كانت ماساكو تسير في ممر محطة شينجوكو. ولكنها لم تكن تعي أنها
تسير، بل مجرد أن قدميها الاثنتين تدوسان الأرض بالتبادل. كانت الحركة في الممر قد
تكونت طبيعيا بتيار الناس. وتلقائيا وجدت ماساكو نفسها منجرفة مع تيار الناس
لتكتشف أنها أصبحت مجبرة على التوجه إلى خارج محطة شينجوكو.
خرجت من بوابة التذاكر، وفلتت من زحام الناس متجهة إلى مجمع
المحلات تحت الأرض. انعكست صورتها على مرآة محل الأحذية. إنها انعكاس صورتها ذاتها
وهي تضع نظارة شمس لكي تخفي تورم عينيها، وتجذب طرفي معطفها الثقيل الأماميين بحزم
مخافة أن يتسرب ارتعاش قلبها للخارج. وقفت هناك وخلعت نظارة الشمس ونظرت إلى
وجهها. خدها الذي لطمه "ساتاكيه" ما زال منتفخا ولكنه لم يكن بدرجة
ملحوظة. ولكنكان تورم عيناها خارج السيطرة. وسببه هو بكائها العنيف.
وضعت ماساكو نظارة الشمس مرة ثانية على عينيها. وكان أمامها مصعد
مبنى المحطة. دخلت المصعد بدون أي تردد وضغطت على زر أعلى طابق في المبنى. لا يوجد
مكان تلجأ إليه أي كان.
كان أعلى طابق في المبنى عبارة عن تجمع مطاعم. هنا تستطيع الجلوس
لفترة بعيدا عن عيون الناس. جلست على أريكة بجوار الجدار ووضعت الحقيبة النايلون
السوداء فوق ركبتيها. الحقيبة كان بداخلها الخمسين مليونا التي لساتاكيه إضافة إلى
ملايينها الستة.
أخرجت ماساكو سيجارة ووضعتها في فمها. وتذكرت منظر ساتاكيه وهو
يدخن السيجارة الأخيرة في حياته، وسبحت عيناها خلف النظارة الشمسية شاعرة بالوحدة.
فجأة فقدت رغبتها في التدخين فألقت بالسيجارة المشتعلة في منفضة سجائر من الفولاذ
كانت أمامها مباشرة. سقطت السيجارة في الماء الذي داخل المنفضة وأصدرت صوت طشطشة
رقيق ثم انطفأت. كان ذلك الصوت يشبه قليلا صوت انطفاء سيجارة ساتاكيه التي سقطت من
فمه في بركة الدماء.
حملت ماساكو التي صارت غير قادرة على تحمل وجودها هنا الحقيبة
النايلون ووقفت. تأملت منطقة شينجوكو التي تظهر كاملة من خلال نافذة زجاجية كبيرة.
يمتد حي كابوكيتشو على الجهة الأخرى من طريق ياسوكوني. وضعت إحدى يديها على
النافذة وتأملت حي كابوكيتشو بكل مشاعرها. تبدو لمبات النيون ولوحات الإعلان
المبهرجة التي لم تنر أضوائها بعد، شاحبة تحت أشعة الشمس التي ضعفت قليلا في وقت
العصر من فصل الشتاء. كانت المدينة مثل وحش متكوّم في تكاسل الآن ولكنه على وشك
الاستيقاظ، وإذا استيقظ فهو لا يُخفي توحّشه وعنفه وهو على وشك الانقضاض على
فريسته. تلك هي مدينة ساتاكيه. المدينة الوقحة، الصاخبة، الممتلئة بالشهوات. بوابة
ماساكو التي انفتحت منذ قرارها العمل في وردية المصنع الليلية، كانت تؤدي إلى
مدينة ساتاكيه، التي لم يسبق لها أن داستها بقدمها من قبل.
جاء على بال ماساكو أن تذهب على الفور إلى حي كابوكيتشو وتلقي نظرة
على المكان الذي كان به محل قمار ساتاكيه. ولكن هذه الفكرة جعلت مشاعر ماساكو
المتنوعة تغلي وتهيج. لقد قضت ماساكو اليومين الماضيين مستلقية على سرير في فندق
رخيص دون أن تضع في فمها أي طعام، عاد فجأة الحزن الكئيب وعدم الجدوى التي تحملتها
وهي تتلوى بجسمها. ارتفعت صرخة صغيرة لماساكو تشبه التأوهات وهي تحس في أعمق أعماق
جسدها بلمسات ساتاكيه الذي لن تستطيع لقائه ثانية. إنها تريد لقاء ساتاكيه مرة
أخرى.
"لأذهب إلى تلك المدينة لكي أتنفس الهواء الذي تنفسه ساتاكيه،
وأرى نفس المناظر التي رأها. ثم أبحث عن رجل يشبه ساتاكيه، عليّ أن ألاحق حلم ساتاكيه"
كان الأمل الذي فقدته ماساكو على وشك الميلاد داخلها من جديد.
ولكن ماساكو انقلبت على عقبيها فجأة، وأسرعت بالجري. كان صوت نعل
حذاء ماساكو الرياضي، الذي يبدو مختلفا عن المكان ولا يتناسب مع عمرها، مزعجا
للآذان ويتردد صداه بقوة عند لمسه لبلاط الأرضية التي تم تلميعه بالورنيش بعناية
فائقة. توقفت ماساكو مندهشة من الصوت. ثم نظرت للخلف تجاه النافذة. للحظة أحست
أنها ترى ظلام المصنع المهجور خارج النافذة.
قررت ماساكو التوقف عن ذلك.
لتمتنع عن الحياة وهي أسيرة لساتاكيه، كما كان ساتاكيه مقيدا بحلم
الماضي. هذه المشاعر على الأرجح لا يستطيع حملها إلا شخصا نادر الوجود مثل
ساتاكيه. ساتاكيه الذي كان لا يستطيع العودة للخلف ولا التقدم للأمام، لم يكن
أمامه إلا الاستمرار في حفر قلبه. ليدفن فيه ماضيه والمرأة، وهنا يكمن حلم الرجل
في رؤية حرية روحه.
إذا كان الأمر كذلك، ماذا عن حياتها فيما مضى؟ تأملت ماساكو
أظافرها المقصوصة أزيد من اللازم. إنها لم تطل أظافرها ولو لمرة واحدة طوال سنتين
بسبب عملها في مصنع الوجبات الجاهزة. ويديها التي تشققت وغلظت بسبب المطهرات
المركزة. والعشرين عاما التي قضتها في العمل في بنك الائتمان. ووضعها لابنها وأداءها
لشغل البيت وعيشها مع أسرتها. ماذا كانت تعني تلك السنين يا ترى؟ العلامات التي
تركتها داخلها كانت هي ماساكو ذاتها بلا أي شك. لقد عاش ساتاكيه في حلم عديم
الجدوى، في حين أنها عاشت الواقع بكل تفاصيله. انتبهت ماساكو إلى أن الحرية التي
كانت تريدها هي، تختلف قليلا عن الحرية التي كان يتوق إليها ساتاكيه.
ضغطت بكل قوتها على زر المصعد. لقد قررت أن تشتري تذكرة طيران.
إنها متأكد أن الحرية التي لها وحدها موجودة في مكان ما، حرية تختلف عن حرية
ساتاكيه ويايوي ويوشيه. إذا أُغلق خلفها باب، فليس أمامها إلا أن تجد بابا جديدا
تفتحه. بجوارها تماما يتردد صوت المصعد الصاعد إليها مشابها لصوت زمجرة الرياح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق