الليلة الأولى
لقد رأيت الحلم التالي.
كنتُ أجلس عاقدا ذراعيّ بجوار وسادة امرأة تنام على ظهرها
وتقول بصوت هادئ إنها ستموت. يرقد وجه المرأة البيضوي البض بظلاله فوق شعرها الطويل
الممتد على الوسادة. ويتدفق في عمق خديها ناصعة البياض، دمٌ دافئ بلون يبدو صحيًا
نوعا ما وبالطبع لون شفتيها أحمر. ولا تبدو أنها على وشك الموت بأي حال. ولكن
المرأة قالت بوضوح وبصوت هادئ "سأموت". وكنتُ أنا كذلك أعتقدُ أنها
ستموت حتما. فحاولت أن أسألها وأنا أتأملها من علٍ: "أحقا هذا؟ هل ستموتين
حقا؟" فتحتْ المرأة عينيها على اتساعهما وهي تجيب: "بالتأكيد سأموت"
كانت عيناها واسعتين وممتلئتين بدموع كبيرة متحجرة داخلهما، وداخل الرموش الطويلة
كانت ثمة نقطة سوداء فاحمة. برزت صورتي بوضوح في عمق تلك المقلة شديدة السواد.
تأملتُ لمعة تنيك العينين السوداوين اللتين تُظهران بعمق
صورتي في شفافية قصوى، وفكرت هل تموت فعلا رغم ذلك؟ وعندها قربتُ فمي بحميمية من
الوسادة وسألتها مرة أخرى: "لن تموتين حقا.
أنتِ بخير، أليس كذلك؟" عندها وبذات الصوت الهادئ قالت المرأة والنعاس
يبدو في عينيها المفتوحتين على اتساعهما: "ولكني سأموت. فلا حيلة في الأمر"
وعندما قلتُ لها بكل إخلاص: "حسنا هل تستطيعين رؤية وجهي؟" ضحكتْ في مرح
وقالت: "أستطيع رؤيته؟ ألا يظهر لك هنا؟" آثرتُ أنا الصمت، وأبعدتُ وجهي
عن الوسادة. وفكرتُ وأنا أعقدُ ذراعيّ، أما من سبيل أخرى غير أن تموتْ؟
بعد فترة تحدثتْ المرأة وقالت ما يلي:
"إذا متُ ادفني. بعد أن تحفر حفرة بمحار لؤلؤة. ثم اجعل
قطعة من النجوم الساقطة من السماء شاهدَ قبرٍ لي. ثم بعد ذلك انتظر بجوار القبر،
سأجيئُ للقائك ثانية"
سألتها متى ستأتين؟
"ستشرق الشمس ... ثم بعد ذلك تغرب ... ثم بعد ذلك تشرق
... ثم بعد ذلك تغرب – أثناء سقوط قرص الشمس الحمراء من الشرق إلى الغرب ومن الغرب
إلى الشرق – هل تستطيع أنتَ أن تنتظر كل ذلك؟"
بقيتُ صامتا وأومأتُ برأسي. ارتفعتْ وتيرة صوتها الهادئ بدرجة
أعلى قليلا:
"انتظر: مئة عام!"
قالت ذلك بصوت صارم.
"انتظر جالسا بجوار قبري مائة عام. لأنني سآتي مرة
أخرى للقائك"
قلتُ فقط: "سأنتظر". عند ذلك، انهارت صورتي التي
كانت تبدو واضحة داخل المقلة السوداء، متحولة لصورة ضبابية. ثم أغمضتْ المرأة
عيونها فجأة لتنساب صورتي كظل صورة منعكسة على سطح ماء ساكن بعد تحركه. وسقطت
الدموع من بين رموشها الطويلة على خديها – لقد ماتت حقًا.
ذهبتُ أنا إلى الحديقة، وحفرت حفرة باستخدام محار لؤلؤة.
كانت محار لؤلؤة ذات حواف حادة وكبيرة وسلسة في نفس الوقت. في كل مرة أغترفُ فيها
التربة، كانت تنعكس على ظهر المحار أشعة القمر متلألئة. وتفوح كذلك رائحة التربة
الرطبة. استطعتُ حفر القبر بعد فترة من الوقت. ثم وضعتُ فيه المرأة. ثم بعد ذلك
وضعت التربة اللينة فوقها برفق. وكلما أضع التربة، كانت تنعكس على ظهر المحار أشعة
القمر متلألئة.
ثم بعد ذلك ذهبتُ والتقطتُ قطعة نجم ساقطة، ووضعتها برفق
فوق التربة. كانت قطعة النجم دائرية. وفكرت أنه خلال الفترة الطويلة التي كانت
تسقط فيها من السماء، تآكلت حواف زواياها الحادة وصارت ناعمة. وأثناء احتضاني
للمرأة ووضعها فوق التربة، أدفأتْ يدي وقلبي.
جلستُ فوق العشب الرطب. وعقدتُ ذراعيّ وأنا أفكر أنني سأظل
أنتظر بهذا الحال لمئة عام، وأنا أتأمل شاهد القبر الدائري. وفي أثناء ذلك
أشرقت الشمس من الشرق كما قالت المرأة تماما، كانت الشمس ذات قرص أحمر هائل الحجم.
ثم أخيرا وكما قالت المرأة سقطت الشمس في اتجاه الغرب. سقطت فجأة كما هي بنفس
احمرارها. عددتُ وقلت: واحد.
بعد مرور فترة من الوقت، ارتفعت ببطء الشمس بلون قرمزي. ثم
غربت في صمت. فعددتُ: اثنان.
وأثناء ما كنت أقوم بالعد هكذا واحد، اثنان، أصبحتُ
لا أدري كم عدد الشموس الحمراء التي رأيتها. مهما عددتُ وعددتُ، ظلت الشمس الحمراء
لدرجة لا نهاية لها تعبر فوق رأسي وتتخطاني. ورغم ذلك لم تمر المئة عام بعد. في
النهاية تأملتُ الشاهد الصخري الذي نبت عليه العفن الأخضر، وبدأت أفكر: هل يمكن أن
تكون المرأة قد خدعتني؟
وعند ذلك نبتتْ ساق نبات أخضر من تحت الحجر بميل في اتجاهي.
وأثناء تأملي إياه كان قد امتد واستطال حتى وقف عند مستوى صدري في الارتفاع. وفي
اللحظة التي رأيتُ فيها ذلك تفتحتْ فوق قمة الساق التي تهتز بانسيابية، بتلات زهرة
متضخمة من برعم كان له رأس دائرية رفيعة وطويلة تميل عنقها قليلا. ثم فاحت أمام
أنفي رائحة زنبق ناصعة البياض لدرجة أحسستُ بها في جسمي بأكمله. وفوقها سقطت قطرة
ندى من علو شاهق، فترنحت الزهرة من ثقل حملها. مددتُ عنقي للأمام وقبّلتُ البتلات
البيضاء التي تتساقط منها قطرات الندى. وعندما نظرتُ إلى السماء البعيدة لا إراديا
وأنا أنتهز فرصة إبعاد وجهي عن زهرة الزنبق، كانت نجمة الفجر الوحيدة هي فقط التي
تتلألأ لامعة. ووقتها انتبهتُ لأول مرة أنه مرت بالفعل مئة عام!
الليلة الثانية
لقد رأيت الحلم
التالي.
بعد أن خرجت من غرفة
الراهب الكبير عدتُ إلى غرفتي عبر الممر، كانت إضاءة المصباح تنيرها بضوء
ضبابي. وضعتُ إحدى ركبتيّ فوق وسادة الجلوس، وعندما قلبتُ فتيل المصباح، سقطت فوق
المنضدة الحمراء بقعة زيت تشبه الوردة. وفي نفس الوقت ازادت إضاءة الغرفة.
كانت لوحة الساتر
الورقي من أعمال الفنان بوسون. لوحة شجر صفصاف سوداء رُسم هنا وهناك
منها غامق اللون ومنها الفاتح، ويمر صياد فوق ضفة نهر بقبعة من القش
ممسكا صنارة مائلة ويبدو عليه الشعور بالبرد. وفي مكان الزينة بالغرفة عُلقت لوحة
للإله مونجو البحري. وما زالت بقايا رائحة البخور تفوح وسط الظلام حتى الآن. لا
يوجد أثر لأي إنسان، في حين أن سعة ورحابة المعبد تجعله يبدو موحشا وكئيبا. وفي
ذات اللحظة التي نظرتُ فيها لأعلى، بدا الظل الدائري للمصباح الدائري المعلق في
السقف الأسود كأنه كائن حي.
قلبت الوسادة بيدي
اليسرى وأنا كما أنا واضعا عليها ركبتي، وأدخلتُ يدي اليمنى وكان موجودا في
المكان المتوقع. اطمأنت بسبب إنه كان موجودا فأعدتُ الوسادة في مكانها الأصلي
وجلستُ عليها بارتياح.
قال الراهب الكبير:
"أنت ساموراي. وما من افتراض ألا يصل الساموراي للنيرڤانا" ثم
أضاف: "عدم وصولك للنيرڤانا حتى الآن ربما يعني أنك لستَ
ساموراي" وقال لي: "أنت قمامة البشر" ثم ضحك وقال: "هاهاها
لقد غضب". ثم في النهاية قال: "إن أصابتك الحسرة؛ فأحضر دليلا على وصولك
للنيرڤانا"، واستدار معطيا ظهره لي، وهمس: "أمر لا يحتمل"
عندما تدق الساعة
الموضوعة في مكان الزينة بغرفة الاستقبال المجاورة لتعلن عن الساعة التالية،
سأظهر له أنني وصلت للنيرڤانا بشكل مؤكد. سأعود لأدخل غرفته مرة ثانية هذه الليلة
بعد أن أبلغ النيرڤانا. ثم إنني سأجعل رأس الراهب الكبير مقابلا لوصولي للنيرڤانا.
إن لم أصل إلى النيرڤانا فلن أستطيع سلب حياة الراهب. لذا يجب عليّ الوصول
للنيرڤانا بأي حال. فأنا ساموراي!
وإذا لم أصل
للنيرڤانا سأنتحر بسيفي. فلا ينبغي للساموراي أن يعيش بعد أن ذاق الذل والهوان.
بل إنه يموت ميتة جميلة!
عندما وصلتُ لهذا
التفكير انسلت يدي عفويا لتبحث مرة أخرى أسفل الوسادة التي أجلس عليها. وعندها
سحبتْ يدي الخنجر لتخرجه من غمده المطلي بلون أحمر. وقبضت بشدة على مقبض الخنجر وعندما
نزعتُ الغمد الأحمر، لمع النصل البارد لمرة واحدة في الغرفة المظلمة. وكأن شيئا
عظيما يهرب متسللا بسلاسة من بين يدي. وعند ذلك تركزت رغبة القتل في نقطة واحدة
وتجمعت كلها عند طرف النصل القاطع. عندما نظرتُ إلى نَصْلي الحاد هذا وقد انكمش
طرف الخنجر في خيبة أمل ليصير كأنه رأس إبرة، جاءتني على الفور رغبة عارمة في
سحبه بعنف. سالت دماء الجسد إلى جهة المعصم الأيمن، فجعلت المقبض الذي أقبض بيدي
عليه لزجا. اختلجت شفتاي.
أدخلتُ الخنجر في
غمده، وسحبته لوضعه في جنبي الأيمن، ثم بعد ذلك أخذت وضع تأمل اللوتس.
الراهب جوشو يقول إنه
الفراغ. ما هو الفراغ؟ طحنتُ أسناني بقول يا له من راهب وضيع!
ولأنني ضغطتُ بعنف
على أضراسي فقد صعدت من أنفي أنفاس حارة مضطربة. وألمني صدغي بعد أن حدث له تقلص
عضلي. وفتحتُ عينيّ بدرجة تماثل ضعف ما أفتحهما في المعتاد. يمكنني رؤية رسمة
الزينة المعلقة. ويمكنني رؤية المصباح ويمكنني رؤية حصير التاتامي. يمكنني بوضوح
رؤية رأس الراهب الصلعاء التي تشبه غلاية الماء. بل لدرجة أنه يمكنني سماع صوت
ضحكاته الساخرة وهو يفتح فمه الضخم. يا له من راهب لا يحتمل! يجب عليّ أن أنزع تلك
الغلاية من فوق عنقه. سأظهر لي قدرتي على الوصول إلى النيرڤانا. الفراغ ... الفراغ
... رددتُ كلمة الفراغ من أعماق لساني. ولكن رغم ترديدي لكلمة "الفراغ"
إلا أنني ما زلتُ أشم رائحة البخور. ما هذا؟ ماذا لو لم يكن مجرد بخور!
فجأة قمت بتكوير قبضة
يدي ولكمتُ رأسي لدرجة الإعياء. ثم طحنتُ أضراسي بقوة. انساب العرق من الإبطين. وتصلّب ظهري وكأنه عصا. وآلمتني فجأة مفاصل الركبة. وفكرت أنه حتى إذا
انكسرت الركبة فلا يهم. ولكن الألم شديد. معاناة كبيرة. ولا يأتي الفراغ بسهولة.
عندما أعتقدُ أنه على وشك المجيء أحس بعدها مباشرة بالألم. أمر يثير الغضب
والانفعال. أمر يسبب الندم والشعور بحسرة شديدة. تدمع عيناي بغزارة. بسبب إحساس واحد،
أريد أن أجعل جسدي يصطدم بصخرة ضخمة، وتحطيم لحمي وعظامي وطحنهما طحنا.
ورغم ذلك ظللتُ جالسا
في صبر. تحملت ووضعتُ في صدري مشاعر الوجع التي لا يمكن تحمّلها. مشاعر الألم تلك
رفعت كل عضلات الجسم من أسفل إلى أعلى، وتتعجل في محاولة حثيثة لإخراجها خارج
الجسم، ولكن كل الأسطح مغلقة عليها، وكأنه ليس لها مخرج، في حالة رهيبة لا يرثى
لها في غاية القسوة.
وأثناء ذلك أصيبت
رأسي بالجنون. فأصبحتُ أرى لوحة بوسون والمصباح وحصير التاتامي، والرفوف المختلفة،
وكأنها موجودة وغير موجودة، كأنها غير موجودة وموجودة. ورغم قول ذلك فالفراغ لا
يظهر أمام عيني بأي حال. يبدو الأمر كأنني أجلس بلا أي إضافة. وعقب ذلك بدأت
الساعة التي في الغرفة المجاورة تطلق دقاتها فجأة. وعندها انتبهتُ. فوضعتُ يدي
اليمنى سريعا على الخنجر. فدقتْ الساعة دقتها الثانية.
الليلة
الثالثة
لقد حلمتُ الحلم التالي.
كنتُ أحمل على ظهري
طفلا يبلغ من العمر ستة أعوام. هو بالتأكيد ابني. ولكن الأمر العجيب أن عيناه انمحت
فأصبح كفيفا. وعندما سألته:
"متى انمحت
عيناك؟"
أجاب:
"ماذا تقول! حدث
هذا منذ زمن بعيد!"
كان الصوت صوت ابني
بدون شك، ولكن طريقة الكلام كانت لشخص راشد. بل ويتكلم بندية كاملة.
تمتد حقول الأرز
الخضراء على الجانبين يمينا ويسارا. وكانت الطريق ضيقة. وبين وقت وآخر يقع على
الطريق ظل طائر مالك الحزين.
قال الطفل من وراء
ظهري:
"دخلت في حقول
الأرز"
أدرتُ وجهي للخلف
وسألته:
"كيف
عرفت؟"
أجاب:
"ماذا؟ أليس تلك
صيحات مالك الحزين؟"
صاح مالك الحزين
صيحتين.
وعندها أصابني الرعب
رغم إنه ابني. لا أدري ماذا ينتظرني وأنا مستمر في حمل هذا الشيء على ظهري. فكرت:
ألا يوجد مكان اتركه فيه؟ ونظرت في الأمام فبانت لي غابة ضخمة وسط الظلام. وفي
اللحظة التي فكرت فيها أن ذلك المكان مناسب سمعت من ظهري صوت يقول:
"هاها"
"ماذا يُضحكك؟"
لم يجب الطفل ولكنه
فقط سألني:
"أبي، هل أنا
ثقيل عليك؟"
وعندما أجبته قائلا:
"لا لستَ ثقيلا"
قال:
"ستشعر حالا
بثقل الحمل"
واصلتُ المشي في
صمت جاعلا الغابة هدفي الذي أبغي الوصول إليه. كانت الطرق التي في وسط حقول الأرز
متعرجة بشكل غير منتظم ولذا لم أستطع الخروج منها كما خططت. وبعد فترة وصلت لمفترق
طريقين. وقفتُ عند نقطة الافتراق وأخذتُ قسطا من الراحة.
قال الطفل:
"من المفترض أنه
ثمة هنا لوحة حجرية للإرشاد"
وكان ذلك صحيحا، فثمة صخرة بحجم شِبْر في شِبْر وبارتفاع الخصر تقريبا. وكُتب على سطحها: إلى
اليسار هيغاكوبو وإلى اليمين هوتّاهارا. وكان يُرى خطها الأحمر بوضوح رغم الظلام.
كانت الخطوط الحمراء كأنها دماء بطن بريص الحائط.
"الأفضل الاتجاه يسارا"
هكذا أصدر الطفل
أمره. وعندما نظرتُ إلى اليسار كانت الغابة السالفة الذكر توشك أن ترمي بظل أسود
من فوق السماء على رأسينا. ترددتُ قليلا. فقال الطفل مرة أخرى:
"لا داع للتردد"
فبدأتُ السير تجاه
الغابة بلا حولٍ لي ولا قوة. وعندما فكرتُ في عقلي ونحن نقترب من الغابة في الطريق
الوحيدة: "ما له يعلم كل شيء رغم أنه أعمى!"
قال:
"أسف لأني أعمى
وأني أحتاجُ إليك!"
"ولكن أنا أحملك
على ظهري، ألا يرضيك ذلك!"
"معذرة إنك
تحملني على ظهرك. ولكن أمر مؤسف أن يعاملني الناس على أنني غبي. أمر مؤسف أن يحدث
ذلك حتى من والدي"
لسبب ما أحسستُ
بالحنق. فأسرعتُ من خطاي حتى أصل إلى الغابة فأتخلّص منه بإلقائه فيها وأستريح.
قال من وراء ظهري
وكأنه يكلم نفسه:
"إذا مشيت قليلا
ستفهم. كان ذلك بالضبط في ليلة مثل هذه الليلة"
"عن أي شيء
تتحدث؟"
قلتُ ذلك بصوت محايد.
"تسأل عن أي
شيء؟ أنت تعرف ماذا أعني"
أجاب الطفل وكأنه
يسخر مني. وعندها بدأت أشعر أنني فعلا أعرف عن أي شيء يتحدث. ولكني لا أعرف
بالتحديد. فقط أنها كانت ليلة تشبه هذه الليلة. وكذلك اِعتقدتُ أننيإذا تقدمتُ قليلا بهذه الطريقة في السير سأفهم. أفكر أنني لو فهمتُ ستصعب الأمور وتتعقد فلذلك يجب
أن أسرع بالوصول إلى الغابة والتخلص منه سريعا لكي أطمئن. أسرعتُ خطاي أكثر وأكثر.
الأمطار تهطل منذ
فترة والطريق تزداد ظلاما. في الأغلب أنا في حلم، ولكن يلتصق فوق ظهري طفل، وهذا
الطفل مثل المرآة تعكس كل شيء من ماضيّ وحاضري ومستقبلي، بدون أن تترك أي تفاصيل
منهم جميعا. بل وهذا الطفل ابني. ثم إنه أعمى! أحسستُ بعدم القدرة على الاحتمال.
"هنا. هنا.
بالضبط عند جذر شجرة الأَرْز هذه"
سمعت صوت الطفل بوضوح
وسط المطر. توقفتُ دون وعي. في غفلة من الزمن أصبحنا داخل الغابة. أمامنا على بعد أقل
من مترين وكما يقول الطفل تماما أرى شجرة أرْز.
"أبي! كان ذلك
عند جذر شجرة الأرْز هذه. ألا تذكر؟"
"بلى. هو كذلك
حقا"
أجبته دون تفكير.
"كان العام
الخامس من عصر بونكا[1]، وكان
عام التنين"
حقا. أعتقدُ أنه ربما
كان فعلا العام الخامس من عصر بونكا.
"لقد قَتلْتَني
منذ مائة عام بالضبط"
عندما سمعتُ تلك
الكلمات، في التو والحال تذكرتُ بوضوح أنني في العام الخامس من عصر بونكا قتلت
أعمى عند جذر شجرة الأرْز هذه في ظلام دامس. وعندما انتبتُ فجأة أنني قاتل، في
ذات اللحظة تحول ثقل الطفل الذي أحمله على ظهري إلى ثقل تمثال حجري.
الليلة الرابعة
توجد منضدة في منتصف غرفة ومصفوف
حولها مقاعد بلا مسند للظهر. يلمع لون المنضدة الأسود. وفي أحد الأركان يجلس عجوز
يشرب الساكي وحيدا وقد وضع في الركن أمامه صينية مربعة الزوايا. ويبدو أن
"المَزّة" طعامٌ مسلوق. تحول وجه العجوز إلى لون أحمر فاقع بسبب كثرة
شرب الساكي، وعلاوة على ذلك فوجهه كله يلمع وليس به أثر للتجاعيد. ولكن
لأنه يطيل لحيته وشاربه لأقصى مدى وكلاهما شديد البياض، لذلك يُعرف من ذلك فقط أنه
عجوز متقدم في السن. وأنا رغم أنني طفل إلا أنني فكرت: كم عمر ذلك العجوز؟ عقب ذلك مباشرة أتت مالكة المحل حاملة في يدها كوز ماء من صنبور في الخلف، ثم سألتْ العجوز وهي تمسح يديها في مريولها الأمامي:
"كم تبلغ من العمر
أيها العجوز؟"
ابتلع العجوز الطعام
المسلوق الذي امتلأ به فمه ثم أجاب:
"لقد نسيتُ كم عمري!"
وضعت المالكة يديها التي
مسحتها داخل حزام الرداء ثم وقفت تنظر إلى وجه العجوز الجانبي. تجرع العجوز الساكي إناء كبير يشبه فنجان الشاي في جرعة واحدة، ثم أطلق من بين لحيته وشاربه زفرة
طويلة. ثم على إثر ذلك سألته المالكة:
"أين تسكن أيها
الجد؟"
"في عمق السُرَّة"
سألت المالكة مرة أخرى وهي
تضع يديها كما هي داخل الحزام الرفيع:
"إلى أين
ستذهب؟"
وعندها سكب العجوز جرعة
أخرى من الساكي الساخن من نفس الإناء الكبير الذي يشبه الفنجان ثم أطلق مثل نفس
الزفرة السابقة وقال:
"سأذهب إلى هناك"
وعندها سألت المالكة:
"مباشرة في طريق
مستقيمة؟"
مر زفيره كالريح وتخطى
الباب ومر من تحت شجرة الصفصاف وذهب مباشرة في اتجاه ضفة النهر.
خرج العجوز. فخرجتُ أنا
وراءه. كان العجوز يدلى من خصره زمزمية ويعلق من كتفه صندوق مربع. ويرتدي سروالا
بلون أصفر باهت وقميصا بلا أكمام من نفس اللون. كانت الجوارب التقليدية فقط هي
التي بلون أصفر فاقع، وبدا لي أنها مصنوعة من الجلد.
مشى العجوز مباشرة في
استقامة إلى أن وصل إلى أسفل شجرة الصفصاف. كان يوجد أسفل شجرة الصفصاف ثلاثة أو
أربعة أطفال. أخرج العجوز من خصره وهو يضحك منشفة يد بلون أصفر باهت. ثم ضفّرها
طويلا ورفيعا كأنها حبل. ثم وضعها وسط الأرض تماما. ثم رسم حول تلك المنشفة دائرة
كبيرة. وفي النهاية أخرج زمارة بائع حلوى مصنوعة من النحاس الأصفر، من داخل
الصندوق الذي يضعه على كتفه.
"انظروا ... انظروا
... توا ... وحالا ... ستتحول هذه لتصير ثعبانا!"
أخذ العجوز يكرر ذلك
النداء.
نظرنا أنا والأطفال بكل جد
واهتمام إلى منشفة اليد.
"انظروا ... انظروا
... حسنا هل أنتم مستعدون؟"
قال العجوز ذلك وهو ينفع
بالزمارة. ثم بدأ يلف ويدور فوق الدائرة. كنتُ لا أنظر إلا إلى المنشفة. ولكن منشفة
اليد كما هي بلا أية حركة.
زمر العجوز بالزمارة بيب
...بيب. ثم دار ولف عدة مرات فوق الدائرة. بدا لي الأمر مخيفا. وفي نفس الوقت
ممتعا.
أخيرا، توقف العجوز فجأة
عن النفخ بالزمارة. وفتح فتحة الصندوق المعلق على كتفه، ومسك بحرص منشفة اليد من
رقبتها ورماها داخله.
"إذا فعلنا ذلك
ستتحول إلى ثعبان داخل الصندوق. حالا سأريكم إياها" ثم تخطى المسافة أسفل شجرة
الصفصاف ونزل مباشرة إلى الطريق الضيقة. ولكنني كنت أريدُ أن أرى الثعبان، فمشيتُ
وراءه في الطريق الضيقة كما يمشي. كان العجوز يقول أحيانا وهو سائر في الطريق:
"توا ... حالا" أو "ستصير ثعبانا ... ستصير ثعبانا" وفي نهاية
الأمر أخذ يغني: "توا ... حالا... ستصير ثعبانا ... ستصيح الزمارة" ثم
وصل أخيرة إلى ضفة النهر. ولأنه لا يوجد جسر ولا مراكب، وبينما كنت أفكرُ أنه
سيستريح قليلا هنا ويُظهر لي الثعبان من داخل الصندوق، إلا أن العجوز نزل النهر
كما هو بملابسه. في البداية كان عمق النهر لا يصل إلا إلى ركبتيه فقط، ولكن
تدريجيا غطى الماء خصره ثم وصل الأمر أن اختفى صدره تماما. ورغم ذلك ظل العجوز
مستمرا في السير في طريق مستقيمة وهو يغني: "ستصير أعمق ... سيعُم الليل ...
سأسير مستقيما"
ثم في النهاية اختفت لحيته
وشاربه وكذلك اختفى وجهه ورأسه والعُصابة التي على رأسه"
اِعتقدتُ أنا أن العجوز
إذا وصل إلى الضفة الأخرى من النهر سيُظهر بالتأكيد الثعبان، لذا وقفتُ في مكانٍ يرتفع
فيه صوت البوص أنتظر وحيدا بمفردي. ولكن العجوز لم يخرج من النهر حتى النهاية.
الليلة الخامسة
لقد رأيت الحلم التالي.
كان كل شيء قديما لدرجة
يُعتقد أن ذلك كان في زمن وجود الآلهة على الأرض. كنت في معركة ولحظي السيئ انهزمت
ووقعتُ في الأسر. ثم عُرضتُ على قائد جيش العدو.
كان الناس جميعا في ذلك
العصر طوال القامة. ثم كان الجميع كذلك يطيلون لحاهم. ويشدون حول خصرهم أحزمة
جلدية ويعلقون منها سيوفا تشبه العصي. وبدا لي أنهم يستخدمون خشب شجرة الوستارية
الغليظة كما هو أقواس الرماح، بدون صباغ ولا جلي وتلميع. بل كانت شيئا بدائيا
للغاية.
كان قائد العدو يقبض بيده
اليمنى على منتصف القوس وكان ذلك القوس مغروزا في الحشائش، وكان يجلس فوق ما يشبه قارورة
ساكي مقلوبة. وعند النظر إلى وجه ذلك القائد نجد أنه يوجد فوق الأنف حاجبان على
اليمين وعلى اليسار عريضان ومتصلان معا. بالطبع في ذلك العصر لم يكن يوجد الموسى
أو ما شابه.
لأنني كنت أسيرا لديهم لم
يسمحوا لي بالجلوس على مقعد بل جلستُ متربعا فوق الحشائش. كنت أرتدي في قدمي خفا
تقليديا كبيرا مصنوعا من القش. كان الخُف في ذلك العصر عميقا. إذا وقفتُ يصل الخف
إلى عرقوب الركبة، وعند تلك الحافة القش مضفر وينزل مثل العنقود ومع السير تتحرك
يمينا ويسارا كزينة له.
نظر القائد إلى وجهي من
خلال النار الموقدة في الخلاء وسألني: "أتريد الموت أم تريد الحياة؟"
كانت تلك العادة في ذلك العصر، وكل أسير يُسْأَلُ ذلك السؤال على أي حال. وإذا قال
أريد الحياة فهذا يعني أنه استسلم، وإذا اختار الموت فهو يعني عدم خضوعه. قلتُ
كلمة واحدة هي الموت. فرمى القائد القوس الذي كان مغروزا في الأرض ناحية الجهة
الأخرى، وأخرج السيف الذي يشبه العصا المعلق في جانبه من غمده بسرعة وانسيابية،
وهبت عليه من الجنب النار الموقدة التي اهتزت مع الرياح. فتحت يدي اليمنى وكأنها شجرة
قيقب، ووجهتُ راحة يدي ناحية قائد الجيش، ورفعتها مشيرا إلى ما فوق العين. كانت
تلك إشارة تعني "انتظر". أدخل القائد السيف الضخم بإحكام إلى الغمد.
في ذلك العصر أيضا كان
الحب موجودا. قلت له أنني أريد أن أقابل المرأة التي أحبها ولو لنظرة واحدة قبل أن
أموت. قال قائد العدو إن كان ذلك سينتهي عند انقضاء الليل وصياح الديكة في الصباح فسيمكنه
الانتظار. يجب دعوة المرأة هنا قبل صياح الديكة. إذا صاحت الديكة ولم تأتي المرأة
فسأُقتل دون أن أقابلها.
تأمل القائد النار الموقدة
جالسا كما هو. وأنا أنتظر المرأة فوق الحشائش مرتديا خف القش الكبير كما أنا. سرى
الليل تدريجيا.
من وقت لآخر تُصدر النار
الموقدة صوت طقطقة انهيارها. وكلما طقطقت النار ينجرف لهبها تجاه القائد وكأنها في
حيرة من أمرها. تحت الحواجب قاتمة السواد، يصدر صوت طقطقة النار. وعندها يأتي شخص
ما ويرمي الكثير من أفرع الشجر الجديدة داخل النار ثم يذهب. وبعد مرور فترة من
الزمن، بدأت النار تصرخ بصوت أعلى. صوت شجاع وكأنه يقهر الظلام الأسود ويطرده
بعيدا.
في ذلك الوقت كانت المرأة
تسحب فرسا أبيض اللون كان مقيدا في شجرة سنديان في الخلف. مسحت على عُرْفِه ثلاث
مرات ثم قفزت في رشاقة وامتطته. كان فرسا عاريا تماما بلا سرج ولا كلّابات. وعندما
ركلت بطنه السمينة بأرجلها الطويلة البيضاء، بدأ الفرس في العدو بأقصى سرعته. قام
أحدهم بإضافة الوقود إلى النار، فبدت السماء في الأفاق البعيدة وكأنها على
وشك الإشراق. كان الفرس يقفز عدوا في تتبع تلك السماء البيضاء البعيدة. يقفز آتيا
وهو ينفث من منخاريه زفيرا وكأنه ألسنة لهب. ورغم ذلك فالمرأة لا تكف عن ركل الفرس
بأرجلها الرفيعة. يأتي الفرس قافزا بسرعة تجعل أصوات حوافره تصل إلى عنان
السماء. وشعر المرأة يسحب خلفه ظله وسط
الظلام وكأنها بيارق زاحفة. ولكن رغم ذلك
لم تصل إلى مكان وجود النار.
ثم على حين غفلة سُمع صوت
صياح الديكة "كوكو ... كوكو" في جوار الطريق حالكة الظلمة. قوّست المرأة
جسدها وسحبت اللجام التي تقبض عليها بيديها الاثنين ناحيتها. توقف الفرس وكأنه ينقش
بحوافره ساهم طائش على صخر صلد.
صاحت الديكة مرة أخرى صيحة
"كوكو ... كوكو". وعندها قالت المرأة "آه ..." ثم أرخت اللجام
الذي كانت تشده. فكُسرت رُكبتي الفرس، وسقط بمن يحمله إلى الأمام مباشرة. وكان
أسفل الصخرة هوة سحيقة.
ما زال أثر حوافر الفرس
منقوشا فوق الصخرة حتى هذه اللحظة. كان من قلد صوت صياح الديكة هو الجني
"أمانوجاكو" وما دامت آثار تلك الحوافر باقية فوق الصخرة فأنا لي ثأر
عند "أمانوجاكو".
الليلة
السادسة
انتشر خبر أن النحّات
"أونكيه" ينقش تمثال "نيوو" على بوابة الجبل الكائن فيه معبد
غوكوكوجي، فقلتُ أذهب لاستطلاع الأمر وفي نفس الوقت أتريض، وعندما ذهبت ورأيت،
وجدتُ أنه قد تجمع قبلي بالفعل خلق كثيرون ومن وقت لآخر تتردد تعليقاتهم.
وعلى بعد حوالي عشرة
أمتار إزاء بوابة الطريق إلى الجبل ثمة شجرة صنوبر حمراء بالغة الضخامة.
وجذع تلك الشجرة يخفي بميل قرميد سقف بوابة الجبل، وتمتد حتى تصل إلى أعالي السماء
الزرقاء. وتتناغم خضرة الصنوبر مع صبغة البوابة الحمراء ويظهران في مشهد رائع. وكان
موقع الصنوبر العلوي جيدا. فقد قُطعت بميل كيلا تحجب حافة البوابة اليسرى على
الأنظار، وكلما علت ازداد عرضها فتبرز عريضة حتى سقف البوابة لتعطي إحساسا
بالأصالة والقدم. ويُعتقد أنها من فنون عصر كاماكورا[2].
ولكن كان المتحلقون للمشاهدة أناس مثلي تماما من عصر ميجي[3].
وأكثرهم هم العرابجة. ولا شك أنهم يقفون لشعورهم بالملل في انتظار الزبائن. قال
أحدهم:
"شيءٌ بالغ
الضخامة"
وقال آخر:
"لا بد أنه كان
هناك عناء ومشقة أكبر من أن يخلق بشرا حقيقيا"
وأثناء ما كنتُ أفكرُ
"أحقا هذا؟" كان هناك رجل ثالث يقول:
"هاه ... إنه
نيوو. هل يوجد من ينحت نيوو حاليا؟ هيه ... هذا حق. لقد كنت أعتقدُ أن جميع تماثيل
نيوو قديمة جدا"
فتبادل رجل آخر
الحديث معه قائلا:
"يبدو أنه قويٌ
جدا. فيمكنه الحصول على أي شيء. إذا قيل من أقوى الرجال فمنذ قديم الزمان والمتعارف
عليه إنه ما من أحد أقوى من نيوو. فأي كان الأمر يكفي أنه أقوى من تاكينوميكوتو
ياماتو ذاته"
ذلك الرجل كان يحك
مؤخرته ولا يضع قبعة على رأسه. يبدو أنه رجل وضيع التعليم بدرجة بالغة.
كان أونكيه يُعمل إزميله
ومطرقته بلا أي مبالاة بتفاصيل ما يقوله الناس الذين تجمعوا لمشاهدته. ولا يلقى
تجاههم ولو بنظرة خاطفة. كان قد ارتقى مكانا عاليا ويعمل بلا توقف على نحت وجه نيوو.
وضع أونكيه على رأسه
ما يشبه قبعة يابانية تقليدية صغيرة، ويلتحف على ظهره شيئا ذا أكمام كبيرة لا
يُعرف هل هو الزي الذي يرتديه الساموراي في الحفلات أم ماذا؟ وكان مظهره يبدو شديد
القِدم. ويبدو أنه لا ينسجم مطلقا مع المشاهدين الذين يثرثرون. فكرتُ لِمَ يظل
أونكيه على قيد الحياة حتى هذه اللحظة. وأنا أفكر أن ثمة أحداث عجيبة وغريبة
للغاية، كما المتوقع وقفتُ وشاهدتُ.
ولكن أونكيه من جهته
لا يجعلك مظهره تشعر بأي أثر لأي جسم عجيب أو شيء غريب فهو يقوم بالنحت بكل
اجتهاد. أحد الشباب كان يقف ينظر إليه ووجه لأعلى، توجه بوجهه نحوي ثم بدأ يمدح
أونكيه قائلا:
"إنه حقا الفنان
العظيم أونكيه. فنحن لا ندخل في مرمى بصره مطلقا. أن حالته وكأنه يقول لا يوجد تحت
الشمس وعلى البسيطة إلا أنا والبطل المغوار نيوو فقط. رائع ... رائع"
أنا رأيت أن هذا
الكلام مسلٍّ. وعندما نظرت إلى ذلك الشاب، قال الشاب سريعا وبلا تمهل:
"انظر إلى طريقة
استخدام الإزميل والمطرقة. لقد وصل إلى حدود متناهية من حرية الحركة والتعبير"
كان أونكيه ينحت في
تلك اللحظة الحاجب العريض جانبيا على ارتفاع ثلاثة سنتيمترات، وإذ ظننت أنه يرجع
سن الإزميل رأسيا، تجده يخفض المطرقة طرقا من أعلى لأسفل بشكل مائل. وبعد أن أنهى
نحت وتفريغ الخشب الصلب، وبعد أن قفزت نشارة الخشب المقتطعة مستجيبة لصوت المطرقة،
برزت للعيان على الفور جوانب الأنف الذي يفتح منخاره الصغير غضبا. كانت طريقة وضع
ذلك النصل في غاية الجراءة والإقدام. وبدت كأنها لا تحتوي على أي شك أو تردد.
من شدة إعجابي قلت
وكأنني أحدّثُ نفسي:
"كيف تأتّى له
بهذه الطريقة العشوائية في استخدام الإزميل صنع مثل تلك الحواجب وهذه الأنف!"
وعندها قال الشاب
سالف الذكر:
"ماذا! إنه لا
يصنع الأنف والحواجب باستخدام الإزميل. إن هذه الأنف والحواجب مدفونة بهذا الشكل
داخل الخشب وهو فقط يُظهرها بإزالة ما حولها باستخدام قوة المطرقة والإزميل.
بالضبط كما لو أنه يخرج حجرا من باطن التربة، لا يمكن مطلقا أن يخطئ"
وعند ذلك أول مرة
أفكر أن النحت هو بالضبط كما قال الشاب. وبدأتُ أفكر أنه إذا كان الأمر كذلك حقا
فأي شخص يستطيع النحت. وعندها اجتاحتني فجأة رغبة في أن أنحت بنفسي تمثالا لنيوو
فتركت المشاهدة وعدتُ سريعا إلى منزلي.
أخرجتُ مطرقة وإزميلا
من صندوق الأدوات، وخرجتُ إلى الحديقة الخلفية للمنزل فوجدت أخشابا كثيرة تناسب
الغرض من أشجار البلوط التي سقطت في الإعصار الفائت منذ أيام قليلة مرصوصة حسب
أطوالها استعدادا لاستخدامها حطبا.
اختارتُ أكبرها وبدأت
في النحت بتدفق وسرعة جيدة، ولكن لسوء الحظ لم أعثر على نيوو. والعمل الثاني أيضا
لسوء الحظ لم أفلح في نحته. والعمل الثالث لم أصل إلى نيوو. قمتُ بنحت كل الأخشاب
التي كنت قد رصصتها لاستخدامها حطبا بنفسي من أولها لآخرها، ولكن لم تكن ولا واحدة
منهم تخفي داخلها تمثال نيوو. وفي النهاية أدركتُ أن أخشاب شجر عصر ميجي لا تحتوي
على نيوو بداخلها بأي حال. وبذلك تقريبا فهمت لماذا ظل أونكيه حيّا حتى هذا اليوم.
الليلة
السابعة
أركب سفينة كبيرة على
ما يبدو.
تتقدم تلك السفينة في
طريقها تشق الأمواج مطلقة بخارها كل يوم وكل ليلة دون توقف. تصدر السفينة صوتا
مهولا، ولكن لا أدري إلى أين تذهب؟ فقط تشرق شمس تشبه نبات الجنسن من قاع الموج.
فتأتي إلى ما فوق ساري الشراع العالي تماما ثم تظل كذلك لفترة ثم في غفلة من الزمن
تتخطى السفينة العملاقة وتسبقها للأمام.
وفي
النهاية أصدرتْ أصواتا صاخبة مثل ألسنة اللهب الحمراء وغاصت في عمق الأمواج. وفي
تلك المرة تفور الأمواج الزرقاء في الجهة البعيدة عائدة بلون شجر البقم الهندي.
وعندها أصدرت السفينة أصواتا مهولة وتتبعت أثرها. ولكنها لم يمكنها اللحاق بها
مطلقا.
وفي
أحد الأوقات أمسكتُ ببحار على السفينة وسألته:
"هل
هذه السفينة ذاهبة إلى الغرب؟"
أظهر
البحار على وجهه ملامح الريبة، وظل لفترة يتأملني ثم أجاب في النهاية على السؤال
بسؤال قائلا:
"لماذا؟"
"لأنها
على يبدو تلاحق الشمس في سقوطها"
ضحك
البحار بصوت عالي. ورحل إلى الجهة الأخرى بعيدا عني.
وقال ساخرا:
"الشمس التي تذهب إلى
الغرب هل نهايتها الشرق؟ أحقا هذا؟ الشمس التي تشرق من الشرق هل موطنها الغرب؟
أحقا هذا؟ نحن فوق الموج ووسادتنا الدفة. جدف ... جدف"
وعندما ذهبت إلى مقدمة
السفينة للرؤية، وجدتُ عددا كبيرا من البحارة متجمعين، يشدون بأيدهم حبل الشراع
الضخم يدا بيد.
شعرتُ عندها بوحدة عميقة.
ولا أدري متى تكون عودتي مرة أخرى إلى البر. ومع هذا لا أعلم إلى أين تذهب
السفينة. ولكن الشيء المؤكد أنها تسير فقط قاطعة الأمواج وهي تطلق أبخرتها
السوداء. وتلك الأمواج في غاية الاتساع والضخامة. ويبدو أن تلك الزرقة لا نهاية
لها ولا حدود. وأحيانا ما تصبح بنفسجية اللون. ولكن الجزء التي يحيط بحركة السفينة
فقط يطلق على الدوام زبدا ناصع البياض. كنت أشعر بوحدة لا تحتمل. وفكرت أن إلقاء
نفسي في الماء والموت خير لي من البقاء على هذه السفينة.
في إحدى الليالي صعدتُ فوق
ظهر السفينة، وتأملتُ النجوم وحيدا، جاء أحد الأجانب، وسألني: "هل لك معرفة
بعلم الفلك؟" كنت أعاني من الملل والوحدة لدرجة التفكير في الانتحار. وما من ضرورة لمعرفة علم الفلك.التزمتُ الصمت. وعندها بدأ ذلك الأجنبي يسمعني حديثا
حول حكاية السبع نجوم الواقعة في قمة برج الثور. ثم قال إن النجوم والبحار كلها من
صنع الله الخالق. وفي النهاية سألني: " هل تؤمن بالله؟" نظرت إلى السماء
ولم أرد.
في أحد الأوقات عند دخولي
أحد قمرات السفينة، وجدت امرأة في عمر الشباب تلبس ملابس مبهرجة، وتجلس في الاتجاه
المعاكس وتعزف على البيانو. ويقف بجوارها رجل طويل القامة عظيم الهيئة، يغني. بدا
لي فمه ذلك في غاية الكبر. ولكن بدا أن الاثنين لا يكترثان بأي شيء سواهما. ويبدو
أنهما نسيا حتى أنهما على متن سفينة.
زاد ذلك من مللي ووحدتي
أكثر وأكثر. وعندها قررتُ حاسما الانتحار. وعند ذلك في إحدى الليالي، في وقت ليس فيه أحد قفزتُ بكل قوتي في البحر. ولكن، في اللحظة التي انفصلت فيها قدمت عن
ظهر السفينة ووصلت إلى الفجوة التي في حافة السفينة، أحسستُ فجأة بتعلقي بالحياة.
ومن أعماق قلبي شعرت أنه كان يجب عليّ الإقلاع عن فكرة الموت. ولكن كان الوقت قد
فات. فقد كان يجب عليّ الوقوع في البحر طوعا أو كارها، شئت أم أبيت. ولكن كانت
السفينة في غاية الارتفاع ورغم ابتعاد جسدي عن ظهر السفينة إلا أن قدمي لم تصل
بسهولة إلى الماء. ولكن لأنه ما من شيء أستطيع الإمساك به، كان جسدي يقترب رويدا
رويدا من الماء. مهما قمت بتقصير قدمي كان الماء يقترب. كان لون الماء أسود.
وأثناء ذلك أطلقت السفينة
البخار الأسود إياه كالمعتاد، ومرت مبتعدة عني. وأدركتُ للمرة الأولى أنه كان
الأفضل لي أن أكون راكبا السفينة حتى ولو لم أكن أعرف إلى أن تتجه، ولكن هذا
الإدراك لا يمكن لي الاستفادة منه واستغلاله في شيء ذي قيمة، وسقطتُ بهدوء في
الأمواج السوداء وأنا أحمل مشاعر ندم وخوف ليس لهما حد.
الليلة الثامنة
بمجرد وضع قدمي داخل صالون
الحلاقة، صاح ثلاثة أو أربعة أشخاص يرتدون ملابس بيضاء موحدة في صوت واحد شرّفت
محلنا.
عندما وقفت في منتصف
الصالون أدرتُ النظر وجدته مربع الأركان. وكانت النوافذ مفتوحة على اتجاهين،
والاتجاهان الأخران معلق بهما مرايا. وعندما عددتُ المرايا كانت عددها ستة مرايا.
ذهبت إلى إحداها وجلست على
المقعد. فصدر صوت ارتطام مؤخرتي. يبدو أن المقعد كان مريحا بدرجة كبيرة جدا. عكستْ
المرآة صورة وجهي بعظمة. استطعتُ أن أرى النافذة خلف رأسي. ومن هناك استطعت بميل
رؤية سياج في الخارج. ولم يكن أحد داخل السياج. واستطعت أن أرى بوضوح أجسام
المارة في الطريق من عند الخصر لما أعلى.
مر أتسوتارو مع امرأة.
كان أتسوتارو في غفلة من الزمن قد اقتنى قبعة بنمية وأصبح يرتديها. وفي غفلة من
الزمن كذلك كانت قد أصبح له امرأة. أمر غير مفهوم. يبدو أن الاثنين منسجمان.
وأثناء تفكيري في أنني أريد أن أرى المرأة بوضوح كانت قد مرت وفاتت بالفعل.
مر بائع الطوفو[4]
وهو يزمر بالبوق. ولأنه كان يضع البوق في فمه فقد كان خداه منتفختين وكأن نحلة قد
لسعته. ولأنه قد مر من أمامي وهو منتفخ الوجه، جعلني ذلك أحس بالقلق والاهتمام.
وجعلني أظن أنه سيظل ملدوغا من النحلة طوال حياته.
ثم ظهرت فتاة غيشا. لم تكن
قد دهنتْ وجهها بعد بمساحيق الوجه. وقصة شعرها مرتخية، ونوعا ما رأسها ليس به شِدّة.
ووجهها كذلك نعسان. ولمعة بشرتها سيئة لدرجة تثير التعاطف. ورغم ذلك قامت بتحية
الانحناء وقالت مرحبا، اسمي فلانة. لم يكن الطرف الذي تحدثه يظهر في المرآة بأي
حال.
وعند ذلك جاء خلفي رجل ضخم الجسم يرتدي ملابس بيضاء، وهو يحمل المقص والمشط وأخذ يتأمل
رأسي. سألته وأنا أبرم شاربي: "ما رأيك أليس هيئة عظيمة تبعث على
الفرجة؟" الرجل الأبيض لم يقل شيئا ولكنه طرق على رأسي خفيفا بمشط بلون
الكهرمان الذي كان يحمله.
سألت ُ الرجل الأبيض.
"حسنا، هذه رأسي ما
رأيك؟ هل تصير هي كذلك عرضة للنظر؟"
كما توقعتُ لم يجب الرجل
الأبيض عليّ بأية إجابة، وبدأ المقص في الصياح.
فتحتُ عيوني على اتساعها
وأنا عاقد العزم على مشاهدة أي ظل ينعكس على المرآة بدون أن يفلت مني شيء، ولكن مع
كل صيحة من المقص تسقط خصلة شعر سوداء، فأصابني الرعب، واخيرا أغمضتُ عيوني.
وعند ذلك قال الرجل
الأبيض:
"سيدي، هل رأيت محل
السمك الذهبي الذي في الواجهة؟"
قلت لا لم أره. بعد ذلك
صمت الرجل الأبيض وأخذ يجعل المقص يصيح. وبعد ذلك صاح صوتا عاليا يحذر من خطر!
وعندما فتحت عيوني فجأة، رأيت أسفل طرف ثوب الرجل الأبيض دراجة. ورأيت سائق عربة
الريكشا. وعندما انتبهت كان الرجل الأبيض يقبض على رأسي بيديه ويميل بها على
الجنب. صرت لا أستطيع رؤية الدراجة ولا عربة الريكشا. بل أسمع صوت صياح المقص فقط.
أخيرا، لف الرجل الأبيض
إلى جانبي، وبدأ يقص حول أذني. ولأن الشعر لم يعد يطير أمام عيني استطعت فتح عيني
وأنا مطمئن. فسمعت صوت بجوارنا مباشرة يصيح: "عجينة ... عجينة ... عجينة
الذرة البيضاء"، هو يدق متعمدا بمدقة صغيرة على الهون، ويصنع العجينة بطريقة
تنسجم مع نغمات صياحه. لم أر صانع عجينة الذرة منذ كنت طفلا، فأردتُ أن أشاهده ولو
للحظات. ولكن رغم ذلك لا يظهر بائع عجينة الذرة البيضاء مطلقا في المرآة. فقط صوت
دق العجينة هو الذي يصلني.
حاولت أن أتلصص في زاوية المرآة بكل ما أوتيت من
قوة نظر. وعندها كانت امرأة تجلس وحيدة في غفلة من الزمن داخل السياج. كانت امرأة
ضخمة الجثة ذات حواجب بلون أسود باهت، تعقص شعرها بقصة اليابانيات التقليدية
وترتدي كيمونو بنصف ياقة مع ساتان أسود بدون شيء أسفله، وتعد أوراق العملة وهي
واقفة على ركبها. كانت أوراق العملة على ما يبدو من فئة العشرة ينات. أمالت المرأة
رموشها لأسفل وأطبقت شفتاها وتقرأ باجتهاد أرقام العملة، ولكن كانت طريقة العد سريعة
بدرجة كبيرة جدا. بل وكانت العملات لا يبدو أنها ستنتهي مهما أحصت العد. تصل العملات
الموجودة فوق ركبتها لمائة ورقة على الأقل، ولكن المائة ورقة تلك تظل مائة ورقة مهما
عدت منها.
أخذت
أتأمل شاردا وجه تلك المرأة وورقات العشرة ينات. وعندها صاح الرجل الأبيض بصوت
عالٍ بجوار أذني قائلا: "هيا للغسل" ولأنها كانت فرصة جيدة عندما وقفتُ
من على المقعد ونظرت في التو والحال تجاه السياج. ولكني لم أر داخل السياج شيئا
بتاتا، لا المرأة ولا عملات العشرة ينات.
دفعتُ
الأجرة وخرجتُ من المحل، على يمين زاوية البوابة، خمسة أحواض بيضوية
مصفوفة، وداخلها الكثير من الأسماك الذهبية، أسماك ذهبية حمراء اللون، وأسماك
ذهبية بألوان متعددة، وأسماك ذهبية نحيفة، وسمك ذهبي سمينة. وكان بائع الأسماك يقف
خلفها. كان بائع الأسماك يتأمل أسماكه المرصوصة قبالته، ساكنا تماما وواضعا خديه
بين يديه. ولا يتوقف في كثير ولا قليل أمام زحمة المارين في الطريق وإزعاجهم. أنا
أيضا بقيت واقفا لفترة من الوقت أتأمل بائع الأسماك ذلك. ولكن أثناء تأملي طوال
تلك الفترة لم يحرك بائع الأسماك ساكنا بتاتا.
الليلة
التاسعة
بدأت بدون سبب ضجة في
المجتمع. ويبدو أن هناك معركة على وشك الوقوع في الحال. خرجت الأحصنة العارية من
سرجها التي حُرقت تجوب طائشة ليلا ونهارا المناطق حول المنزل، ويلاحقها مشاة
الجنود ليلا ونهارا بدبيب أرجلهم القوي. ورغم ذلك كله إلا أن المنزل من الداخل
هادئ تماما كغابة موحشة.
يوجد في المنزل الأم
الشابة وطفلها الذي يبلغ ثلاثة أعوام. والأب ذهب إلى مكان مجهول. كان وقت ذهاب
الأب هو منتصف الليل في ليلة لم يطلع فيها القمر. ارتدى خُف القش فوق مكان الزينة،
ووضع على رأسه لفاع أسود، وخرج من الباب الخلفي. وقتها كان نور المصباح ذو الغلاف
الورقي الذي كانت الأم تحمله، يصدر شعاع رفيع في الظلام الدامس ليصل إلى شجرة
السرو العتيقة الواقفة أمام سور النباتات حول المنزل لتنيرها.
لم يعد الأب بعد ذلك
أبدا. تسأل الأم كل يوم الطفل ذي الثلاث سنوات: "أين أبوك؟" ولكن الطفل
لا يقول شيئا. وبعد فترة من الزمن أصبح يرد بقوله: "هناك" عندما تسأله
الأم: "متى يعود؟" كان كما المتوقع يرد بقوله: "هناك" ثم
يضحك. وعندها كانت الأم أيضا تضحك. ثم تعلمه كلمة: "سيعود الآن"
بتكرارها أكثر من مرة. ولكن كان الطفل يرد بقوله: "الآن" فقط. وأحيانا
كان عندما يُسئل: "أين أبوك؟" كان يجيب: "الآن"
عندما يأتي الليل، وتهدأ
تماما المنطقة المحيطة، تعيد الأم ربط حزامها، وتضع الخنجر ذي الغمد المصنوع من
جلد سمك القرش، داخل حزامها، وتربط الطفل بحزام رفيع حاملة إياه على ظهرها، ثم
تخرج خفية من باب المنزل. كانت الأم ترتدي دائما خفا مصنوعا من القش. وكان الطفل
أحيانا ما ينام على ظهر أمه وهو يستمع إلى صوت حفيف ذلك الخف.
نزلت الطريق ناحية
غرب المساكن التي تستمر أسوارها الطينية، توجد شجرة جِنْكو ضخمة في نهاية المنحدر
النازل بزاوية صغيرة. وكانت الجنكو تلك علامة الاتجاه يمينا، وتوجد بعد ذلك بوابة حجرية
لمعبد شِنتوي على بعد حوالي مئة متر. على أحد جانبيها حقول أُرز، وعلى الجانب
الآخر، تسيطر أعواد الخيزران حتى أنها قد زحفت حتى وصلت إلى بوابة المعبد، التي
عندما تخطتها الأم ودخلت، وجدتْ أشجار أَرْز صغيرة موحشة ثابتة في المكان. ثم بعد
ذلك سارت بجوار سور حجري لغرفة تبلغ حوالي عشرين باعا[5]،
وعندما انتهت إلى مفترق طريق، كانت قد وصلت إلى أسفل درج عتيق لقاعة صلاة. وفوق
صندوق تبرعات بلون فيراني تم غسله، يتدلى حبل الناقوس الضخم، وعند النظر له في
النهار، نجد أنه معلق بجوار ذلك الناقوس برواز مكتوب عليه "معبد
هاتشيمان". الممتع أن حرف هاتشي[6]
مكتوب وكأنه جناحي حمامة متقابلان. وغير ذلك يوجد لوحات أخرى متنوعة. في الأغلب
الأشياء التي ثُقبت في جميع المنزل أكثرها موضح في مركزها اسم من ثقبها. وأحيانا
ما يوجد من قدم سيفه قربانا.
عند
الدخول من بوابة المعبد في كل مرة دائما تصيح البوم عند أفرع أشجار الأرْز. ثم يصيح
صوت خُف قش الأُرز البارد. وعندما يتوقف ذلك الصوت أمام قاعة الصلاة، تقوم الأم
أولا بدق الناقوس، ثم مباشرة تنحني وتصفق بكفيها. في أغلب الأوقات تتوقف البوم عن
الصياح فجأة. ثم بعد ذلك تقوم الأم بالصلاة بكل خشوع من أجل عودة زوجها سالما. فقد
كانت الأم تعتقد بشكل جاد أنه بسبب أن زوجها ساموراي، فإذا دعت بخشوع بهذه الدعاء
المحتوم عند الإله هاتشيمان إله الرمح والقوس، فلا يوجد سبب منطقي يجعله لا يستجيب
لها بكل تأكيد.
كان
الطفل كثيرا ما يستيقظ على صوت ذلك الناقوس، وكان ينظر حوله فيجد الظلام مسيطرا
على المكان، فيبدأ أحيانا في البكاء فجأة خلف ظهرها. وعندها كانت الأم تحاول أن
تهز ظهرها لكي يسكت وهي مستمرة في قول الدعوات بفمها. وأحيانا ما يفلح الأمر فيكف
الطفل عن البكاء. وأحيانا أخرى يستمر في البكاء بشكل أكثر عنفا عن ذي قبل. ولكن في
كلا الحالتين لم تكن الأم تقف بسهولة.
وبعد
أن تنتهي من كامل الأدعية الخاصة بسلامة زوجها، تقوم هذه المرة بفك الحزام الرفيع،
وتنزل الطفل من فوق ظهرها، وتنقله من الظهر إلى الأمام، وتصعد درجات قاعة الصلاة
وهي تحتضنه بين ذراعيها، وتقول وهي تحك خدودها بخدود الطفل: "أنت طفل رائع
فيجب أن تنتظر قليلا" وعندها تطيل الحزام الرفيع، وتقيد الطفل وتربط طرف ذلك
الحزام في درابزين درج قاعة الصلاة. ثم بعد ذلك تهبط الدرج درجة، درجة، فتروح
وتجيء فوق بلاط الأرضية لمسافة أربعين مترا وتسعى إيابا وذهابا مئة مرة.
