حب راهب معبد شيغا
تأليف: يوكيو ميشيما
ترجمة: ميسرة عفيفي
1
أعتقد أنه لا مفر من أن أتقبل أي لوم أو عتاب
بسبب كتابة هذه الحكاية دون إعداد ودون بذل أي جهد في البحث التاريخي حولها. الشيء
الوحيد الذي اعتمدتُ عليه حتى الآن، هو الوصف الأسطوري المذكور في المجلد السابع
والثلاثين، من كتاب "تايهيه كي" الأدبي المكتوب في القرن الرابع عشر،
وفيه كما يعلم الجميع، مجرد ذكر سريع مختصر لحب راهب معبد شيغا في بلادنا مقارنة
بحادثة " العجوز إيكّاكو سِن نين" في الهند.
أنا في الواقع كنت أهتم بهذه الحقيقة النفسية
البسيطة أكثر من اهتمامي بأحداث ذلك الحب الذي له طبيعته الخاصة. القصة هنا تتعلق
بصراع الحب مع الإيمان. هناك الكثير من أمثلة ذلك الصراع في الغرب، ولكنه موضوع
نادر في اليابان. إذ تتدخل قضية الحياة الآخرة، بوضوح في سبب الحب. ليس فقط
بالنسبة للراهب فحسب، بل كذلك في داخل قلب المرأة المحبوبة، يوجد صراع على احتلال
ذلك القلب بين الحياة الآخرة وهذه الدنيا، وإذا تحدثنا بمبالغة في القول، فقد تصل
عاقبة ذلك الحب إلى حد انهيار البناء الفكري الذي يحمله كلاهما عن العالم، في تلك اللحظة
المحورية، تتأسس معالم قصة هذا الحب. في الواقع كانت عقيدة "الأرض
الطاهرة"، التي ازدهرت منذ منتصف عصر هييآن[1]،
اكتشافًا عملاقًا لعالم الفكر أكثر منها عقيدة دينية على وجه التحديد.
إن المتع العشر، كما يراها الراهب الكبير إيشين
في كتابه "أساسيات الخلاص"، لا تعدو أن تكون قطرة في محيط، مقارنة
بمباهج الأرض الطاهرة. والمتع العشر هي: متعة استقبال بوذا، ومتعة تفتح زهرة
اللوتس للمرة الأولى، ومتعة الحصول على قدرات إلهية خارقة، ومتعة الحصول على
الحواس الخمسة مع الجمال الفائق، ومتعة الحصول على متع لا نهائية، ومتعة مصاحبة
الأهل والأقرباء في النعيم، ومتعة الوجود الدائم مع بوذا، ومتعة مقابلة بوذا
والاستماع إلى وعظه، ومتعة تقديم العطايا إلى أشكال بوذا المختلفة بشكل كامل
ومتكامل، وأخيرًا متعة التقدم في طريق الاستنارة والإشراق، تلك هي المتع العشر.
أما الأرض الطاهرة ففيها جُعلت الأرضية من
اللازورد. وطرق الأرض الطاهرة مصنوعة من شبكة أحبالها من الذهب. وسطح الأرضية لا
نهائي ومستوٍ في كل مكان منه. ويوجد داخل كل حرم مقدس، خمسون مليار برج عالٍ مصنوع
من الجواهر السبعة: الذهب والفضة واللازورد والبلّور والمرجان والعقيق واللؤلؤ،
وتمتد أقمشة مدهشة على جميع المنصات المرصعة بالجواهر. وفوق الأبراج العالية عدد
وافر من الملائكة على الدوام يعزفون الموسيقى ويغنون أناشيد مقدسة تعظّم بوذا. كما
توجد بحيرات للاغتسال في الحدائق التي تحيط بالقاعات والأديرة والقصور والأبراج،
وتنتشر في قاع البحيرة الذهبية رمال فضية وتتناثر في قاع بحيرة اللازورد رمال
بلّورية. فضلًا عن أن البحيرات تغطيها نباتات اللوتس التي تتألق مشعة في ألوان
متنوعة، مع هبوب النسيم على سطح الماء، تتحرك أشعة الأضواء الرائعة منتشرة في جميع
الاتجاهات. يمتلأ الهواء ليلًا ونهارًا بأغاني طيور البط، والأوز، وبط الماندرين،
والكركي، والطاووس، والببغاء، والكالافينكاس (طائر له وجه امرأة جميلة ذو صوت
رخيم)، كل هذا وغيره مئات من الطيور المرصعة بالجواهر، تغني بأصوات رقيقة ملحّنة
في مدح بوذا. ولكن بالطبع مهما كانت رقة الأصوات؛ فإن تجمع تلك التشكيلة من الطيور
بهذا العدد اللانهائي، لا بد أن يجعلها في منتهى الإزعاج.
تصطف بساتين من أشجار للجواهر على حدود البحيرة
وضفاف الأنهار. وتنعكس الجذوع الذهبية والفروع الفضية والزهور المرجانية على صفحة
الماء اللامعة. وتتأرجح في الجو أحبال من الجواهر، وتلك الأحبال معلق بها كثير من
أجراس من الجواهر، ويُسمَع كتاب بوذا المقدس، وآلات موسيقية عجيبة تعزف بمفردها
دون أن يمسها مخلوق، وتُسمع بعيدًا في الفراغ الهائل.
وإذا شعر المرء برغبة في أكل شيء ما، تظهر أمام
عينه تلقائيًّا طاولة مرصعة بالجواهر السبعة ومجهزة بأوانٍ مرصعة بالجواهر بالسبعة
وممتلئة على آخرها بما لذ وطاب من الأطعمة الشهية النادرة. ولكن ليست هناك حاجة
لالتقاط هذه الأطعمة وأكلها. فبمجرد النظر إلى ألوانها والاستمتاع برائحتها، تمتلئ
المعدة ويتغذى الجسم، في حين يبقى الشخص نقيًّا، روحًا وجسدًا. وعندما تنتهي
الوجبة، بدون تناول أي طعام، تختفي الأواني والطاولة فجأة.
