رسالة
إلى صديق
ريونوسكيه
أكوتاغاوا
ترجمة:
ميسرة عفيفي
لم يكتب أحد من المنتحرين حتى الآن عن حالته النفسية وقت انتحاره. وعلى الأرجح أن ذلك بسبب كبرياء المنتحر وعزة نفسه، أو ربما بسبب قلة اهتمامه شخصيًّا بالتحليل النفسي لذاته. وأريد أن أذكر لك بوضوح هذا التحليل النفسي في آخر رسائلي إليك. لا داعي أصلًا لأن أُبلغكَ بصفة خاصة عن دوافع انتحاري. لقد كتب هنري رينيه في إحدى قصصه القصيرة عن منتحر. وفيها لا يعرف بطل القصة نفسه سبب انتحاره. ويمكنك أن تكتشف دوافع متنوعة للانتحار من صفحة الحوادث في الجرائد مثل صعوبة المعيشة أو المعاناة من المرض أو المعاناة النفسية. ولكن من خلال خبرتي ليس هذه هي الدوافع كلها. ليس هذا فقط، فغالبًا هي تشير فقط إلى معالم الطريق إلى الدافع وليس الدافع نفسه. وعلى الأرجح أن المنتحر ذاته كما وصفه رينيه لا يدري غالبًا لماذا ينتحر. يحتوي الانتحار مثل كل أفعالنا على دوافع معقّدة. ولكن على الأقل في حالتي أنا هو مجرد قلق غامض. قلق غامض تجاه المستقبل. ومن المؤكد أنك لن تصدق كلامي هذا. وأنا لا ألومك على ذلك لأن خبرتي خلال عشرة سنين علّمتني أن كلماتي تلك سوف تذهب أدراج الرياح ما لم يكن سامعها يعيش في نفس البيئة التي أعيشها ويحيط به نفس البشر الذين يحيطون بي.
لم أفكر إلا في الموت فحسب طوال العامين الماضيين. وهو الوقت الذي قرأت فيه ماينلندر بتعمّق شديد. لا ريب أن ماينلندر كان يصف معالم الطريق المتجه إلى الموت باستخدام كلمات تجريدية في منتهى البراعة. ولكن أريد أن يكون وصفي أكثر تحديدًا. ولن أجعل مشاعر التعاطف مع أسرتي تقف عقبة في سبيل تحقيق ذلك مطلقًا. ومن المؤكد أنك ستصف ذلك بكلمة Inhuman (لا إنساني) وإذا تعلق الأمر باللاإنسانية، فأنا حقًا لا إنساني!
أنا ملزم أن أكتب كل شيء بصدق. (لقد شرحتُ معنى كلمة قلق غامض تجاه المستقبل. فعلت ذلك على الأغلب في قصة "حياة أحد الحمقى" بأقصى ما أستطيع. ولكنني تعمدتُ ألا أكتب في ذلك العمل الظروف الاجتماعية الخاصة بي، أي تأثير حقبة الحكم الإقطاعي في اليابان عليَّ. وسبب تعمدي عدم الكتابة عن ذلك لأننا نحن البشر ما زلنا حتى اليوم إلى حد ما تحت تأثير عصور الإقطاع. ولكنني حاولت الكتابة عن أفعالي وتصرفاتي أنا على الأغلب بغض النظر عن مسرح الأحداث والخلفية والأضواء والشخصيات التي تظهر على المسرح. وليس هذا فقط بل من المؤكد أن ثمة شك كبير أنني أنا نفسي أستطيع أن أدرك جيّدًا الظروف الاجتماعية و أنا في خضمها).
في البداية أول ما فكرت فيه كان؛ كيف أموت دون معاناة. والوسيلة
المثلى لتحقيق ذلك هو الموت شنقًا. ولكنني عندما تخيلت منظري وأنا أموت شنقًا وجدتُ
متسعًا من الرفاهية لكي أشعرُ بكراهية ذلك المنظر لعدم جماله. (أتذكر أنني أحببت فتاة،
ولكني فقدت حبي لها فجأة عندما عرفت أن خطها في الكتابة رديء). وكذلك الموت غرقًا
لن يؤدي الغرض لأنني أجيد السباحة. ليس هذا فقط بل حتى لو افترضنا تحقيق المعجزة، فالموت غرقًا أكثر عذابًا من الشنق. وهناك الموت دهسًا تحت عجلات
قطار أو سيارة، ولكنه سيكون أكثر كراهية لي من الناحية الجمالية السابق ذكرها. وسيكون
احتمالية فشلي كبيرة عند الموت بالمسدس أو بالسكين لأني يدي ستهتز. وأيضًا الموت
من خلال القفز من فوق بناية عالية سيكون قبيح المنظر. ولهذه الأسباب قررت أن أموت
باستخدام الأدوية. وعلى الأرجح أن الموت بالأدوية أكثر عذبًا من الموت شنقًا.
ولكنه علاوة على عدم كونه كريه المنظر مثل الموت شنقًا فله أيضًا ميزة انعدام خطر النجاة.
ولكن بالتأكيد الحصول على تلك الأدوية صعب بالنسبة لي. لقد قررت قرارًا حاسمًا أن
أنتحر، فقررت استغلال كل فرصة للحصول على تلك الأدوية. وفي نفس الوقت أيضًا حاولت اكتساب
معرفة بعلم السموم.
ثم
فكرتُ بعد ذلك في مكان الانتحار. ستعتمد أسرتي على ما سأتركه لهم بعد موتي لكي تقيم عيشها.
وتتكون تركتي من أرض بمساحة 330 مترًا مربعًا والبيت الذي عليها والحقوق الفكرية
لمؤلفاتي، ومدخراتي في البنك التي تبلغ ألفي ينًّا يابانيًّا فقط. وشعرتُ بالعذاب
من ألا يمكن بيع هذا البيت لو انتحرت فيه. وبالتالي شعرتُ بالغيرة من البرجوازيين
الذين يملكون بيتًا آخر في الضواحي أو المنتجعات. قد تستغربَ كلامي هذا، بل
حتى أنا أشعر الآن بالدهشة. ولكن عندما فكرتُ في الأمر في
الحقيقة شعرتُ بالضيق الشديد. ولا يمكنني أن أتفادي هذا الضيق مطلقًا. ولكنني أريد
أن أنتحر بحيث لا يرى أحد جثتي بقدر الإمكان إلا أسرتي فقط.
ولكن
بعد أن اخترت الوسيلة زاد تعلّقي بالحياة نسبيًا. وبناء على ذلك ثمة حاجة إلى محفّز
ليكون قاعدة انطلق منها إلى الموت. (إنني لا أؤمن كما يؤمن الغربيون أن الانتحار
إثم أو شر. فعلى أرض الواقع بوذا في كتاب آغاما المقدس أيد انتحار أحد تلاميذه. وقد
يقول علماء السوء الذين يبيعون علمهم للعامة بثمن بخس عن هذا التأييد إنه فقط في
حالة "ضرورة قصوى" لا يمكن تفاديها. ولكن من وجهة نظر طرف محايد،
حالة "الضرورة القصوى" تلك ليست هي حالة الطوارئ غير الطبيعية التي يجب أن يموت
المرء فيها موتًا مأسويًّا وهو مكتوف الأيدي. إن كل منتحر ينتحر في حالة ضرورة
قصوى بالنسبة له لا يمكنه تفاديها. وعلى العكس من ينتحر بجراءة قبل ذلك، يكون في منتهى الشجاعة). مهما قلنا فأفضل محفز مفيد هو المرأة. لقد عرض هاينريش فون
كلايست قبل أن ينتحر، على أصدقائه مرات كثيرة أن يرافقوه في طريق (الرجال).
وكذلك راسين عرض على موليير وبوالو أن يقذفوا معه في نهر السين. ولكنني لسوء حظي ليس لدي مثل هؤلاء الأصدقاء. فقررت أن أموت مع امرأة أعرفها. ولكن بات ذلك
أمرًا لا أستطيع أن أستشير فيه واحدة منهن من أجلنا. وأثناء ذلك تولدت لدي
ثقة بنفسي أنني أستطيع الموت بدون وجود محفّز. ولم يكن ذلك بسبب يأسي من العثور
على من يموت معي. ولكن على العكس كان السبب أنني - أنا الذي بدأت تدريجيًّا أغدو
عاطفيًّا - راعيتُ مشاعر زوجتي حتى وإن كنتُ سأفترق عنها بالموت. وفي الوقت
نفسه عرفت أن انتحار شخص واحد أسهل من انتحار شخصين معًا. ولا شك كذلك أن هذا
يُسهل الأمر من خلال حرية اختيار الوقت المناسب للانتحار.
آخر
شيء هو كيفية الانتحار بمهارة دون أن تنتبه أسرتي. بعد تجهيزات لعدة
أشهر وصلتُ إلى ثقة بالنفس في أي حال. (لا يمكنني أن أكتب تفاصيل ذلك من أجل الناس
الذين يحملون تجاهي مشاعر طيبة. وفي الأصل حتى وإن كتبتُ التفاصيل هنا فمن المؤكد
أنها لن تُشكّل تُهمة المساعدة على الانتحار قانونيًّا [لا أجد اسم تهمة أكثر إضحاكًا
من هذه التهمة! تُرى إلى أي مدى سيزيد عدد المجرمين لو طُبق هذا القانون بحذافيره؟
الصيدليات، ومحلات بيع الأسلحة، وبائعي أمواس الحلاقة، حتى وإن قلنا إنهم "لا
يعلمون"، فكلامنا نحن البشر ومشاعرنا ما لم تظهر إرادتنا، يجب أن تتلقى بعض
الاتهام قل أو كثر. ليس هذا فقط بل إن المجتمع والقوانين ذاتها تساعد على الانتحار.
وفي النهاية من المؤكد أن هؤلاء المجرمين لديهم قلوب طيبة بدرجة كبيرة]) انتهيت من
تلك التجهيزات ببرود، وأنا الآن ألهو مع الموت فقط. وعلى الأرجح أن مشاعري بعد ذلك
هي غالبًا نفس مشاعر ماينلندر.
إننا
نحن البشر حيوانات بشرية، ولذا نخاف من الموت خوف غريزي حيواني. إن ما يُسمّى بقوة
الحياة في الواقع لا يزيد عن مرادف للقوة الحيوانية. أنا أيضًا إنسان حيواني.
ولكن عند النظر إلى مللي من الطعام فعلى الأرجح أنني أفقد القوة الحيوانية
تدريجيًّا. إن ما أعيش فيه حاليًّا هو عالم الأعصاب المرضي الشفاف كالثلج. في
الليلة الماضية كنتُ أتحدث مع إحدى العاهرات عن أجرتها (!) فشعرتُ حتى النخاع بالشفقة
لنا نحن البشر الذين "نعيش من أجل أن نعيش". لو استطعنا أن نغرق في نوم أبدي
مذعنين، حتى ولو لم يكن في ذلك سعادة فلا شك أنه سيكون سلامًا. ثمة شك في متى
أستطيع الانتحار بشجاعة! ولكن في حالتي تلك دائمًا ما تكون الطبيعة أكثر جمالًا عن
المعتاد. من المؤكد أنك ستضحك على تناقضي لأنني أحب جمال الطبيعة ومع ذلك أخطط لكي
أنتحر. ولكن ذلك لأن جمال الطبيعة ينعكس في عيوني عند الاحتضار. لقد رأيت وأحببت
بل وفهمت أكثر من الآخرين. وهذا وحده يجعلني وسط تراكم المعاناة والعذاب راضيًا
إلى حد ما. أرجو منك أن تحتفظ بهذه الرسالة لديك ولا تنشرها لعدة أعوام بعد موتي.
لأنه ربما لا يعدم الأمر أن أنتحر وكأنني قد متُ من مرض ما.
إضافة:
لقد قرأت سيرة أمبادوقليس وشعرت إلى أي مدى قِدم الرغبة في أن يصبح الإنسان إلهًا.
في حدود ما أعي فرسالتي هذه تهدف إلى عدم الرغبة في أن أكون إلهًا. كلا، بل أريد أن
أكون أقل من الإنسان العادي. من المؤكد أنك تتذكر عندما تناقشنا قبل عشرين عامًا
حول "أمبادوقليس جبل إتنا" تحت شجرة الزيزفون؟ لقد كنتُ وقتها أحد الذين
يرغبون في أن يكونوا آلهة.
(مخطوطة وجدت بعد موت المؤلف يوليو 1927م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق