فصل في إعجاز القرآن
للأستاذ محمود محمد شاكر
(مقدمة كتاب الظاهرة القرآنية للأستاذ مالك بن نبي)
الحمد لله
وحده لا شريك له، حمدا يقربنا إلى رضوانه، وصلاة الله وسلامه على نبيه المصطفى من
أبناء الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل، صلاة تزلفنا إلى جنته.
* * *
هذا كتاب (الظاهرة
القرآنية)
وكفى، فليس
عدلا أن أقدم كتابا هو يقدم نفسه إلى قارئه. وبحسب أخي الأستاذ مالك بن نبي وبحسب
كتابه أن يشار إليه، وإنه لعسير أن أقدم كتابا هو نهج مستقل، أحسبه لم يسبقه كتاب
مثله من قبل. وهو منهج متكامل يفسره تطبيق أصوله، كما يفسره حرص قارئه على تأمل
مناحيه. ولا أقول هذا ثناء، فأنا أعلم أن رجلا أثنى على رجل عند النبي ﷺ فقال له: "ويلك! قطعت عنق صاحبك"، قالها ثلاثا. ومالك أعزُّ
عليَّ من أن أقطع عنقه بثنائي أو أهلكه بإطرائي.
ولكن أحسبني مِن أعرف الناس بخطر هذا الكتاب، فإن صاحبه قد كتبه لغاية
بيّنها، ولأسباب فصّلها. وقد صهرتني المحن دهراً طويلاً، فاصطليت بالأسباب التي
دعته إلى اتخاذ منهجه في تأليف هذا الكتاب ثم أفضيت إلى الغاية التي أرادها، بعد
أن سلكت إليها طرقاً موحشة مخوفة. وقد قرأت الكتاب وصاحَبتُه، فكنت كلما قرأت منه
فصلاً وجدت نفسي كالسائر في دروب قد طال عهدي بها، وخيل إليَّ أن مالكاً لم يؤلف
هذا الكتاب إلا بعد أن سقط في مثل الفتن التي سقطتُ فيها من قبل. ثم أقال الله
عثرته بالهداية فكان طريقه إلى المذهب الصحيح، هو ما ضمنه كتابه من بعض دلائل
إثبات إعجاز القرآن، وأنه كتاب منزَّل، أنزله الذي يعلم الخبء في السموات والأرض،
وأن مبلغه إلى الناس، ﷺ، رسول صادق قد بلغ عن ربه ما أمره بتبليغه،
وأن بين هذا الرسول الصادق وبين الكلام الذي بلَّغه حجازاً فاصلاً، وأن هذا الحجاز
الفاصل بين القرآن وبين مبلغه حقيقة ظاهرة، لا يخطئها من درس سيرة رسول الله فاحصاً متأملاً، ثم درس كتاب الله بعقل يقظ غير غافل.
وهذا المنهج
الذي سلكه مالك، منهج يستمد أصوله من تأمل طويل في طبيعة النفس الإنسانية، وفي
غريزة التدين في فطرة البشر، وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي توسم بالتناقض
أحياناً، ولكنها تكشف عن مستور التدين في كل إنسان. ثم هو يستمد أصوله من الفحص
الدائب في تاريخ النبوة وخصائصها، ثم في سيرة رسول الله، بأبي هو وأمي، منذ نشأته
إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. ثم في هذا البلاغ الذي جاء ليكون بنفسه، دليلاً على صدق
نفسه، أنه كلام الله، المفارق لكلام البشر من جميع نواحيه.
وخلال هذا
المنهج تستعلن لك المحنة التي عاناها مالك، كما عانيتها أنا، وكما عاناها جيل من
المسلمين في هذا القرن. بل إنك لتجد المحنة ماثلة في (مدخل الدراسة) وهو الفصل
الذي استفتح به كتابه، فقد صور لك مشكلة الشباب المسلم المتعلم في هذا العصر، وما
كان قاساه وما يزال يقاسيه، من العنت في إدراك إعجاز القرآن، إدراكاً يرضاه ويطمئن
إليه.
وهذا
(العقل) الحديث الذي يفكر به شباب العالم الإسلامي، والذي يريد أن يدرك ما يرضيه
ويطمئن إليه من دلائل إعجاز القرآن، هو لب المشكلة، فإن (العقل) هبة الله لكل حي،
ولكن أساليب تفكيره كسب يكتسبه من معالجة النظر ومن التربية ومن التعليم، ومن
الثقافة ومن آلاف التجارب التي يحياها في هذه الحياة. فينبغي، قبل كل شيء، أن
نتدبر أمر هذا (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، لأن فهم هذا (العقل)، هو الذي
يحدد لنا طريقنا ومنهجنا في كل دراسة صحيحة، نحب أن نقدمها إليه حتى يطمئن ويرضى.
فمنذ أول
الإسلام، خاضت الجيوش الإسلامية معارك الحرب في جميع أنحاء الدنيا، وخاض معها العقل
الإسلامي معارك أشد هولاً حيث نزل الإنسان المسلم. وتقوضت أركان الدول تحت وطأة
الجند المظفر. وتقوضت معها أركان الثقافات المتباينة تحت نور العقل المسلم
المنصور، وظلت الملاحم دائرة الرحى قروناً متطاولة، في ميادين الحرب وميادين
الثقافة، حتى كان هذا العصر الأخير.
انبعثت
الحضارة الأوربية، ثم انطلقت بكل سلاحها لتخوض في قلب العالم الإسلامي، أكبر معركة
في تاريخنا وتاريخهم. وهي معركة لم يحط بأساليبها وميادينها أحد بعد في هذا العالم
الإسلامي ولم يتقص أحد آثارها فينا. ولم يتكفل بدراستها من جميع نواحيها من يطيق
أن يدرس، ولست أزعم أني سأدرسها في هذا الموضع، ولكن سأدل على طرف منها، ينفع قارئ
هذا الكتاب، إذا صح عزمه على معاناة دراسته دراسة الحريص المتغلغل.
لم تكن
المعركة الجديدة بين العالم الأوربي المسيحي، وبين العالم الإسلامي معركة في ميدان
واحد، بل كانت معركة في ميدانين: ميدان الحرب، وميدان الثقافة. ولم يلبث العالم
الإسلامي أن ألقى السلاح في ميدان الحرب، لأسباب معروفة. أما ميدان الثقافة، فقد
بقيت المعارك فيه متتابعة جيلاً بعد جيل، بل عاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم. وكانت
هذه المعركة أخطر المعركتين، وأبعدهما أثراً، وأشدهما تقويضاً للحياة الإسلامية
والعقل الإسلامي. وكان عدونا يعلم ما لا نعلم، كان يعلم أن هذه هي معركته الفاصلة
بيننا وبينه، وكان يعلم من خباياها ما لا نعلم، ويدرك من أسرارها ووسائلها ما لا
ندرك، ويعرف من ميادينها ما لا نعرف، ويصطنع لها من الأسلحة ما لا نصطنع، ويتحرى لها
من الأسباب المفضية إلى هلاكنا ما لا نتحرى أو نلقي إليه بالاً. وأعانه وأيده أن
سقطت الدول الإسلامية جميعاً هزيمة في ميدان الحرب. فسقطت في يده مقاليد أمورها في
كل ميدان من ميادين الحياة، وصار مهيمناً على سياستها واقتصادها وصحافتها، أي سقطت
في يده مقاليد التوجيه الكامل للحياة الإسلامية والعقل الإسلامي.
وميادين
معركة الثقافة والعقل لا تعد، بل تشمل المجتمع كله في حياته وفي تربيته وفي
معايشه، وفي تفكيره وفي عقائده وفي آدابه وفي فنونه وفي سياسته، بل كل ما تصبح به
الحياة حياة إنسانية، كما عرفها الإنسان منذ كان على الأرض. والأساليب التي يتخذها
العدو للقتال في معركة الثقافة، أساليب لا تعد ولا تحصى، لأنها تتغير وتتبدل
وتتجدد على اختلاف الميادين وتراحبها وكثرتها، وأسلحة القتال فيها أخفى الأسلحة،
لأن عقل المثقف يتكون يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، وهو يتقبل بالتربية
والتعليم والاجتماع، أشياء يُسَلَّمها بالإلف الطويل وبالعرض المتواصل وبالمكر
الخفي، وبالجدل المضلل وبالمراد المتلون وبالهوى المتغلب، وبضروب مختلفة من الكيد
الذي يعمل في تحطيم البناء القائم، لكي يقيم العدو على أنقاضه بناء كالذي يريد ويرجو.
وقد كان ما
أراد الله أن يكون، وتتابعت هزائم العالم الإسلامي في ميدان الثقافة جيلاً بعد
جيل، وكما بقيت معارك الحرب متتابعة سراً مكتوماً لا يتدارسه قادة الجيوش
الإسلامية وجندها حتى هذا اليوم، بقيت أيضا معارك الثقافة على تطاولها، سراً خافياً لا يتدارسه قادة الثقافة الإسلامية وجندها: بل أكبر من ذلك: فقد أصبح أكثر قادة
الثقافة في العالم الإسلامي وأصبح جنودها أيضا، تبعاً يأتمرون بأمر القادة من
أعدائهم، عارفين أو جاهلين أنهم هم أنفسهم قد انقلبوا عدواً للعقل الإسلامي الذي
ينتسبون إليه، بل الذي يدافعون عنه أحياناً دفاع غيرة وإخلاص.
لم يكن غرض
العدو أن يقارع ثقافة بثقافة، أو أن ينازل ضلالاً بهدى، أو يصارع باطلاً بحق، أو أن
يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة؛ بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة
في العالم الإسلامي، جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولاً لا
تدرك إلا ما يريد لها هو أن تعرف، فكانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عرفت
إلى هذا اليوم، كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلاً بمثل. وقد كان ما أراد الله
أن يكون، وظفر العدو فينا بما كان يبغي ويريد.
وقد فصل
مالك في (مدخل الدراسة) محنة (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، على يد أمضى أسلحة
العدو في تهديم بعض جوانب الثقافة، بل أهم جوانبها، وهو سلاح (الاستشراق)، سلاح لم
يدرسه المسلمون بعد، ولم يتتبعوا تاريخه، ولم يكشفوا عن مكايده وأضاليله، ولم يقفوا
على الخفي من أسرار مكره، ولم يستقصوا أثره في نواحي حياتهم الثقافية؛ بل في أكثر
نواحي حياتهم الإنسانية، كيف؟ بل كان الأمر عكس ما كان ينبغي أن يكون، فهم
يتدارسون ما يلقيه إليهم على أنه علم يتزوده المتعلم، وثقافة تتشربها النفوس، ونظر
تقتفيه العقول، حتى كان كما قال مالك: "إن الأعمال الأدبية لهؤلاء
المستشرقين، قد بلغت درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها" وتفصيل أثر هذا
الإشعاع في تاريخنا الحديث، وفي سياستنا وفي عقائدنا، وفي كتبنا وفي ديننا وفي
أخلاقنا وفي مدارسنا وفي صحافتنا، وفي كل أقوالنا وأعمالنا، شيء لا يكاد يحيط به
أحد.
وهذا
الإشعاع كما سماه مالك، كان من أعظم الأسباب وأبعدها خطراً في (العقل) الحديث،
الذي يريد أن يدرك دلائل إعجاز القرآن إدراكاً يرضى عنه ويطمئن إليه. وهو الذي
أوقع الشك في الأصول القديمة التي قامت عليها أدلة إعجاز القرآن، بل أكبر من ذلك،
فإنه قد أتى أساليب غاية في الدهاء والخفاء، أفضت إلى تدمير الوسائل الصحيحة التي
ينبغي أن يتذرع بها كل من درس نصاً أدبياً، حتى يتاح له أن يحكم على جودته أو
رداءته، فضلا عن بلاغته أو إعجازه.
وقد ذكر
مالك في (مدخل الدراسة) تلك القضية الغريبة التي عرفت بقضية (الشعر الجاهلي)،
والتي أثارها المستشرق (مرجليوث) في بعض مجلات المستشرقين، ثم تولى كبرها (طه
حسين) في كتابه (في الشعر الجاهلي)، يوم كان أستاذاً للأدب العربي بالجامعة
المصرية. ولن أذكر هنا تلك المعارك التي أثارها كتاب (في الشعر الجاهلي)، ولكني
أذكر، كما ذكر مالك، أن هذه القضية بأدلتها ومناهجها، قد تركت في (العقل) الحديث
في العالم الإسلامي، أثراً لا يمحي إلا بعد جهد جهيد؛ والعجب أن (مرجليوث) قد أتى
في بحثه بزيف كثير، كان هو الأساس الذي بنى عليه هذا (العقل)، وقد حاول مئات من
رجال الفكر أن يزيفوا الأدلة والمناهج، ولكن هذا الزيف بقي بعد ذلك طابعاً مميزاً
لأكثر ما ينشره الطلبة والأساتذة إلى يومنا هذا. ولا تحاكم مرجليوث وأشياعه إلى رأيك ونظرك، بل دع محاكمته إلى مستشرق مثله، هو (آربري)، يقول في خاتمة كتابه (المعلقات
السبع) وقد ذكر أقوال مرجليوث وفندها: "إن السفسطة – وأخشى أن أقول: الغش –
في بعض الأدلة التي ساقها الأستاذ (مرجليوث)، أمر بيَّن جداً، ولا تليق البتة برجل
كان، ولا ريب من أعظم أئمة العلم في عصره"
وهذا حكم
شنيع، لا على (مرجليوث) وحده، بل على كل أشياعه وكهنته وعلى ما جاؤوا به من حطام
الفكر.
ولكن العجب
عندي بعد ذلك أن مالكاً ارتكز على ذكر هذه القضية، وعلى أثرها في العقل الحديث، ثم
انطلق منها إلى نتيجة أخرى فقال: "وعلى هذا فالمشكلة بوضعها الراهن تتجاوز في
مداها نطاق الأدب والتاريخ، وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله، ذلك التفسير
القائم على الموازنة الأسلوبية، معتمداً على الشعر الجاهلي بوصفه حقيقة لا تقبل
الجدل؛ وعلى أية حال فقد كان من الممكن أن تثور هذه المشكلة تبعاً للتطور الجديد في
الفكر الإسلامي، وإنما بصور أقل ثورية، فمنهج التفسير القديم يجب أن يتعدل في حكمة
وروية، لكي يتفق مع مقتضيات الفكر الحديث"
ثم قال:
"لقد قام إعجاز القرآن حتى الآن على البرهان الظاهر على سمو كلام الله فوق
البشر. وكان لجوء التفسير إلى الدراسة الأسلوبية لكي يضع لإعجاز القرآن أساساً
عقلياً. فلو أننا طبقنا نتائج فرض (مرجليوث)، لانهار ذلك الأساس، ومن هنا توضع
مشكلة التفسير على أساس هام بالنسبة لعقيدة المسلم، أعني: برهان إعجاز القرآن في
نظره"
ثم أفضى
إلى هذا الحكم: "والحق أنه لا يوجد مسلم، وخاصة في البلاد غير العربية - يمكنه
أن يوازن موضوعيا بين آية قرآنية، وفقرة موزونة أو مقفاة من أدب العصر الجاهلي.
فمنذ وقت طويل، لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية، ليمكننا أن نستنبط
من موازنة أدبية نتيجة عادلة حكيمة"
وأنا أحب
أن أناقش هذه المقالة حتى أعين القارئ على أن يضع كتاب (الظاهرة القرآنية) في
مكانه الذي ينبغي له، وحتى تتبين له معالم الطريق الذي يسير فيه وهو يقرأ هذا
الكتاب، وحتى يستفيد من أدلته وبراهينه قوة تعينه على أن يضع أساساً يقيم عليه
عقيدته وإيمانه.
ولا أدري
ما الذي ألجأ أخي مالكاً إلى ذكر (تفسير القرآن) ومنهجه القديم في هذا الموضع ...
؟ ... إنه إقحام لباب من علوم الإسلام قائم برأسه لا يمسه فرض (مرجليوث) من قريب أو
بعيد. وعلم تفسير القرآن كما أسسه القدماء، لا يقوم على موازنة الأساليب، اعتماداً
على شعر الجاهلية أو شعر غير الجاهلية، وإذا اقتضتنا الحاجة أن ندخل تعديلا على
منهج التفسير القديم، فإنه عندئذ تعديل لا علاقة له البتة بالشعر الجاهلي، لا من
قبل الشك في صحته، لا من قبل موازنة الأساليب الجاهلية بأسلوب القرآن. وكل ما عند
القدماء من ذكر الشعر الجاهلي في تفسيرهم، فهو أنهم يستدلون به على معنى حرف في
القرآن، أو بيان خاصة من خصائص التعبير العربي، كالتقديم والتأخير والحذف وما إلى
ذلك، وهذا أمر يصلح له شعر الجاهلية، كما يصلح له شعر الإسلام؛ وغاية علم تفسير
القرآن – كما ينبغي أن يعلم – إنما هي بيان معاني ألفاظه مفردة، وجملة ومجتمعة،
ودلالة هذه الألفاظ والجمل على المباني، سواء في ذلك آيات الخبر والقصص، وآيات
الأدب وآيات الأحكام، وسائر ما اشتملت عليه معاني القرآن. وهو أمر عن (إعجاز
القرآن) بمعزل.
أما الأمر
المتربط بالشعر الجاهلي، أو بقضايا الشعر عامة، والمتصل بأساليب الجاهلية غير
الجاهلية، وأساليب العربية وغير العربية وموازنتها بأسلوب القرآن، فهو علم (إعجاز
القرآن)، ثم (علم البلاغة).
ولا مناص
لمتكلم في (إعجاز القرآن)، من أن يتبين حقيقتين عظيمتين قبل النظر في هذه المسألة،
وأن يفصل بينهما فصلاً ظاهراً لا يلتبس، وأن يميز أوضح التمييز بين الوجوه
المشتركة التي تكون بينهما:
أولهما: أن
(إعجاز القرآن) كما يدل لفظه وتاريخه، وهو دليل النبي ﷺ على صدق نبوته، وعلى أنه
رسول الله يوحى إليه هذا القرآن، وأن النبي ﷺ كان يعرف (إعجاز القرآن) من الوجه
الذي عرفه منه سائر من آمن به من قومه العرب، وأن التحدي الذي تضمنته آيات التحدي،
من نحو قوله تعالى:"أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ
مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ
لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" {هود 11 / 13و14}. وقوله: "قُل
لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا
الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" {الإسراء 17 /18}. إنما هو
تحدٍ بلفظ القرآن ونظمه بيانه لا بشيء خارج عن ذلك. فما هو بتحدٍ بالإخبار بالغيب
المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه
علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان.
ثانيهما: أن إثبات دليل النبوة، وتصديق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من
عند الله، كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من كتب الله سبحانه، لا يكون
منها شيء يدل على أن القرآن معجز، ولا أظن أن قائلا يستطيع أن يقول إن التوراة
والإنجيل والزبور كتب معجزة، بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن، من أجل أنها
كتب منزلة من عند الله. ومن البين أن العرب قد طولبوا بأن يعرفوا دليل نبوة رسول
الله، ودليل صدق الوحي الذي يأتيه، بمجرد سماع القرآن نفسه، لا بما يجادلهم به حتى
يلزمهم الحجة في توحيد الله، أو تصديق نبوته، لا بمعجزة كمعجزات إخوانه من
الأنبياء مما آمن على مثله البشر، وقد بيّن الله في غير آية من كتابه أن سماع
القرآن يقتضيهم إدراك مباينته لكلامهم، وأنه ليس من كلام بشر، بل كلام رب العالمين
وبهذا جاء الأمر في قوله تعالي: "وَإِن أَحَدٌ مِنَ المُشرِكينَ
استَجارَكَ فَأَجِرهُ حَتّى يَسمَعَ كَلامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبلِغهُ مَأمَنَهُ
ذلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَعلَمونَ" {التوبة 9 /6}
فالقرآن
المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، أما صحة النبوة فليست برهاناً على إعجاز
القرآن.
والخلط بين
هاتين الحقيقتين، وإهمال الفصل بينهما في التطبيق والنظر، وفي دراسة (إعجاز
القرآن)، قد أفضى إلى تخليط شديد في الدراسة قديما وحديثا، بل أدى هذا الخلط إلى
تأخير علم (إعجاز القرآن) و(علم البلاغة)، عن الغاية التي كان ينبغي أن ينتهيا
إليها.
وحسن أن
أزيل الآن لبسا قد يقع فيه الدارس لكتاب (الظاهرة القرآنية)، ففي (مدخل الدراسة)؛
وفي بعض فصول الكتاب ما يوهم أن من مقاصده تثبيت قواعد في (علم إعجاز القرآن)، من
الوجه الذي يسمى به القرآن معجزاً. وهو خطأ، فإن منهج مالك في تأليفه أوضح الدلالة
على أنه إنما عني بأثبات صحة دليل النبوة، وبصدق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من
عند الله. وأنه كلام الله لا كلام بشر، وليس هذا هو (إعجاز القرآن) كما أسلفت، بل
هو أقرب إلى أن يكون باباً من (علم التوحيد)، استطاع مالك أن يبلغ فيه غايات
بعيدة، قصر عنها أكثر من كتب من المحدثين وغير المحدثين؛ فجزاه الله عن كتابه
ونبيه أحسن الجزاء.
أما مسألة
(إعجاز القرآن)، فقد بقيت خارج هذا الكتاب، وهي عندي أعقد مشكلة يمكن أن يعانيها
(العقل) الحديث، كما يسمونه، حتى بعد أن يتمكن من إرساء كل دعامة يقوم عليها
إيمانه بصدق نبوة رسول الله ﷺ، وبصدق الوحي وبصدق التنزيل. وأيضا فهي المسألة التي
ترتبط ارتباطاً وثيقا بقضية الشعر الجاهلي، وبالكيد الخفي الذي اشتملت عليه هذه
القضية، بل إنها لترتبط ارتباطاً لا فكاك له بثقافتنا كلها، وبما ابتلي به العرب
في جميع دور العلم، من فرض منهاج خال من كل فضيلة في تدريس اللغة العربية وآدابها.
بل إنها لتشمل ما هو أرحب من ذلك، تشمل بناء الإنسان العربي أو المسلم، من حيث هو
قادر على تذوق الجمال في الصورة والفكر جميعاً.
ومعرفة
معنى (إعجاز القرآن)، وما هو وكيف كان، أمر لا غنى عنه لمسلم ولا لدارس، وشأنه
أعظم من أن يتكلم فيه امرؤ بغير تثبت من معناه، وتمكن من تاريخه، وتتبع للآيات
الدالة على حقيقته. وأنا لا أزعم أني مستقصيه في هذا الموضع، ولكني مستعين بالله،
فذاكر طرفاً مما يعين المرء على معرفته.
وذلك أن رسول الله ﷺ، بأبي هو وأمي، حين فجأه الوحي في غار حراء،
وقال له: "اقرأ"، فقال: "ما أنا بقارئ"، ثم لم يزل حتى قرأ "اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ" {العلق 96 / من الآية 1 – 5}.
رجع بها
وهو يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: "زملوني، زملوني"، فزملوه حتى
ذهب عنه الروع. وذلك أنه قد أتاه أمر لا قِبَل له به، وسمع مقالاً لا عهد له بمثله،
وكان رجلاً من العرب، يعرف من كلامها ما تعرف، وينكر منه ما تنكر؛ كان هذا الروع
الذي أخذه، بأبي هو أمي، أول إحساس في تاريخ البشر، بمباينة هذا الذي سمع، للذي
كان يسمع من كلام قومه، وللذي يعرف من كلام نفسه. ثم حمي الوحي وتتابع، وأمره ربه
أن يقرأ ما أنزل عليه على الناس على مُكثٍ. فتتبع الأفراد من عشيرته وقومه، يقرأ
عليهم هذا الذي نزل إليه. ولم يكن من برهانه ولا مما أُمِر به أن يلزمهم الحجة
بالجدال حتى يؤمنوا أنما هو إله واحد، وأنه هو نبي الله، بل طالبهم بأن يؤمنوا بما
دعاهم إليه، ويقروا له بصدق نبوته، بدليل واحد هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه.
ولا معنى لمثل هذه المطالبة بالإقرار لمجرد التلاوة، إلا أن هذا المقروء عليهم،
كان هو في نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه هو، ولا من كلام بشر
مثله. ثم أيضاً لا معنى لها البتة إلا أن يكون وكان في طاقة هؤلاء السامعين أن
يميزوا تمييزاً واضحاً بين الكلام الذي من نحو كلام البشر، والكلام الذي ليس من
نحو كلامهم.
وكان هذا
القرآن يُنَزَّل عليه منجماً، وكان الذي نزل عليه يومئذ قليلاً كما تعلم، فكان هذا
القليل من التنزيل هو برهانه الفرد على نبوته. وإذن، فقليل ما أوحي إليه من الآيات
يومئذ، وهو على قلته وقلة ما فيه من المعاني التي تتامَّت وتجمعت في القرآن جملة
كما نقرؤه اليوم، منطو على دليل مستبين قاهر، يحكم له بأنه ليس من كلام البشر.
وبذلك يكون دليلاً على أن تاليه عليهم، وهو بشر مثلهم، نبي من عند الله مرسل.
فإذا صح
هذا، وهو صحيح لا ريب فيه، ثبت ما قلناه أولاً من أن الآيات القليلة من القرآن، ثم
الآيات الكثيرة، ثم القرآن كله، أياً ذلك كان، في تلاوته على سامعه من العرب، هو
الدليل الذي يطالبه بأن يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر. وذلك من وجه
واحد، وهو وجه البيان والنظم.
وإذا صح أن
قليل القرآن وكثيره سواء من هذا الوجه، ثبت أن ما في القرآن جملة – من حقائق
الأخبار عن الأمم السالفة، ومن أنباء الغيب ومن دقائق التشريع، ومن عجائب الدلالات
على ما لم يعرفه البشر من أسرار الكون إلا بعد القرون المتطاولة من تنزيله – كل ذلك
بمعزل عن الذي طولب به العرب، وهو أن يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم
البشر وبيانهم، من وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين. وههنا معنى زائد، فإنهم
إذا أقروا أنه كلام رب العالمين بهذا الدليل، كانوا مطالبين بأن يؤمنوا بأن ما جاء
فيه من أخبار الأمم وأنباء الغيب ودقائق التشريع، وعجائب الدلالات على أسرار الكون،
هو كله حق لا ريب فيه، وإن ناقض ما يعرفون، وإن باين ما اتفقوا على أنه عندهم أو
عند غيرهم حق لا يشكون فيه. وإذن فإقرارهم من وجه النظم والبيان أن هذا القرآن
كلام رب العالمين، دليل يطالبهم بالإقرار بصحة ما جاء فيه من كل ذلك، أما صحة ما
جاء فيه، فليست هي الدليل الذي يطالبهم بالإقرار بأن نظم القرآن وبيانه، مباين
لنظم البشر وبيانهم، وأنه بهذا من كلام رب العالمين. وهذا أمر في غاية الوضوح.
فمن هذا
الوجه كما ترى طولب العرب بالإقرار والتسليم، ومن هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع
من كلام عليهم رجل منهم، تجده من جنس كلامهم لأنه نزل بلسانهم، لسان عربي مبين؛ ثم
تجده مبايناً لكلامها، فما تدري ما تقول فيه من طغيان اللدد والخصومة. وإنه لخبر
مشهور، خبر تحير النفر من قريش فيه وعلى رأسهم (الوليد بن المغيرة). لقد ائتمرت
قريش يومئذ حين حضر الموسم، لكي يقولوا في هذا الذي يتلى عليهم وعلى الناس قولاً واحداً
لا يختلفون فيه، وأداروا الرأي بينهم في تاليه على أهل المواسم، وتشاوروا أن
يقولوا: كاهن، أو مجنون، أو شاعر أو ساحر. فلما آلت المشورة إلى ذي رأيهم وسنهم
وهو (الوليد بن المغيرة)، رد كل ذلك بالحجة عليهم، ثم قال: "والله إن لقوله
لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة؛ وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه
باطل، وأن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين
المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته".
فهذا
التحير المظلم الذي غشَّاهم وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فاستجاد النعت،
كان تحيراً لما يسمعون من نظمه وبيانه، لا لما يدركون من دقائق التشريع، وخفي
الدلالات، وما لا يؤمنون به من الغيب، وما لا يعرفون من أنباء القرون التي خلت من
قبل.
وحمي الوحي
وتتابع عاماً بعد عام، وأقبل ﷺ يلح جهرة فيقرأ القرآن عليهم وعلى من طاف بهم من
العرب في بطن مكة، وفي مواسم الحج والأسواق؛ وهبت قريش تناوئه وتنازعه، وتلج في
اللدد والخصومة، وفي الإنكار والتكذيب، وفي العداوة والأذى، فلما طال تكذيبهم
وإنكارهم، على ما يجدون في أنفسهم من مثل الذي وجد الوليد، ومن مثل الذي آمن عليه
مَن آمن مِن قومه العرب، صب الله عليهم من الوحي ما هالهم وأفزعهم؛ كانوا يتحيرون
في هذا الذي يتلى عليهم، وظل رسول الله ﷺ بمكة ثلاثة عشر عاماً والمسلمون قليل
مستضعفون في أرض مكة، وظل الوحي يتتابع وهو يتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم
بعشر سور مثله مفتريات. فلما انقطعت قواهم، قطع الله عليهم وعلى الثقلين جميعاً
منافذ اللدد والعناد، فقال: "قُل لئنِ اجتمعت الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا
بمثلِ هذا القرآن لا يأتون بمثِله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظَهيراً" {الإسراء 17
/ 88}. وكذلك كان!
فكان هذا
البلاغ القاطع الذي لا مُعقّب له، هو الغاية التي انتهى إليها أمر هذا القرآن، وأمر
النزاع فيه، لا بين رسول الله وبين قومه من العرب فحسب، بل بينه وبين البشر
جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا ... بل بينه وبين الإنس والجن مجتمعين
متظاهرين. وهذا البلاغ الحق الذي لا معقب له من بين يديه ولا من خلفه، هو الذي
اصطلحنا عليه فيما بعد، وسميناه (إعجاز القرآن).
وهذا الذي
اقتصصه لك، تاريخ مختصر أشد الاختصار، ولكنه مجزئ في الدلالة على تحديد معنى
(إعجاز القرآن) بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ على إطلاقه، ومجزئ في الدلالة على
هذا (الإعجاز). من أي وجوه الإعجاز كان إعجازاً، وأنه ليكشف عن أمور لا غنى لدارس
معرفتها:
الأول: أن
قليل القرآن وكثيره في شأن (الإعجاز) سواء.
الثاني: أن
الإعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم
وبيان في لغة العرب، ثم في سائر لغات البشر، ثم بيان الثقلين جميعاً، إنسهم وجنهم
متظاهرين.
الثالث: أن
الذين تحداهم بهذا القرآن قد أوتوا القدرة على الفصل بين الذي هو من كلام البشر،
والذي هو ليس من كلامهم.
الرابع: أن
الذين تحداهم به كانوا يدركون أن ما طولبوا به من الإتيان بمثله، أو بعشر سور مثله
مفتريات، هو هذا الضرب من البيان الذي يجدون في أنفسهم أنه خارج من جنس بيان البشر.
الخامس: أن
هذا التحدي لم يقصد به الإتيان بمثله مطابقا لمعانيه، بل أن يأتوا بما يستطيعون
افتراءه واختلاقه، من كل معنى أو غرض، مما يعتلج في نفوس البشر.
السادس: أن
هذا التحدي للثقلين جميعاً إنسهم وجنهم متظاهرين تحدٍ مستمر قائم إلى يوم الدين.
السابع: أن
ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل
ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان ما فيه من ذلك كله يعد دليلاً
على أنه من عند الله تعالى، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام
البشر وبيانهم، وأنه بهذا المباينة كلام رب العالمين، لا كلام بشر مثلهم.
فهذا أمور
تستخرجها دراسة تاريخ نزول القرآن، ومدارسة آياته في جدال المشركين من العرب في
صحة الآيات التي جاءتهم من السماء، كما جاءت سائر آيات الأنبياء ومعجزاتهم، وحسبك
في بيان ذلك ما قال رسول الله ﷺ: "ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن
عليه البشر، إنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إليّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم
تابعاً يوم القيامة"، فالقرآن هو آية الله في الأرض، آيته المعجزة من الوجه
الذي كان به معجزاً للعرب، ثم للبشر، ثم للثقلين جميعاً.
وكل لبس
يقع في ضبط هذه الأمور المتعلقة بمعنى (إعجاز القرآن)، وكل اختلال في تمييزها
وتحديد ما تقتضيه في العقل والنظر، سبيل إلى انتشار أغمض اللبس، وأبلغ الخلل في
فهم معنى (إعجاز القرآن)، من الوجه الذي صار به القرآن معجزاً للعرب، ثم لسائر
البشر على اختلاف ألسنتهم، ثم للثقلين جميعاً متظاهرين.
* * *
هذا بعض ما أدى إليه النظر المجرد في استخراج المعنى الذي هو مناط التحدي
ومفصل الإعجاز؛ وأرجو أن أكون قد بلغت في كشفه مقنعاً ورضى. ولكنه بقي ما لا بد
منه: أن نستنبط بهذا الأسلوب من النظر المجرد، صفة القوم الذين تحداهم، وصفة
لغتهم.
فإذا صح أن (الإعجاز) كائن في رصف القرآن ونظمه وبيانه بلسان عربي مبين،
وأن خصائصه مباينة للمعهود من خصائص كل نظم وبيان تطيقه قوى البشر في بيانهم، لم
يكن لتحديهم به معنى إلا أن تجتمع لهم وللغتهم صفات بعينها:
أولها: أن اللغة التي نزل بها القرآن معجزاً، قادرة بطبيعتها هي، أن تحتمل
هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين: كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه
القوة، وكلام يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه.
ثانيها: أن أهلها قادرون على إدراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين. وهذا
إدراك دالٍ على أنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان ومن العلم بأسراره ووجوهه، قدراً
وافراً يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن، وأن يطالبهم بالشهادة عند سماعه، أن تاليه
عليهم نبي من عند الله مرسل.
ثالثهما: أن البيان كان في أنفسهم أجلّ من أن يخونوا الأمانة فيه، أو
يجوروا عن الإنصاف في الحكم عليه. فقد قرّعهم وعيّرهم وسفّه أحلامهم وأديانهم، حتى
استخرج أقصى الضرورة في عداوتهم له. وظل مع ذلك يتحداهم، فنهتهم أمانتهم على
البيان عن معارضته ومناقضته وكان أبلغ ما قالوه: "قَدْ
سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا" {الأنفال 8 / 31}، ولكنهم
كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئاً؛ هذه واحدة. وأخرى: أنه لم ينصب لهم حكماً، بل خلّى
بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له، ثقة بإنصافهم في الحكم على البيان،
فهذا التخلية مرتبة من الإنصاف لا تدانيها مرتبة.
رابعها: أن الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأوتوا هذا القدر من تذوق
البيان، ومن العلم بأسراره، ومن الأمانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب
العقل أن يكونوا قد بلغوا في الإعراب عن أنفسهم بألسنتهم المبينة عنهم، مبلغاً لا
يُدانى.
وهذه الصفات تفضي بنا إلى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن كان
بقي من كلامهم شيء، فالنظر المجرد أيضاً، يوجب أمرين في نعت ما خلفوه:
الأول: أن يكون ما بقي من كلامهم، شاهدا على بلوغ لغتهم غاية من التمام
والكمال والاستواء، حتى لا تعجزهم الإبانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.
الثاني: أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة
لغتهم وتمامها، بل على سجاحتها أيضاً، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف
ألسنتهم.
فهل بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهداً على هذا ودليلاً. نعم، بقي
(الشعر الجاهلي)!
وإذن!
ينبغي أن نعيد تصور المشكلة وتصويرها. فإن النظر المجرد والمنطق المتساوق والتمحيص
المتتابع، كل ذلك قد أفضى بنا إلى تجريد معنى (إعجاز القرآن) مما شابه وعلق به،
حتى خلص لنا أنه من قبل النظم والبيان، ثم ساقنا الاستدلال إلى تحديد صفة القوم
الذين تحداهم وصفة لغتهم، ثم خرج بنا إلى طلب نعت كلامهم، ثم التمسنا الشاهد
والدليل على الذي أدانا إليه النظر، فإذا هو (الشعر الجاهلي).
وإذن،
فالشعر الجاهلي هو أساس مشكلة (إعجاز القرآن) كما ينبغي أن يواجهها العقل الحديث؛
وليس أساس هذه المشكلة هو تفسير القرآن على المنهج القديم كما ظن أخي مالك، وكما
يذهب إليه أكثر من بحث أمر إعجاز القرآن على وجه من الوجوه.
ولكن الشعر
الجاهلي قد صُبَّ عليه بلاء كثير، آخرها وأبلغها فساداً وإفساداً ذلك المنهج الذي
ابتدعه (مرجليوث) لينسف الثقة به، فيزعم أنه شعر مشكوك في روايته، وأنه موضوع بعد
الإسلام؛ وهذا المكر الخفي الذي مكره (مرجليوث) وشيعته وكهنته والذين ارتكبوا له
من السفسطة والغش والكذب ما ارتكبوا، كما شهد بذلك رجل من جنسه هو (آربري)، كان
يطوي تحت أدلته ومناهجه وحججه، إدراكاً لمنزلة الشعر الجاهلي في شأن إعجاز القرآن،
لا إدراكاً صحيحاً مستبيناً، بل إدراكاً خفياً مبهماً، تخالطه ضغينة مستكينة للعرب
وللإسلام.
وهذا
المستشرق وشيعته وكهنته، كانوا أهون شأناً من أن يحوزوا كبيراً بمنهجهم الذي
سلكوه، وأدلتهم التي احتطبوها لما في تشكيكهم من الزيف والخداع؛ ولكنهم بلغوا ما
بلغوا من استفاضة مكرهم وتغلغله في جامعاتنا، وفي العقل الحديث في العالم
الإسلامي، بوسائل أعانت على نفاذهم، ليست من العلم ولا من النظر الصحيح في شيء؛
وقد استطاع رجال من أهل العلم، أن يسلكوا إلى إثبات صحة الشعر الجاهلي مناهج لا شك
في صدقها وسلامتها، بلا غش في الاستدلال وبلا خداع في التطبيق؛ وبلا مراء في الذي
يسلم به صريح العقل وصريح النقل، إلا أنهم لم يملكوا بعد الوسائل ما يتيح لهم أن
يبلغوا بحقهم ما بلغ أولئك بباطلهم.
وقد ابتليت
أنا بمحنة (الشعر الجاهلي)، عندما ذرَّ قرن الفتنة أيام كنت طالباً في الجامعة؛
ودارت بي الأيام حتى انتهيت إلى ضرب آخر من الاستدلال على صحة (الشعر الجاهلي)؛ لا
طريق روايته وحسب، بل عن طريق أخرى هي ألصق بأمر (إعجاز القرآن). فإني محصت ما محصت
من الشعر الجاهلي، حتى وجدته يحمل هو نفسه في نفسه أدلة صحته وثبوته. إذ تبينت فيه
قدرة خارقة على (البيان)، وتكشف لي عن روائع كثيرة لا تُحَد، وإذا هو علم فريد
منصوب لا في أدب العربية وحدها، بل في آداب الأمم قبل الإسلام وبعد الإسلام. وهذا
الانفراد المطلق، ولا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب أنفسهم،
هو وحده دليل كاف على صحته وثبوته.
ولقد شغلني
(إعجاز القرآن) كما شغل العقل الحديث، ولكن شغلني أيضا هذا (الشعر الجاهلي)،
وشغلني أصحابه فأدى بي طول الاختبار والامتحان والمدارسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت
إليه، حتى صار عندي دليلاً كافياً على صحته وثبوته. فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا
وتبددت في الثرى أعيانهم، رأيتهم في هذا الشعر أحياءً يعدون ويروحون، رأيت شابهم
ينزو به جهله، وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق، وغاضبهم
تربدّ سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه
أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادي على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم
ومحضرهم، فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت
أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون؛ كل ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى
سمعت في لفظ الشعر همس الهامس وبُحة المستكين، وزفرة الواجد وصرخة الفزع، وحتى
مثلوا بشعرهم نصب عيني، كأني لم أفقدهم طرفة عين، ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم، ولم
تغب عني مذاهبهم في الأرض، ولا مما أحسوا ووجدوا، ولا مما سمعوا وأدركوا، ولا مما
قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حياً في هذه الأرض التي بقيت في
التاريخ معروفة باسم (جزيرة العرب).
وهذا الذي
أفضيت إليه من صفة الشعر الجاهلي كما عرفته، أمر ممكن لمن اتخذ لهذه المعرفة
أسبابها، بلا خلط ولا لبس ولا تهاون ولا ملل. وهذه المعرفة هي أول الطريق إلى
دراسة شعر أهل الجاهلية، من الوجه الذي يتيح لنا أن نستخلص منه دلالته على أنه شعر
قد انفرد بخصائصه عن كل شعر جاء بعده من شعر أهل الإسلام. فإذا صح ذلك – وهو عندي
صحيح لا أشك فيه – وجب أن ندرس هذا الشعر دراسة متعمقة، ملتمسين فيه هذه القدرة
البيانية التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم، ومستنبطين من ضروب البيان
المختلفة التي أطاقتها قوى لغتهم وألسنتهم. فإذا تم لنا ذلك، فمن الممكن القريب
يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم بيانه، خصائص هذا البيان المفارق لبيان
البشر.
وههنا أمر
له خطر عظيم، فلا تظنن أن الشأن في دراسة (الشعر الجاهلي)، هو شأن المعاني التي
تناولها، والأغراض التي قيل فيها، والصور التي انطوى عليها، واللغة التي استخدمها
من حيث الفصاحة والعذوبة وما يجري مجراهما، بل الشأن في ذلك أبعد وأعمق وأعوص، إنه
تمييز القدرة على البيان، وتجريد ضروب هذا (البيان) على اختلافها، واستخلاص
الخصائص التي أتاحت للغتهم أن تكون معدنا للسمو، بالإبانة عن جوهر إحساسهم، سمواً يجعل
للكلام حياة كنفخ الروح في الجسد القائم، وكقوة الإبصار في العين الجامدة، وكسجية
النطق في البضعة المتجلجلة المسماة اللسان.
فإذا اتخذنا
لهذا الدراسة أهبتها، وأعددنا لها من الصبر والجد والحذر ما ينبغي لها، واللسان
لساننا، والقوم أسلافنا، والسلائق مغروزة في أعماق طباعنا، ثم أصّلنا للدراسة
مناهج تعين عليها، واستحدثنا لها أسلوباً يلائمها، فعندئذ يدنو الذي نراه بعيداً،
ويتجلى لنا ما كان غامضاً، ويكشف لنا (الشعر الجاهلي) عن أروع روائعه، ويبذل لنا
ما استكن فيه واستتر من أصول (البيان) الإنساني، بغير تخصيص للغة العرب، فنراها
ماثلة على أدق وجوهه وأغمضها، وفي أتم صوره وأكملها.
وهذا الذي
أفضتُ فيه من ذكر الشعر الجاهلي، وما وجدته فيه في نفسي باب عظيم، أسأل الله أن
يعينني بحوله وقوته، حتى أكشف عنه وأجليه، وحتى أؤيده بكل برهان قاطع على تميزه عن
شعر العرب بعده، وبذلك يكون نفسه دليلاً حاسماً على صحة روايته، وعلى أن الرواة لم
ينحلوه الشعراء افتراء عليهم.
وغير خافٍ
أن الذي وصلنا إلى هذا اليوم من شعر الجاهلية، قليل مما روته الرواة منه، والرواة
القدماء أنفسهم لم يصلهم من شعرهم إلا الذي قال أبو عمرو بن العلاء، في أوائل القرن
الثاني من الهجرة: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم
وافراً لجاءكم علم وشعر كثير". ومع ذلك فهذا القليل مجزئ إن شاء الله في الدلالة
على ما نريد من الإبانة عن تميز شعرهم عن شعر من جاء بعدهم، وفيه جمّ واف من خصائص
البيان التي امتاز بها أهل الجاهلية.
ولكن كيف
بقي هذا الشعر إلى يومنا هذا؟ ... بقي مادة للغة العرب، وشاهداً على حرف من
العربية، وعلى باب من النحو، وعلى نكتة في البلاغة. وبقي ذخراً للرواة، وركازاً
يستمد منه شعراء الإسلام، ومنبعاً لتاريخ العرب في الجاهلية، بل بقي كنزاً لعلوم
العرب جميعاً، لكل علم منه نصيب على قدره. ولكن غاب عنا أعظم ما بقي له هذا الشعر:
أن يكون مادة لدراسة البيان المفطور في طبائع البشر، مقارناً بهذا البيان، الذي فاق
طاقة بلغاء الجاهلية، وكانت له خصائص ظاهرة، تجعل كل مقتدر بليغ مبين، وكل متذوق
للبلاغة والبيان، لا يملك إلا الإقرار له، بأنه من غير جنس ما يعهده سمعه وذوقه،
وأن مبلغه إلى الناس نبي مرسل، وأنه لا يطيق أن يختلقه أو يفتريه لأنه بشر لا يدخل
في طوقه إلا ما يدخل مثله في طوق البشر، وأنه إن تقوَّل غير ما أمر بتبليغه
وتلاوته، بان للبشر كذبه، وحقَّ عليه قول منزله من السماء سبحانه: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ
عَنْهُ حَاجِزِينَ" {سورة الحاقة 69 / 44 – 47}
ولسائل أن يسأل: فحدثني إذن، لم بقي شعر الجاهلية بهذا المنزلة لم يتجاوزها؟
وكيف غاب هذا الذي زعمت عن أئمة العلم من قبلك؟ وكيف أخطأه علماء البلاغة، وهم
الذين قصدوا بعلمهم قصد الإبانة عن إعجاز القرآن، وهم أقرب بالتنزيل عهداً منا
ومنك؟ وما الذي صدَّ العقول البليغة عن سلوك هذا المنهج، وما نهضت إلا للمراماة
دون إعجاز القرآن، في القديم والحديث؟
وحق عليَّ أن أجيب، ولكن يقتضيني جواب هذه المسألة أن أقتص قصة أخرى، لا
أستوعب القول في حكايتها تفصيلاً، بل أوجز المقال فيها إيجازاً مدفوعاً عنه الخلل
ما أطقتُ، وعلى سامعها أن يدفع عن نفسه الغفلة ما أطاق.
فأهل الجاهلية هم من وصفتُ لك منزلتهم من البيان، وقدرتهم على تصريفه
بألسنتهم، وتمكنهم من تذوقه بأدق حاسة في قلوبهم ونفوسهم، وعلمهم بأسراره،
وتغلغلهم في إدراك الحجاز الفاصل بين ما هو من نحو بيان البشر، وما ليس من بيانهم؛
أهل الجاهلية هؤلاء، هم الذين جاءهم كتاب من السماء بلسانهم؛ هو في آيات الله
بمنزلة عصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص في آيات أنبيائه، لتكون تلاوته على
أسماعهم برهاناً قاهراً يلزمهم بالإقرار له بصحة تنزيله من السماء على قلب رجل
منهم، وأن هذا الرجل نبي مرسل، عليهم أن يتبعوه وأن يستجيبوا لما دعاهم إليه، فلما
كذبوه وأنكروا نبوته، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الذي يسمعون في نظمه وبيانه، وألح
عليهم يتحداهم في آيات منه كثيرة، ولكنهم وجدوا في أنفسهم مفارقته لبيان البشر،
وجداناً ألجأهم إلى ترك المعارضة إنصافاً للبيان أن يُجار على حقه، وتنزيهاً له أن
يزري به جورهم عن هذا الحق.
وعلى الذي تلقوه به من اللدد في الخصومة والعناد لم يلبث أن استجاب له النفر
بعد النفر إقراراً وتسليماً بأن الكتاب كلام الله، وأن الرجل نبي الله، ثم تتابع
إيمان المؤمنين منهم، حتى لم تبق دار من دور أهل الجاهلية إلا دخلها الإسلام أو
عمّها، وألقوا إليه المقادة على أنه لا يتم إيمان أحدهم حتى يكون هذا الرجل، بأبي
هو وأمي؛ أحب إليه من أهله وولده. وهذه أعمالهم تصدق ذلك كله.
فأقبل كل بليغ منهم مبين، وكل متذوق للبيان ناقد متحفظ ما نزل من القرآن
ويتلوه ويتعبد به، ويتتبع تنزيله تتبع الحريص المتلهف، ويصيخ له وينصت حين يتلى في
الصلوات وعلى المنابر يوماً بعد يوم؛ وشهراً بعد شهر؛ وعاماً بعد عام، وكلهم مخبت
خاشع لذكر الله وما نزل من الحق، يصدق إخباتهم وخشوعهم ما قال الله سبحانه: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي
بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" {الزمر 39 / 23}
ثم صار للقرآن في جزيرة العرب دوي كدوي النحل، وخشعت أسماع للجاهلية كانت
بالأمس، للذي يتلى عليهم من كلام الله الذي خلقهم، وجعل لهم السمع والأبصار
والأفئدة، وأخبتت ألسنة للجاهلية كانت بالأمس، إقراراً لهذا القرآن بالعبودية، كما
أقروا هم للذي اصطفى لغتهم لكلامه سبحانه بالعبودية، وماجت بهم جزيرة العرب مهللين
مكبرين مسبحين، كلما علوا شرفاً أو هبطوا وادياً، وأقاموا تالين للقرآن بالغدو
والآصال، وبالليل والأسحار وانطلقوا يتتبعون سنن نبيهم ويتلقفونها، وخلعوا عن
قلوبهم ونفوسهم وعقولهم وألسنتهم ظلمة الجاهلية، ودخلوا بألسنتهم وعقولهم ونفوسهم
وقلوبهم في نور الإسلام.
ثم طار بهم هذا القرآن في كل وجه، يدعون الناس أسودهم وأحمرهم إلى شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويحملون إليهم هذا الكتاب المعجز بيانُه
لبيان البشر، والذي نزل بلسانهم حجة على الخلق، وهدى يخرجهم من الظلمات إلى النور.
فكان من أمرهم يومئذ ما وصفه ابن سلام في كتاب (طبقات فحول الشعراء) حين ذكر مقالة
عمر بن الخطاب في أهل الجاهلية: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح
منه". فقال ابن سلام تعليقاً على ذلك: "فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب،
وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام
وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في أمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان
مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا
أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير".
ولا يغررك ما قال (ابن سلام)، فتحسب أن أهل الجاهلية الذين هداهم الله
للإسلام، طرحوا شعر جاهليتهم دبر آذانهم، فانصرفوا عنه صماً وبكماً، وخلعوه عن
عقولهم وألسنتهم كما خلعوا جاهليتهم، فهذا باطل تكذبه أخبارهم، وينقضه منطق طبائع
البشر، وتاريخ حياتهم، بل كان أكبر ما لحقه من الضيم: أن نازعه القرآن فصرف همهم
إليه، فكان نصيبه من إنشادهم وتقصيدهم القصائد أقل مما كان في جاهليتهم، ولكنه بقي
من ذلك هو الذي يؤوبون إليه إذا شق عليهم طول مدارسة القرآن، وهو الذي يستريحون
إليه إذا فرغوا مما فرض عليهم ربهم، وسن لهم نبيهم ﷺ. وظل ذلك دأبهم في
أول إسلامهم، ونشأ أبناؤهم يسمعون منهم شعر جاهليتهم ويستمعون إلى مكنوز بيانهم في
ألسنتهم، فيخرجون أيضا مركوزاً ذلك البيان في طباعهم، وينتقل ذلك بما يشبه العدوى
إلى مُسْلَمةِ الأعاجم وأبنائهم.
وحيث نزل
أهل الجاهلية الذين أسلموا نزل معهم الذكر الحكيم، ونزل شعر الجاهلية وتدارسوه
وتناشدوه، وقوموا به لسان الذي أسلموا من غير العرب. وأصبح زاد المتفقه في معرفة
معاني كتاب ربه، هو مدارسة الشعر الجاهلي، لأنه لا يستقل أحد بفهم القرآن حتى
يستقل بفهمه وحسبك أن تعرف مصداق ذلك قول الشافعي فيما بعد، في القرن الثاني من
الهجرة: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله،
بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد منه.
ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله ﷺ، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل
ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة
والقرآن". فليس يكفي أن يكون عارفاً بالشعر، بل بصيرا به أشد البصر، كما قال
الشافعي رحمه الله، والذي قاله الشافعي بعد قرن، هو الذي جرى العمل عليه في أول
الإسلام.
واستفاضت بالمسلمين
الفتوح، واستفاض معهم شعر جاهليتهم، وأسلمت الأمم ودخلت في العربية كما دخلت في
الإسلام، ونزل بيان القرآن كالغيث على فطرة جديدة، فطرة أهل الألسنة غير العربية،
بعد أن رويت من بيان الجاهلية في الشعر الجاهلي. وامتزجت العرب من الصحابة
والتابعين وأبنائهم، بأهل هذه الألسنة التي دخلت في العربية، فنشأ من امتزاج ذلك
كله بيان جديد، ظل ينتقل ويتغير ويتبدل جيلاً بعد جيل، ولكن بقي أهله بعد ذلك كله،
محتفظين بقدرة عتيدة حاضرة، هي تذوق البيان تذوقاً عليماً، يعينهم على تمييز بيان
البشر كما تعهده سلائقهم وفطرهم، وبيان القرآن الذي يفارق خصائص بيانهم من كل وجه.
ثم فارت
الأرض بالإسلام من حد الصين شرقاً إلى حد الأندلس غرباً، ومن حد بلاد الروم شمالاً
إلى حد الهند جنوباً، وسمع دوي القرآن العربي في أرجاء الأرض المعمورة. وقامت
المساجد في كل قرية ومدينة وازدحمت في ساحاتها صفوف عباد الرحمن، وعلا منابرها
الدعاة إلى الحق، وتحلقت الحلق في كل مسجد، وتداعى إليها طلاب العلم، فطائفة تتلقى
القرآن من قرائه، وطائفة تدرس تفسير آياته، وطائفة تروي حديث رسول الله عن حفاظه،
وطائفة تأخذ العربية عن شيوخها، وطائفة تتلقف شعر الجاهلية والإسلام عن رواته،
طوائف بعد طوائف في أنحاء المساجد المتدانية، طوائف من كل لون وجنس ولسان، كلهم
طالب علم، وكلهم يتنقل من مجلس شيخ إلى مجلس شيخ آخر، فكل ذلك علم لا يستغني عنه
مسلم تال للقرآن. لا بل حتى أسواقهم قام فيها الشعراء ينشدون شعرهم، أو يتنافرون
به ويتهاجون، والرواة تحفظ، والناس يقبلون ينصتون، وينقلبون يتجادلون، وعجّت نواحي
الأرض بالقرآن وباللسان العربي، لا فرق بين ديار العجم كانت وديار العرب
وبعد دهر
نبتت نابتة الشيطان في أهل كل دين، وجاؤوا بالمراء والجدل، وباللدد والخصام،
وشققوا الكلام بالرأي والهوى، فنشأت بوادر من النظر في كل علم، وعندئذ نجم الخلاف،
وانتهى الخلاف إلى الجرأة، وأفضت الجرأة يوما إلى رجل في أواخر دولة بني أمية يقال
له (الجعد بن درهم)، وكان شيطاناً خبيث المذهب، تلقى مذهبه عن رجل من أبناء
اليهود، يقال له: (طالوت)، فكذب القرآن في اتخاذ إبراهيم خليلاً، وفي تكليم موسى،
إلى هذا وشبهه، وكان من قوله: إن فصاحة القرآن غير معجزة، وإن الناس قادرون على
مثلها وأحسن منها !! ... فضحى به خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى، في نحو
سنة 124 من الهجرة.
وكلام
(الجعد) كما ترى، استطالة رجل جريء اللسان خبيث المنبت، بلا حجة من تاريخ أو عقل.
ولم تكد
دولة بني العباس ترسي قواعدها حتى دخلت بعض العقول إلى فحص (إعجاز القرآن)، من باب
غير باب السفه والاستطالة، فقام بالأمر كهف المعتزلة ولسانها: (أبو إسحق إبراهيم
بن سيار النظام). فأتاه من قبل الرأي والنظر، حتى زعم أن الله قد صرف العرب عن
معارضة القرآن، مع قدرتهم عليها، فكانت هذه الصرفةُ هي المعجزة؛ أما معجزة القرآن
فهي في إخباره بكل غيب مضى وكل غيب سيأتي. وهذه مقالة لا أصل لها إلا الحيرة
والابتهار من هذا الذي أعجز أهل الجاهلية وأسكتهم. وهب قوم يعارضونه ويجادلونه،
منهم صاحبه أبو عثمان الجاحظ، فألف كتابه في (نظم القرآن)، وأنه غاية في البلاغة،
وقال الجاحظ وغيره ومن يليهم، ولكن ظل الأمر محصورا في إثبات (الصرفة) وإبطالها،
وفي طرف من الاستدلال على بلاغة القرآن وسلامته مما يشين لفظه، وخلوه من التناقض،
واشتماله على المعاني الدقيقة، وما فيه من نبأ الغيب، إلى آخر ما تجده مبسوطاً في
كتب القوم، والذي عرفت قولنا فيه فيما مضى من كلامنا.
ثم كثرت
اللجاجة بين هذه الفئات ممن عرفوا باسم المتكلمين، وكان أمرهم أمر جدال وبسطة لسان
وغلبة حجة ومناهضة دليل بدليل، حتى انبرى لهؤلاء المتكلمين (أبو بكر الباقلاني)
المتوفي سنة 403 هـ، والناس يومئذ بين رجلين، كما قال هو نفسه: "ذاهب عن الحق،
ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته مكدود في صنعته؛ فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين
في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين، وذكر لي بعض جهالهم أنه جعل يعدله
ببعض الأشعار، ويوازن بينه بين غيره من الكلام، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه،
وليس هذا ببدع من ملحدة هذا العصر، وقد سبقهم إلى عُظُمِ ما يقولون إخوانهم من
ملحدة قريش وغيرهم" (كتابه إعجاز القرآن ص 5، 6) فهذا هو الذي حفزه وأهاجه،
حتى كتب كتابه المعروف (إعجاز القرآن).
وكتب
الباقلاني كتابه وأهل اللسان العربي يومئذ هم الناس، ولم يزل تذوقهم للبيان ما
وصفتُ لك، تذوق ملتبس بالطباع مردود إلى السلائق، مشحوذ بمدارسة الشعر وسمعاه
وروايته؛ ولكن لم يضر جمهور هذا الطباع شيئاً أن استفاض الجدل وظهر سلطانه، وأن
صارت كل فرقة تمضغ كلاماً، تناضل به عن رأيها، وتقطع به حجة خصمها، طلبا للغلبة لا
تمحيصا للرأي، وفحصا عن الحق.
ورضي الله
عن أبي بكر الباقلاني، فقد جمع في كتابه خيراً كثيراً، واستفتح بسليم فطرته أبواباً
كانت مغلقة، وكشف عن وجوه البلاغة حجاباً مستوراً. ولكنه زل زلة كان لها بعد ذلك
آثار متلاحقة، وإن لم يقصد بها هو قصد العاقبة التي انتهت إليها.
كان
الباقلاني حقيقاً أن ينهج النهج الذي أدناه إليه تمحيص مسألة (الإعجاز)، ويومئذ
يجعل الشعر الجاهلي أصلاً في دراسة بيان عرب الجاهلية، من ناحية تمثله لخصائص بيان
البشر، والباقلاني رضي الله عنه كان يجد في نفسه وجداناً واضحاً أن خصائص بيان
القرآن مفارقة لخصائص بيان البشر، وقد ألمح إلى ذلك في كتابه، كما ألمح إليه من
سبقه. بيد أن جدل المتكلمين قبله وعلى عهده، وخوض الملحدين في أصول الدين كما قال،
ومنهجهم في اللجاجة وطلب الغلبة، كل ذلك لم يدَعْه حتى استغرقه في الرد عليهم، على
مثل منهاجهم من النظر. ثم دارت به الدنيا، لما بلغه أن بعض جهالهم يعدل القرآن
ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام.
وأنت
تستطيع أن تقرأ كتابه فصلاً فصلاً لتجد مصداق ما أقول لك. حتى إذا انتهى إلى الذي
هاجه، من موازنة القرآن ببعض الأشعار، هب إلى تسفيه هذا الموازنة، فدعاك في أوسط
كتابه أن تعمد إلى ما لا تشك في جودته من امرئ القيس، وما لا ترتاب في براعته، ولا
تتوقف في فصاحته، كما قال في كتابه (ص 241)، فطرح بين يديك هذا القصيدة، وجعل
يفصلها وينقدها ويمحو من محاسنها ويثبت، ويقف بك على مواضع خللها، ويفضي بك إلى
مكامن ضعفها، ولم يزل يعريها حتى كشف الغطاء عن عوارها، ثم ختم ذلك بقوله:
"وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها، تتفاوت في أبياتها تفاوتاً بيناً في
الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والاستصعاب،
والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها،
ومعارضون في بدائعها"
فلما انتهى
من ذلك افتتح فصلاً شريفاً نبيلاً، ذكر فيه آيات من القرآن، وحاول أن يقف بك على
بدائع نظمها وبيانها، وهذا الفصل أدل الدليل على أن الباقلاني، لو كان استقام له
المنهج الذي ذكرناه، لبلغ فيه غاية يسبق فيها المتقدم، ويكد فيها جهد المتأخر؛
ولكنه لم يزد في هذا الفصل على أن جعل يقف بك على بيان شرف الآيات لفظاً ومعنى،
ولطيف حكايتها، وتلاؤم رصفها وتشاكل نظامها، وأن نظم القرآن لا يتفاوت في شيء، ولا
يتباين في أمر، ولا يختل في حال، بل له المثل الأعلى والفضل الأسنى (كتبه ص 302،
305)؛ وذكر تناسب الآيات في البلاغة والإبداع، وتماثلها في السلاسة والإعراب؛
وانفرادها بذلك الأسلوب، وتخصصها بذلك الترتيب. أما غيرها من الكلام، فهو يضطرب في
مجاريه ويختل تصرفه في معانيه، وهو كثير التلون دائم التغير والتنكر، ويقف بك على
بديع مستحسن، ويعقبه بقبيح مستهجن، ويأتيك باللفظة المستنكرة، بين الكلمات هي كاللآلئ
الزهر، (كتابه ص 313، 314). ثم انتهى إلى قوله في القرآن: "وعلى هذا فقس بحثك
عن شرف الكلام، وماله من علو الشأن، لا يُطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلى
انشرح، ولا يذهب مذهباً إلى استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلى بلغ فيه السماء،
ولا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائده إلا قصرت، ولا تظهر بحكمة فظننت أنها
زبدة حكمها إلا قد أخللت. إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس، لأضل من حمار
باهلة، وأحمق من هبنقة" (كتابه ص 321، 322).
وصدق الباقلاني
في كل ما قال، إلا أنه لم يزد على أن بيّن خلو القرآن من الاختلاف والتغير،
وبراءته من كل ما يلحق كلام الناس من عيب وخلل، وكل ما هو قرين لضعف طبائعهم، وإن
استحكمت قواهم، ودالّ على عماهم عن كثير من الحق، وإن استنارت بصائرهم. ولعمري إنه
الحق لا ينال منه الباطل، ولكنه غير الذي ينبغي أن نتطلبه من كشف أصول البيان التي
يفارق بها بيان القرآن بيان البشر من الوجه الذي فصلناه.
وليس هذا
موضع بحثنا الآن، ولكن بحثنا عن الشعر الجاهلي، وما كان من أمره. فهذا الموازنة
التي هاجت الباقلاني كما ذكر هو، حملته على هتك الستر عن معلقة امرئ القيس، ليكشف
للناس عيبها وخللها، لا ليستخرج منها خصائص بيانهم، وكيف كانت هذه الخصائص مفارقة
لخصائص بيان القرآن، فلما زلّ الباقلاني هذا الزلة وأخطأ الطريق، زلّ به من بعده
وأخطأه، وأخذوا الشعر الجاهلي كله هذا المأخذ، ولكن العجب بعد ذلك أن (الشعر
الجاهلي) ظل عند البلغاء وجمهور الناس هو مثقف الألسنة والحجة على اللغة، والشاهد
على النحو وما إلى ذلك. ولكنهم إذا جاؤوا لذكر القرآن وإعجازه، اتخذوه هدفاً للنقد
والتفلية وإظهار العيب وتبيين الخلل، بإزاء كلام برئ من كل عيب وخلل؛ فيبقى الأمر
أمر موازنة لا عدل فيها. وكان حسبهم من الدليل أن أهل الجاهلية بتركهم معارضة
القرآن بشعرهم أو كلامهم، هو إقرار لا معقب عليه بفضل هذا القرآن على شعرهم
وكلامهم، لم تكن بالباقلاني حاجة إلى سلوك هذا الطريق الذي سلكه، إلا ما حمله عليه
ما نعق به جاهل من جهال المتلحدة، من الموازنة بين الكلامين، وتفضيل شعرهم على
القرآن.
وكان قد
نازع ذلك بابٌ آخر من اللجاجة، في الموازنة بين شعر الجاهلية، وشعر المحدثين من
شعراء الإسلام، وظل الجدال في تفضيل أحدهما على الآخر باباً تقتحمه الألسنة طلباً
للمغالبة والظهور، وداخل ذلك من الإزراء على الشعر الجاهلي وعيبه ما داخل، فكان
هذا أيضاً صارفاً عن مدارسته على الوجه الذي طلبناه في صدر حديثنا. وفي خلال ذلك
كله، تجمعت على فهم الشعر الجاهلي أخطاء شديدة الخطر، غشَّت حقيقته بحجاب كثيف من
الغموض، زاده كثافة ما لحق الشعر الجاهلي من التشتيت والضياع، وما أصابه من اختلال
الرواية بالزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، حتى اختلطت فيه المعاني أحياناً اختلاطاً، سهّل لكل عائب أن يقول فيه ما عنَّ له. ومع كل ذلك أيضا بقي الشعر الجاهلي
مثقفاً للألسنة، ومعدناً لشواهد اللغة والنحو والبلاغة.
فليت شعري
أي بلاء ترى أصاب هذا الشعر!!
ثم تتابعت
العصور على ذلك وعلى ما هو أشنع منه، حتى أفضينا به في هذا العصر الحديث إلى أقبح
الشناعة، يوم فرض الاستعمار الغربي الغازي، على مدارسنا منهجاً من الدراسة لا يقوم
على أصل صحيح، كان يرمي في نهايته إلى إضعاف دراسة العربية إضعافاً شائناً، لا مثيل
له في كل لغات العالم التي يتلقاها الشباب في معاهد التعليم على اختلاف درجاتها.
ثم طمت الشناعة بعد سنين، حيت عزلت اللغة العربية كلها عزلاً مقصوداً عن كل علم
وفن، وأصبح الشباب يتعلم لغته على أنها درس محدد، هو ثقيل بهذا التحديد المجرم على
كل نفس، وخاصة نفوس الشباب الغض. ثم لما أنشئت الجامعة، ودخلها هؤلاء الشباب على
ما هم فيه من الملل بلغتهم، ومن الاستهانة بأمرها، طلع قرن الشيطان بفتنة (الشعر)
والتشكيك في صحة روايته، وطار الشر إلى الصحافة، فاتخذت اللغة القديمة كلها لا
الشعر الجاهلي وحده، مادة للهزء والسخرية، وللنكتة والزراية، لا بل تندروا بكل ما بقي
على شيء من المحافظة على سلامة اللغة، سلامة هي كإبراء الذمة لا أكثر ولا أقل.
هذا تاريخ
مختصر للأسباب التي وقفت بالشعر الجاهلي حيث وقف قديماً، فحالت بين علماء البلاغة والمنهج
الذي كشفته وبينته، وكان لزاماً عليهم وعلينا أن نسلكه، لدراسة إعجاز القرآن، دراسة صحيحة سليمة من الآفات. وهو تاريخ أشد اختصاراً للذي تبع ذلك في العصر الحديث، لما
صار (الشعر الجاهلي) ملهاة يتلهى بها كل من ملك لساناً ينطق، حتى ألقى ذلك كله
ظلاً من الكآبة والظلمة على دراسات المحدثين في الجامعة وغير الجامعة، حين يدرس
أحدهم هذا الشعرَ. هذا الشعرُ الذي كان حين أنزل الله القرآن على نبيه ﷺ، نوراً
يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله لبيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة
خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط. فقد كانوا عبَدة البيان قبل أن يكونوا عبدة
الأوثان! وقد سمعنا بمن استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط بأحد منهم استخف
ببيانهم.
وأنت خليق
أن تعرف أن الشيء الذي طلبته واحتججت له، وحاولت أن أكشف عن منهاجه ومذهبه، إنما
يتعلق بخصائص البيان في القرآن، وأن الشعر الجاهلي، إنما هو مادة الدراسة الأولى،
لأن القرآن نزل بلسان العرب، والذين نزل عليهم ثم تحدّاهم وأعجزهم، هم أصحاب هذا
الشعر والمفتونون به وببيانه. وهذا باب غير الباب الذي افتتحه الباقلاني، ثم فجر
عيونه إمام البلاغة (عبد القاهر الجرجاني) المتوفي سنة 474 هـ في كتابيه (دلائل
الإعجاز)، و(أسرار البلاغة)، ثم أبدع فيه العلماء ما أبدعوا، وزادوا فيه عليه
ونقصوا. وكان ذلك بعد أن أغلق الباب الذي فصلنا القول فيه، كان هو الجدير بأن
يفتتحه الباقلاني وعبد القاهر.
فإذا تم ما
دعونا إليه لأهل هذا اللسان العربي يوما ما، وعسى أن يكون ذلك بتوفيق الله، فسيكون
ذلك فتحاً مبيناً لا في تاريخ البلاغة العربية وحدها، بل في تاريخ بلاغة الجنس
الإنساني كله. وسيكون أيضاً مقنعاً، ورضى لهذا (العقل الحديث) الذي يتطلب في معرفة
(إعجاز القرآن) ما يرضى عنه ويطمئن إليه، وليس هذا فحسب، بل إن أهل الحق من أهل
الإسلام سيجدون يومئذ ووسيلة لا تدانيها وسيلة، تسهل لهم ما استغلق عليهم من دعوة
الناس إلى كتاب الله الذي خصّ به العرب، وجعل فيه ذكرهم على الدهر حين أنزله
بلسانهم، ولكنه جعله هدى للبشر جميعاً عربهم وعجمهم. ويومئذ ستبطل فتنة (ترجمة
القرآن) من أصلها، لسبب ظاهر أشد الظهور. فإن البشر إذا لم يكن في طاقتهم بألسنتهم
التي يبدعون في شعرها ونثرها، أن يأتوا ببيان كبيان القرآن، تدل تلاوته على بيان
مفارق لبيان البشر، فمن طول سفه وغلبة الحماقة، أن يدعي أحد أنه يستطيع أن يترجم
القرآن، فيأتي في الترجمة ببيان مفارق لبيان البشر. فإذا لم يكن ذلك في طاقة أحد،
لم يكن لهذا الترجمة معنى بل سيكون فيها من القصور والتخلف، ما يجعل القرآن كلاماً كسائر الكلام، لا آية فيه ولا حجة على أحد من العالمين، ولا توجب ترجمته على أحد
أن يؤمن بما فيه، وإن خالف ما جرى عليه اعتقاده أو علمه، إلا إذا آمن من قبل أنه
كتاب منزل من السماء. وهذا عكس لآية القرآن، وهي أنه بيانه هو الدليل القاطع على
أنه ليس من كلام البشر، وأنه كتاب منزل من السماء، وأنه هو كلام رب العالمين الذي تعبدنا
بتلاوته، والذي قال فيه رسول الله ﷺ: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام
البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران". وقال
أيضاً: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة الحسنة بعشر أمثالها. لا أقول
"ألم" حرف، ولكن أقول ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
وأما بعد،
فعسى أن يكون الله قد ادخر لآخر هذه الأمة، بعض ما يلحقها بفضل أولها، فتفتح
بالقرآن آذاناً صماً وعيوناً عمياً وقلوباً غلفاً، وتخرج بهديه الناس من ضلالتهم،
وتذودهم به عن اتباع خطوات الشيطان، إلى اقتفاء الصراط المستقيم، والله تعالى يقول
لنبيه: "وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ" {المؤمنون 23 / 73 و74}
وعسى أن
يتم على يد آخرها ما خبأه الله عن أولها، وعسى أن يكون ذلك مخبوءاً في هذا الفصل
الذي نجده في أنفسنا بين بيان الله سبحانه، وبيان عباه من البشر.
"قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ" {سورة الأنعام 6 / 143}
ورحم الله مالك بن أنس إذ يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلح
به أولها"، فإذا كان أولها لم يصلح إلا بالبيان، فآخرها كذلك لن يصلح إلا به،
وإن امرأ يقتل لغته وبيانها، وآخر يقتل نفسه لمثلان، والثاني أعقل الرجلين!
وشكر الله لأخي مالك بن نبي، وقد دعاني إلى كتابة مقدمة لكتابه: (الظاهرة
القرآنية)، ففتح لي به باباً من القول في (إعجاز القرآن) كنت أتهيب أن ألجه،
وباباً آخر في القول في (الشعر الجاهلي) كنت أماطل نفسي دونه، وأنا أعلم أني قد
قصرتُ في ذلك كله واختصرت، وإن كنت قد أطلت، وأخشى أن أكون قد أمللت، ولكن عذري أن
الرأي فيهما كان قد شابه ما كدره، فبذلت جهدي أن أمحص القول فيهما، حتى أنفي عنهما
القذى، وأخلصهما من الأذى، مبتغيا بذلك وسيلة إلى ربي سبحانه، طلبت القربة عنده، "يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" {النحل 16 / 111}
والحمد لله وحده، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا فضل إلا من عنده.
محمود محمد شاكر