وبالمثل، فإن الجسد يرتدي الملابس تلقائيا، دون
أي حاجة لحياكة أو غسيل أو صباغة. المصابيح أيضا، غير ضرورية، فالأشعة المضيئة
منتشرة في كل مكان. لا حاجة للتدفئة ولا للتبريد، فدرجة الحرارة معتدلة على مدار
العام. وتعطر الجو روائح جميلة بأنواع جمة، وتتساقط أوراق زهرة اللوتس بلا انقطاع.
بالإضافة إلى ذلك يشرح كتاب "أساسيات
الخلاص" في فصل بوابة المراقبة، أن المبتدئين في المشاهدة والتأمل لا يمكن
لهم التوغل عميقًا، ولذا يجب عليهم أن يركزوا كل جهودهم أولًا، في إيقاظ الخيال
الخارجي، وبعد ذلك، في توسيع مداركه إلى ما لا نهاية. إنّ أقصر الطرق من أجل رؤية
بوذا، هو الهروب من نطاق حياتنا الدنيوية بواسطة قوة الخيال. فإذا كنا نتمتع
بمخيلة جامحة؛ يمكننا إذن أن نركز اهتمامنا على زهرة لوتس واحدة ومنها ننتشر إلى
آفاق لا نهائية.
فعن طريق الملاحظة المجهرية والتقديرات الفلكية
يمكن لزهرة اللوتس أن تصبح أساس نظرية كاملة للكون، وتصبح عاملًا من الممكن من
خلاله رؤية الحقيقة. أولًا إن كل ورقة
من أوراق الزهرة لها أربع وثمانون ألف وريد، وكل وريد يُخرج أربعًا وثمانين ضوءًا.
وعلاوة على ذلك، يبلغ قطر الزهرة، حتى الأصغر منها، مائتين وخمسين يوجانا[2].
وبهذا، إذا التزمنا التفسير الذي يقول إن مسافة اليوجانا التي نقرأها في الكتابات
المقدسة تساوي مائة وعشرين كيلو متر لكل منها، نستنتج أن أصغر زهرة لوتس يبلغ
قطرها ثلاثين ألف كيلو متر.
مثل تلك الزهرة لها أربع وثمانون ورقة، وبين كل
ورقة وأخرى توجد عشرة مليارات جوهرة، كل جوهرة تشع ألف ضوء. وفوق كأس الزهرة
المُزين بجمال تعلو الزهرة أربعة أعمدة مرصعة بالجواهر وكل من هذه الأعمدة يبلغ
مائة ألف تريليون مرة أكبر من حجم جبل سوميرو وتتدلي من الأعمدة ستائر كبيرة وتزين
كل ستارة بخمسين مليار جوهرة، وكل جوهرة تشع أربعًا وثمانين ألف ضوء، وكل ضوء
يتكون من أربع وثمانين ألف لون ذهبي مختلف عن الآخر، وكل لون من تلك الألوان
الذهبية بدوره له القدرة على تحوير نفسه بشكل مختلف.
إن التركيز في تلك الأفكار يُعرف باسم
"التفكير في مقعد اللوتس"، والعالم الفكري الذي يمتد في خلفية قصة الحب
التالية هو عالم واسع الآفاق والرحاب إلى هذه الدرجة.
2
كان الراهب العظيم لمعبد شيغا، راهبا رفيع
الأخلاق حسن المناقب.
كانت حواجبه بيضاء، وجسده الذي بلغ به الكبر
مداه لا يستطيع أن يحمله إلا بالاعتماد على عصاه.
كانت هذه الدنيا لا تمثل في نظر هذا العالِم
الزاهد إلا مجرد كومة من القمامة. إن شتلة الصنوبر الصغيرة التي كان قد زرعها
بيديه قبل الانتقال إلى للعيش في صومعته الحالية، قد نمت لتصبح شجرة عالية، حتى إن
أطرافها الضخمة في السماء تناوش الرياح. ويُعتقد أن من نجح في ترك هذه الدنيا لهذا
الوقت الطويل ربما يكون قد تولد لديه إحساس بالأمان المطلق منها.
كان الراهب العظيم عندما يرى الأغنياء
والنبلاء، يبتسم في شفقة ويتساءل: كيف لهؤلاء الناس ألَّا يدركوا أن ملذاتهم هي
أحلام فارغة؟ وإذا قابل امرأة جميلة كان رد فعله، فقط الشفقة على من هم في عالم
الحيرة المتقلّب مُكبلين بالهوى.
منذ تلك اللحظة التي أصبح فيها لا يحمل أي
مشاعر توحد ولو قليلة مع الدوافع التي تحرك هذه الدنيا، أصبحت الدنيا بالنسبة إليه
في حالة توقف تام. في نظر الراهب العظيم لا يظهر العالم إلا مجرد صورة متوقفة على
قطعة من الورق، مجرد ورقة تُظهر خريطة لدولة ما غريبة. حالة الزهد الكاملة تلك
والبعد عن الشهوات تجعلك تنسى حتى حالة الخوف. ولا تفهم لماذا ينبغي لجهنم أن
توجد. كانت هذه الدنيا ضعيفة ضعفًا واضحًا أمامه، ولكن لأنه لم يكن أبدًا ذلك
الشخص المغرور، فلم يكن يخطر له على بال أن ذلك بسبب أخلاقه الرفيعة.
كان الراهب قد فقد جسده على الأغلب. كان يشعر
بسعادة عندما يتأمل جسده أثناء الاستحمام مثلًا، وقد أصبح عبارة عن عظام بارزة
يغطيها جلد بالغ الذبول. إذا وصل الجسد إلى تلك الحالة فيمكن وقتئذٍ التصالح معه
كما لو كان جسد شخص آخر. ويُعتقد أن طعام وشراب الأرض الطاهرة أصبح بالفعل ا أكثر
ملائمة لذلك الجسد.
