حوار لي مع جريدة العربي الجديد
البورتريه للفنانة أنهار سالم
تقف هذه الزاوية مع مترجِمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "الترجمة من اليابانية إلى العربية قليلة جداً سواء مباشرة أو وسيطة"، يقول المترجم المصري في حديثه لـ"العربي الجديد" مشيراً إلى عوائق عدّة فرضت هذه الوضعية.
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
بدأت بشكل غير متعمّد، إذ لم أكن أنوي أن أصبح مترجماً أدبياً. في عام 1999، صدرت رواية "الكسوف" للكاتب كيئتشرو هيرانو وصاحبت صدورها ضجة كبرى في اليابان لمحتواها واللغة التي كُتبت بها رغم صغر سنّ مؤلفها الذي أصبح وقتها أصغر من يحصل على جائزة أكوتاغاوا الأدبية العريقة. كنت مهتماً بتلك الأخبار، فإذا بزوجتي تهدي لي تلك الرواية لأقرأها وكنت وقتها طريح الفراش لمدة أسبوع في مستشفى لإجراء جراحة بسيطة. عندما بدأت القراءة اكتشفت سبب الضجة التي أحدثتها الرواية، فاللغة التي كُتبت بها ليست اللغة المعتادة بل هي لغة قديمة لا يستطيع اليابانيون قراءتها بسهولة، وبالتالي لم أستطع أنا قراءتها. خضت تحدّي قراءة هذه الرواية بالاستعانة بالمعاجم والقواميس. وأثناء ذلك خطرت لي فكرة ترجمتها للعربية ونشرها. استغرق الأمر 15 عاماً لكي ترى النور فقد نُشرت في عام 2014 عن "المركز القومي للترجمة" في مصر. لكن خلال عشرين عاماً من ذلك التاريخ كنت قد ترجمت عشرين كتاباً نُشر منها أربعة حتى الآن وأحاول نشر البقية تباعاً.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
آخر ما ظهر لي هو مجموعة قصص قصيرة باسم "رسوب" لأربعة من عمالقة الأدب الياباني: سوسيكي ناتسوميه وأوغاي موري وريونوسكيه أكوتاغاوا وأوسامو دازاي. صدر الكتاب في الكويت بالتعاون مع "مؤسسة ترجمان". حالياً، أجهّز للنشر أحدث روايات الكاتب هاروكي موراكامي بعنوان "مقتل قائد كتيبة الفرسان" (اسم مؤقت)، وسوف يصدر قريباً عن "دار الآداب" في جزأين متتابعين بإجمالي 1050 صفحة تقريباً ليكون العمل الأطول الذي ترجمته حتى الآن. ويُذكر أن هذه الرواية ستكون أولى روايات موراكامي التي تترجم من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية مباشرة. كانت كل أعماله السابقة تُنشر من خلال لغة وسيطة.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
العقبات كثيرة وأهمها بالنسبة لي عدم وجود العمل المؤسسي في الترجمة والاعتماد على الجهد الفردي وهو في النهاية محدود مقارنة بما يمكن إنجازه إن تحوّل العمل في الترجمة إلى جهد مؤسسي كبير. وهناك عقبة أخرى أمام المترجمين الشباب وهو ضعف العائد المادي الذي يجعل من الصعب على المترجم التفرّغ تماماً للترجمة.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
على العكس أنا من أشد المتحمّسين لوجود محرّر للعمل. وأحاول بكل جهدي أن أتعاون مع المحرّرين لإخراج النص في أفضل شكل. وتعاونت حتى الآن مع أكثر من محرّر وأعتقد أن العلاقة كانت ممتازة بيننا. وأتمنى أن تنتشر ظاهرة وجود المحرّر ليس فقط بالنسبة للأعمال المترجمة ولكن أيضاً للأعمال الأصيلة باللغة العربية حيث إن وجود المحرّر مهم جداً حتى للكاتب الذي يكتب بلغته.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
ما زلت في بدايتي ولم أتعامل إلا مع عدد محدود من الناشرين. كل الكتب التي ترجمتها، أترجمها بناء على اختياري الشخصي ثم أعرضها على الناشر فيقبل أو يرفض. ولم تسمح طبيعة اللغة اليابانية بحدوث العكس حتى الآن.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
لم يحدث حتى الآن صدام سياسي بيني وبين صاحب النص الأصلي. وعلى الأغلب لن يحدث لأنني كما قلت أترجم ما أختاره أنا بنفسي. ولكن إن حدث مستقبلاً فأنا في الأول والآخر مترجم ينقل ما هو مكتوب بأمانة بقدر طاقتي واستطاعتي. وإن كان ثمة ضرورة لتوضيح سأضعه في الهامش على أن يتولى غيري مهمة الرد على الكاتب وتفنيد آرائه السياسية.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
كما ذكرتُ، بدأت تجربة الترجمة مع كيئتشيرو هيرانو، وبعد التعاقد على أول رواية "الكسوف" تواصلت معه عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتقابلنا ونحن الآن أصدقاء وأعضاء في ناد أدبي اسمه "نادي إييداباشي الأدبي"، حيث نعقد اجتماعات دورية ونقوم بنشاطات أدبية مختلفة. وكذلك عندما قرّرت ترجمة هاروكي موراكامي حرصت على محاولة لقائه وقابلته لمدة ساعة وتناقشنا في أهمية أن تبدأ ترجمة أعماله مباشرة بعد أن كانت تترجم كلها عن الإنكليزية وكان هذا اللقاء هو السبب الرئيس في بداية مشروع ترجمة أعماله مباشرة للغة العربية، وأعتقد أنني سأستمر في ترجمة أعماله تباعاً خاصة التي لم تنشر بالعربية بعد. وهكذا ترى أنني حريص على التقرّب من الكاتب الذي أترجم له إن كان ذلك متاحاً. وإقامتي في اليابان تسهل لي ذلك إلى حد بعيد.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
أنا شخصياً، وكما ذكرت، بدأت الترجمة صدفة. ولا أعتقد أنني فكرتُ يوماً في أن أكون مترجماً أو كاتباً ولكن جاء الأمر قدرياً. وحتى الآن أعاني من عدم تأقلمي مع الترجمة أو الكتابة، وأعتبر أنني متطفل على هذا المجال.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
الجوائز الأدبية بصفة عامة حديث ذو شجون. وجوائز الترجمة العربية بشكل خاص. يتطلب الأمر إعادة التفكير فيه بشكل كامل، إذ ينبغي أن يكون الهدف الأساسي منها المساهمة في نشر الكتب وتشجيع القراءة ونشر العلم والمعرفة. ورأيي الشخصي أن المساهمة في عملية نشر وإصدار الكتب وتسهيل الحصول عليها لقطاع أكبر له الأولوية الأكبر من تخصيص مبالغ خرافية يحصل عليها أفراد قلائل ولا يعود ذلك بالنفع على المجال كله.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
للأسف فإن اطلاعي على مشاريع الترجمة المؤسساتية حالياً غير كاف للحكم. وإن كنت أرى كما ذكرت أن الترجمة المؤسساتية هي ما ينقصنا ويجب أن نبذل جهداً أكثر في هذا المجال. والترجمة المؤسساتية ليست إنشاء مؤسسة تحمل اسم "مؤسسة للترجمة" وينتهي أمرها لأن تكون مجرد دار نشر متخصّصة في الكتب المترجمة فقط. يبدأ العمل المؤسسي من إعداد المترجم وتدريبه ومن ثم اختيار أهداف عليا للترجمة توضع لها خطط طويلة المدى وقصيرة المدى لتحقيقها.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
الترجمات من اللغة اليابانية قليلة جداً، حتى لو أضفنا تلك التي تُرجمت من لغات وسيطة. ولذا فالقاعدة الأولى بالنسبة لي في الوقت الحالي هو ألا أترجم إلا الجديد وأن أبتعد بقدر الإمكان عن ترجمة ما تُرجم للغة العربية. ثم القاعدة الثانية أن يكون اختيار العناوين التي أترجمها نابعاً منّي أنا وليس بناء على طلب من أحد. أما عادتي في الترجمة فأن أبدأ بترجمة أولية سريعة تكون مليئة بعلامات استفهام كثيرة تشير إلى الكلمات الصعبة والمصطلحات المتخصصة، ثم أبدأ بعد ذلك في البحث عن تلك الكلمات وأحصل على مسودة أقوم بمراجعتها على النص الأصلي لأحصل على ترجمة حرفية للنص، فأقوم بتعديل الصياغة للابتعاد عن الحرفية وتقريب النص من أن يكون نصاً عربياً أصيلاً، ثم في النهاية أقوم بالمراجعة اللغوية لتعديل الأخطاء النحوية والإملائية بقدر استطاعتي ثم أقوم بقراءة النص قراءة أخيرة "للتفنيش". ثم بعد ذلك أسلم النص للناشر وتبدأ عملية المراجعة مع المحرّر والمدقق.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لم يحدث أن ندمت على ترجمة شيء. حتى وإن لم يُنشر العمل فترجمة أي عمل تضيف للمترجم خبرة وتصقل صنعته.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
الترجمة من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية قليلة جداً سواء مباشرة أو وسيطة. فلن تزيد الأعمال المترجمة بنوعيها عن مئتي عنوان وإن بالغنا في العدد لن يصل إلى ثلاثمئة عنوان في كامل تاريخ اللغتين. ولك أن تعرف أن اليابان أصدرت في الثلاثين عاماً الأخيرة مليون ونصف مليون عنوان لا يعرف العالم عنها إلا أقل القليل، وحسب الإحصائيات فإن الترجمة من اللغة اليابانية إلى كل لغات العالم لم تصل إلى نسبة اثنين في المئة من تلك الكمية المهولة الصادرة. أتمنى أن أشارك ولو بجهد يسير في نقل تلك المعرفة إلى اللغة العربية.
بطاقة
مترجم مصري من مواليد القاهرة، ذهب إلى اليابان للدراسة عام 1996 وعمل لاحقاً مترجماً بين اللغتين. ترجم إلى العربية أبحاثاً ومقالات وأعمالاً أدبية، منها: "حكاية قمر" (التنوير) و"الكسوف" (المركز القومي للترجمة) لـ كيئتشيرو هيرانو، و"الإوزة البرية" (دار الكرمة) لـ أوغاي موري، و"رسوب" (مختارات لكتّاب يابانيين)، وتصدر قريباً ترجمته لـ"مقتل قائد كتيبة الفرسان" لـ هاروكي موراكامي عن "دار الآداب".
هارتفيلد مرة أخرى*
هاروكي موراكامي
ليس في نيتي القول إنني لو لم أتعرّف على الروائي ديرك هارتفيلد فإنني لم أكن لأكتب روايات بتاتاً. ولكنني أعتقد أنه في تلك الحالة من المؤكد أني كنت سأسلك طريقاً مختلفة تماماً عن التي سرت فيها حتى الآن.
عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية، سبق لي أن اشتريت كمية من كتب هارتفيلد ذات الطبعة الشعبية، كانت موضوعة في مكتبة بيع كتب قديمة في مدينة كوبيه تركها على ما يبدو بحار أجنبي. كان سعر الواحد منها خمسين ين. لم أكن لأظن مطلقاً أنها كتب ما لم تكن موضوعة في مكتبة لبيع الكتب. كانت الأغلفة بالغة الزركشة قد نُزعت تقريباً وتغير لون الصفحات إلى اللون البرتقالي. على الأرجح أنها عبرت المحيط الهادئ وهي موضوعة كما هي فوق سرير بحار من الطبقة الدنيا في سفينة بضائع أو مدمرة بحرية، ثم جاءت من زمان بعيد جداً لتوضع فوق مكتبي.
بعد عدد من السنوات ذهبتُ إلى أميركا. كانت رحلة قصيرة لزيارة قبر هارتفيلد فقط. أخبرني بموقع المقبرة توماس ماكلير الباحث المتحمّس (والوحيد) لأعمال هارتفيلد من خلال خطاب أرسله لي. كتب لي قائلاً: "إنه قبر بارتفاع كعب حذاء حريمي عالٍ. كن على حذر من الفشل في العثور عليه".
ركبت باص غريهاوند الذي يشبه تابوتاً عملاقاً من نيويورك، ووصلت إلى تلك البلدة الصغيرة في ولاية أوهايو في الساعة السابعة صباحاً. لم ينزل راكب واحد في تلك البلدة غيري. كانت المقبرة تقع في مكان يغطيه مرعى حشائش. كانت المقابر أوسع من البلدة ذاتها. فوق رأسي كان عدد من طيور القنبرة تطير صانعة شكل دائرة وهي تغني أغنية الرحيل.
بحثتُ عن قبر هارتفيلد لمدة ساعة كاملة حتى عثرتُ عليه. توجّهتُ إلى القبر بعد أن التقطتُ حفنة من الورود البرية المتربة النابتة في المراعي حول المقبرة ووضعتها على القبر، لامستُ كفيَّ تجاه القبر، ثم جلست أدخّن سيجارة. تحت أشعة الشمس اللينة لشهر مايو، أحسست بالراحة والسلام النفسي الذي يشبه تماماً الحياة والموت. رقدت على ظهري وأغمضتُ عيني، وظللت لساعات طويلة أسمع أغاني العصافير.
لقد بدأت هذه الرواية في مكان مثل هذا. ثم لم أكن أنا أيضاً أعلم إلى أين ستصل؟
يقول هارتفيلد: "إن قارنا بتعقيد الفضاء، فإن عالمنا هذا يشبه مخ الدودة".
تمنيت أنا أن يكون الأمر كذلك.
يقول هارتفيلد: "إن قارنا بتعقيد الفضاء، فإن عالمنا هذا يشبه مخ الدودة".
تمنيت أنا أن يكون الأمر كذلك.
في النهاية أذكر أنني في ما يتعلق بما سجلته عن هارتفيلد فقد اقتبست كثيراً من العمل الذي ألفه ماكلير سابق الذكر والذي بُذل فيه جهد مضنٍ: "أسطورة النجوم العقيمة" (1968) فله مني كل الشكر.
(مايو 1979)
* خاتمة أول روايات هاروكي موراكامي "اسمع أغنية الريح"، والتي انتهى من ترجمتها مؤخراً عن اليابانية ميسرة عفيفي