الطفل
المقيد في قاعة الصلاة وفي جوف الظلام، وبالحد التي يسمح به طول الحزام الرفيع،
يحبو فوق حافة الإفريز. وهذا الوقت بالنسبة للأم، تكون ليلة في غاية الراحة
بالنسبة للأم. ولكن الطفل المربوط إذا بكى بصوت عالٍ، تصبح الأم كالمجنونة من
القلق. وتصبح خطوات السعي المئة سريعة بدرجة كبيرة جدا، وتتقطع أنفاسها بشدة. وفي
الوقت الذي لا تكن هناك حيلة، تقطع سعيها وتصعد إلى قاعة الصلاة، فتقوم بالعديد من
الراحات ثم تبدأ السعي من البداية.
ولكن
الأب الذي أقلق الأم عليه لدرجة تجعل عيونها في الليل لا تنام لليال طويلة، قد قُتل
منذ زمن بعيد بسبب أنه ساموراي متمرد.
ولقد
سمعت هذه الحكاية الحزينة من الأم داخل الحلم.
الليلة العاشرة
جاء
إليّ "كِن" ليبلغني أن "شوتارو" الذي كان مخطوفا من امرأة قد
عاد في الليلة السابعة من اختطافه، وأنه أصيب فجأة بالحمى بعد أن عاد، وأنه راقد
في فراشه.
كان شوتارو
من أفضل رجال الحي، وفي منتهى الصدق والاستقامة. ولكنه لديه هواية واحدة فقط. هي
أنه في المساء يجلس على مقعد أمام محل بيع حلوى الجيلي مرتديا قبعة بنمية، ويتأمل
في وجوه النساء المارات في الطريق. ولا يتوقف عن الإعجاب بهن. ولا توجد له غير ذلك
أية مظاهر مميزة.
وعندما
يمر وقت طويل ولا تمر أية امرأة، لا ينظر إلى المارة ولكنه ينظر إلى حلوى الجيلي.
توجد أنواع متعددة من حلوى الجيلي. مثل جيلي الخوخ والتفاح والبشملة والموز معبأة
في قفص بشكل جميل ومرصوصة في صفين لتكون جاهزة لكي تؤخذ كهدية كما هي على الفور. ينظر
شوتارو إلى تلك الأقفاص ويقول يا له من جمال. ويقول إنه لو عمل بالتجارة فسيكون
ذلك مقصورا على محل حلوى جيلي. ورغم ذلك فهو نفسه لا يقوم بأي شيء سوى ارتداء
القبعة البنمية واللهو فقط.
وأحيانا
ما يقوم بتصنيف البضاعة قائلا إن هذا ذا لون حسنا مشيرا إلى البرتقال الصيفي.
ولكنه حتى الآن لم يقم بإخراج أموال وشراء أية جيلي من قبل. وبالطبع لا يمكن أن
يأكله مجانا. ولذلك فهو يمدح الألوان فقط.
في
مساء أحد الأيام، توقفت امرأة أمام المحل فجأة. وتبدو أنها شخصية ذات وضعية
اجتماعية جيدة، وترتدي ملابس عظيمة. أُعجب شوتارو بشدة بلون ذلك الكيمونو. وعلاوة
على ذلك اهتم شوتارو كذلك بوجه تلك المرأة اهتماما كبيرا. وعندها خلع القبعة
البنمية الأثيرة لديه وألقى تحية باحترام بالغ، وعندها أشارت المرأة إلى أكبر
الأقفاص وأكثرها امتلاءً وقالت له أريد هذه من فضلك. وعلى الفور التقط شوتارو القفص
وأعطاه لها. وعندها جربت المرأة حمل القفص ثم قالت إنه ثقيل جدًا. ولأنه في الأصل
شوتارو لديه الكثير من وقت الفراغ، ولأنه رجل ذو حصافة وذوق، فقد قال لها إذن
سأحمله لكِ حتى منزلك. وخرج مع المرأة من محل الحلويات. ومن ساعتها لم يعد.
وهذا
فعل مستهتر جدا حتى لو وضعنا في الاعتبار أن فاعله شوتارو. وعندما رأى أصدقاؤه
وعائلته أن الأمر لن يكون سهلا، فبدأوا في عمل جلبة، وأخير في الليلة السابعة، عاد
شوتارو يترنح. وعندها تجمع حوله الكثيرون، وسألوه أين كنت طوال هذه المدة يا
شوتارو؟ أجاب شوتارو بأنه ركب القطار وذهب إلى الجبل.
لا
بد أنه قطار لمسافات طويلة جدا. وحسب ما قال شوتارو بعد أن نزل من القطار مباشرة
كانت المكان عبارة عن سهل واسع ومهما أدرت البصر لا تجد إلا الحشائش الخضراء
النابتة. عندما مشى مع المرأة فوق الحشائش، خرجا فجأة إلى قمة جرف عالي. قالت
المرأة لشوتارو حاول أن تقفز من هنا. وعندما نظر إلى القاع، بدا له أن هناك نهاية
للجرف ولكن لم يرى القاع. خلع شوتارو القبعة البنمية مرة أخرى وأخذ يجتهد في
الاعتذار مرات كثيرة. وعند ذلك سألته المرأة قائلة: لو لم تقفز بكل عزمك ستقوم
الخنازير بلحسك فهل ترضى بذلك؟ كان شوتارو أكثر ما يكره هو الخنازير وكوموئمون. ولكنه
فكر أن الحياة لا يمكن تعويضها، ولذلك كما المتوقع أعرض عن القفز من الجرف. وعقب
ذلك جاء إلى المكان خنزير يطلق صيحات من أنفه. ولم يجد شوتارو في يده حيلة إلا أن
يضرب الخنزير على أنفه ووجه بالعصا الرفيعة المصنوعة من نخيل الحُضَض التي كان يحملها.
وعندها انقلب الخنزير على ظهره وهو ينخر بأنفه، وسقط إلى أسفل الجرف. وعندما التقط
شوتارو أنفاسه من الارتياح، جاء خنزير آخر، وأخذ يمسح أنفه الكبيرة في شوتارو. ولم
يجد شوتارو مفر من أن يرفع العصا ويهزها. وعندها تدحرج الخنزير في عمق الحفرة بعد
أن نخر بأنفه وهو منقلب على العكس تماما. ولكن جاء خنزير ثالث، وعند ذلك انتبه
شوتارو فجأة، عندما نظر إلى ذلك الاتجاه، وجد على مرمى البصر وعند انتهاء الأفق
البعيد للسهل الأخضر، عشرات الآلاف من الخنازير المتجمعة في قطيع في خط مستقيم
وتتجه وهي تنخر بأنوفها جاعلة هدفها هو شوتارو الذي يقف فوق الجرف. أصاب الرعب
شوتارو من أعماق قلبه. ولكن ما باليد حيلة، فهو يضرب الخنزير الذي يقترب منه، على
رأس أنفه، واحدا بعد الآخر بعناية بالعصا غربية الطراز المصنوعة من نخل الحضض.
والأمر الغريب أن العصا بمجرد أن تلمس الأنف يتحرج الخنزير ويسقط في قاع الوادي.
وعندما اختلس النظر وجد الخنازير المقلوبة على ظهرها تسقط في صف طويل أسفل الجرف
الذي لا يُرى قاعه. وعندما يفكر أنه هو الذي أسقط هذا العدد الكبير من الخنازير في
الوادي، يحس شوتارو بالرعب من نفسه. ولكن رغم ذلك تستمر الخنازير في المجيء. وقد
نبتت السحب السوداء عند أقدامها وتدوس الحشائش الخضراء وكأنها تفرقها وتأتي بكل
عزم وقوة تصيح بأنوفها بشكل لا يبدو لها نهاية ولا حدود.
استجمع
شوتارو كل شجاعته، وظل يضرب رؤوس أنوف الخنازير على مدى سبعة أيام وستة ليال.
ولكنه في نهاية الأمر استنفذ كل قواه الروحية، وضعفت يداه لتصبح رخوة مثل عجين
البطاطا وأخيرا لحسته الخنازير. وبعد ذلك سقط في أعلى الجرف.
حكى
لي كِن قصة شوتارو إلى هذا الحد، ثم أضاف أن النظر إلى النساء أمر غير حسن. وأنا
وافقته على ذلك القول. ولكن قال كِن إنه يريد أن يحصل على قبعة شوتارو البنمية.
لا
يجب إنقاذ شوتارو. وبالتأكيد القبعة البنمية من نصيب كِن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق