بحث في هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 14 مارس 2015

فومينوري ناكامورا وأبطاله الخارجين على القانون

فومينوري ناكامورا
وأبطاله الخارجين على القانون

ميسرة عفيفي

في إحدى الجلسات الدورية لجماعة إييداباشي الأدبية قال الروائي الشاب فومينوري ناكامورا فجأة: "لقد تخطيت الأديب ريونوسكيه أكوتاغاوا، وهدفي القادم هو تخطي الأديب أوسامو دازاي."
تعجّبنا جميعا من قوله هذا وجراءته في إعلان هذا الرأي، فرغم علمنا بموهبته وتميّزه الأدبي إلا أنه لا يوجد من يعتقد أنه يتخطى هذين العملاقين بهذه السهولة وحتى لو كان هو يعتقد أنه يتفوق عليهما، فلا يعقل أن يقول ذلك أمام أعضاء جماعة أدبية تضم عدد من أفضل أدباء اليابان الشباب بالإضافة إلى عدد من أساتذة الأدب في أعرق الجامعات اليابانية وكذلك عدد من مترجمي الأدب سواء يابانيين أو أجانب.
وعندما وجد ناكامورا الجميع قد أصابهم الوجم وظلوا حائرين في كيفية تقبّل هذا الرأي والرد عليه، ضحك في استمتاع وبدأ يشرح لنا ماذا يعني بكلامه. فقد كان ناكامورا المولود في الثاني من شهر سبتمبر عام 1977، قد بلغ السادسة والثلاثين من العمر عندما تحدث بهذا الحديث، وكان يعني أنه تخطى سن الخامسة والثلاثين التي انتحر فيها الأديب العملاق ريونوسكيه أكوتاغاوا، دون أن ينتحر مثله، وأنه حاليا يستمد الرغبة في الحياة من خلال الاعتقاد أنه ببلوغ سن التاسعة والثلاثين فأنه سيتخطى الأديب أوسامو دازاي الذي أقدم على الانتحار في عمر الثامنة والثلاثين. حتى لو كان التفوّق عليهما لا يعتدى الاستمرار في هذه الحياة دون الإقدام على الانتحار وإنهاء حياته بيده.
قلتُ له: "ولكن بعد أوسامو دازاي سيكون عليك الصبر مدة أطول حتى تستطيع تخطي يوكيو ميشيما الذي انتحر في الخامسة والأربعين من عمره، أليس كذلك؟" ضحك صديقي ناكامورا وقال: "حقا هو كذلك، ولكن يا لها من متعة ويا له من مجد لو استطعت التفوّق على ميشيما وتخطيه." وللعلم فهؤلاء الأدباء الثلاثة بالذات هم أول من يذكرهم ناكامورا من الأدباء الذين يحبهم وتأثر بهم خلال مسيرته الأدبية.
بدأ نجم فومينوري ناكامورا يلمع في سماء الأدب الياباني حتى وصل صيته إلى الولايات المتحدة الأمريكية فحصل هناك على جائزة ديفيد غوديز (David Goodis) لعام 2014 عن مجمل أعماله وإسهاماته في أدب الإثارة والتشويق أو ما يُسمى (roman noir)، بعد أن حصد هنا في اليابان أغلب الجوائز الأدبية الكبيرة بداية من جائزة شينتشوشا للعمل الأول عن روايته "السلاح"، ثم جائزة نوما الأدبية عن روايته "حجب الضوء"، وجائزة أكوتاغاوا الشهيرة عن روايته "طفل في بطن الأرض"، ثم جائزة كينزابورو أويه عن روايته "النشّال". وقد اختارت جريدة وول ستريت جورنال الأمريكية روايته "قواعد الشر والقناع" التي ترجمت للإنجليزية باسم (Evil and the mask) من ضمن أفضل عشرة روايات بوليسية لعام 2013. وكانت قد اختارت كذلك روايته "النشاّل" التي ترجمت تحت اسم (The Thief) من ضمن أفضل عشرة روايات لعام 2012، وكانت ضمن قائمة أفضل عشرة كتب من حيث عدد المبيعات لموقع أمازون الأمريكي في نفس العام. ورشحت لجائزة صحيفة لوس أنجلوس للكتاب في عام 2013.

ولد ناكامورا في محافظة أيتشي بوسط اليابان وتخرج من جامعة فوكوشيما شمال شرق اليابان في تخصص الاجتماع. وبعد تخرجه لم يلتحق بعمل ثابت بل يظل يعمل في أعماله مؤقتة لبعض الوقت ويخصص أغلب وقته في الكتابة حتى تفرغ تماما للكتابة. بعد نشر عمله الأول "السلاح". وينشر ناكامورا رواية كل عام تقريبا فنشر حتى الآن 12 رواية ومجموعتين قصص قصيرة.
يداوم ناكامورا على كتابة خاتمة لكل رواية من رواياته يذكر فيها بعض من أسباب وظروف كتابتها ويشكر كل من اشترك في إخراجها للنور ثم يشكر كل من يقرأها.

في رواية "مذكرات حقود" يتحدث البطل بلسان المتكلم. ويحكي عن مذكراته بعد أن علم بأنه مريض بمرض نادر نسبة الإصابة به واحد في كل مليون شخص. ويقول إن المرض يؤدى إلى الموت بنسبة 80% من المرضى. بطل الرواية الذي أصيب بهذا المرض النادر وهو في الخامسة عشر من العمر شعر بصدمة عظيمة عندما علم حقيقة مرضه بواسطة طفل في العاشرة من العمر تقريبا يرقد في نفس المستشفى يصارع الأيام في مواجهة نفس المصير وهو الموت وإن كان مرضه مختلفا.
فكر البطل في كيفية مواجهة لحظة الموت بشجاعة ودون خوف أو حزن أو معاناة. لم يجد البطل وسيلة لتقبل الموت إلا بالتفكير في كراهية الحياة وكراهية الناس وبدأ في تدريب نفسه على كراهية الحياة والحقد على البشر. وبدأ في التركيز على ذلك ونجح فيه إلى حد بعيد وأصبح مع ازدياد حالته سوءا، مستعدا لقدوم الموت وتقبله بصدر رحب لأنه هو الذي سيخلصه من هذا العالم الكريه الذي يمتلأ ببشر منفرين لا يستحقون إلا الحقد والبغض. ولكن تحدث المفاجأة التي لم تخطر على باله أبدا ألا وهي استجابة جسده للعلاج ونجاح الفريق الطبي برئاسة بروفيسور أمريكي جاء لليابان خصيصا لمتابعة حالته النادرة في التغلب على المرض وبدأ البطل يتعافى وأبلغه طبيبه أن سيخرج من المستشفى ليواصل حياته الطبيعية.
وبدلا من أن يفرح المريض بنجاح العلاج وتغلبه على المرض وقدرته على العودة لحياته الطبيعية قبل مرضه، ينزعج أشد الانزعاج ويرتبك، فهو لم يعد كما كان قبل المرض. وتغيرت نظرته للحياة ونظرته للبشر، وصار غير قادر على تقبل الحياة بعد أن استعد ذهنيا بعد صراع نفسي عنيف لتقبل الموت.
عاد البطل لحياته العادية قبل المرض ولكنه لم يكن هو، بل كان عبارة عن ميت بين الأحياء. وفكر أن شفائه هذا ما هو إلا فترة مؤقتة وأن المرض لابد وأن يعود إليه من جديد خاصة وأن نسبة عودة المرض لمن شفي منه كبيرة، وإنه لا محالة سيموت هذه المرة ولن يفلح معه علاج ولا دواء، وحتى لو لم يعد المرض، فهو كبشر لا بد له من الموت حتى لو عمّر طويلا فالموت مصيره. ولذا ظل على نفس حالته الذهنية من الحقد والكراهية للحياة وكل ما يمت لها بصلة. بل أنه عزم على ألا ينتظر مجيء الموت وقرر الانتحار. وعندما اشترى حبلا وذهب به إلى حديقة كبيرة ليشنق نفسه في إحدى شجراتها الكبيرة، صادف أن قابل أكثر أصدقاء الدراسة قربا له قبل مرضه، فيقرر في لحظة حقد وكراهية عميقين أن يقتله، فيدفعه ليقع في بحيرة الحديقة وهو يعلم تمام العلم أن صديقه هذا لا يقدر على السباحة، ويقف ليشاهده وهو يغرق لحظة بلحظة. وبناء على شهادته يتم اعتبار صديقه مات منتحرا، ليظل حتى نهاية الرواية يعاني من شعوره بأنه قتل إنسانا بريئا ويعيش محاولا الوصول إلى أقصى درجات الشر. ثم يعود إليه المرض من جديد وتنتهي الرواية أو المذكرات قبل دخوله غرفة العناية المركزة. لتلقي العلاج.

أما رواية "النشّال" أو "سَرّاق الجُيُوب" فتحكي عن نشّال محترف، عبقري في مهنة النشل والتقاط ما في جيوب الناس بمهارة فائقة لا تخطئ، لكنه لا يستهدف إلا الأغنياء الذين لن يتضرروا كثيرا من فقدان بضعة أوراق من العملة التي في محافظهم. وقد استعان ناكامورا بعدة مراجع علمية تتعلق بالنشل والسرقة وسرقة بضائع المحلات خلسة، وأغلب هذه المراجع غربية، ليصور بدقة عالية كيفية ممارسة النشّال لعمله هذا.
بسبب براعته في عمله يصطدم البطل بعصابة قوية من عصابات الجريمة المنظمة التي تمارس الأعمال المنافية للقانون على نطاق أوسع بكثير وبمبالغ لا تخطر على بال ذلك النشّال المتواضع. يوافق البطل على الاشتراك في الجريمة الأولى التي يقال له إنها مجرد سرقة بالإكراه لعجوز جشع ملأ خزانة منزله بأموال التهرب من الضرائب وبعد أن أفهمه أعضاء العصابة أنهم لا يريدون إلا الأموال وبعض الأوراق التي توجد داخل الخزنة. وكان دور النشّال هو واثنين من أصدقائه هو مجرد تهديد الخادمة وتقييدها وإغلاق فمها بشريط لاصق حتى لا تصرخ وتسبب ضجة وإزعاج يلفت نظر الجيران.
وبعد نجاح المهمة وعودة النشّال إلى حياته اكتشف أن العملية كان الغرض الأساسي منها هو قتل صاحب المنزل وأن آخر شخص بقي في المنزل بحجة التأكد أن العجوز لن يتصل بالشرطة وإعطاء فرص لزملائه أن يهربوا، قد قتله ذبحا مستخدما سيف ياباني تقليدي كان هو أداة التهديد التي استخدمت في السرقة.
يعود النشّال لحياته العادية ووضع يده في جيوب الغير واستخلاص ما خف حمله وغلا ثمنه فيها. وفي إحدى مرات ذهابه لسوبر ماركت قريب من منزله يجد أم وطفلها الصغير يحاولان سرقة بضائع من المحل بوضعها بسرعة في كيس ورقي يحمله الطفل به عدد من المناشف تخفي البضائع تحتها. ولكنه بعينه الخبيرة يعلم أن الأمر مفضوحًا وأن العاملة المتخصصة في اكتشاف هذا النوع من السرقات تتربص بالأم والطفل وتنتظر محاولة خروجهما بالبضائع من المحل دون دفع أثمانها لتقبض عليهما. يقترب النشّال من الأم ويبلغها أن سرقتهما مكشوفة وأن عاملة المحل تتربص بهما، وقال لها إما أن تدع البضائع في المحل وتهرب وإما أن تقوم بشرائها. ترفض الأم وتصر على فعلها فيقوم هو بوضع البضائع المسروقة غصبا في سلة المشتروات والتوجه لدفع ثمنها من ماله ثم إعطائها للأم مع التشديد عليها بعدم الزج بابنها الصغير في هذه الطريق. تستعجب الأم من فعله وتعرض عليه نفسها وتخبره بعملها كعاهرة ولكن الزبائن لا يعجبون بها وينصرفون عنها، وتعرض عليه نفسها بثمن بخس فيرفض ويتركها هي وطفلها.
ولكن يجد أن هذا الطفل قد تعلق به وتبعه حتى منزله، فيجده ينتظره في ذهابه وإيابه. يتأرجح النشّال بين رغبته في مساعدة الطفل لكي يقوم بالسرقة التي تجبره أمه وعشيقها ليها، ليقوم بها بمهارة وبين رغبته في إبعاد هذا الطفل البريء عن طريق الجريمة. في البداية يعطيه بعض النصائح ويريه بعض الأمثلة من عمله هو، ولكنه في النهاية يعطيه مبلغا كبيرا جدا من المال ويطلب منه إخفائه عن أمه وعشيقها واستخدامه في شراء الأشياء التي يُطلب منه سرقتها. ولكن الأم تكتشف المال وتذهب إلى بيت النشّال لتستعلم منه عن سبب إعطاء ذلك المبلغ للطفل متهمة إياه بإعطائه المبلغ للتغطية على شيء فعله به، فيستهجن قولها وينصحها مرة أخرى بإبعاد الطفل عن طريق الجريمة. وقال لها إن لم تكن ترغب في تربية الطفل فيجب عليها إيداعه في دار لرعاية الأحداث وأعطاها تفاصيل دار يثق هو أنها ستهتم بالطفل.
وفي إحدى المرات التي يقوم بها النشّال بعمله في استهداف الأغنياء مسك الضحية يده بقبضة قوية لا يستطيع الفكاك منها وأخذه إلى مكان مريب ليتفاجأ أنه رئيس العصابة التي عمل معها سابقا والذي طلب منه هو وزملائه مغادرة طوكيو والعيش بسلام بعيدا عنها بالمبلغ الضخم الذي حصل عليه نظير اشتراكه في الجريمة.
يعرض عليه رئيس العصابة الاشتراك في جريمة جديدة عبارة عن ثلاثة عمليات نشل لثلاثة أشخاص محددين يسرق منهم أشياء محددة في أوقات محددة ولابد أن ينتهي من ذلك كله في وقت محدد وإلا فمصيره الموت إذا فشل في ذلك، ولا يترك له حق القبول أو الرفض كما كان له ذلك الحق في المرة الأولى، بل لا يوجد إلا القبول لأن الرفض يعني قتل الطفل وأمه اللذين يعرف رئيس العصابة مدى ارتباطه بهما خاصة الطفل. فيقبل القيام بالأمر وينجح بعبقرية في إتمام المهام الثلاثة حتى المهمة الأخيرة التي بدت مستحيلة ينجح بخدعة ما في تنفيذها بمساعدة أحد رجال العصابة الذي ظهر في اللحظة الأخيرة لينقذه من يد الضحية الذي كان يحمل مسدسا. ويذهب به إلى وكر العصابة ليقابل الرئيس الذي يخبره بنهاية حياته لأن قدره أن يموت سواء نجح أو فشل ولأن الأمور تستدعي وجود جثة شخص ما في المكان وقد اختاره ليقوم بهذا الدور. وتنتهي الرواية بإيعاز أن البطل سيستطيع النجاة بقوة عزيمته ولفت نظر المارة إلى مكانه.

يتم توجيه النقد إلى ناكامورا بأنه في جميع رواياته يأخذ موقف الجاني الذي يكون في الغالب هو بطل الرواية وهو الراوي الذي يقوم بنقل الأحداث للقارئ من وجهة نظر مرتكب الجريمة. أبطال روايات ناكامورا جميعهم بهم عفوية وبراءة إنسانية وأسباب منطقية تجعل القارئ يتعاطف معهم ويتمنى نجاحهم في القيام بأعمالهم "الإجرامية" سواء القتل أو السرقة أو غيرهما. ولا يوجد في رواياته النظرة الأخلاقية المعتادة التي ترى ضرورة تلقى المجرم عقوبة ما "قانونيا" أو قدريا كأن يعدم القاتل أو يقتل إلخ. بل في نهاية الرواية ما ينم على نجاة البطل بشكل ما. إلا أن ناكامورا يجعل البطل معذبا في حياته بأفعاله. فالقاتل في رواية "مذكرات حقود" يظل طوال الرواية معذبا متألما من جريمته التي فعلها وبقدر خسة الجريمة بقدر عظمة المعاناة. وفي رواية "النشّال" يظل البطل في معاناة مع مصيره ونجده يحاول بكل ما لديه من قوة إنقاذ الطفل الذي ساقته الأقدار إليه، من أن يلقى نفس مصيره ويساعد أمه بالمال والنصيحة وأخيرا بالمعلومات لكي تضع الطفل في مؤسسة أحداث بدلا من الاستمرار في طريق الجريمة والسرقة، إيمانا منه أن الطريق القويم أفضل ويوضح ذلك أنه كان يتمنى لو لم يكن مجرما ويتمنى لو كان يستطيع العودة للطفولة فيسلك طريقا أخرى غير التي اختارها أو التي اختارتها له الأقدار.

يقول ناكامورا في خاتمة رواية "النشّال" إنه يحمل شعوراً خاصا تجاه بطل الرواية. ويعلل ذلك بأن شخصيته تميل إلى الإعجاب بالأفعال الموجهة ضد المجتمع وأعرافه. وأنه لذلك يكتب. فلو أن كل الأمور على ما يرام ولو أنه يرضى عن المجتمع وأوضاعه لما كانت توجد لديه حاجة للكتابة.

ليست هناك تعليقات: