انتحار الأدباء في اليابان
ظاهرة محيرة
بقلم: ميسرة عفيفي
كنا في جلسة من جلسات جماعة إييداباشي الأدبية (التي دعا لإنشائها الأديب
الشاب كيئتشيرو هيرانو عام 2012 وتتكون من نخبة من أفضل الأدباء الشبان في اليابان
مع عدد من أساتذة الأدب في الجامعات اليابانية وعدد من مترجمي الأدب من لغات عدة)،
فقال الروائي الشاب فومينوري ناكامورا فجأة: "لقد تخطيت الأديب ريونوسكيه
أكوتاغاوا، وهدفي القادم هو تخطي الأديب أوسامو دازاي."
تعجّبنا جميعا من قوله هذا وجرائته في إعلان هذا الرأي، فرغم علمنا بموهبته
وتميّزه الأدبي إلا أنه لا يوجد من يعتقد أنه يتخطى هذين العملاقين بهذه السهولة
وحتى لو كان هو يعتقد أنه يتفوق عليهما، فلا يعقل أن يقول ذلك أمام أعضاء جماعة
أدبية تضم عدد من أفضل أدباء اليابان الشباب بالإضافة إلى عدد من أساتذة الأدب في
أعرق الجامعات اليابانية وكذلك عدد من مترجمي الأدب سواء يابانيين أو أجانب.
وعندما وجد ناكامورا الجميع قد أصابهم الوجم وظلوا حائرين في كيفية تقبّل
هذا الرأي والرد عليه، ضحك في استمتاع وبدأ يشرح لنا ماذا يعني بكلامه. فقد كان
ناكامورا المولود في الثاني من شهر سبتمبر عام 1977، قد بلغ السادسة والثلاثين من
العمر عندما تحدث بهذا الحديث، وكان يعني أنه تخطى سن الخامسة والثلاثين التي
انتحر فيها الأديب العملاق ريونوسكيه أكوتاغاوا، دون أن ينتحر مثله، وأنه حاليا يستمد
الرغبة في الحياة من خلال الاعتقاد أنه ببلوغ سن التاسعة والثلاثين فأنه سيتخطى
الأديب أوسامو دازاي الذي أقدم على الانتحار في عمر الثامنة والثلاثين. حتى لو كان
التفوّق عليهما لا يعتدى الاستمرار في هذه الحياة دون الإقدام على الانتحار وإنهاء
حياته بيده.
قلتُ له: "ولكن بعد أوسامو دازاي سيكون عليك الصبر مدة أطول حتى
تستطيع تخطي يوكيو ميشيما الذي انتحر في الخامسة والأربعين من عمره، أليس
كذلك؟" ضحك صديقي ناكامورا وقال: "حقا هو كذلك، ولكن يا لها من متعة ويا
له من مجد لو استطعت التفوّق على ميشيما وتخطيه." وللعلم فهؤلاء الأدباء
الثلاثة بالذات هم أول من يذكرهم ناكامورا من الأدباء الذين يحبهم وتأثر بهم خلال
مسيرته الأدبية.
بالطبع كان الحديث من بدايته لنهايته مجرد مزاح من هذا الأديب الشاب، ولكن
بسببه تطرق الحديث بعد ذلك إلى ظاهرة انتحار الأدباء والمشاهير في اليابان بكثرة
لدرجة أن توجد صفحة ضخمة في موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية عن المشاهير من
الأدباء والفنانين والسياسيين ... إلخ، الذين أنهوا حياتهم بأيديهم، وتشكل ظاهرة
ربما تنفرد بها اليابان خاصة في العصر الحديث. وربما يحبذ الرجوع إلى مقال كاتب
هذه السطور الذي كتبه منذ سنوات بعنوان "اليابان وثقافة الانتحار" وهو
متوفر على شبكة الإنترنت لمعرفة نظرة اليابانيين للانتحار. ولكن هذا المقال نخصصه
لألقاء نظرة على هؤلاء المشاهير الذين سعوا للانتحار.
عند دراسة قائمة المنتحرين من مشاهير اليابانيين والذي بلغ عددهم حوالي
خمسمئة شخص، أصغرهم هو ماسافومي
أوكا الذي انتحر عام 1975 وهو في الثانية عشر من عمره وبعد موته نُشرت أعماله
الشعرية تحت عنوان "أنا عمري 12 سنة"، وتحولت بعض قصائده إلى أغاني وتم
تحويل محتوي الكتاب إلى مسلسل تلفزيوني. وأكبرهم سنا هو دانزو إيتشيكاوا ممثل
الكابوكي الذي انتحر عام 1965 وهو في الرابعة والثمانين من العمر بعد اعتزاله، نجد
عدة ملاحظات جديرة بالاهتمام منها: أولا نسبة عدد النساء المنتحرات قليل للغاية
مقارنة بالرجال فعددهن لم يتجاوز نسبة 13% من المجموع الكلي للمنتحرين، فهل هذا يدل على
قوة المرأة النفسية والمعنوية وتحملها لمتاعب هذه الحياة؟ وربما يكون السبب هو أن
المرأة منبع الحياة وهي التي جعلها الله تعالي وعاءً لتلك الحياة وسبيل ميلادها،
فهي بذلك تدرك أكثر من الرجل بكثير قيمة الحياة الإنسانية وقيمة الروح التي وهبها
الله للبشر. ولكن هناك من يقول العكس، أي أن الانتحار في حد ذاته يحتاج إلى عزيمة
قوية وإنه عمل يعتبر ثورة على الفطرة الإنسانية ولذا فهو قرار لا يقدر عليه إلا
الرجل بحكم تركيبة عقله التي تنحو تجاه السيطرة على عواطفه وتحدي القيم والمعايير
المتعارف عليها مجتمعيا وأخلاقيا ودينيا. والمرأة بحكم سيطرة العاطفة عليها فهي
تفشل في النهاية في أخذ هذا القرار المصيري بإنهاء حياتها.
والملاحظة الثانية هي أنه مع تنوّع الوظائف التي
يعمل بها هؤلاء المنتحرون المشاهير إلا أن النظر لهذه القائمة نجد طغيان نسبة عدد الأدباء
والفنانين في القمة بنسبة حوالي 40% يليهم السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال
بنسبة حوالي 30% ليس بينهم امرأة واحد، وقلة عدد الرياضيين حيث شكلوا نسبة أقل من
6% وعدد النساء بينهم ثلاثة نساء فقط.
وهناك ملاحظة أخرى وهي وجود عائلات تكثر فيها
حالات الانتحار، فمثلا الممثل هيرويوكي أوكيتا انتحر هو وأخوه الأكبر وأبوه وجده
لأبيه، بالطبع كل في وقت مختلف.
الملاحظة الأخيرة هي أن أكثر وسيلة مستخدمة في
الانتحار بين مشاهير المنتحرين في اليابان، هي شنق الرقبة بحبل، يليها القذف من
مكان عالي الارتفاع، ثم الأسلحة النارية ويلي ذلك القذف أمام قطار مسرع، وأخيرا
استخدام آلة حادة ومنها الهاراكيري.
أما الأدباء وهم هدف هذا المقال فتبلغ نسبتهم
حوالي 10% من إجمالي عدد مشاهير المنتحرين في اليابان في العصر الحديث وحتى الآن (يبدأ
العصر الحديث في اليابان من عصر الإمبراطور ميجي إمبراطور ثورة الإصلاح التي أنهت
حكم الساموراي أو المحاربين الإقطاعيين وأسست حكومة حديثة على الطريقة الغربية،
وكان ذلك في عام 1868 ميلادية). وهم يتوزعون بين أدباء وشعراء وصحافيين وكتاب،
أصغرهم كما ذكرت انتحر وعمره 12 وهو ماسافومي أوكا، ولم يعرف سبب انتحاره حتى
الآن.
لكن أول المنتحرين في العصر الحديث هو الشاعر والناقد والفيلسوف توكوكو كيتامورا واسمه الحقيقي مونتارو كيتامورا، ولد في
مدينة أوداوارا بمحافظة كاناجاوا في العام الأول من عصر ميجي (1868) لأسرة عريقة من أسر الساموراي التي سقطت مع سقوط الحكومة العسكرية
لأسرة توكوغاوا، فانتقل مع أبويه للعيش في طوكيو في منطقة سوكيا التي يقال إن
الاسم الذي اتخذه له للكتابة (توكوكو) مأخوذ من اسم تلك المنطقة لكنه غيره من
سوكيا إلى النطق الصيني توكوكو. وقد شارك كيتامورا في بداية حياته في حركة الحريات
والحقوق المدنية ولكنه تركها بعد اكتشافه تكالب رجالها على السلطة ومحاولة فريق
منهم التخطيط لسرقة أحد البنوك من أجل تمويل الحركة. وعندما بلغ التاسعة عشر من
عمره تعمّد كمسيحي، وفي نفس العام تزوج من مينا إيشيزاكا. بعد تركه السياسة وتحوله
لشاعر أصبح من رواد الحركة الرومانسية في اليابان وتأثر به كل الشعراء والأدباء
الرومانسيون اليابانيون الذين جاءوا بعده. انتحر كيتامورا عام 1898 وهو
في الخامسة والعشرين من عمره بشنق نفسه على شجرة في حدائق شيبا بوسط العاصمة طوكيو
دون أن يُعرف سبب انتحاره.
ثم يأتي بعد ذلك الأديب
ريونوسكيه أكوتاغاوا الذي انتحر عام 1927 وهو في عمر 35 عام، فقد ولد أكوتاغاوا في
عام 1892 ودرس في جامعة طوكيو الإمبراطورية وتخرج في تخصص الأدب الإنجليزي. اشتهر
بقصته القصيرة "راشومون" التي حولها المخرج الياباني الشهير أكيرا
كوروساوا إلى فيلم سينمائي في عام 1950 بعد أن دمجها مع قصة أخرى لأكوتاغاوا وهي
قصة "في غابة" أو "في علم الغيب" "yabu no naka"
ويحصل الفيلم على الجائزة الذهبية لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وجائزة
الأوسكار التقديرية ليكون أول فيلم ياباني يصل إلى هذه الدرجة من العالمية ويكون
سببا في شهرة كوروساوا في جميع أنحاء العالم.
لا يُعرف على الأرجح سبب
انتحار أكوتاغاوا، غير ما قاله هو بسبب قلق غامض من المستقبل وكان قد حاول الانتحار
في نفس العام مع سكرتيرته الخاصة ولكن فشل في تحقيق ذلك. بعد رحيله بثمان سنوات
أسس صديقه الصدوق "كان كيكوتشي" صاحب مجلة "بونغيه شونجو"
جائزة أدبية باسمه لتصبح أشهر جائزة أدبية في اليابان حاليا.
يأتي بعد أكوتاغاوا، الأديب أوسامو دازاي الذي انتحر بإلقاء نفسه في نهر
تاماغاوا مع عشيقته. ولد دازاي في عام 1909 كابن لأحد أكابر ملاك الأراضي في
محافظة أوموري شمال اليابان. بدأ دازاي محاولات انتحاره الكثيرة وهو في العشرين من
عمره ببلع كمية من الأدوية المنوّمة، ولكنه فشل في الوصول إلى مراده، ثم حاول مرة
ثانية في عام 1930 وهذه المرة مع حبيبة له في الثامنة عشر من العمر كانت تعمل
عاملة في مقهى وذلك بالدخول إلى عمق المحيط في محافظة كاناغاوا، ولكنه ينجو من
الموت بعد أن ماتت حبيبته غرقا. وبعد أن أصبح كاتب وبدأ نشر قصصه في المجلات
الأدبية المشهورة حاول مرة ثالثة الانتحار بعد أن فشل في الحصول على وظيفة في
جريدة مياكو أو العاصمة. بعد ذلك كرر محاولات الانتحار الفاشلة، ثم في عام 1948
رمي بنفسه في أعماق نهر تاماغاوا مع إحدى عشيقاته اسمها توميئه يامازاكي ليتم
اكتشاف جثتيهما بعد ستة أيام.
يأتي بعد دازاي، الأديب الأريب ونابغة اليابان يوكيو ميشيما الذي انتحر في 25 نوفمبر من عام 1970 عندما
توجه مع أربعة من أعضاء جماعته "جماعة الدرع" بزيهم العسكري إلى مقر
قوات الدفاع الذاتي اليابانية في إيتشيغايا بوسط طوكيو بعد أن أخذوا موعدا مع
القائد العام للقوات، وأثناء لقائهم مع القائد العام قام ميشيما ورفاقه بأخذه
كرهينة، وطالبوا بجمع كل أفراد قوات الدفاع الذاتي الموجودين في المقر ليلقي عليهم
ميشيما خطابه الذي أعده لهم لكي يحثهم على الثورة والانقلاب ضد الوضع الحالي
وتغيير الدستور لكي يتم إعادة كل السلطات للإمبراطور ولكي تعود قوات الدفاع إلى ما
كانت عليه من جيش قوي يحمي البلاد. ولكن لم يستطع ميشيما خلال عشرين دقيقة تقريبا
من حديثه لهم من فوق شرفة غرفة القائد العام إقناع الجنود بأي شيء وسط تذمرهم
وشوشرتهم على حديثه وعدم سماعهم لما يقوله بسبب عدم استخدامه مكبرا للصوت ووجود
طائرات هيلوكوبتر تابعة لوسائل الإعلام تحوم فوق المكان. يئس ميشيما من الجنود
فعاد إلى غرفة القائد العام لينهي حياته بنفسه بطريقة الهاراكيري المقدسة ببقر
بطنه بخنجر صغير وليطير مساعده المخلص رأسه من على جسده في ذات اللحظة.
ثم ننهي قائمة الأدباء المنتحرين في اليابان بأديب نوبل ياسوناري كاواباتا،
الذي وُجد في عام 1972 ميتا في غرفته بمدينة إيزو، ويعتقد أنه انتحر بالغاز وهو في
الثانية والسبعين من عمره رغم وصوله إلى أعلى قمم الأدب العالمي وتتويجه بالجائزة الأدبية
الأرفع في العالم. ولكنه لم يترك خطابا يدل على انتحاره كعادة المنتحرين
اليابانيين الذين يترك رسالة للأحياء توضح انتحارهم وسببه.