كواليس اليابان
بقلم : ميسرة عفيفي
قرأت
مقالة الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت في جريدة "المصري اليوم" الصادرة يوم
الأحد 21 ديسمبر 2008 بعنوان "هذه هي الكواليس ... سيدي الرئيس"، في هذا
الرابط
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=191249&IssueID=1261
التي
تحكي فيها عن المعاناة التي لاقتها هي وصغيرها "عمر" بسبب التشريفة
المعتادة التي تصاحب السيد الرئيس وتُسبب في تعطل المرور وتوقف سير الطرق.
وطاب لي
أن أنقل لكم موقفا كنت شاهدا عليه مع آخرين في تلك الدولة التي وصلت في تقدمها إلى
مستويات مذهلة في فترة قياسية ألا وهي اليابان.
الإمبراطور
في اليابان وحسب المعتقدات الدينية اليابانية سليل الآلهة، جده الأكبر هو حفيد
إلهة الشمس التي خلقت الأرض وأرسلت حفيدها ليحكمها.
هكذا
يؤمن اليابانيون في أساطيرهم. ولا زال هذا المعتقد يدرس حتى الآن في المدارس
اليابانية. لذا فالإمبراطور وعائلته تعامل معاملة خاصة
من الشعب الياباني تليق بسليل الآلهة من تبجيل واحترام وتوقير.
الإمبراطور
الياباني بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية تخلى عن كل مناصبه السياسية هو
وجميع أفراد عائلته، وأصبح وعائلته مجرد رمزا للأمة اليابانية وعنوانا للشعب
الياباني.
كلمة
"مجرد" التي كتبتها هي من وجهة نظرنا نحن الذين نبحث عن السلطة والقوة
والهيلمان. ولكن من وجهة نظرهم "رمزا للشعب الياباني" هي فوق كل سلطة
وكل منصب.
انحصرت
مهام الإمبراطور في أشياء شرفية ورمزية، كأن يفتتح الدورة البرلمانية، أو يصدق على
تعيين رئيس الوزراء والوزراء، وأن يقوم رئيس الوزراء والوزراء بإداء القسم أمامه،
أو أن يقيم حفل غداء أو عشاء رسمي لرؤساء وملوك الدول الأجنبية الذين يزورون
اليابان، أو يفتتح مشروعا ما، أو يزور مكانا ما .... إلخ من المهام الشرفية
الكثيرة التي أوكلت له ولأفراد عائلته والتي تجعلهم جميعا في عمل دائم وحركة دائبة
طوال أيام العام.
هذه
كانت مقدمة عن وضع الإمبراطور في اليابان، ولكن قد يتصور أحدهم أن كون الإمبراطور
ليس له سلطات فهو مُهمّش أو لا يأبه له. ولكن الحقيقة كما قلت لكم أن الإمبراطور
يُعامل من عامة الشعب الياباني معاملة مقدسة هو وعائلته، ولا يُسمح المساس به أو
بأفراد عائلته أبدا، وهو مقدس قدسية كاملة بناء على الاحترام الشعبي الذي يحظى به.
نأتي
إلى تفاصيل الموقف الذي كنت شاهدا عليه. لقد حدث في 17 أكتوبر من عام 2007، حيث
جرت مباراة في كرة القدم بين المنتخب الياباني بصفته بطل أسيا لعام 2005 والمنتخب
المصري بصفته بطل أفريقيا لعام 2006 في مباراة سوبر بين البطلين يحصل الفائز فيها
على كأس يُسمى "كأس التحدي".
كان
المعلن أن تبدأ المباراة في الساعة السابعة والنصف مساءً بتوقيت اليابان، ولكن
الحقيقة هي أن صفارة الحكم التي تعلن بدء المباراة تقرر لها أن تكون الساعة
السابعة والدقيقة الثانية والثلاثون والسبب هو أن المباراة بالطبع مذاعة على
الهواء مباشرة ويريد الراعي الرسمي للمباراة أن يستغل هاتين الدقيقتين في
الإعلانات التلفزيونية حيث تكون نسبة المشاهدة وصلت ذروتها لأن الكل في انتظار
صافرة البداية، وهذا كله تم الاتفاق عليه بين الفريقين والحكام وكل المعنيين في
اليوم السابق للمباراة. وبالتالي توضع الدقيقة 32 كهدف أعلى للجميع لاستقبال صافرة
البداية ويتم ترتيب كل شيء للوصول إلى تلك الذروة بدءً من وقت تحرك الفريق من
الفندق، إلى وقت وصوله إلى الملعب إلى وقت خروج اللاعبين للإحماء، ثم عودتهم إلى
حجرة خلع الملابس، ثم اصطفافهم مع الفريق المنافس للدخول إلى الملعب بمعية الحكام.
هذا الكلام معروف عالميا وعاشه كل من له صلة باللعبة على أرض الواقع.
أين
حدثت المشكلة؟ المشكلة هي أنه وكما هو الحال في مثل تلك المباريات الدولية، هناك
تقليد يتم عادة أن ينزل كبار الزوار من المقصورة لتحية لاعبي الفريقين قبل بدء
المباراة. وكان من المقرر في ذلك اليوم أن يقوم ثلاثة أفراد بتحية اللاعبين
والسلام عليهم فردا فردا قبل البداية، وهم رئيس بعثة المنتخب المصري، ورئيس اتحاد
الكرة الياباني، وأميرة من العائلة الإمبراطورية هي الأميرة تاكامادو الرئيس
الشرفي لاتحاد الكرة الياباني، وفي نفس الوقت الرئيس الشرفي لجمعية الصداقة
المصرية اليابانية.
بدأ
الجو في كواليس الملعب يتكهرب قبل بداية المباراة بحوالي عشر دقائق. سألنا عن
السبب، قالوا لنا إن الأميرة في الطريق إلى الاستاد ولكن ربما تتأخر عن الميعاد
المقرر. سألنا عن السبب، فكانت الصدمة الكهربائية الأولى: "لأن الطريق مزدحم
وإشارات المرور تعطل وصولها". طبعا أترك لكم تخيل ما وقع علينا نحن المصريون
من صدمة واندهاش. فالأميرة سليلة الآلهة هي الآن في طريقها إلى عمل رسمي (وإن كان
شرفي، ولكن هذا هو الحال مع كل تحركاتها) تقف في الإشارات ويُعطلها المرور
المزدحم. لا يوجد شيء اسمه تشريفية ولا تعطيل كل الطرق والكباري والأنفاق العمومية
والرئيسية والفرعية التي يُشتبه أن تمر بها.
ولكن
الصدمة والموقف لم ينتهيا عند هذا الحد، فمن آخر اتصال بين المسؤولين عن المباراة
وبين "موكب" الأميرة عرفنا أنها الآن تقف في آخر إشارة قبل الاستاد
مباشرة ولا يتبقى لها سوى أن تدخل يمينا بعد الإشارة لتصل إلى باب الاستاد. فتم
اتخاذ قرار بأن تتجه فورا إلى أرض الملعب لتقوم بتحية اللاعبين ثم بعد ذلك تتجه
إلى المقصورة لتحيي كبار الضيوف الآخرين. ولذا اتجه رئيس بعثة المنتخب المصري
الكابتن أحمد شاكر، ورئيس الاتحاد الياباني من المقصورة إلى أرض الملعب لينضما
إليها عند دخولها من الباب ويقوم ثلاثتهم بإداء هذا الدور الشرفي الذي جاءت من
أجله الأميرة.
ولكن
بعد وصولنا إلى أرض الملعب عرفنا أنه تم اتخذ قرار بإلغاء مشاركة الأميرة في مراسم
تحية اللاعبين وذهابها مباشرة إلى المقصورة.
والسبب
هو أن عند الدخول يمينا بعد فتح الإشارة (والسيارات في اليابان تسير على اليسار)
لابد أن تنتظر حتى تنتهي السيارات المقابلة من المرور ثم المارة أيضا لتستطيع أن
تدخل إلى اليمين، وهذا سوف يستغرق دقيقتين لأن عدد المارة هذا اليوم كبيرا بسبب
المباراة. ومن المستحيل أن تتأخر صافرة البداية لأي سبب كان، أو على الأقل لهذا
السبب، الذي لا يمكن شرحه للجمهور المنتظر في المدرجات ولا لبقية الشعب المنتظر
أمام التلفزيون، ولا يمكن شرحه أيضا للراعي الرسمي ولا للمعلنين الذين دفعوا مبالغ
خرافية للإعلان عن منتجاتهم قبل وأثناء وبعد المباراة.
وبهذا
لم تستطيع الأميرة القيام بأهم شيء جاءت من أجله وهو تحية لاعبي الفريقين قبل
بداية المباراة، واكتفت بأن شاهدت المباراة مع كبار الضيوف من المقصورة.
طبعا
نحن المصريون الذين شاهدنا ذلك كنا في حالة صدمة خرافية. أنا شخصيا الذي أعرف
المدى الذي وصله اليابانيون في تقديس واحترام الوقت لم أتخيل أن يصل الأمر إلى
إلغاء دور الأميرة والاكتفاء برئيس البعثة المصرية الكابتن أحمد شاكر ورئيس
الاتحاد الياباني الكابتن سابورو كاوابوتشي ليقوما بتحية اللاعبين والحكام قبل
المباراة. وكأنهم قد عاقبوا الأميرة لتأخرها عن موعدها. ومما لا أشك فيه أن هناك
سببا لهذا التأخير ليس للأميرة دخل فيه، ولكن أي كان السبب فلن يتقبله الشعب
الياباني الذي يقدس الوقت واحترام المواعيد أكثر من تقديسه للعائلة الإمبراطورية،
ولهذا فمن الأفضل ألا تقوم الأميرة بمراسم تحية اللاعبين ولن يحس أحد بغيابها لأن
ذلك لا يعلمه إلا عددا محدودا جدا، من أن يتم تأخير بداية المباراة ويعلم الجمهور
والشعب أن السبب كان تأخر الأميرة عن موعدها، وتهتز بذلك صورة العائلة الإلهية المقدسة.
ربما
يتعقد البعض أن هذا مثال مبالغ فيه، ولكنه الواقع الذي كنت مع آخرين شاهدا عليه.
وربما أقول لكم قولا آخر أردده على من يأتي هنا إلى اليابان من المصريين والعرب،
وهو أن الإمبراطور الذي كان حتى عام 1945 إلها كاملا في اليابان، وأصبح الآن إلها
منزوع السلطات، الإمبراطور الإله هذا يدفع الضرائب مثله مثل عامة شعبه، ولا يجرؤ
أحد في اليابان مهما علا شأنه أن يُعفى من دفع الضرائب، أو أن يطالب باستثناء ما
عن بقية خلق الله اليابانيين.
ولله في
خلقه شؤون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق