بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 25 مارس 2020

اليهودي التائه


اليهودي التائه

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

لا توجد دولة مسيحية إلا وبها بقايا من أسطورة "اليهودي التائه". فقد وصلت تلك القصة الفولكلورية إلى كل الدول تقريبا فتوجد في إيطاليا، وبريطانيا، وألمانيا، والنمسا، وإسبانيا. وبالتالي، وُجد منذ وقت بعيد الكثير من الأعمال الفنية والأدبية التي دار موضوعها حول تلك القصة. وتعُد لوحة جوستاف دوريه أشهر تلك الأعمال، وكتب كل من يوجين سو ودكتور جورج كرولي روايتين عنها. وأتذكر أيضا أن "اليهودي التائه" ظهر مع كل من "لوسيفر" و"راهبة الدماء" في رواية مونك لويس الشهيرة. ومؤخرا، كتب وليم شارب المشهور باسم فيونا ماكلويد قصة قصيرة باسم ما مأخوذة منها.
إذن ما هي قصة "اليهودي التائه" تلك؟ إنها قصة يهودي حلّت عليه لعنة المسيح ليستمر في التجوال إلى الأبد منتظرا مجيء يوم القيامة في الآخرة. ولا تحدد المصادر اسما واحدا له. فاسمه أحيانا كارتافيلوس وأحيانا أحشويرش، وفي أحيان أخرى بوتاديوس، ويُسمى أيضا إسحاق لاكيديم. إضافة أن الأقاويل تختلف تجاه مهنته كذلك. فمنها ما يذكر أنه كان حارس السنهدريم[1] في أورشاليم وتقول أخرى: لا بل إنه كان موظفا تحت إمرة بيلاطس. وكذلك هناك من يذكر أنه كان إسكافيا. ولكن على الأغلب لا تختلف المصادر في سبب استحقاقه اللعنة. فتقول المصادر إنه عندما كان المسيح يُقاد إلى جبل الجمجمة توقف أمام بيت اليهودي محاولا أن يأخذ أنفاسه لفترة، فعنّفه بقسوة، بل أنه ضربه مرات عديدة. ووقتها كان اللعنة التي حلّت عليه هي قول المسيح له: "إذا قلت لي ارحل، فلن أتأخر في الرحيل، ولكن مقابل ذلك، انتظرني حتى أعود"
ولكنه بعد ذلك تعمّد على يد حنانيا – الذي عمّد بولس – وتسمّى باسم يوسف. بيد أن اللعنة التي حلّت عليه مرة، لن تزول عنه حتى مجيء القيامة. وفي الواقع فقد كُتب عنه في مذكرات "جوزيف فون هورماير" أنه ظهر في مدينة ميونيخ في اليوم الثاني والعشرين من يونية عام 1721. ___
كان هذا أحدث ما ذكر عنه، ولكن لو عدنا بعيدا إلى الكتابات القديمة سنجد ذكره في مواضع عدة. وعلى الأرجح أن أقدم ما كُتب عنه هي المقالة التي ظهرت في حوليات دير سانت ألبانز من إعداد ماشيو باريس. فطبقا لتلك المقالة التي نقلت عن الفارس الذي ترجم، قال بطريرك الأرمن العظيم أثناء زيارته لسانت ألبانز إنه تناول الطعام مع "اليهودي التائه" مرات عديدة في أرمينيا. ثم بعد ذلك، توجد مقالات قريبة من تلك المقالة للمؤرخ الفرنسي فيليب موسكيه المتخصص في تاريخ بلاد فلاندر في حولياته الشعرية التي كتبها في عام 1242. يبدو إذن أن "اليهودي التائه" كان يجوب أوروبا تائها قبل القرن الثالث عشر الميلادي لدرجة لفتت انتباه الناس. وفي عام 1505 استطاع نسّاج يُدعى كوكتو من إقليم بوهيميا أن يجد كنزا كان جده قد دفنه قبل ستين عاما بمساعدة من اليهودي التائه. ليس هذا فقط. بل أنه في عام 1547 في ولاية شلسويخ الألمانية قابل كبير الرهبان الذي يدعى "باول فون أيتسن" اليهودي التائه وهو يصلي في إحدى كنائس هامبورغ. وبعد ذلك وحتى بدايات القرن الثامن عشر الميلادي توجد تسجيلات في غاية الكثرة تذكر ظهوره عبر أنحاء أوروبا شمالا وجنوبا. ولو أعطيت أمثلة للحالات الأكثر وضوحا فقط، في عام 1575 ظهر في مدريد، وفي عام 1599 ظهر في ڤيينا، وفي عام 1601 ظهر في ثلاث أماكن هي مدينة لوبيك الألمانية، ومدينة ريڤال[2] الروسية ومدينة كراكو الپولندية. وطبقا لما قاله رودولف بوتليوس فيبدو أنه ظهر كذلك في پاريس عام 1604 تقريبا. وبعد ذلك زار ليبزغ مارا بناومبورغ وبروكسل، وفي عام 1658 يُقال إنه علّم رجلا يُدعى صامويل ووليس من مدينة ستامفورد كان مصابا بمرض صدري، طريقة شفاء سرية من مرضه بشرب ورقتين من نبات المريمية الأحمر وورقة من نبات الحُمّاض بعد خلطهم بالبيرة. وبعد ذلك تخطى مدينة ميونخ سابقة الذكر ودخل إنجلترا ثانيةً، وبعد أن أجاب على تساؤلات أساتذة جامعتي كمبريدج وأوكسفورد ذهب إلى السويد مارا بالدنمارك، وأخيرا فُقدت آثار أقدامه عند هذا الحد. وبعد ذلك وحتى اليوم لا يوجد أي خيط يدل على مصيره.
أعتقدُ أنني أوضحتُ مما ذكرتُ عاليه أغلب ما يتعلق بمن هو يا تُرى "اليهودي التائه"؟ وما هو ماضيه التاريخي؟ ولكن، لم يكن هدفي من الكتابة مطلقا الإخبار بذلك فقط. ولكنني أريد الإعلان أنني كنتُ فيما مضى أحمل داخلي تساؤلين حول تلك الشخصية الأسطورية، وأنني حصلتُ على إجابة هذين التساؤلين من خلال مخطوطات أثرية قديمة وقعت في يدي عن طريق الصدفة البحتة. ثم أعلن كذلك بجملة الأمر عن تلك المخطوطة القديمة. أولا: ما هما التساؤلان اللذان كنتُ أحملهما؟ ___
التساؤل الأول يتعلق كليا بحقيقة واقعية. ألا وهي أن "اليهودي التائه" قد ظهر في أغلب البلاد المسيحية تقريبا. ألا يكون والأمر كذلك، أنه جاء أيضا إلى اليابان؟ فبغض النظر عن اليابان في العصر الحديث، إلا أن أقاليم اليابان الجنوبية الغربية كلها على الأغلب كانت تدين بالمسيحية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر[3]. عندما نرى كتاب "المكتبة الشرقية" لمؤلفه الفرنسي بارتيلمي هِرْبلُو، نجد أنه كتب أن في بدايات القرن السادس عشر، عندما سقطت مدينة "إلڤِن"[4] في يد الفرسان العرب تحت قيادة خضر[5]، كان "اليهودي التائه" يدعو مع خضر هاتفا Allah akubar (ربما تعنى الله أكبر)[6]. فبالفعل لقد فُقدت أثار أقدامه وهو يتجه شرقا. ولا يوجد أي افتراض أن اليهودي التائه لم يزر اليابان، فاليابان في ذلك العهد كان النبلاء المُسمّون "داي ميو" في عصر الإقطاع الياباني، يعلقون الصلبان الذهبية فوق صدورهم، وتجري على ألسنتهم كلمة "pater noster"[7]، ___ وزوجاتهم يحركن بأناملهن المسبحة المصنوعة من المرجان، ويَجْثُونَ على ركبهن أمام تمثال مريم العذراء، علاوة على أننا لو قلنا بطريقة حديث معتادة، ألم يوجد من بين اليابانيين في ذلك العصر، من يستورد أسطورة اليهودي التائه كما جلبوا الأواني الزجاجية وألة الكمان؟ ___ كان ذلك سؤالي الأول.
ويختلف السؤال الثاني قليلا في مدلوله مقارنة بالسؤال الأول. تقول الأسطورة إن "اليهودي التائه" حمل على ظهره عبء مصير التجوال فوق الأرض إلى الأبد بسبب سلوكه السيئ مع يسوع المسيح. ولكن في الوقت الذي وُضع فيه المسيح فوق الصليب لم يكن من عذبه هو ذلك اليهودي بمفرده فقط. فأحدهم وضع على رأسه تاج الشوك، وآخر لفه بالرداء البنفسجي. وكذلك لصق ثالث عليه وهو معلق فوق الصليب لوحة كُتب عليها INRI[8]. فلا شك أن عدد من أذاه كان كبيرا لدرجة أننا لن نستطيع على الأرجح أن نحصيهم عددا إذا وصلنا للحديث عمّن بصق عليه أو ألقاه بالحجارة. ورغم ذلك ما السبب الذي جعله هو فقط الذي يتلقى لعنة المسيح؟ أو ما هو التفسير الذي يمكن إعطائه لذلك "السبب"؟ ___ كان هذا سؤالي الثاني.
وقد بحثتُ ونقّبتُ خلال سنوات عديدة في المخطوطات القديمة شرقا وغربا دون جدوى، فلم أستطع الحصول على أي خيط يقود للإجابة على هذين السؤالين. في حين أن المصادر التي ذكرت قصة "اليهودي التائه" كثيرة للغاية. ومن المحال – أو على الأقل من المحال وأنا مقيم في اليابان – أن أستطيع قراءتها جميعا. وفي النهاية غمرني شعور أنني لن أستطيع الإجابة على هذين السؤالين أبدا. ولكن حدث أمر مفاجئ في خريف العام الماضي الذي فقدتُ فيه الأمل. ففي محاولة أخيرة مني زرتُ مدينتي هيغو وهيزن وجزيرتي هيرادو وأماكوسا[9]، وبعد العمل على تجميع عدد من المخطوطات القديمة، استطعتُ أخيرا اكتشاف أسطورة تتعلق "باليهودي التائه"، ضمن مخطوطات لسجل وقائع عصر بونروكو[10] وقعت في يدي عن طريق الصدفة. لا يوجد متسع لدي الآن هنا لشرح ما يتعلق بمصداقية تلك المخطوطات القديمة. ولكن يكفيني فقط القول إنها عبارة عن مذكرات مبسطة كُتبت باللغة المحكية لذلك العصر سجلها كاتبها كما هي بعد أن سمعها من أحد المؤمنين بالمسيحية.
تذكر تلك المذكرات، أن "اليهودي التائه" قابل فرانشيسكو خافيير أثناء عبوره البحر في مركب قادما من جزيرة هيرادو إلى جزيرة كيوشو الأم. ووقتها كان ضمن مرافقي خافيير شخصا يسمى القس سيمون، ومن فم سيمون هذا تم إبلاغ ما حدث إلى المؤمنين، ثم انتشر تدريجيا بعد ذلك على نطاق واسع، وأخيرا بعد عشرات السنين وصل إلى سمع كاتب سجل الوقائع هذا. وإذا وثقنا في كلام الكاتب كما هو، "فالحوار بين الراهب فرانشيسكو وبين اليهودي التائه"، كان أحد أشهر الحكايات بين المؤمنين بالمسيحية في ذلك العصر، ويبدو أنه اُستخدم كثيرا في الوعظ. وأنا بعد أن أنقل المحتوى العام لتلك المذكرات وكتابة اقتباس أو أكثر من الأصل، أريد أن أتذوق فرحة حل السؤالين المذكورين عاليه مع القراء. ___
أولا، تحكي المخطوطة أن تلك المركب "كانت تمتلئ بالهدايا من الفاكهة". ولذا على الأرجح كان الفصل هو فصل الخريف. وهذا أمر واضح بالنظر أيضا إلى ما قيل في الفقرة التالية عن التين. وعلى ما يبدو لم يكن ثمة ركاب آخرين بخلافهم. وكان الوقت وقت الزوال. وهذا فقط كل ما سجله الكاتب قبل أن يدخل في صلب الموضوع. ولذا إن أراد القارئ أن يتخيل المنظر في ذلك العصر من خلال تلك البنود فقط المتبقية في السجلات، ليس أمامه إلا أن يترك العنان لخياله فيرسم لوحة لسطح البحر الذي يعكس أشعة الشمس لتتلألأ زاهية مثل قشر الأسماك، ولثمار التين والرمان التي تمتلئ بها المركب، ثم يتخيل ثلاثة رجال بيض يجلسون وسط ثمار الفاكهة ويتحاورون بحماس وشغف. والسبب أن وصف ذلك الأمر وصفا حيا وحماسيا أمر مستحيل بشكل نهائي لمجرد باحث عن الحقيقة مثلي أنا. ولكن إذا أحس القارئ ببعض الصعوبة في ذلك، ففي كتاب "تاريخ ستامفورد" لمؤلفه فرانسيس بيك، وصف لملابس "اليهودي التائه" بشكل إجمالي ربما يساعد القراء على التخيل، أو ربما يكون له فاعلية ولو قليلة في ذلك. يقول بيك: "كان معطفه بنفسجي اللون وأزراره مُقْفلة حتى الخصر، وكان السروال كذلك من نفس اللون، ولم يكن زيه قديما حسبما يوحي به منظره. كانت جواربه ناصعة البياض، ولكن لا يمكن معرفة هل هي مصنوعة من الكتان أم من الصوف. بعد ذلك كان شعر رأسه ولحيته أبيض تماما. ويمسك في يده بعكازة" ___ كان ذلك هو تسجيل بيك لما شاهده عن قرب صامويل ووليس مريض الصدر الذي ذكرته منذ قليل. ولذا لا ريب أن "اليهودي التائه" كان يرتدي نفس نوع الملابس تلك عندما قابل فرانشيسكو خافيير.
وإذا سألنا هنا لماذا عرفنا أن ذلك الرجل هو "اليهودي التائه"؟ فالسبب أنه "عندما قام الراهب فرانشيسكو بالصلاة، صلى ذلك اللعين معه بخشوع" لذا بادر فرانشيسكو بنفسه بالتحدث إليه شخصيا. ولكنه عندما تحدث لم يكن شخصا عاديا. فقد كان يختلف تماما من حيث محتوى حديثه وطريقته عن المغامرين والرحالة الذين كانوا يجوبون الشرق الأقصى في ذلك الوقت. فقد تحدث عن "تاريخ الهند وجنوب شرق أسيا وكأنه عاشه بنفسه، مما أدهش ليس فقط القس سيمون بل والراهب فرانشيسكو ذاته". وعندما سأله "من أين أنت؟" أجاب "أنا اليهودي الرحّال". ولكن لا ريب أن الراهب حمل في البداية شكا في حقيقة ذلك الرجل. وتذكر المخطوطة أنه "عندما قال الراهب فرانشيسكو له: "يجب عليك أن تُقْسِم بالفردوس الموعود" قال "أقسم"، وبسبب ذلك تحدث معه الراهب بصراحة وتحاورا في أمور عديدة". وعندما ننظر إلى ذلك الحوار نجد أنه في البداية مجرد استفسارات عن حقائق حدثت في الماضي فقط، ولم يتطرق الحوار إلى أية قضايا دينية مطلقا.
أحاديث مثل قصة استشهاد القديسة أورسولا مع أحد عشر ألف فتاة عذراء، ومرورا بقصة دخول القديس باتريك المطهر، وتدريجيا وصل الحديث إلى محتوى الأناجيل الحالية، ثم في النهاية تطرق الحديث إلى وضع يسوع المسيح على الصليب فوق جبل الجمجمة. وتذكر المخطوطة أنه قبل الانتقال إلى تلك الحكاية مباشرة، أعطى البحار بضع من ثمار التين المكدسة في المركب للراهب فأقتسمها مع "اليهودي التائه" وأكلا معا. وأذكرُ ذلك ثانية هنا لأنني تحدثتُ عنه منذ قليل عند الكلام وقت اللقاء وفي أي موسم كان، بالطبع هذا لا يعني أن ثمة معنى هام له. ­­­___ حسنا، عند النظر إلى ذلك الحوار، نجد أنه على الأرجح كان كما يلي:
الراهب: "هل كنتَ في أورشاليم وقت صلب السيد المسيح؟"
اليهودي التائه: "لقد رأيت بأم عيني هاتين آلام المسيح. أنا في الأصل اسمي يوسف، وكنت أعمل إسكافيا في أورشاليم، عندما علمتُ أن المسيح سيُحاكم أمام محاكمة الحاكم بيلاطس في ذلك اليوم، جمعتُ العائلة أمام مدخل البيت، حتى نشاهد ونحن نضحك ونسخر من معاناة المسيح مع شعورنا بعدم كفاية ذلك"
تقول المخطوطة إن المسيح مشى وهو يترنح "وسط الجموع التي اجتاحها الجنون" محاطا بالفريسيين والحاخامات خلف مزارع يحمل الصليب على ظهره. يُعلق على كتفه رداءً بنفسجيا. ووضع فوق جبينه تاج الشوك. وبعد ذلك، أيضا كانت يداه وقدماه باقية عليها آثار السوط والجروح حمراء مثل الورد. فقط كانت العيون بلا أي اختلاف عما هي عليه في المعتاد. تمتلئ "العيون الزرقاء الصافية مثلما كانت في الأيام المعتادة" بملامح عجيبة تخطت مشاعر الحزن والفرح. ___ أعطى ذلك انطباعا غريبا حتى في قلب يوسف الذي لا يؤمن بتعاليم "ابن النجار الناصري". وإذا استعارنا كلماته، فقد قال: "وكنتُ أنا وقتها كلما أرى عيون المسيح، أشعر بشكل ما بالاشتياق، ربما لأنها تشبه عيون أخي الأكبر الذي مات" وأثناء ذلك، توقفتْ قدمي المسيح الذي غرق في العرق والغبار أثناء مروره أمام باب بيت الإسكافي، وحاول أن يرتاح قليلا. ومن المؤكد أنه كان يوجد من الفريسيين من تمنطق بحزام جلدي وأطال أظافره عمدا، ومن المؤكد وجود عاهرات وضعن مسحوقا أزرق على شعورهن ويفوح منهن رائحة زيت الناردين. وكذلك ربما عكست الدروع التي حملها جنود روما، أشعة الشمس البراقة من اليمين ومن اليسار. ولكن كان المسجل في المخطوطة فقط "كثير من الناس".  ثم أراد يوسف "أن يُظهر إخلاصه للحاخامات أمام هذا العدد الكبير من الناس" فعندما رأى قدمي المسيح تتوقف عن السير، قبض على "ابن الإنسان" بإحدى يديه وهو يحتضن طفله باليد الأخرى، وراح يهزه بعنف وغلظة. ___ "جسد بعد قليل سيتم صلبه في النهاية فيما تُريحه؟ وغيره من الكلام البذيء، حتى أنه علاوة على ذلك رفع يده وضربه بها"
وعندها رفع المسيح رأسه بهدوء ونظر إلى يوسف وكأنه يوبخه. نظر له طويلا نظرة لها جلال وهيبة بعينيه التي اعتقد يوسف أنها تشبه عيني أخيه الراحل. "إذا قلت ارحل، فليس أمامي إلا الرحيل، ولكن في مقابل ذلك انتظرني حتى أعود مرة ثانية" ___ ومع النظر في عيني المسيح، أحس بأن تلك الكلمات أعنف من ريح السَّمُوم، وأنها قد احترقت قلبه في لحظة. ولكن يوسف ذاته لا يدري بوضوح هل قال المسيح ذلك فعليا أم لا؟ ولكن من المؤكد أن "تلك اللعنة اخترقت قلبه وتملكته فأصبح لا يستطيع احتمال أي شيء" فتدلّت يده المرفوعة، واختفت الكراهية التي كانت في نياط قلبه من تلقاء نفسها، وبدون وعي جثا على ركبتيه في الطريق حاملا طفله كما هو، وحاول في خوف أن يجعل شفتيه تلمس قدمي المسيح التي نُزعت منها الأظافر. ولكنه كان قد تأخر بالفعل. فقد ابتعد المسيح عن باب البيت بخمس أو ست خطوات، بعد أن دفعه الجنود للمضي في السير قُدُما. ثم وقف يوسف شاردا، وبعد لحظات نظر مودعا رداء السيد المسيح البنفسجي الذي كان على وشك الاختفاء بين الجمع الغفير. وفي نفس الوقت أدرك شعورا بالندم يندفع آتيا من أعماق قلبه ولا يمكن التعبير عنه. ولكن لم يتعاطف معه أحد. حتى زوجته وأطفاله، فسَّروا سلوكه هذا على أنه سخرية من المسيح تماما مثل تتويجه بتاج الشوك. ومن المنطقي تماما أن تنفجر ضحكات المارة في الطرقات في استمتاع. ___ ظل يوسف جاثيا لا يتزحزح تحت أشعة شمس أورشاليم القادرة على إحراق الصخور حتى تتفحم، ووسط هبوب عاصفة ضبابية من الغبار والرمال، والدموع تلوح في مقلتيه، وقد نسي أن الطفل الذي كان على ذراعه قد حملته عنه زوجته في غفلة منه. ___
ثم أجاب "اليهودي التائه" في نهاية المخطوطة على سؤالي الثاني كما يلي: "إذا كان الأمر كذلك ورغم القول إن أورشاليم عظيمة المساحة إلا أنه على الأرجح لم يدرك إثم ازدراء المسيح إلا أنا فقط. فلقد أصابتني اللعنة بالذات بسبب معرفتي للإثم. فإن السماء لا تُنزل عقابها على من لا يعتقد أن الإثم إثم. ويمكن القول إنني أنا الوحيد الذي حُمّل ذنب صلب المسيح. ولكن تلقّي العقوبة هو الطريق الوحيد لغفران الذنب، ولذلك نلتُ أنا في النهاية خلاص المسيح بأقصى ما يكون. فالسماء تنزل العقوبة والغفران معا لمن عرف أن الذنب ذنب" ___ ولا يوجد داعي للبحث عن صحة تلك الإجابة لفترة من الزمن. والسبب أن مجرد حصولي فقط على تلك الإجابة، أشبع غايتي بالفعل.
وأتمنى من أي شخص يكتشف إجابة ما على أسئلتي حول "اليهودي التائه" في المخطوطات العتيقة سواء في الشرق أو في الغرب، ألا يحتفظ بها لنفسه فقط وأن يُعْلِمني بها. أما بالنسبة لي فكنتُ أرغب في إنهاء هذا البحث الصغير بذكر المصادر التي اقتبستُ منها ما كتبته عاليه ولكن للأسف، لم يتبق لي فراغ لفعل ذلك. ولكني فقط أذكر هنا أنه توجد آراء ترى أن أصل أسطورة "اليهودي التائه" أتت مما هو مذكور في الآية الثامنة والعشرين من الإصحاح السادس عشر لإنجيل متى والآية الأولى من الإصحاح التاسع لإنجيل مرقص، ثم أتوقف عن الكتابة عند هذا الحد.

(اليوم العاشر من الشهر الخامس في السنة السادسة لعصر تايشو)
 (10 مايو سنة 1917)


[1]  المجمع المركزي لليهود في أورشاليم
[2] كانت تعرف بهذا الاسم من القرن الثالث عشر ميلادي وحتى عام 1918م ثم تغير اسمها إلى تالين بعد الثورة البلشفية وهي حاليا عاصمة جمهورية إستونيا / المترجم
[3] زلة قلم من أكوتاغاوا ويقصد النصف الثاني القرن السادس عشر الميلادي / المترجم
[4] مدينة في غرب فرنسا تطل على المحيط الأطلنطي / المترجم
[5] في الأصل الياباني النطق فضيرة أو فضيلة ويُعتقد أن أكوتاغاوا يقصد خير الدين بارباروسا قائد أسطول الدولة العثمانية الذي كان أقوى أسطول في العالم في ذلك الوقت وكان مسيطرا على كل البحار التي تطل عليها الإمبراطورية العثمانية وكان اسم خير الدين الأصلي خضر بن يعقوب واشتهر في أوروبا باسم بارباروسا أي ذو اللحية الحمراء في قول وملك البربر في قولٍ آخر / المترجم
[6] ما داخل القوسين من النص الأصلي الذي كتبه أكوتاغاوا وقد كتب عبارة الله أكبر بالحروف اللاتينية ثم شرحها باليابانية بين قوسين / المترجم
[7] كلمة لاتينية تعنى أبانا (الذي في السماء) / المترجم
[8] الأحرف الأولى من عبارة IESUS NAZARENUS REX IUDAEORUM باللغة اللاتينية وتعني "يسوع الناصري ملك اليهود" وكانت تلك هي التهمة التي قيل إن المسيح عليه السلام حوكم من أجلها / المترجم
[9] المناطق الأربعة توجد في منطقة كيوشو جنوبي غربي اليابان وهي أكثر الأماكن التي وُجد فيها مسيحيون يابانيون في القرن السادس عشر الميلادي قبل تحريم المسيحية والقضاء على معتنقيها في اليابان / المترجم
[10] الفترة من عام 1592 وحتى 1596 التي حكم فيها هيديوشي تويوتومي اليابان بعد توحيدها، وهيديوشي هذا هو أول من أصدر قرار طرد المبشرين المسيحيين من اليابان واضطهد معتنقي المسيحية من اليابانيين / المترجم

أوغين قصة قصيرة من تأليف ريونوسكيه أكوتاغاوا

أوغين*

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا**
ترجمها عن اليابانيّة: ميسرة عفيفي

كان ذلك في عصر "غِن نا[1]" أو عصر "كان إيه[2]" على أيّ حال كان في الماضي البعيد.
في ذلك العصر كان المؤمنون بديانة ربّ السماء يُحْرَقون أو يُصلَبون فور انكشاف أمرهم. ولكنْ، على الرغم من عنف الاضطهاد، فقد كان "الربُّ القادرُ على كلّ شيء" يُسبغ حمايتَه كاملةً على المؤمنين في هذه البلاد؛ إذ يظهر الملائكة والقدّيسون أحيانًا مع غروب الشمس في القرى القريبة من مدينة ناغاساكي. والواقع أنّه وصلتنا أنباءٌ عن ظهور سان جوان باتيستا[3] نفسه ذات مرة في كوخ الساقية داخل حقل ياهيه ميغيل، أحدِ المؤمنين في قرية أوراغامي. وكان الشيطان يظهر أيضًا، في الوقت نفسه أحيانا، وفي القرية نفسها، من أجل أن يُضِلّ المؤمنين عن التنسّك والعبادة، متنكّرًا في صورة رجل أسودَ مجهولِ الهويّة، أو على شكل زهورٍ وحشائشَ مستوردةٍ، أو مركباتٍ مصنوعةٍ من السلال. ويقال أيضًا إنّ الفئران التي عاناها ياهيه ميغيل، ليلًا ونهارًا، في سجنٍ في باطن الأرض، كانت في حقيقتها الشيطانَ متنكّرًا. هذا وقد أُعدم ياهيه، ومعه أحد عشر من المؤمنين، حرقًا في خريف العام الثامن من عصر "غِن نا".
كان ذلك في عصر "غِن نا" أو عصر "كان إيه" على كلّ حال، كان في الماضي البعيد.
كانت ثمّة فتاةٌ، اسمُها أوغين، تعيش في قرية أوراغامي الجبليّة. نزح والداها مسافةً بعيدةً، من أوساكا إلى ناغاساكي. ولكنْ تُوُفِّي الاثنان بعيْد وصولهما، تاركيْن أوغين الوحيدةَ يتيمةً. ولمّا كانا غريبين عن القرية، فلم يكونا يعلمان أيَّ شيءٍ عن ديانة الربّ طبعًا؛ فقد كانا يؤمنان بالبوذية. وسواء كانا من طائفة الزِن، أو السوترا، أو طائفة الأرض الطاهرة، فقد كانا – على كلّ حال – من أتباع ديانة شاكا (بوذا). وطبقًا ليسوعيّ فرنسيّ، فقد كان "شاكا" داهيةً حادّ الذكاء، وقد جاب أنحاءَ الأراضي الصينيّة يُعلّم الناسَ تعاليمَ بوذا، الذي يُسمّى أميدا، وبعد ذلك وصل إلى اليابان لنشر التعاليم نفسها. وطبقًا للتعاليم التي يُعلّمها شاكا، فإنّ أرواح البشر (Anima) تصير عصفورةً أو بقرةً أو شجرةً، وذلك تبعًا لحجم ذنوبهم وعددها. ليس هذا فحسب، بل لقد قتل شاكا أمَّه عند ولادته. وبهذا تتّضح، بشكلٍ لا ريْب فيه، بلاهةُ تعاليم شاكا، ويتّضح كذلك أنّ شاكا نفسه في منتهى الشرّ (بحسب جان كراسّيه)[4].
لكنّ والديْ أوغين، كما ذكرتُ منذ قليل، لم يَعْلما تلك الحقائق، وظلّا مؤمنيْن بشاكا، إلى أن لفظا أنفاسَهما الأخيرة. وهما الآن يحلمان بالنعيم المستحيل، تحت ظلال الصنوبر، في أرض المقابر القاحلة، من غير أن يُدركا أنّ مصيرَهما سيكون السقوط في الإنفرنو[5].
ولكنْ، لحسن الحظّ، لم تتأثّر أوغين بجهل والديْها. فلقد عمّدها ماغوشيتشي جوان، الفلّاحُ الرحيمُ، الساكنُ في القرية الجبليّة، بأنْ صبَّ على جبهتها ماءَ التعميد المقدّس منذ زمنٍ بعيد، ثم أعطاها اسمَ "ماريا". لا تؤمن أوغين مطلقًا أنّ شاكا صرخ في البريّة عند ولادته، وهو يشير إلى السماء والأرض قائلًا: "أنا المقدّسُ الأوحد فوق السماوات وتحتها"، بل كانت تؤمن بأنّ يسوع – الذي "مات على الصليب وكُفّن في تابوت حجريّ" ودُفن في قاع الأرض – قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام. وتؤمن أنّه، بمجرد النفخ في بوقٍ يومَ الفصل، "سيتنزّل الربُّ، بجلاله العظيم ونورِه الباهر، ليعيد أرواحَ البشر إلى أجسادها التي صارت ترابًا، ثم يذهب الأخيارُ إلى ملكوت السماء ويسقط الأشرارُ مع الشياطين في الجحيم". وتؤمن، بصفةٍ خاصّةٍ، بالساكرامنت المقدّس، الذي "يجعل الخبزَ والنبيذَ، ولو لم يتغيّرْ لونُهما وشكلُهما، يتحوّلان إلى جسد الربّ الحقيقيّ ودمه، من خلال كلمات الكاهن المقدّس".
لم يكن قلبُ أوغين قد صار صحراء، تهبّ فيها ريحُ الحرور، مثلَ والديْها. بل كان حقولَ شعيرٍ غنيّةً بالثمار الممزوجة بالورد البريّ. وبعد أن فقدتْ والديْها، تبنّاها ماغوشيتشي جوان. وكانت أوسومي جوانا، زوجةُ ماغوشيتشي، امرأةً ذات قلب رحيم هي الأخرى. فعاشت أوغين أيّامَها في سعادة مع هذين الأبوين، تلاحق الأبقارَ، وتحصد الشعير. وبالطبع لم تتكاسلْ قطّ، وسط تلك الحياة، عن الصلاة والصيام، ما دامت لا تُلفت انتباهَ أهل القرية. كانت أوغين، في كثير من الأحيان، تغرق بحماسٍ في الصلاة، وهي جالسةٌ في ظلّ شجرة تين على حافّة البئر، تنظر إلى الأعلى، باتجاه الهلال الكبير. وكانت صلاة هذه الطفلة الصغيرة، التي تدلّى شعرها، بسيطةً:
"أيّتها الأم الرحيمة، تقدّستْ صفاتُكِ، أرفعُ صلاتي وشكري إليكِ. إنّ ابنة حوّاء، المطرودةِ من الجنّة، تصرخ باسمكِ المجيد. انظري بعينيكِ الرحيمتين لتريْ نهرَ دموع تلك الابنةِ المسكينة. آمين!"
***
في ليلة الناتارا (عيد الميلاد) من أحد الأعوام، اصطحب الشيطانُ عددًا من موظّفي الحكومة، وجاء فجأةً إلى بيت ماغوشيتشي. كانت نيرانُ "حطب الاحتفال" مشتعلةً في مجمرةٍ كبيرةٍ مطمورةٍ تحت الأرض. وكان الصليب معلّقًا على الحائط المليء بالسخام احتفالًا بتلك الليلة. وعندما ذهبوا (الموظفون) إلى حظيرة البقر الخلفيّة، وجدوا أحواضَ العلف تمتلئ بالماء استعدادًا لحمّام السيّد يسوع الساخن. أوثق موظّفو الحكومة ماغوشيتشي وزوجتَه بالحبال، وهم يتبادلون الإيماءاتِ برؤوسهم، وأوثقوا أوغين معهما. ولكنْ لم يبدُ على الثلاثة أيُّ أثرٍ لمظاهر الخزي أو العار؛ فقد كانوا على أتمّ الاستعداد لتحمل أيّة معاناةٍ في سبيل خلاص أرواحهم. ولم يكن لديهم أدنى شكّ في أنّ الربّ العظيم سيُظلّلهم بحمايته المؤكّدة؛ أوَليس الإمساكُ بهم في ليلة الميلاد دليلًا على بركة الربّ؟ لقد كان الثلاثة متأكدين من ذلك، وكأنّهم قد اتفقوا عليه معًا.
بعد أن قيّدهم موظّفو الحكومة، ذهبوا بهم إلى منزل حاكم المقاطعة. ولكنّ الثلاثة، أثناء تحرّكهم نفسه، كانوا يتْلون صلواتِ أعياد الميلاد المجيد، ورياحُ الليل المظلم تهبّ عليهم.
"أيها السيّد الشابّ المولود في بلدة بيرين[6]، أين أنت الآن؟ تقبّلْ منا المديحَ والإجلال"
فرح الشيطان عندما رآهم مقبوضًا عليهم، وأخذ يضحك مصفّقًا بيديْه. ولكنْه، على ما يبدو، كان شديدَ الغضب من موقفهم البطوليّ. وبعد أن صار وحيدًا بصق في أسًى، وأسرع إلى التنكّر في شكل حجر رحًى كبير. ثم اختفى في الظلام وهو يجري متدحرجًا بصوتٍ عالٍ.
أُلقي بالثلاثة، ماغوشيتشي جوان وأوسومي جوانا وأوغين ماريا، في سجنٍ في باطن الأرض. وفوق ذلك عُذّبوا عذابًا شديدًا من أجل أن يتركوا ديانةَ ربّ السماء. ولكنّهم مهما لاقوا من عذاب بالماء، وعذابٍ بالنار، فإنّ إيمانَهم لم يهتزّ. ومهما تقرّحتْ لحومُهم وجلودهم من الحرق بالنيران، فهم موعودون بدخول البارايسو (النعيم) لو صبروا قليلًا. لا بل لو فكروا في نِعَم الربّ الكبرى، فسيبدو لهم سجنُ الأرض المظلم في جلال البارايسو نفسه. بل يحدث من وقتٍ إلى آخر، في الحلم وفي اليقظة، أن يزورهم ملائكةٌ وقدّيسون لمواساتهم والتسريةِ عنهم. وكانت أوغين بصفةٍ خاصّةٍ، على ما يبدو، أكثرَهم نصيبًا من تلك الزيارات السعيدة: فلقد رأت، مرّةً، القدّيسَ سان جوان باتيستا (يوحنّا المعمدان) وقد أتاها وهو يملأ كفّيْه الكبيرتين بعدد كبير من الجراد قائلًا لها "كُلي... كُلي"؛ ورأت، مرّةً أخرى، الملاكَ الأكبرَ جبرائيل، طاويًا جناحيه الأبيضين، وهو يقدّم إليها الماءَ في كأسٍ بلون ذهبيّ جميل.
ولأنّ الحاكم لا يعرف بالطبع ديانةَ ربّ السماء، ولا تعاليمَ شاكا، فإنّه لم يستطع بتاتًا فهمَ إصرار الثلاثة على ذلك العناد، وكان يظنّهم أحيانًا مجانين. ولكنْ عندما اقتنع بعدم جنونهم، أحسّ أنّهم أفاعٍ أو حيواناتٌ وحيدةُ القرن، وحوشٌ لا علاقة لهم بأخلاقيّات البشر. وفكّر في أنّ ترك مثل هؤلاء الوحوش أحياءً لن يكون مخالفًا للقوانين فحسب، وإنّما خطرًا أيضًا يهدّد مصيرَ الدولة بأكملها. ولذلك، وبعد أن تركهم شهرًا كاملًا في غياهب السجن الواقع في باطن الأرض، قرّر قتلَهم حرقًا على الوتد. (الحقيقة أنّ هذا الحاكم، شأنَ باقي أفراد المجتمع، لم يفكّر مطلقًا في مصير الدولة، أو أيّ شيء من هذا القبيل؛ فالأمر عنده يتعلّق بالقانون أولًا، وبالأخلاق ثانيًا، ولذا فلا سبب للتفكير في مصير الدولة بشكل خاصّ)
لم يبدُ على المؤمنين الثلاثة، بدءًا من ماغوشيتشي جوان، أيُّ مظهرٍ من مظاهر الخوف، أثناء اقتيادهم إلى موقع تنفيذ حكم الإعدام على أطراف القرية. كان الموقع أرضًا خلاءً، مليئةً بالأحجار الصغيرة والحصى، وتقع بجوار أرض مقابر القرية. عندما وصلوا إلى هناك، وبعد أن تُليتْ عليهم عريضةُ الاتهام واحدًا بعد الآخر، قُيِّدوا إلى أعمدةٍ سميكةٍ رباعيّةِ الشكل. كان ترتيبُ وقوفهم في مكان تنفيذ الإعدام كالآتي: ماغوشيتشي جوان في المنتصف، وإلى اليمين أوسومي جوانا، وإلى اليسار أوغين ماريا. وبدت أوسومي عجوزًا فجأةً بسبب ما لاقته من تعذيبٍ ومعاناةٍ يوميّين. أما ماغوشيتشي فطالت لحيتُه، وشحب خدّاه، ولم تكن تجري فيهما أيُّ دماءٍ تقريبًا. ومقارنةً بهما كانت أوغين بلا أيّ تغيير كبير عن وضعها العاديّ.
وقفوا فوق أكوام الحطب بوجه هادئ. وكان قد تجمّع، منذ وقت طويل، عددٌ كبير من المتفرّجين في موقع تنفيذ الحكم. وخلفهم، بعيدًا، امتدّت فروعُ بضع أشجار الصنوبر في أرض المقابر وكأنّها قبّة سماويّة.
عندما انتهت جميعُ الاستعدادات، اقترب أحدُ موظّفي الحكومة بخطواتٍ مهيبة. فوقف أمام الثلاثة، وقال لهم: "سنعطيكم مهلةً للتفكير في ترك ديانة ربّ السماء. أعيدوا النظرَ جيّدًا مرّةً أخرى، وإنْ قلتم إنّكم ستتركونها، فسنحلُّ عنكم القيدَ على الفور"
لكنْ لم يجب الثلاثةُ بأيّة إجابة. بل ظلّوا يتأمّلون السماء، وملأت البسمةُ أفواهَهم.
خيّم الصمتُ والسكونُ خلال تلك الدقائق على موظّفي الحكومة، وعلى جمهور المتفرّجين بالطبع. صبّت عيونٌ جامدةٌ، لا حصر لها، النظرَ على أوجه الثلاثة، من دون أن تَطْرف. ولم يكن صمتُهم بسبب التعاطف مع ألم الثلاثة، بل كانوا ينتظرون بلهفةٍ وشوقٍ اشتعالَ النار. وكان منفِّذُ الحكم قد بلغ به المللُ من بطء تنفيذ الإعدام منتهاه، فلم تظهر لديه أيّةُ رغبةٍ في الحديث.
فجأةً سمع الجموعُ صوتًا غيرَ متوقَّع:
"لقد قرّرتُ التخلّي عن ديانة ربّ السماء!"
كان الصوت صوتَ أوغين. انفجرتْ همهماتُ الحضور. ولكنْ، بعد الجلبة، سيطر الهدوءُ فورًا على الجميع من جديد. والسبب أنّ ماغوشيتشي توجّه بالحديث إلى أوغين بصوتٍ حزينٍ وضعيفٍ قائلًا:
"أوغين! هل تلاعب بك الشيطانُ وخدعك؟ صبرًا قليلًا وستنعمين برؤية وجه الربّ!"
وقبل أن تنتهي كلماتُه، تحدّثتْ أوسومي، بكلّ اجتهاد، إلى أوغين البعيدة عنها:
"أوغين! أوغين! إنّه مَسٌّ من الشيطان! عليكِ بالدعاء والصلاة!"
ولكنّ أوغين لم تجب. كانت عيناها تتأمّلان أشجارَ الصنوبر في أرض المقابر التي تمتد فروعُها وكأنّها قبّةٌ سماويّةٌ خلف الجموع. وأثناء ذلك، كان أحدُ موظّفي الدولة قد أعطى أوامره بحلّ قيدها.
وحين رأى ماغوشيتشي جوان ذلك، أغمض عينيه في يأس:
"أيّها الربّ القادر على كلّ شيء، لقد أسلمتُ أمري إلى حكْمك"
ظلّت أوغين التي فُكّ قيدُها كما هي: شاردةً بلا حراك. ولكنْ، عندما نظرتْ إلى ماغوشيتشي وأوسومي، سجدتْ فجأةً أمامهما وذرفت الدموعَ من دون أن تنبسَ بحرف. ظلّ ماغوشيتشي مغمض العينين، وظلت أوسومي تشيح بوجهها بعيدًا لتتفادى النظرَ إلى أوغين.
وأخيرًا تكلّمت أوغين فقالت:
"أبي العزيز! أمّي العزيزة! أرجو أن تغفرا لي. لقد تركتُ ديانةَ ربّ السماء. والسبب أنّني انتبهتُ فجأةً إلى فروع أشجار الصنوبر التي تشبه قبّةً سماويّةً تُرى هناك. إنّ والديّ اللذين يرقدان هناك، تحت ظلّ الصنوبر المزروع في أرض المقابر، لا يَعْلمان شيئًا عن ديانة الربّ، ولذا فمن المؤكّد أنّهما الآن قد سقطا بالفعل في الإنفرنو (الجحيم). ولذا فإنّ دخولي بمفردي البارايسو (النعيم) من دونهما أمرٌ لا يمكن تبريرُه لهما بأيّ حال. ولذا يجب عليّ أن أتبع طريقَ والديّ إلى قاع الجحيم. أرجو منكما، يا أبي ويا أمّي، أن تذهبا إلى جوار السيّد يسوع والسيّدة ماريا. وفي مقابل تركي الديانةَ فإنّ عليّ أن أعيش ..."
بعد أن وصلتْ أوغين إلى نهاية قولها هذا، غرقتْ في بكاءٍ ونحيب. ثم بدأتْ أوسومي جوانا تُسقط دموعَها أنهارًا فوق الحطب الذي تقف عليه بقدميْها.
كان استغراقُها في بكاءٍ لا داعيَ له الآن، وهي توشك على دخول البارايسو، أمرًا ينبغي ألّا يفعلَه مؤمنٌ بديانة الربّ. التفت ماغوشيتشي جوان إلى زوجته بصعوبة، وعنّفها بصوتٍ حادٍّ وعالِ.
"هل أصابكِ الشيطانُ بمَسٍّ أنتِ أيضًا؟ إنْ أردتِ تركَ ديانة ربّ السماء أنتِ الأخرى، فيمكنكِ أن تفعلي ذلك بمفردك. وسأريكِ أنني على استعداد للموت ولو كنتُ وحدي!"
"لا. سأكون معك. ولكن هذا ... هذا ..."
بعد أن ابتلعتْ أوسومي دموعَها، ألقت بالكلمات فيما يشبه الصراخ:
"ولكنْ هذا ليس لأنني أريد دخول البارايسو. ولكنْ فقط لأنني ... أريد أن أكون معك!"
ظلّ ماغوشيتشي صامتًا فترةً طويلة. ولكنّ وجهَه كان يتلوّن بالزرقة، ثم يتلوّن بلون الدماء. وفي الوقت نفسه بدأتْ قطراتُ العرق تتراكم على وجهه. كان ماغوشيتشي ينظر إلى روحه (Anima) الآن بعين قلبه. كان ينظر إلى تصارع الملائكة مع الشياطين لخطفِ روحه. وفي تلك الحال تمنّى أن تظلّ أوغين على ما هي عليه، من غير أن ترفع وجهها المسجّى الباكي إلى أعلى...
سحقًا! لقد رفعتْ أوغين وجهها بالفعل. بل ظلّت عيناها المليئتان بالدموع، واللتان تسكنهما أشعّةٌ عجيبة، تتأمّلانه في ثبات. لم يكن قلبُ الطفلة هو وحده ما يلمع في عمق هاتين العينين، بل قلوب "أطفال حوّاء التائهين"، قلوب كلّ البشر على الأرض.
"أبي العزيز، وأنتِ يا أمّي العزيزة! فلندخل الإنفرنو معًا. معي، ومع أبي وأمي الراقدين هناك. لندع الشيطانَ يختطفنا جميعًا!"
أخيرًا سقط ماغوشيتشي.
تمثّل هذه القصة زَلّةً تُجلب الخزيَ والعار، من بين قصص المعاناة الكثيرة التي قابلها المسيحيون القدامى في دولتنا هذه وبلغت الأجيالَ التالية. ففي الوقت الذي قرّر الثلاثةُ معًا تركَ ديانة الربّ، صبّ عليهم جمهورُ المتفرّجين، من الرجال والنساء، شبابًا وكبارًا، الغضبَ والكراهية، على الرغم من عدم اهتمامهم بربّ السماء! وربّما كان سبب تلك الكراهية ضياع فرصة مشاهدة العمليّة التي أتوْا خصّيصًا من أجلها، أي حرقهم أحياء. بل إنّ ما وصل إلينا هو أنّ الشيطان، من شدة فرحته وقتها، تنكّر في شكل كتاب كبير، وظلّ طوال الليل يطير فوق موقع تنفيذ الحكم.
ولكنّ كاتب هذه السطور يشكّ كثيرًا في أنّ ذلك كان نجاحًا باهرًا للشيطان يستحقّ السرورَ الشديد.

* كُتبت في أغسطس من عام 1922.

** ريونوسكيه أكوتاغاوا: 
عملاق الأدب اليابانيّ. وهو صاحب الراشومون، أشهر قصة يابانيّة في العصر الحديث، وهي التي أخذ المخرجُ الشهير أكيرا كوروساوا اسمَها وجزءًا منها مع قصته الأخرى في غابة أو في علم الغيب، ليصنع منهما ذلك الفيلمَ الرائع، راشومون، الذي حاز جائزةَ الأسد الذهبيّ لأحسن فيلم في مهرجان فينسيا السنيمائيّ عام 1951، وكذلك جائزة الأوسكار التقديريّة للعام نفسه عن أول فيلم ياباني يفوز بهاتين الجائزتين.
هذا وقد وُلد أكوتاغاوا سنة 1892، في العام الخامس والعشرين من عصر ميجي، أيْ بعد ربع قرن من بداية حركة التحديث والتنوير اليابانية التي بدأتْ بإعادة الساموراي مقاليدَ السلطة والحكم إلى الإمبراطور. درس أكوتاغاوا الأدب الإنجليزيّ في جامعة طوكيو الإمبراطورية، وبدأ في الكتابة والنشر وهو ما يزال طالبًا في الجامعة. يقول عنه أحد أصدقائه إنّه كان يستطيع قراءة ألف صفحة يوميًّا. انتحر أكوتاغاوا في الخامسة والثلاثين من عمره، وهو في أوج مجده، بتعاطي كميّة كبيرة من الأقراص المنوِّمة. وبعد موته بثماني سنوات أطلق صديقُ عمره، الكاتبُ والناشر "كان كيكوتشي،" جائزةً أدبيّة باسمه، لتصبح أشهر جائزة أدبيّة في اليابان.
ترك أكوتاغاوا ما يزيد على المئتين وخمسين عملًا، أغلبها قصص قصيرة. وتُعتبر أعماله قمّة الأعمال الأدبية اليابانية التي كُتبتْ في بدايات القرن العشرين والتي لا يزال لها بريقها ورونقها حتى الآن.





[1] عصر غِن نا من العام 1615 إلى العام 1624.
[2] عصر كان إيه من عام 1624 إلى 1644.
[3] اسم القدّيس يوحنّا المعمدان في اللغة البرتغاليّة. وكان البرتغاليون أول من أدخل المسيحيّة إلى اليابان. وكل الكلمات الأجنبية في النص بارايسو وإنفرنو إلخ مأخوذة من اللغة البرتغالية.
[4] جان كراسّيه (CRASSET, JEAN 1618-1692) راهب يسوعيّ فرنسيّ عمل في التبشير. له عدة مؤلفات، منها كتاب تاريخ الكنيسة في اليابان (باريس، 1689).
[5] الإنفرنو تعني الجحيم، باللغة البرتغاليّة وهي اللغة التي تم بها التبشير للمرة أولى في اليابان في القرن السادس عشر الميلادي.
[6] بيرين: مدينة بيت لحم باللغة البرتغالية.

قِصْةٌ مِنْ قِصَصِ الغَرَام تأليف: ريونوسْكيه أكوتاغَاوا ترْجَمة: مَيْسَرة عَفِيْفيّ


قِصْةٌ مِنْ قِصَصِ الغَرَام
– أو "الحُبُّ هُوَ الأفْضَلُ (Love is best)" –
تأليف: ريونوسْكيه أكوتاغَاوا
ترْجَمة: مَيْسَرة عَفِيْفيّ

غُرْفةُ مُقابَلاتِ فِي إحْدَى المَجَلَّاتِ النِسّائيَّة
رَئيْسُ تَحْرِير المجلة        رَجُلٌ أنِيقٌ مُمْتَلئ الجَسَدِ جدًّا في الأرْبَعيْن تقْريبًا مِنْ العُمر
ياسْوكِيتْشي هُوريكَاوا    عَلَى قَدْرِ امْتِلاء جَسَدِ رئيس التحرير فهو يبدو نحيفًا فوق نحافته، في الثلاثين تقريبًا من العمر، ويصعب وصفه في كلمةٍ واحدة. ولكنْ في كلِ الأحوال؛ الحقيقة فقط أن المرء يُصاب بترددٍ في وصْفِه بالأنيْقِ.

رَئيْسُ التَحْرِير: هل لك أن تتفضل بكتابة قصة لتنشر في مجلتنا؟ فعلى ما يبدو أن القُرّاء مؤخرًا صاروا من طبقة اجتماعية أكثر رقيًّا، ولذا فهم لا يرضون بقصص الغرام المنتشرة حاليًّا، ... أريدُ مِنْك أنْ تتفضلَ بكتابة قصة غرام جادة تكون أكثر عمقًا في جذورها الإنسانية.
ياسوكيتشي: سأكتب ما تقول. في الواقع ثمة فكرة قصة لدي مؤخرًا أريد أن أكتبها لتنشر في مجلة نسائية.
رئيس التحرير: حقًا؟ هذا أمر رائع. إنْ تفضلت بكتابتها لنا سأنشر دعاية كبيرة عن ذلك في الجرائد. وسأصدر إعلانًا محتواه مثلًا؛ "قصة غرامية لا حدود فيها لمشاعر الألم والحزن بقلم السيد هوريكاوا"
ياسوكيتشي: "لا حدود فيها لمشاعر الألم والحزن؟!" ولكن قصتي اسمها "الحُبُّ هُوَ الأفْضَلُ"
رئيس التحرير: إذن هي رواية في مدح الغرام، أليس كذلك؟ وهذا أمر لا مانع منه مطلقًا. فمنذ ظهور كتاب الدكتور كورياكاوا "نظرية الغرام في العصر الحديث"، تميل قلوب الشباب من الذكور والإناث إلى مذهب الغرام هو الأفضل. ... بالطبع هي قصة غرامية عصرية أليس كذلك؟
ياسوكيتشي: حسنٌ، ذلك هو موضع السؤال! بالتأكيد ثمة ما يُسمَّى الشك العصري، أو السرقات العصرية، أو صبغة الشعر العصرية. ولكني أعتقد أن الحب والغرام فقط لم يتغير كثيرًا منذ الماضي منذ عصر إيزاناغي وإزانامي.
رئيس التحرير: هذا من الناحية النظرية فقط. فمن أمثلة الحب العصري العلاقة الثلاثية بين رجل وامرأة وعشيق أو عشيقة مثلا. أو هذا هو الوضع الحالي في اليابان على الأقل.
ياسوكيتشي: آه، العلاقة الثلاثية؟ أجل ثمة علاقة ثلاثية في قصتي. ... هل أحكي لك مختصرًا سريعًا لمحور القصة؟
رئيس التحرير: سيكون هذا من دواعي سروري.
ياسوكيتشي: بطلة القصة زوجة شابة. زوجة دبلوماسي يعمل في وزارة الخارجية. وبالطبع تسكن في منزل فخم داخل نطاق المنطقة الراقية جدًا بطوكيو. ذات قوام ممشوق وقامة طويلة، وحنونة للغاية وعلى الدوام شعر رأسها على شكل ... ما قصة الشَعر التي يطلبها القراء في بطلات القصص حاليًا؟
رئيس التحرير: يغطي فقط الأذنين على ما أعتقد.
ياسوكيتشي: حسنا لنعجل شَعرها يغطي الأذنين. شَعرها دائما يغطي أذنيها، ولونها أبيض، وعيناها حية متيقظة، وفي شفتيها علامة مميزة ... حسنا، لو صنعنا صورة متحركة، فمؤكد أن الدور يناسب الممثلة سوميكو كوريشيما. ولأن زوجها دبلوماسي حاصل على درجة جامعية حديثة في القانون، لذا فهو ليس غبيًّا عنيدًا مثل أبطال أعمال المسرح الحديث المأسوية. كان لاعبا في فريق البيسبول في جامعته، وعلاوة على ذلك يقرأ الروايات على سبيل الترفيه، رجلا أسمر البشرة حسن الطلعة. عاشا في سعادة في بداية حياتهما الزوجية في بيتهم الفخم في أرقى منطقة بطوكيو. أحيانا ما يذهبا معا للحفلات الموسيقية. وأحيانا يتماشيان معا في حي غينزا.
رئيس التحرير: كان ذلك بالطبع قبل كارثة الزلزال؟
ياسوكيتشي: أجل، قبل الزلزال بوقت طويل. ... أحيانًا ما يذهبا معا للحفلات الموسيقية. وأحيانًا يتماشيان معًا في حي غينزا. أو كانا فقط يجلسان في غرفة البيت التي على الطراز الغربي يتبادلان الابتسام في صمت تحت أضوائها الكهربائية. تطلق بطلة القصة على الغرفة الغربية تلك اسم "عِشّنا". على حائط الغرفة عُلِّق نسخ مقلدة من لوحات رينوار وسيزان. ويطلق الپيانو أشعة براقة من جسده الأسود. وتتدلّى سعف من النخيل المنزلي المزروع في أصيص الزرع. إذا قلت ذلك فسيبدو فاخرا إلى حدٍ ما، ولكن على غير المتوقع فإيجار البيت رخيص.
رئيس التحرير: ألا تعتقد أنه لا ضرورة لذلك الشرح؟ على الأقل داخل نص القصة.
ياسوكيتشي: لا، بل توجد ضرورة. لأن مرتب دبلوماسي شاب معروف حدوده.
رئيس التحرير: اجعله إذن ابنًا لعائلة من النبلاء. اجعله ابنًا لدوق أو كونت. فلسببٍ ما لا يظهر الماركيز أو البارون في القصص والروايات.
ياسوكيتشي: لا مانع أن يكون ابن كونت. على أي حال إذا وجدت غرفة على الطراز الغربي في المنزل سيكون أفضل. لأنني سأجعل الحفل الموسيقي الأول إما في تلك الغرفة الغربية أو في حي غينزا. ... ولكن تايكو – وهذا هو اسم بطلة القصة – بعد أن تتعرف على الموسيقيّ تاتسو تبدأ تدريجيا في الشعور بقلق من أمر معين. تشعر بطلة الرواية أن تاتسو وقع في حبها. ليس هذا فقط بل أن ذلك القلق يتزايد مع مرور الأيام.
رئيس التحرير: أي نوع من الرجال تاتسو هذا؟
ياسوكيتشي: تاتسو ذو موهبة موسيقية عبقرية. موهبة جمعت موهبة شخصية جان كريستوف الذي كتبها رومان رولان وموهبة شخصية دانيال نوتهافت التي كتبها جاكوب ڤاسرمان. ولكنه كان فقيرًا، ولم يعترف أحد بموهبته بعد لكي يستطيع عمل شيء. وأنا أنوي أجعل صديقًا لي موديلًا لتلك الشخصية. إن صديقي في الأصل وسيم وجميل الوجه، ولكن تاتسو ليس جميل الوجه. إنه إنسان بدائي من مواليد إقليم شمال شرق اليابان ويبدو وجهه من النظرة الأولى شبيهًا بالغوريلا. ولكن عينيه فقط بهما بريق ينّمُ عن عبقريته.
رئيس التحرير: بالتأكيد أُرحّبُ بتلك العبقرية.
ياسوكيتشي: ولكن ليس معنى ذلك أن تايكو تعاني من حرمان تجاه زوجها الدبلوماسي. لا بل على العكس فقد أغدقت عليه حبًّا حارًا أكثر مما كانت عليه في السابق. وزوجها كذلك كان يثق بها ثقة عمياء. وهذا بالطبع أمر لا يحتاج إلى نقاش. ومن أجل ذلك كانت معاناة تايكو تزداد عنفوانًا مع مرور الأيام.
رئيس التحرير: أن ما أُطلق عليه أنا قصة غرامية عصرية، هي بحق مثل هذه القصة.
ياسوكيتشي: كذلك تاتسو كان بمجرد أن أضيئت الأنوار الكهربائية في الغرفة الغربية يأتي إليهما. وفي حالة وجود الزوج لا يوجد معاناة كبيرة، ولكنه كان يأتي كذلك حتى في حالة غياب الزوج. وفي تلك الحالة كانت تايكو تضطر إلى أن تجعله يعزف على الپيانو فقط طوال الوقت. وحتى في وجود الزوج كان تاتسو في الأغلب يجلس دائما أمام الپيانو.
رئيس التحرير: وأثناء ذلك يقعا في الحب؟
ياسوكيتشي: لا، لا يسقطا بهذه السهولة. ولكن في تلك الليلة من شهر فبراير، بدأ تاتسو فجأة في عزف "أغنية مهداة إلى سيلڤيا" لشوبرت. تلك الأغنية الممتلئة بالشغف والحماس مثل اللهيب الجارف. أصغت تايكو أذنيها وهي جالسة تحت ظل سعف النخيل العملاقة. وأثناء ذلك بدأت تشعر تدريجيا بعاطفة حب تجاه تاتسو. وفي نفس بدأت تشعر بحبائل الإغواء الذهبية تلوح أمام ناظريها. ... لو استمر العزف خمس دقائق أخرى لا بل لو امتد دقيقة واحدة، لربما كانت تايكو قد ألقت بجسدها بين ذراعيّ تاتسو. ولكن لحسن الحظ عاد زوجها من عمله داخلًا إليهما بالضبط وتلك الأغنية على وشك الانتهاء.
رئيس التحرير: ثم ماذا حدث؟
ياسوكيتشي: ثم بعد ذلك بعد مرور حوالي أسبوع، لم تستطع تايكو تحمل العذاب أخيرًا، وقررت أن تنتحر. ولكنها كانت في ذلك الوقت حاملًا، لذا لم تكن لديها الشجاعة لتنفيذ قرارها. وعندها تبوح لزوجها بأن تاتسو يحبها. ولكيلا تجعل زوجها يتألم فقط لم تعترف له بأنها تحب تاتسو.
رئيس التحرير: وبعد، هل تحدث مبارزة بين الرجلين؟
ياسوكيتشي: لا، ولكن فقط الزوج يرفض استقبال تاتسو ببرود عندما يأتي لزيارتهما. يتأمل تاتسو الپيانو فقط وهو يعض على شفتيه في صمت. كانت تايكو تقف بلا حراك خلف الباب تقاوم بثبات انهمار دموعها. ... ثم بعد ذلك لم يمر شهرين حتى تلقّى الزوج فجأة أمرًا حكوميًّا بالانتقال للعمل في قنصلية هان كوه في الصين.
رئيس التحرير: وهل تذهب تايكو معه؟
ياسوكيتشي: بالطبع تذهب معه. ولكن قبل ترحل تايكو ترسل رسالة إلى تاتسو. "أنا أتعاطف مع مشاعرك. ولكني لا أقدر على عمل أي شيء. يجب على كلينا أن نستسلم لقدرنا" ... رسالة تحمل هذا المعنى على الأغلب. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لا تلتقي تايكو مع تاتسو مرة أخرى.
رئيس التحرير: حسنا هل بهذا تنتهي الرواية؟
ياسوكيتشي: لا بل توجد لها بقية. بعد أن ذهبت تايكو إلى هان كوه، تتذكر تاتسو من حين لآخر. ليس هذا فقط بل وصل الأمر أن أصبحت تعتقد أنها في الواقع تحب تاتسو أكثر من زوجها نفسه. حسنا هل تعلم؟ إن ما يحيط تايكو هو مناظر مدينة هان كوه الموحشة. تلك المناظر التي أعربت عنها قصيدة الشاعر الشهير تسوي هاو من عصر سلالة تانغ التي يقول فيها:
على الجانب الآخر
من نهر اليانغتسي الصافي
تُرى بوضوح
أشجار مدينة هان يانغ
حيث تنمو بحيوية
النباتات العطرة
فوق جزيرة الببغاء
وأخيرا قررت تايكو - بعد مرور حوالي عام - أن ترسل رسالة لمرة واحدة إلى تاتسو. رسالة محتواها: "أنا أحبك. ما زلتُ أحبك حتى الآن. أرجو أن تأسى عليَّ أنا التي خدعت نفسي" ولكن تاتسو الذي تلقى تلك الرسالة ...
رئيس التحرير: بالتأكيد ذهب إلى الصين على الفور. أليس كذلك؟
ياسوكيتشي: إنه لا يستطيع عمل ذلك مطلقا. لأن تاتسو لكي يجد قوت يومه كان يعزف الپيانو في قاعة عرض سنيمائية بمنطقة أساكوسا.
رئيس التحرير: ولكن هذا أمر ممل وغير مشوّق.
ياسوكيتشي: ما باليد حيلة حتى لو كان مملًا. فتح تاتسو مظروف رسالة تايكو وهو جالس على طاولة في مقهى بإحدى الضواحي النائية. وخارج النافذة كانت السماء تمطر. ظل تاتسو يحملق في الرسالة وكأنه قد فقد عقله. لقد أحس بشكل ما أنه قادر على رؤية تايكو التي كان يراها في الغرفة غربية الطراز بين سطور تلك الرسالة. أحس أنه يرى "عِشّنا" وإضاءته الكهربائية تنعكس على غطاء الپيانو. ...
رئيس التحرير: أشعر بشكل ما أن ثمة شيء ناقص، ولكن القصة ستكون تحفة خالدة. أرجوك منك رجاء حارًا كتابة تلك القصة.
ياسوكيتشي: في الواقع لم تنتهي القصة وثمة بقية.
رئيس التحرير: حقا؟ ألم تكن تلك النهاية؟
ياسوكيتشي: بلى، بعد ذلك ينفجر تاتسو ضاحكًا. ثم بعدها يطلق بحزن كلمات غاضبة مثل: "تبا، اللعنة"
رئيس التحرير: آها، أي أنه قد جُنّ.
ياسوكيتشي: ماذا؟ إنه غضب وانفعل من عبثية الأمر. وله الحق تماما في الانفعال. وذلك أن تاتسو لم يكن يحب تايكو بتاتًا.
رئيس التحرير: ولكن معنى ذلك أن ...
ياسوكيتشي: لقد كان تاتسو يذهب إلى بيت تايكو حبا في عزف الپيانو. بمعنى أنه كان يحب الپيانو فقط. فعلى أي حال تاتسو الفقير ماديًا لم يكن لديه المال الكافي لشراء پيانو.
رئيس التحرير: ولكن يا سيد هوريكاوا!
ياسوكيتشي: إن تاتسو كان سعيدًا على الأقل في الأيام التي كان يستطيع فيها العزف في قاعة العرض السينمائية. ولكن تاتسو بعد ذلك الزلزال الضخم، أصبح شرطيًّا. وفي وقت حركة حماية الدستور أصبحت حياته جحيمًا من أجل حماية سكان طوكيو. ولكنه أثناء المرور في دورية المنطقة الراقية من طوكيو، وعندما يسمع صوتًا خافتًا لعزف پيانو، يظل واقفًا أمام ذلك البيت ويعيش في حلم سعيد لا يمكن أن يتحقق.
رئيس التحرير: بهذا تذهب القصة هباء ...
ياسوكيتشي: تمهل واسمع. في أثناء ذلك كانت تايكو ما زالت بلا تغيير تفكر في تاتسو وهي في بيتها في هان كوه. لا ليس هان كوه فقط. بل في كل مرة يتنقل زوجها الدبلوماسي في عمله كانت تفكر في تاتسو بلا تغيير. بالطبع بعد الزلزال كانا قد أنجبا عددًا كبيرًا من الأطفال. حسنا، ___ لقد ولدت تواءم في عامين متتالين، لذا فلديهم أربعة أطفال. علاوة على ذلك أصبح الزوج في غفلة من الزمن مدمنا على الخمر. ومع ذلك ظلت تايكو التي أصبحت سمينة مثل الخنزير تعتقد أن تاتسو الوحيد الذي أحبها بصدق. إن الحب حقًا هو الأفضل. وإذا لم يكن الأمر كذلك فمن المستحيل أن تصبح امرأة مثل تايكو سعيدة أبدًا. أو على الأقل لن تستطيع العيش دون صب جام غضبها على أوحال الحياة. ... ما رأيك في مثل هذه القصة؟
رئيس التحرير: يا سيد هوريكاوا! هل أنت جاد بالفعل؟
ياسوكيتشي: أجل. بالطبع أنا جاد. انظر إلى قصص الحب على الساحة. فبطلة القصة إن لم تكن مريم العذراء ستكون الملكة كليوباترا. ولكن البطلة في الحياة لا تكون بالضرورة قديسة، وفي نفس الوقت لا تكون بالضرورة عاهرة. انظر لو ثمة رجل وامرأة، لو فرد واحد استقبل تلك القصة بصدق، وسط القراء الطيبين. بالطبع في حالة تحقق الحب بكامل الرضا ستكون قضية مختلفة، ولكن لو افترضنا جدلًا أن الحب فشل فإنه في ذلك اليوم، إما أن تضحي بنفسك بالضرورة بشكل عبثي غبي، وإنْ لم تفعل فتُظهر حالية نفسية انتقامية عبثية غبية. بل وتلك الحالة يقع صاحبها نفسه في هواها على أنها فعل بطولي. ولكن قصص الحب التي أكتبها أنا، ما من ميل ولو أقل القليل إن يصل التأثير السيئ هذا للحبيبة. إضافة إلى ذلك، أنا أمدح سعادة بطلة القصة.
رئيس التحرير: أنت بالتأكيد تمزح. ... على أي حال لا يمكن أن تنشر مجلتي مثل هذا الهراء مطلقا.
ياسوكيتشي: أتقصد ذلك حقا؟ حسنا سأنشرها في مكان آخر. في هذا العالم الواسع، لا بد أن مجلة نسائية ولو واحدة وحيدة، تقبل آرائي تلك.

الدليل على أن توقع ياسوكيتشي لم يكن خاطئا أن هذا الحوار يُنشر هنا[1].
(الشهر الثالث من العام الثالث عشر من عصر تايشو)
(مارس من عام 1924م)


[1] نُشرت في مجلة "نادي السيدات" النسائية في مارس 1924م / المترجم