إذا تكلمنا
عن أحلامه في كل ليلة، فهو لم يعد يرى في أحلامه إلا الأرض الطاهرة. وعندما يستيقظ
ويعلم أنه لا يزال مقيدًا ومكبلًا في أحلامه البائسة الفانية وأنه لا زال يعيش في
هذه الدنيا، فإنه يأسى ويحزن.
بحلول الربيع، وموسم مشاهدة أزهار الكرز، يأتي
عدد كبير من الناس من العاصمة لزيارة قرية شيغا. إلا أن ذلك لم يزعج الراهب مطلقا؛
لأنه أصبح في حالة روحية لا يمكن أن تضطرب أو تهتز بسبب هؤلاء الزوار. خرج الراهب
من كوخه متكئًا على عصاه، وذهب إلى ضفاف البحيرة. في تلك اللحظة الوقت بدأت أشعة
شمس الغروب تتسلل أخيرًا بعد عصر اليوم، وكانت موجات البحيرة هادئة تمامًا. وقف
الراهب بمفرده على حافة البحيرة، وبدأ أداء طقس تأمل المياه.
في تلك
اللحظة جاءت عربة بجوار شاطئ البحيرة تنتمي بوضوح لشخص نبيل من ذوي المنزلة
العالية، وتوقفت على مقربة من مكان الراهب الواقف. صاحبة العربة كانت محظية جلالة
الإمبراطور. كانت المحظية قد أتت لمشاهدة مناظر بلدة شيغا في فصل الربيع، والآن قد
أوقفت العربة في طريق عودتها ورفعت ستائر النافذة من أجل إلقاء نظرة وداع أخيرة
على البحيرة.
دون قصد نظر الراهب في اتجاهها، وعلى الفور
جذبه ذلك الجمال. تلاقت عيناه بعينيها لفترة، ولم يحاول الراهب إبعاد نظره عنها،
ولذا أصرت المحظية على ألا تبعد نظرها بعيدًا عنه. لم تكن بتلك الروح المتسامحة
لكي ترضى بتلك النظرات الوقحة، ولكن لأن الطرف الآخر كان راهبًا عجوزًا قد بلغ
منتهى الزهد والتعفف، فلقد ظلت لفترة تتشكك في معنى ذلك التحديق.
وفجأة أرْخت المحظية ستائر النافذة. وبدأت
العربة في التحرك، وأخذت تبتعد في اتجاه الطريق التي تمر عبر سفوح الجبال في شيغا
واصلة إلى العاصمة. على الأغلب ستدخل العربة العاصمة في الليل بعد المرور بطريق
"المعبد الفضي". ظل الراهب العظيم واقفًا مكانه ينظر إلى العربة حتى
اختفت ظلالها خلف الأشجار البعيدة.
لقد انتقمت الدنيا في طرفة عين من الراهب
العظيم بقوة مرعبة. إن من كان يظن أنه آمنٌ تمامًا قد انهار وصار أطلالًا.
عاد إلى صومعته وواجه تمثال بوذا الرئيس، وحاول
التضرع بأسمائه المقدسة. لكن أعاقته أفكار خيالية وهمية تقف بظلالها الغامضة
أمامه. كان يحاول إقناع نفسه أن ذلك الجمال هو هيئة مؤقتة، ظاهرة لحظية للجسد
الفاني بلا شك. ولكن تلك القوة اللحظية التي خطفت قلب الراهب العظيم بذلك الجمال الذي
لا يمكن التعبير عنه، جعلته يعتقد أنها قوة ما رهيبة ونادرة وأبدية. ومن جهة أخرى
لم يكن الراهب العظيم شابًا بأي معنى من المعاني، لكي يقنع نفسه أن هذا الانبهار
هو مجرد خدعة قد لعبها عليه الجسد. فالجسد لا يمكن أن يتغير في لحظة واحدة بهذا
الشكل. إذن فالأمر المنطقي هو الاعتقاد أنه سُقي سمًّا غريبًا بسرعة رهيبة، سمًّا
غيَّر طبيعة الروح في هذه اللحظة الخاطفة.
لم يقترف الراهب
العظيم إثم اقتراب النساء قط. وكان صراعه في شبابه مع ذلك، جعله على العكس لا يرى
في المرأة إلا وجودًا جسديًّا فقط. كان الجسد النقي الحقيقي، هو الجسد الموجود في
خياله فقط. نتيجة لذلك اعتمد الراهب العظيم على قوته الروحية من أجل أن يُخضع
الجسد الذي ليس إلا وجودًا فكريًّا مجردًا. في هذا الجهد حقق الراهب نجاحا، ولا
يوجد شخص واحد ممن يعرفون أفعاله حتى الآن يشك في ذلك النجاح.
ولكن وجه المرأة الذي بدا من نافذة العربة
ناظرًا تجاه البحيرة كان ذا وجودٍ في غاية التناغم والتألق المشع، ولم يكن الراهب
يعرف ماذا يمكن أن يسميه. لم يكن أمامه إلا الاعتقاد أن شيئًا ما ظل مختفيًا
بداخله لفترة طويلة خادعًا إياه، قد ظهر له لكي يحقق تلك اللحظة النادرة ويجليها.
ولم يكن هذا الشيء إلا هذه الدنيا ولا غيرها، تلك التي كانت ساكنة متوقفة فوق لوحة
الورق قد قامت فجأة وبدأت في التحرك.
الأمر يشبه وكأنه مثلًا يقف على طريق كبيرة في
العاصمة تروح فيها العربات وتجيء، وقد غطى أذنيه الاثنتين بيديه، وفجأة يرفع يديه
من على أذنيه؛ ففي التو والحال تختلط الأصوات وتمتزج محدثة ضوضاء حوله.
لًمْسُ متغيرات هذه الدنيا وسماع أصواتها، يعني
أنك قد دخلت في دائرة تلك الدنيا. الشخص الذي قطع علاقاته تمامًا بكل شيء وأي شيء،
عاد وقد أصبح له علاقة مرة أخرى بأحد أشياء هذه الدنيا.
حتى عندما يقرأ الراهب العظيم في كتاب السوترا
المقدس، كان في مرات عديدة يطلق تنهدات بائسة لا يقدر على كتمانها. كان يعتقد أن
الطبيعة ربما تلهي قلبه، فكان يتأمل السحب في الجبال وقت الغروب، ولكن قلبه كان
فقط يضطرب في حيرة واندفاع مثله مثل السحاب. وعندما يشاهد الهلال، كانت مشاعره
مائلة بنفس اتجاه الهلال، وحتى عندما يتجه أمام تمثال بوذا الرئيس محاولا تنقية
قلبه، يجد أن أوهامه قد صورت له وبدا وكأنه وجه المحظية. كان عالمه قد سُجن داخل
حدود دائرة صغيرة. كان الراهب العظيم يوجد في جانب من الدائرة وكانت محظية
الإمبراطور توجد في الجانب الآخر.
3
سرعان ما نسيت محظية الإمبراطور أمر الراهب
العجوز الذي ظل يحدق في وجهها بتركيز على ضفاف البحيرة في شيغا. ولكن بعد مرور وقت
قصير، وصلت شائعة إلى أذنيها وعندها تذكرت ذلك الأمر. أحد أبناء القرية الذي رأى
منظر وقوف الراهب العظيم يودع بنظره عربة المحظية حتى اختفت عن الأنظار، ذكر ذلك
الأمر إلى أحد رجال البلاط الإمبراطوري الذي جاء إلى شيغا لمشاهدة أزهار الكرز،
وأضاف أنه منذ ذلك اليوم والراهب مضطرب وكأنه قد جُن.
بالطبع تظاهرت محظية الإمبراطور بعدم تصديق تلك
الشائعة. ولكن لأن راهب معبد شيغا العظيم مشهور للغاية بأخلاقه الرفيعة وفضائله
الكثيرة، فإذا كانت الشائعة حقيقية فسوف يكون في تلك الحادثة ما يسهم في تغذية
غرور المحظية. لأنها كانت قد سئمت تماما من المحبة التي تتلقاها من رجال هذا
العالم العاديين.
كانت
محظية الإمبراطور واعيةً تمامًا بشدة جمالها، ومن عادة مثل هؤلاء الناس الميل إلى
الانجذاب إلى أية قوة، تتعامل مع جمالها ومنزلتها العالية كأشياء لا قيمة لها.
وبالتالي فقد كانت شديدة التدين. وبسبب شعور الملل الشديد كانت تؤمن بعقيدة الأرض
الطاهرة. وكانت تعاليم البوذية التي تكره هذه الدنيا الزاهية الجميلة وتبتعد عنها
في زهد وتعفف لأنها تعتبرها مدنسة، كانت بلا ريب تهوّن عليها ملل الحياة الفخمة
المرفهة وكللها، تلك الحياة التي توحي بنهاية هذه الدنيا.
كانت محظية الإمبراطور تُمَجَّد بين المخصصين
في الحب والغرام على أنها تجسيد للنقاء والجمال داخل بلاط جلالة الإمبراطور. ولأن
هذه السيدة النبيلة العظيمة لم يسبق لها الوقوع في حب أي من الرجال، فلقد كانت
تستحق في الواقع ذلك التمجيد والتوقير. ولم يكن أحد ممن يعرفونها يعتقد ولو للحظة
أنها تحب جلالة الإمبراطور من قلبها. كانت محظية الإمبراطور تعيش داخل أحلامها قصص
حب، تقع في الأغلب على حدود المستحيل.
كان راهب معبد شيغا يشتهر بأخلاقياته، وأنه قد
بلغ من العمر ما بلغ. ويعرف الجميع في العاصمة أنه قد زهد هذه الدنيا تماما. فإذا
كانت الشائعة حقيقية، يكون الراهب العظيم قد وقع في الحيرة والضلال بسبب جمال وجه
المحظية، ويكون قد ضحّى بالحياة الآخرة فداء لها. لا يمكن أن تكون هناك تضحية أكبر
من ذلك، ولا هدية أعظم من ذلك.
لم تكن محظية
الإمبراطور يجذبها أفضل الرجال في القصر الإمبراطوري، ورغم ذلك أيضا، لم يحرك
قلبها النبلاء الوسيمون من الشباب. لم تكن أشكال الرجال تعني لها شيئًا. كان
اهتمامها الوحيد هو مَن الذي يستطيع أن يحبها حبًّا كأقوى وأعمق ما يكون الحب.
امرأة تمتلك ذلك الطموح تكون كائنًا مخيفًا
حقًا. لو عاهرة، فسيكفيها أن تُعْطَى ثروة من هذه الدنيا. ولكن محظية الإمبراطور
تمتلك بالفعل كل ما يمكن تملّكه من ثروات الدنيا، ولذا فقد كانت تنتظر الشخص الذي
يقدم لها ثروات الآخرة.
انتشرت شائعة غرام راهب معبد شيغا في كل أركان
البلاط الإمبراطوري، وتم إبلاغ القصة بنبرة شبه ساخرة إلى الإمبراطور نفسه. بالطبع
لم تسعد المحظية بتلك السخرية، واحتفظت بموقف بارد غير مبالٍ. لأنها تدرك جيدًا،
أن هناك سببين لأن يتحدث الجميع بحرية ساخرين من تلك المسألة، أولًا أنهم يودون
مدح جمال المحظية الباهر الذي أوقع في الحيرة والضلال حتى ذلك الراهب المشهور
بأخلاقه الرفيعة لهذه الدرجة، وثانيًا بسبب الاطمئنان الذي مبعثه أن الجميع يدرك
تمامًا أنه من المحال أن يتحقق حب على أرض الواقع بين ذلك الرجل العجوز وهذه
المرأة النبيلة.
استدعت محظية الإمبراطور إلى ذهنها وجه الراهب
العجوز الذي رأته من نافذة عربتها، ولكنها لم تجد أي تشابه ولو من بعيد في وجهه مع
أي من الرجال الذين وقعوا في حبها حتى ذلك الوقت. من العجيب أن ينبت الحب أيضًا في
قلب رجل ليس لديه أي مؤهل ليكون محبوبًا. مقارنة بذلك تعتبر عبارة مثل "حب
بلا أمل" التي كثيرا ما تستخدم في الواقع في أشعار اللقاءات التي تقام في
القصر الإمبراطوري من أجل استثارة شعور التعاطف، لم تكن في الأغلب إلا تمثيلًا
بائسًا لشخص مغرور يدعي لنفسه قدرات أكبر من الحقيقة.
بحديثي حتى الآن أعتقد أنه أصبح واضحا أن محظية
الإمبراطور لم تكن تجسيدا للفخامة العالية ولكنها إنسانة هوايتها العظمى أن تكون
محبوبة. فكونها امرأة، إنها في نهاية الأمر امرأة، فمهما كانت وجاهتها أو منزلتها،
فإن أي سلطة أو قوة تحصل عليها لا تعوضها شيئًا عن أن تُحَبّ. ففي خضم صراع الرجال
حول السلطة السياسية، كانت تحلم بإخضاع العالم من خلال وسائل مختلفة، وسائل أنثوية
خالصة. كانت تضحك استهزاءً من النساء اللائي يقمن بحلاقة شعرهن والدخول في
الرهبنة. لأنه مهما كانت المرأة تتكلم عن التخلي عن العالم، فمن المستحيل أن تتخلي
عما تملكه. الرجال فقط هم القادرون على التخلي عما يملكون في الواقع.
ذلك الراهب العجوز قد تخلى مرة في حياته عن هذه
الدنيا وجميع متعها. لقد كان أكثر رجولة من نبلاء القصر. ثم إنه كما تخلى عن هذه
الدنيا، فهو على وشك التخلي عن الآخرة أيضًا من أجلها.
تذكرت محظية الإمبراطور، ذات الإيمان العميق،
أفكار زهرة اللوتس المقدسة. فكرت في زهرة لوتس ضخمة يبلغ حجمها مئتين وخمسين
يوجانا. كانت زهرة اللوتس العملاقة غير المحدودة تلك، توافق ذوقها أكثر بكثير من
أزهار اللوتس الصغيرة التي تشاهد بالعين. فحتى لو استمعت إلى أصوات النسيم تمر عبر
أشجار الحديقة الأمامية مثلا، فإنها تعتقد أنها بلا أي قيمة مقارنة بالموسيقى
العجيبة التي يحدثها الريح من خلال أشجار الجواهر في "الأرض الطاهرة".
وهي عندما تفكر في الآلات الموسيقية المعلقة في الهواء التي تعزف الموسيقى من
تلقاء نفسها، فإنها لا ترى في أصوات أنواع الآلات الموسيقية العادية، مثل القيثارة
والقانون، التي يتردد صداها حولها سوى تقليد تافه مقارنة بتلك.
4
كان راهب
معبد شيغا في صراع. في معركته ضد الجسد في شبابه كان هناك أمل فيما سيحصل عليه في
الآخرة. لكن هذه المعركة اليائسة بعد وصوله إلى تلك الشيخوخة والكبر، كانت مرتبطة
بإحساس بخسارة لا سبيل إلى تعويضها.
وهو
وإن كان إكمال حبِّه لمحظية الإمبراطور مستحيلًا استحالة واضحة وضوح الشمس في كبد
السماء، فإنه كذلك يستحيل عليه المضي قدمًا في السير تجاه الأرض الطاهرة طالما ظلّ
أسيرًا لهذا الحب.
إن
الراهب العظيم الذي كان يعيش في حالة تحكم كامل في مشاعره لا مثيل لها في هذا
العالم، أصبح مصيره يلفه الغموض تماما في طرفة عين. إذا كان الأمر كذلك فلعل
الشجاعة التي حارب بها معركة الشباب وانتصر فيها، ربما كانت قد تولدت من كبريائه
وفخره أنه يمتنع بمحض إرادته الذاتية عن القيام بأفعال يمكنه فعلها بسهولة إذا رغب
في ذلك.
تملّك الرعب مرة أخرى من الراهب العظيم. فلقد
انتبه إلى الظلام العميق لهذه الدنيا التي لا يعرف ماذا ينتظره منها لو تحرك خطوة
واحدة إلى الأمام. فحتى لحظة اقتراب تلك العربة الفاخرة من ضفاف بحيرة شيغا، كان
يؤمن أن ما ينتظره في القريب العاجل هو الوصول إلى "النيرفانا" ولا
غيرها.
ولكن بعد تلك الحظة الفارقة أصبحت مختلف أشكال
التأمل الديني، من تأمل قاعدة اللوتس، والتأمل في مجمل الأشياء، والتأمل في
الأجزاء، جميعها بلا فائدة. ففي كل مرة يبدأ فيها التأمل، يظهر أمام عينيه دائمًا
وجه المحظية الجميل. وحاول كذلك تأمل مياه البحيرة ولكن كان ذلك أيضًا عديم
الفائدة. لأن وجه المحظية الجميل كان يهتز من تحت موجات البحيرة الخفيفة.
وبالطبع كخلاصة طبيعية، حاول الراهب العظيم بذل
جهوده في جعل قلبه مبهما غير مستقر عن طريق تشتيته، لإدراكه أن التركيز لا ينفع
قدر ما يضر. ولقد أدهشه أن التركيز في الواقع يؤدي على العكس إلى حيرة عميقة، ولذا
لم يكن أمامه إلا محاولة فعل العكس، أي ليس أمامه إلا الاعتراف بوجود الحيرة.
واعتقد أنه عندما ينهزم القلب من ثقل الضغط عليه، يكون على العكس من الأسهل الهروب
من محاولة الهروب من خلال تركيز أفكاره عمدًا على وجه المحظية.
أحس الراهب العظيم بمتعة جديدة في تزين شبح
المحظية بطرق مختلفة كما يُزَيّن تمثال بوذا بالتيجان والأكاليل. لم يدرِ سبب
إحساسه بالسعادة وهو يقوم بتلك الطريقة بجعل محبوبته ذات وجود أكثر عظمة وأكثر
بعدًا عنه وأكثر استحالة. أليس الطبيعي أن يرسم المحظية في خياله كجسد امرأة عادية
قريبة منه؟ أليس بهذه الطريقة يحصل المحب على فائدة من حبه ولو على الأقل في داخل
خياله فقط؟
لقد
كان الراهب العظيم لكما فكر بهذه الطريقة يجد أن ما يرسمه خياله للمحظية ليس مجرد
جسد، ولا هو مجرد شبح خيالي. بل كان الراهب بكل تأكيد يرسم جوهرا حقيقيًّا
وواقعيًّا. وكان من العجيب أن يبحث عن ذلك الجوهر في امرأة. إن الراهب ذا الأخلاق
الرفيعة حتى مع وقوعه في الحب، لم يفقد خصلة التدريبات الدائمة في محاولة التقرب
من الجوهر حتى ولو من خلال التجريد. صارت محظية الإمبراطور الآن متوحدة مع زهرة
لوتس هائلة من مئتين وخمسين يوجانا. لقد أصبحت وهي نائمة مستندة على عدد كبير من
أزهار اللوتس، بحجم عملاق أكبر من جبل سوميرو، بل ومن الدولة بأكملها.
في الواقع إنه كلما حوّل الراهب العظيم حبه إلى
شيء مستحيل، كانت خيانته لبوذا أكثرً عمقا. والسبب أن استحالة هذا الحب، يرتبط
بشكل ما مع استحالة تحقيق النيرفانا. وكلما اعتقد أنه حب ميؤوس منه، أصبحت
الخيالات أكثر تأكيدًا، وأصبحت أفكاره الدنسة راسخة في أعماقه. وإذا اعتقد أن حبه
أصبح ممكنًا، لربما على العكس يصبح من السهل تولّد اليأس منه، ولكن هذا الحب
المستحيل أصبح راسخا عتيدا يغطى سطح الأرض مثل البحيرة الهائلة ولا تبدو أي بوادر
لتزحزحه عن مكانه.
لقد تمنى رؤية وجه المحظية مرة أخرى بطريقة ما،
لكنه كان يخشى عند لقاء ذلك الوجه الذي صار مثل زهرة لوتس عملاقة، أن ينهار دون أن
يترك أثرًا. إن انهياره بالتأكيد سينقذ الراهب العظيم. أجل، هذه المرة بالتأكيد
تتحقق له النيرفانا. وهذا بالضبط ما يخشاه.
لقد وصل هذا الحب المفعم بالوحدة أخيرًا إلى
خداع الذات بنسج شبكة عجيبة من الحيل، وعندما انتهى أخيرًا إلى اتخاذ قرار الذهاب
لمقابلة المحظية، أحس الراهب أن المرض العضال الذي كان يحرق جسده قد شفي تقريبا.
كانت فرحته هائلة عند اتخاذ القرار، لدرجة أن الراهب نفسه اعتقد خطأ أنها فرحة
النجاة من قيود ذلك الحب.
5
لم يجد أحد من الذين شاهدوا راهبًا عجوزًا
بائسًا يتكئ على عصا ويقف بصمت في ركن من أركان حديقة القصر الإمبراطوري للمحظية
في ذلك أي شيء غريب. فلم يكن مشهد وقوف المتسولين والرهبان البوذيين أثناء جمعهم
للصدقات داخل حدائق منازل النبلاء والكبراء بالأمر النادر.
أبلغت إحدى خادمات القصر ذلك الأمر إلى محظية
الإمبراطور. نظرت محظية الإمبراطور بتوجس من خلال ستائر الخيزران. هناك خلف ظلال
أوراق الشجر اليافعة كان الراهب العجوز الذي خارت قواه يقف محني الرأس. ظلت
المحظية تنظر إليه فترة من الوقت. وعندما أدركت بدون أي شك أنه هو الراهب الذي قابلته
على ضفاف البحيرة في شيغا، لم تستطع أن تمنع وجهها من أن يتحول لونه إلى الشحوب.
وقعت المحظية في حالة من الحيرة والتردد. لم
تعرف ما القرار المحتم اتخاذه، ولذا أمرت بتركه وشأنه كما هو. تلقت الخادمة الأمر
واستجابت له.
تولد القلق في قلب المحظية. هذا القلق تولد
الآن لأول مرة في قلبها.
كانت قد شهدت حتى الآن العديد من الناس الذين
قد تخلوا عن متع هذه الدنيا، ولكنها لأول مرة ترى شخصا يترك الآخرة وراء ظهره
ويأتيها. كان أمرا مشئوما ومرعبًا بشكل يفوق الوصف. لقد فقدت هذه السيدة النبيلة
السعادة التي كان خيالها يرسمها لها مع حب الراهب. وبفرض أن الراهب العظيم قد
تنازل لها عن الحياة الآخرة، فإن الحياة الآخرة تلك لن تكون من نصيبها بلا مقابل.
نظرت محظية الإمبراطور إلى ملابسها الفخمة
ويديها الجميلة، ثم نظرت إلى الراهب الواقف بلا حراك في الحديقة بعيدًا، ملامح
وجهه التي قبّحها الهِرم وملابسه الرثة المبتلة. هذه الرابطة بينهما كان لها سحر
جهنمي. ولكن ذلك لم يكن مثل الحلم الرائع الذي حلمت به. ظهر لها الراهب العظيم
وكأنه شخص جاء من الجحيم. اختفت تمامًا هالة الرجل الفاضل رفيع الخلق، التي كانت
تصدر من خلفه أشعة الأرض الطاهرة المتألقة. ذهبت عنه كل الأشعة والأنوار التي تدعو
إلى الأذهان مجد الأرض الطاهرة. بالتأكيد وبدون أي شك، إنه هو نفس الرجل الذي رأته
على ضفاف بحيرة شيغا، ولكنه كان في نفس الوقت يبدو وكأنه شخصٌ مختلفٌ تمامًا.
كانت محظية الإمبراطور، كعادة شخصيات البلاط
الإمبراطوري، تميل إلى الحذر من انفعالاتها العاطفية. كانت تفعل ذلك دائمًا عندما
تأتي أمامها أشياء تضطرها إلى التأثر والانفعال. حتى بعد أن رأت البرهان على حب
الراهب لها لهذه الدرجة، شعرت بخيبة أمل أن يأخذ الحب الأسمى الذي رأته في أحلامها
طويلًا، تلك الهيئة المتواضعة للغاية.
كان راهب معبد شيغا الذي وصل العاصمة أخيرا بعد
سفر طويل متكئا على عصاه، قد نسي كل تعبه، بعد أن تحايل لدخول القصر الإمبراطوري حيث
توجد محظية الإمبراطور، عندما أيقن أن وراء ستائر الخيزران تلك، توجد المرأة التي
يهواها، أخذ يفيق من كل الأحلام الكاذبة.
عندما أخذ الحب هذا الشكل البريء، مرة أخرى
بدأت الحياة الآخرة تسحر لب الراهب العظيم. أحس وكأنه لم يسبق له أن رسم في ذهنه
الأرض الطاهرة بهذه الدرجة من النقاء والصفاء. لقد أصبح شوقه للأرض الطاهرة يأخذ شكلا حسيًّا على الأغلب. لم
يبق له من أجل أن يزيل أوهام هذه الدنيا التي تحجب عنه الآخرة، إلا لقاء المحظية
وإعلان حبه لها. هذا فقط هو ما تبقى.
كان يعاني كثيرًا من الوقوف هناك يستند بجسده
الهرِم على عصاه. تنسكب فوق رأسه أشعة شمس مايو الساطعة المتسللة من خلال أوراق
الشجر. كلما أحس بدوار في رأسه يتكئ على عصاه ليحمي نفسه من الوقوع. لو أن المحظية
تنتبه إليه سريعًا وتستدعيه، ستنتهي هذه الخطوة في الحال. ووقتها يُفتح له باب
الأرض الطاهرة على مصراعيه. الراهب العظيم ينتظر، ينتظر مسندًا على عصاه كلله الذي
يصل به إلى حد الإغماء. أخيرًا احتجبت أشعة الشمس. وصار الوقت مساءً. ولا تأتي
أخبار من محظية الإمبراطور.
ولكن المحظية بالطبع لم تكن تعلم أن الراهب
يعتقد أن الأرض الطاهرة تكمن خلفها. كانت تنظر مرة بعد مرة من خلف ستائر الخيزران
ناحية الحديقة. كان الراهب يقف في الحديقة. المساء يزحف، والراهب ما يزال يقف
هناك.
أصاب محظية الإمبراطور الرعب. فلقد شعرت أن ما
رأته هو تجسيد حي لأوهام التعلق عميقة الجذور. لقد احتواها رعب عارم من السقوط في
الجحيم. الرعب الإنساني العادي الذي يقول إنها بعد أن تسببت في الحيرة والضلال
لراهب على تلك الدرجة من الأخلاق الرفيعة، بالتأكيد لن تستقبلها الأرض الطاهرة، بل
مآلها سيكون إلى الجحيم. وقتها قد تحطم بالفعل الحب الأسمى الذي كانت تحلم به. لقد
حطّمته بالفعل. فالجحيم هو أن تُحَب. كانت المحظية على العكس من الراهب العظيم ترى
الجحيم من ورائه.
ولكن تلك المرأة النبيلة المتغطرسة قاتلت خوفها
بشدة. ولقد شجعت روحها مستعينة بقسوتها وعنفها الفطري. فالراهب سيسقط صريعًا حتمًا
عاجلًا أو آجلًا. فما عليها إلا أن تنتظر سقوطه. ولكنها ما أن تلقي نظرة خلف ستائر
الخيزران متوقعة أنه قد سقط، تجده واقفا بصمت هناك بلا حراك، مما يزيد من غضبها.
دخل الليل، وبدت هيئة الراهب الواقف في ضوء
القمر كأنها هيكل عظمى.
لم تستطع محظية الإمبراطور النوم من الرعب.
ولكنها رغم عدم النظر في اتجاه الستائر، وقد أعطت ظهرها لها، فإنها كانت تشعر
بنظرات الراهب.
فهمت الآن أنه ليس حبًّا عاديًا. ولكنها من
الخوف من أن تُحَب، ومن الخوف من الوقوع في الجحيم، أصبحت على العكس تتمنى الأرض
الطاهرة بقوة أكثر. فكرت أنها تريد الحفاظ على الأرض الطاهرة الخاصة بها بلا أي
جروح. أرضها الطاهرة تلك تختلف تماما عن أرض الراهب الطاهرة، وليس لها أية علاقة
بحبه. فهي تعتقد أنها لو تحدثت مع الراهب ستنهار أرضها الطاهرة على الفور. إنها
تريد أن تعتقد أن حب الراهب ليس له علاقة بها، فالراهب يحبها من تلقاء نفسه وبدون
تدخلها، ولذا فمن المفروض ألا تفقد ولو قليلًا استحقاقها في أن تستقبلها الأرض
الطاهرة.
ولكن ورغم ذلك، فكلما تقدم الليل تدريجيًّا،
وأصبح الجو أكثر اعتدالًا، كلما فقدت ثقتها في إمكانية التحكم في قلبها لو سقط
الراهب في مكانه ميتًا.
الراهب العظيم واقف بلا حراك. بدا القمر بعد
اختفائه خلف الغيوم في هيئة عجيبة ساحرة وكأنه شجرة ذابلة.
صرخت المحظية في قلبها: أنا ليس لي علاقة بهذا
الرجل. لم تكن محظية الإمبراطور تفهم إطلاقًا لماذا حدث ذلك.
في تلك اللحظة، ونادرا ما يحدث ذلك، نسيت
المحظية جمالها تمامًا. أو ربما قد يكون من الأنسب أن نقول إنها تعمدت نسيانه.
أخيرًا، بدأ لون السماء يميل قليلا إلى اللون
الأبيض.
الراهب لا زال واقفًا كالطود في غسق الفجر.
هُزمت محظية الإمبراطور. استدعت الخادمة
وأخبرتها أن تدعو الراهب الواقف في الحديقة للمجيء أمام ستائر نافذة الخيزران.
كان الراهب على حدود الغيبوبة بعد أن وصل الجسد
إلى حافة الانهيار التام. ولم يعد يدري ماذا ينتظر؟ محظية الإمبراطور ... أم
الحياة الآخرة. حتى مع إدراكه أن الخادمة قد نزلت إلى الحديقة من جهة ستائر
الخيزران وتقترب منه، فإنه لم يكن يشعر أن ما كان ينتظره قد أتاه أخيرًا.
أبلغته الخادمة رسالة سيدتها. صرخ الراهب في
داخله صرخة مهولة. ولكن لم يصدر منه أي صوت تقريبًا.
حاولت الخادمة أن تسحب يديه. ولكنه تقهقر
رافضًا. ثم مشى حتى موضع ستائر الخيزران بخطى ثابتة راسخة بشكل مدهش وعجيب.
المكان خلف الستائر كان مظلمًا، ولا يمكن رؤية
شكل السيدة من الخارج. جثا الراهب على ركبتيه أمام الستائر، ثم غطى وجهه بيديه
وانخرط في البكاء.
طال النواح لفترة ولم يكن قادرًا على التفوه
بالكلمات. وبدا وكأنه سيظل يبكي إلى الأبد.
عندها ظهرت في غسق الفجر يد بيضاء من أسفل
الستائر المدلاة.
أمسك راهب معبد شيغا يد محبوبته بيديه الاثنين.
ثم قام بوضعها على جبهته، ثم وضعها على خده.
شعرت محظية الإمبراطور بتلك اليد الباردة
العجيبة تلمس يدها. ثم بعد ذلك أحست بيدها قد تبللت بشيء دافئ. أحست محظية
الإمبراطور بشعور مقزز لأن يدها قد ابتلت بدموع شخص غريب عنها.
ولكن مع إحساسها بدخول لون السماء الذي يميل
إلى البياض من خلال ستائر النافذة، وبسبب قوة إيمانها الحار، لمستها فجأة مشاعر
روحية رائعة. لقد جاءها اقتناع أن اليد الغريبة التي لمستها هي يد بوذا نفسه بلا
أي شك.
لقد بُعثت من جديد الأوهام في قلب المحظية.
بعثت مجددًا أرضية اللازورد في الأرض الطاهرة، والأبراج السُباعية المرصعة بالجواهر،
ومناظر الملائكة التي تعزف الموسيقى، وبحيرات الذهب الخالص المفروشة برمال
بلّورية، وزهور اللوتس ذات الأشعة اللامعة، وأصوات طائر الكالافينكاس الجميلة. إذا
كانت تلك الأرض الطاهرة ستكون من نصيبها، والحقيقة أنها لا تزال تؤمن بذلك حتى
الآن، فليس لديها مانع في تقبل حب الراهب العظيم. انتظرت المحظية أن يطلب منها ذلك
الرجل صاحب يد بوذا أن ترفع الستائر التي تفصله عنها. لا بد وأن الراهب العظيم
سيطلب منها ذلك. ثم تقوم برفع الستائر. ثم يظهر له جمالها الذي لا مثيل له، كما
حدث في ذلك اليوم على ضفاف بحيرة شيغا. ثم تدعو الراهب العظيم للصعود إلى غرفتها.
...
انتظرت محظية الإمبراطور العظيم.
لكن كاهن معبد شيغا لم يقل أي شيء، ولم يطلب
منها أي شيء. اليد العجوزة التي كانت تمسك يدها بقوة، أخيرا حلت قبضتها. وتُركت
اليد البيضاء كالثلج وحيدة تحت ضوء الفجر.
غادر الراهب العظيم المكان. وأصبح قلب محظية
الإمبراطور باردًا.
بعد بضعة أيام وصل نبأ وفاة الراهب العظيم في
صومعته. وبهذا الخبر قررت محظية الإمبراطور، نسخ كتب السوترا لفة بعد لفة في كتابة
جميلة وإهدائها إلى المعبد. وكلها كتب رائعة تبعث على الامتنان، إنها كتاب سوترا
زهرة اللوتس وكتاب سوترا الحياة الأبدية وكتاب سوترا أكاليل الزهور.
[1] عصر هييان هو أحد عصور التاريخ الياباني، بدأ عندما نقل الإمبراطور "كانمو" العاصمة
من "نارا" إلى كيوتو عام 794م واستمر حتى تأسيس حكومة كاماكورا عام
1192م. (المترجم)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق