بين الثقافة العربية واليابانية
كنت مرافقا لوفد مكون من إحدى الدول العربية عددهم يزيد على العشرين، وكان
لديهم لقاء مع نائب السكرتير الصحفي لوزير الخارجية اليابانية كما هو مكتوب في
بطاقته الرسمية التي وزعها على الجميع، أو نائب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية
كما فهمنا من كلامه معنا.
كان اللقاء مرتب على أن
يتم بأكمله باللغة الإنجليزية بدون ترجمة. ولكن عند بداية اللقاء وبعد أن ألقى
المسؤول الياباني كلمة التحية، طلب مني الوفد العربي أن أبلغه برغبتهم أن يتم
اللقاء من خلال الترجمة من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية وبالعكس. وكان السبب
المعلن أن هناك بعض الحاضرين من الوفد العربي الذين يريدون أخذ راحتهم في الحديث
وهو لم يكن متاحا لهم لو كانت اللغة الإنجليزية هي لغة اللقاء. فقال المسؤول
الياباني يمكن أن تتم الترجمة بين اللغة الإنجليزية والعربية، وسألني هل يمكنني
القيام بذلك؟ أبلغته بعدم قدرتي على ذلك وأنني لا أترجم إلا بين اللغتين اليابانية
والعربية فقط، فقال ألا يوجد شخص آخر يمكن أن يقوم بذلك، وكان الوضع أنه لم يكن
يوجد من يقوم بهذه المهمة. فأصر الرجل على الحديث باللغة الإنجليزية وعدم استخدام
الترجمة بين العربية واليابانية، وكان له ما أراد.
بعد انتهاء اللقاء وأثناء
انتقالنا بالباص إلى الموعد التالي دار بيني وبين الوفد العربي الحوار التالي
وكلامي فيه عبارة عن وجهة نظر شخصية تكوّنت لدي من خلال خبرة طويلة من العمل
مترجما في مؤسسات حكومية يابانية عديدة من ضمنها وزارة الخارجية اليابانية ذاتها.
ورأيت أن أنقل الحوار هنا لكي تعم الفائدة ونرى ملمحا من طريقة التفكير اليابانية.
- الزائر العربي 1: لماذا أصر المسؤول
الياباني على التحدث بالإنجليزية رغم طلب الطرف الآخر – ومن المفروض أنهم ضيوفه
وطلباتهم مجابة – الترجمة بين اللغتين العربية واليابانية؟
-
أنا: السبب هو الثقة.
- الزائر العربي 1: ثقة في مَن؟
-
أنا: الثقة في المترجم وهل هو سينقل
تماما ما يقول الرجل أم سيخطأ ويوصل للمستمع معلومات خاطئة.
- الزائر العربي 2: هل تعنى أنه لا يثق بك
لأنك من بلد ثالث، ولو كان المترجم مننا سيوافق؟
-
أنا: لا. أعتقد أنه كان سيرفض أي
مترجم مهما كانت جنسيته (حتى ولو كان يابانيا). هو لا يثق إلا في المترجم الذي
يعمل في وزارة الخارجية اليابانية وتم إعداده واختباره لكي يقوم بنقل المعلومات
الرسمية بشكل دقيق.
- الزائر العربي 3: ولكن كان هناك فعاليات
ترجمها مترجمون لا يعملون في وزارة الخارجية؟
-
أنا: أغلب اللقاءات الرسمية وخاصة
التي يتحدث فيها مسؤول حكومي ياباني يكون المترجم من وزارة الخارجية حصرا إلا في
حالات نادرة يكون فيها توفير مترجم من الوزارة مستحيل ويكون المسؤول الياباني (أو
الطرف الآخر) غير قادر على التحدث باللغة الإنجليزية بشكل مطلق.
- الزائر العربي 2: ولكن المعلومات التي
قيلت ليس بذات الأهمية الذي يتطلب فيها كل ذلك؟
-
أنا: بغض النظر عن محتوى كلامه فالرجل
هو نائب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية وأية كلمة منه في لقاء مثل هذا تُعبّر عن
رأي الحكومة اليابانية وإذا فُهم كلامه خطأ بسبب الترجمة ستصبح مشكلة كبيرة من
وجهة نظره وخاصة أن تأثيركم
يتخطى حدود دولتكم إلى العالم العربي كله.
- الزائر العربي 1: ولكن الأمر نفسه عند حديثه
باللغة الإنجليزية فربما أفهم أنا ما قاله خطأ وأنقله بشكل غير دقيق؟
-
أنا: في هذه الحالة سيكون هذا خطأك
أنت ولا يُسئل هو عليه لأنه سيوضح أنه قال باللغة الإنجليزية كذا وكذا.
- الزائر العربي 3: وهو ما يمكنه فعله أيضا
في حالة الترجمة عن اليابانية يقول لقد قلت باليابانية كذا وكذا ولم أقل ما نقله
المترجم مثلا، أليس كذلك؟
-
أنا: بالطبع هذا صحيح، ولكن هناك
فرقان، الأول هو أنه بحكم منصبه سيُسئل لماذا لم يتوقع ما حدث ويقوم بتوفير مترجم
موثوق فيه؟ والنقطة الأخرى هو وجود الشهود، ففي حالة اللغة الإنجليزية هناك العديد
من الشهود من الجانبين شاهدين على ما قال. أما في حالة الترجمة المباشرة من اللغة
اليابانية إلى اللغة العربية، فلا يوجد في هذه الحالة إلا المترجم فقط هو الوحيد
الشاهد على ما قال، وربما ينكر أنه أخطأ في الترجمة. وأعتقد ولو أني كنتُ غير
متأكد من ذلك، أنه لو وجد في اللقاء أحد موظفي وزارة الخارجية القادرين على فهم
اللغة العربية ربما كان سيوافق على أن أترجم أنا من اليابانية إلى العربية وبالعكس
لأنه سيضمن أن أحد مرؤوسيه يمكنه فهم ما أقوله وتصحيحه في الوقت المناسب أو على
أسوء تقدير يكون شاهدا على أن الخطأ كان من المترجم.
- الزائر العربي 4: هل هذا هو فقط السبب؟
أنا غير مقتنع.
-
أنا: هناك سبب آخر يمكن أن يكون له
دور في إصرار الرجل على الرفض.
- الزائر العربي 4: ما هو يا ترى إن
اليابانيين لشعب عجيب حقا!
-
أنا: هذا هو. اليابانيين بشكل عام لا
يحبون المفاجآت. ويقومون بالتخطيط مسبقا لكل شيء بشكل ما ومن الصعب حملهم على
تغيير خططهم بشكل مُباغت. فقد تقرر أن يلتقي نائب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية
بوفد من دولة عربية وتم السؤال عن لغة اللقاء فتم
التأكيد للجانب الياباني على أنه لا مشكلة من أن يكون اللقاء باللغة الإنجليزية.
فاستعد الرجل ووضع خطته وجهز نفسه تماما للقاء لمدة ساعة يكون بالتحاور المباشر
دون وسيط ودون إضاعة نصف الوقت أو أكثر هباءً في الترجمة. ولكن عندما حدث اللقاء ووجد طلبا
غير متوقعا باللجوء للترجمة أُسقط في يديه ولم يكن من النوع المرن لكي يتكيّف مع
الوضع الجديد المطلوب فأصر على التحدث بالإنجليزية. ربما كان ذلك والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق