فتى يُدعى كاراسو[1]
هاروكي موراكامي
ترجمة:
ميسرة عفيفي
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو بنبرة حديثه البطيئة جدا كالمعتاد: "وبعد، استطعتَ
بشكل ما تدبير أمر المال، أليس كذلك؟" وكأنه استيقظ لتوه من نوم عميق وعضلات
فمه ثقيلة فلا يستطيع تحريكها بمهارة. ولكن كان ذلك تظاهرا منه، فهو في الواقع في
كامل تيقظه ووعيه. كما هو دائما.
أومئ.
"كم
تقريبا؟"
تأكدتُ
من الرقم داخل رأسي مرة أخرى ثم أجبت: "أربعمئة ألف ينا نقدا. وغير ذلك كمية
مدخرات قليلة في البنك يمكن سحبها بالبطاقة. بالتأكيد لا يمكن القول إنه كافي،
ولكن يمكنني تدبير أمري به مؤقتا"
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "ليس سيئا. مؤقتا طبعا"
أومئ.
يقول:
"ولكن على ما يبدو أن ذلك المال لم يعطه لك بابا نويل في عيد ميلاد المسيح
العام الماضي، أليس كذلك؟"
أقول
له: "بلى، الأمر مختلف"
يدور
الفتى الذي يُدعى كاراسو ببصره في المكان لاويا شفتيه خفيفا في سخرية ثم يقول:
"أعتقد أن مصدر المال درج من أدراج هذه الغرفة يملكه شخص ما، أليس
كذلك؟"
لا
أجيب. فمن المؤكد أنه يعرف من البداية مصدر هذا المال. وليس في حاجة أن يسأل
أسئلته الملتوية تلك. إنه فقط يريد السخرية مني بطريقة سؤاله تلك.
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "حسنا لا عليك، فأنت على أي حال في حاجة لذلك
المال. حاجة ملحة جدا. ثم ها أنت تحصل عليه. بغض النظر عن طريقة الحصول عليه ...
سواء استلفته أو اقترضته في صمت أو سرقته. فهو في كل الأحوال مال أبيك. سيكون هذا
المبلغ كافيا لكي تدبر أمرك مؤقتا فقط. ولكن، ماذا تنوي عندما تستهلك مبلغ
الأربعمئة ألف ينا هذا كله؟ فعلى ما أعرف، المال الذي تضعه في حافظة أموالك من
المستحيل أن يزيد من تلقاء نفسه مثل الفطريات التي في الغابات. وأنت في حاجة إلى
المأكل والمسكن. وسيأتي وقت ينتهي فيه المال"
أقول:
"سأفكر في ذلك في حينه"
يكرر
الفتى الذي يُدعى كاراسو كلماتي كما هي وكأنه يضعها على راحة يده ويزن ثقلها:
"ستفكر في ذلك في حينه"
أومئ.
"أن
تعثر على عمل مثلا؟"
أقول:
"ربما"
يهز
الفتى الذي يُدعى كاراسو رأسه. "اسمع. يجب عليك معرفة الحياة أكثر من ذلك.
وإلا فقل لي: ما نوع ذلك العمل الذي تعتقد أن يعثر عليه طفل في الخامسة عشرة من
عمره في أرض بعيدة لا يعرف عنها شيئا؟ فأنت حتى لم تنتهِ من تعليمك الإلزامي بعد.
من ذا الذي يوظّف إنسانا في ظروفك؟"
يتوّرد
خداي قليلا. إن خديّ سريعا التوّرد.
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "حسنا لا عليك، فلم يبدأ شيء بعد. ولا فائدة من رص
الأمور السوداء فقط أمام عينيك. فأنت قد حسمت قرارك. ويتبقى فقط الانتقال إلى
التنفيذ. وبشكل أساسي ليس بوسعنا إلا فعل ما تريده"
أجل،
فمهما كان الأمر، إن هذه هي حياتي أنا.
"ولكن
يجب عليك من الآن فصاعدا أن تصبح شديد القوة"
أقول:
"أبذل جهدي"
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "هذا مؤكد. لقد أصبحت قويا جدا خلال الأعوام
القليلة الماضية. وما أقوله ليس معناه عدم اعترافي بذلك"
أومئ.
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "ولكن مهما قلنا فأنت لا تزال في الخامسة عشرة من
العمر، وحياتك – إن قلنا بمنتهى التحفظ – قد بدأت لتوها. إن العالم يمتلئ بالعديد
من الأشياء التي لم يسبق لك رؤيتها من قبل. أشياء لا يمكن لك الآن حتى أن تتخيلها"
كنا
نجلس متجاورين فوق الأريكة الجلدية القديمة في غرفة مكتب أبي كما نفعل دائما. إن الفتى
الذي يُدعى كاراسو معجب بهذا المكان. إنه يحب جدا تفاصيل جميع الأشياء الموجودة
هنا. إنه يلعب الآن داخل راحت يده بثقالة أوراق زجاجية على شكل نحلة. بالتأكيد نحن
لا نقترب من هنا عندما يكون أبي في البيت.
أقول:
"ولكن مهما حدث يجب عليَّ أن أغادر هذا البيت. وهذا قرار لن يحركه شيء"
يوافقني
الفتى الذي يُدعى كاراسو على رأيي بالقول: "ربما كان ذلك صحيحا" ثم يضع
ثقالة الأوراق على المكتب ويشبك يديه خلف رأسه. ويضيف: "ولكن لن يحل ذلك كل
شيء. يبدو وكأنني مرة أخرى أُلقي بماء بارد على حماسك، ولكنك مهما ذهبت بعيدا، فلن
نعرف أستستطيع من الهرب من هذا المكان أم لا؟ وأشعر أننا من الأفضل ألا نأمل كثيرا
في أشياء مثل المسافات البعيدة"
أفكر
مرة ثانية في المسافات. يتنهد الفتى الذي يُدعى كاراسو تنهيدة واحدة، ثم يضغط ببطن
أنامله على جفنيه. ثم يغمض عينيه ويستمر في الحديث إليَّ من أعماق ذلك الظلام
الحالك.
يقول:
"لنلعب لعبتنا الدائمة"
أقول:
"لا مانع" ثم أغمض أنا أيضا عينيّ مثله وآخذ نفسا عميقا في هدوء.
يقول:
"هل أنت مستعد؟ تخيّل عاصفة رملية شديدة العنف والقسوة. وانس كل ما
عداها"
أتخيّلُ
كما قيل لي، عاصفة رملية شديدة العنف والقسوة.
وأنسى تماما كل ما عداها. أنسى حتى نفسي ذاتها. أصبحُ أنا نفسي فراغ. ثم تبرز الأشياء
على الفور في ذهني. ومثلما نفعل دائما أنا والفتى، نتشارك تلك الأشياء معنا فوق المقعد
الجلدي الطويل القديم في غرفة مكتب أبي.
يتحدث
الفتى الذي يُدعى كاراسو إليّ قائلا: "في بعض الحالات يصبح ما يُسمى القدر
مشابها لعاصفة رملية محلية تتقدم في طريقها وهي لا تتوقف عن تغيير اتجاهاتها"
في
بعض الحالات يصبح ما يُسمى القدر مشابها لعاصفة رملية محلية تتقدم في طريقها وهي
لا تتوقف عن تغيير اتجاهها. فتغيّر أنت أيضا اتجاه خطواتك في محاولة لتفاديها. وعندها
تغير العاصفة اتجاهها لتلاحقك. فتغير أنت اتجاهك مرة ثانية. وعند ذلك أيضا تغير
العاصفة بالمثل من اتجاهها. يتكرر ذلك مرات ومرات، وكأنه مثل رقصة مشؤومة مع إله
الموت في الفجر. والسبب أن تلك العاصفة ليست شيئا أتى من مكان بعيد بدون أن
يكون له علاقة بك. بمعنى إنها هي أنت ذاتك. إنها كل ما داخلك. ولكن إنْ بحثنا عن
شيء تستطيع أن تفعله، فهو فقط أن تيأس وتغوص داخل العاصفة مباشرة وتغلق عينيك وأذنيك
جيدا حتى لا تدخلها الرمال ثم تخترق تلك العاصفة وتمر خلالها خطوة بعد خطوة. فعلى
الأرجح أن داخلها ليس به شمس ولا قمر ولا اتجاهات، وفي بعض الحالات ليس بها حتى
الزمن نفسه. إن ما داخلها هو فقط رمال دقيقة ناصعة البياض تشبه مسحوق عظام طُحنت،
ترقص متطايرة وهي ترتفع في الهواء. يجب عليك أن تتخيّل عاصفة رملية بهذا الوصف.
أتخيّلُ
عاصفة رملية بذلك الوصف. ترتفع دوامة بيضاء في اتجاه السماء مباشرة وكأنها حبل غليظ.
أسدُّ عينيّ وأذنيّ بإحكام بكلتا يديّ. لكيلا تدخل تلك الرمال الدقيقة إلى جسمي.
تقترب تلك العاصفة الرملية باطراد مستهدفة مكاني. يستطيع جلدي أن يشعر من بعيد
بضغط الرياح ذلك. إنها الآن بالضبط على وشك أن تبتلعني.
في
النهاية يضع الفتى الذي يُدعى كاراسو يده برفق فوق كتفي. وعندها تختفي العاصفة
الرملية. ولكنني أظل مغمض العينين كما أنا.
"يجب
عليك من الآن أن تصبح أقوى فتى في الخامسة عشرة من عمره في العالم. مهما حدث ومهما
كان. لأنه ليس أمامك طريق أخرى لكي تستطيع الاستمرار حيا في هذا العالم غير هذه
الطريق. ثم من أجل ذلك، يجب أن تدرك أنت نفسك، أأنت قوي حقيقة أم لا؟ هل
تفهم؟"
أظل
صامتا فقط. وتأتني رغبة في النعاس ببطء كما أنا بحالتي تلك وأنا أشعر بيد الفتى
فوق كتفي. يصل إلى إذني صوت خافت لرفرفة أجنحة.
يكرر الفتى
الذي يُدعى كاراسو بهدوء داخل أذني أنا الذي على وشك النعاس: "ستصبح من الآن أقوى
فتى في الخامسة عشرة من عمره في العالم" وكأنه ينقش تلك الكلمات بخط أزرق
غامق في قلبي كالوشم.
ثم
بعد ذلك بالطبع ستستطيع أن تخترقها بالفعل. تخترق تلك العاصفة الرملية العنيفة. تخترق
تلك العاصفة الرملية الميتافيزيقية الرمزية. ولكنها مع كونها ميتافيزيقية ورمزية
إلا أنها في نفس الوقت تشق اللحم وتقطعه بحدة مثل ألف شفرة من المواسي. إن أناس
عديدين نزفوا هناك الكثير من الدماء، وعلى الأرجح أنت شخصيا ستنزف دماءك. دماء حمراء
حارة. وعلى الأرجح أنك ستتلقى في يديك تلك الدماء. إنها دماؤك وكذلك دماء الآخرين.
ثم
عندما تنتهي تلك العاصفة الرملية، يُفترض أنك لن تعرف مطلقا كيف استطعت اختراقها وكيف
استطعت البقاء بعدها على قيد الحياة. كلا بل ويُفترض كذلك أنك لن تكون متأكدا أرحلت
تلك العاصفة وانتهت بالفعل أم لا؟ ولكن سيكون هناك أمر واحد فقط في منتهى الوضوح. هو
أنك حين خرجت من تلك العاصفة، لم تكن الشخص نفسه الذي دخلها. أجل، إن هذا هو معنى
العاصفة.
عندما
يأتي عيد ميلادي الخامس عشر، أهرب من البيت، وأذهب إلى مدينة بعيدة لا أعرفها وأقيم
في ركن من مكتبة عامة صغيرة.
بالطبع
إن تحدثتُ بالتفصيل متتبعا الأحداث بترتيبها، على الأرجح أستطيع الاستمرار في
الحديث على مدى أسبوع كامل. ولكن إن ذكرت فقط النقاط الهامة فهذا هو ما حدث. عندما
أتي عيد ميلادي الخامس عشر، هربت من البيت، وذهبت إلى مدينة بعيدة لا أعرفها وأقمت
في ركن من مكتبة عامة صغيرة.
ربما
يُسمع ذلك وكأنه حكاية قبل النوم للأطفال. ولكنها ليست حكاية للأطفال. ليست كذلك
بأي معنى من المعاني.
[1] كاراسو باللغة اليابانية تعني غرابا. ويُذكر أن اسم كافكا أيضا يعني غرابا
باللغة التشيكية اللغة الأم لعائلة فرانز كافكا / المترجم