراضا على المبدأ الياباني الراسخ لديهم أنك ما دمت تعيش في اليابان لذا
فأنت تتحدث اللغة اليابانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق