خَرَسٌ مُفاجئ
تأليف: كِنزابرو أُوْيه
ترجمة: ميسرة عفيفي
سيارة جيب تقل جنودًا أجانب تجري وسط ضباب الصباح الباكر. عثر عليها صبي كان يدور على مصائده في طرف الوادي معلقًا على كتفيه طيورًا صغيرة وقعت في الفخ بعد أن جمعها في سلك معدني يخترق أجنحتها، فظل فترة يراقبها كاتمًا الأنفاس.
مرت الجيب بربوة ثم دخلت انحناءة في الجبل، وسوف تستغرق وقتًا حتى تظهر مرة ثانية في الربوة التالية وتدخل قرية الوادي. عاد الصبي إلى القرية منقطع الأنفاس. فوالده هو عمدة هذه القرية الصغيرة التي تتكون من تجمع محدود من البيوت. عاد الصبي شاحب الوجه إلى بيته حيث كان أبوه يستعد للخروج إلى عمله في الحقل.
طُرِق الناقوس نصف طرقة لكي يتجمع من في الوادي أمام بيت الأب المطل على بطن الوادي. كانت الإرشادات التي قيلت لهم وتدربوا عليها مرارًا وتكرارًا هي: إجلاء النساء إلى أكواخ حرق الفحم في قمة الجبل، وأن ينقل الرجال إلى أكواخ الحقول كل من يُظن خطأ أنه سلاح، والحذار من الصراع معهم! ولكن لم يظهر في قرية هذا الوادي جنود أجانب مطلقًا.
انفعل الصغار فأخذوا يجوبون طريق القرية القصير، وكذلك الكبار لم تتقدم أعمالهم سواء في الحقول أو في رعاية المناحل أو إعداد العلف لبهائمهم. ثم ارتفعت الشمس في كبد السماء، فدخلت الجيب قرية الوادي بسرعة رائعة وهدوء عجيب.
توقفت أمام فناء المدرسة الفرعية المغلقة أثناء الصيف، ونزل منها خمسة جنود أجانب، ثم مترجم ياباني. حركوا مضخة ساحة المدرسة ثم شربوا من الماء المختلط دائمًا بعكار أبيض ومسحوا به أجسامهم. راقبهم رجال القرية وصغارها في دائرة تحيط بهم من بعيد. أمّا النساء، حتى اللائي كبرن في العمر فقد انكمشن في الأكواخ الصغيرة ولم يحاولن مطلقًا الخروج منها.
أنهى الجنود الأجانب مسح أجسامهم وعادوا إلى سيارة الجيب مرة أخرى فاتسعت الدائرة المكونة من رجال القرية وصغارها. كانوا في اضطراب شديد لرؤيتهم جنود دولة أجنبية لأول مرة.
كانت أول كلمات ذلك الصباح هي صرخة المترجم بملامح متجهمة:
«أين عمدة هذه القرية؟ نادوا عليه!»
تقدم خطوة للأمام والد الصبي وكان واقفًا وسط رجال القرية ينتظر وصول الجنود الأجانب. راقب الصبي والده وهو يتقدم مشدود الصدر مجيبًا على المترجم بندية.
«أنا»
«لقد قررنا الاستراحة في هذه القرية إلى أن يتلطف الجو في الغروب. لن نسبب لكم إزعاجًا. هؤلاء الجنود عاداتهم في الطعام مختلفة، لذا لا داعي لأي نوع من الضيافة. فحتى لو فعلتم ستكون عديمة الفائدة. هل فهمت؟»
قال الأب بتسامح: «يمكنكم استخدام المدرسة الفرعية والاستراحة داخلها»
قال المترجم: «أرجو أن يعود الرجال لأعمالهم. فنحن في حاجة إلى الراحة في هدوء»
ثم بعد ذلك تقاربت رؤوس الجنود الأجانب البنية وتهامست شفاههم.
قال المترجم: «إنهم يشكرونكم على التجمع لاستقبالهم»
وبرغم كلمات المترجم، لم يحاول أحد من رجال القرية الرحيل بسبب رغبتهم في رؤية الجنود الأجانب مهللين فرحين.
كرر المترجم قوله: «أرجو من الرجال العودة لأعمالهم»
فقال والد الصبي: «هيا، دعونا نعود للعمل»
وهنا تفرق الرجال أخيرًا وهم ينظرون للخلف في لهفة وحسرة. ولكنهم كانوا عازمين على العودة مرة أخرى عند أول فرصة. وبدا أنهم لم يحملوا مشاعر طيبة تجاه المترجم. وبعد أن بقي الصغار فقط كانوا هم أيضًا مرعبون من وجود الجنود الأجانب. ولذا ابتعدوا قليلًا عن الجيب وظلوا يراقبونهم.
بدأ أحد الجنود يغسل هيكل الجيب بماء البئر. وذهب آخر إلى إطار نافذة المدرسة الفرعية وأخذ يسرّح شعره بيده، شعره الذهبي المشتعل تحت أشعة الشمس. وبدأ آخر في تنظيف سلاحه. فاستمر الصغار في مراقبته وهم يكتمون أنفاسهم.
اقترب المترجم خصيصا من الصبية ثم نظر إلى الجهات الأربع دون أن يفرج عن أسارير وجهه، وركب في مقعد القيادة بالسيارة. وبهذا استطاع الصغار مراقبة الزائرين القادمين من أقاصي الأرض دون أن يشغل بالهم شيء. كان الجنود الأجانب مؤدبين وهادئين. وكانوا طوال القامة عريضي المناكب. قلص الصغار تدريجيًّا من دائرتهم واقتربوا من الجنود أكثر لكي يستطيعوا رؤيتهم أفضل. فقد ذهب الخوف!
عند منتصف الظهيرة وقد اشتد الحر، نزل الجنود الأجانب إلى النهر. فهناك بعض المناطق من النهر ذات عمق يمكن السباحة فيها. حملق الصغار في أجسام الجنود العارية في دهشة وانبهار. يمتلك الجنود بشرة ناصعة البياض وشعر جسم ذهبي يتألق في أشعة الشمس. كانوا يتبادلون رشّ الماء على بعضهم البعض، ويصرخون صرخات صاخبة.
بلل العرق أجساد الصغار تمامًا، ومع ذلك ظلوا جالسين في هدوء على ضفة النهر يشاهدون الجنود الأجانب. وهنا جاء المترجم عاريًا وبشرته بلون بنيّ مصفر، وجسمه كله أملس خالي تمامًا من الشعر ويعطي انطباعًا بالقذارة. وبخلاف الجنود الأجانب دخل الماء وهو يخفي عانته بيديه. فضحك الصغار بصوت عالٍ يمتزج بالاحتقار. وحتى الجنود الأجانب بدا أنهم يتجاهلون وجوده تقريبًا. ولكن عندما يرشّ المترجم أحدًا منهم بالماء، يُحاصروه على الفور فيهرع هاربًا مطلقًا صرخات عالية. وكان هذا أقصي ما يحدث.
جفف الجنود الأجانب أجسادهم وهم يطلقون أصواتًا عالية مريبة، ثم ارتدوا ملابسهم وبنطلوناتهم وجروا عائدين إلى المدرسة الفرعية، وعندما لحق بهم الصغار لم يكن المترجم معهم. بعد فترة، عاد المترجم مذعورًا حافيًا. وعندما ظهر وهو غير قادر على السيطرة على أقدامه على الطريق الحجري الملتهب من الشمس، استقبل الجنود الأجانب والصغار معًا هذا المترجم الأحدب بضحكات عالية.
ولكن كانت ملامح وجهه جادة ليس بها أي قدر من الضحك. وبدا أنه يشرح الوضع للجنود الأجانب. وعندما سمع الجنود الأجانب شرحه انفجروا مجددًا في ضحك صاخب بأصوات أكثر ارتفاعًا، وأصابت العدوى الصغار فضحكوا في سعادة بأقصى ما لديهم.
اقترب المترجم من الصغار الضاحكين. كان واضحًا بمجرد النظر أنه متعكر المزاج. قال بصوت زاعق وكأنه يلومهم:
«ألا تعرفون أين حذائي؟» ثم رفرف بقدميه الحافيتين. «لقد اختفى حذائي»
ضحك الصغار في مرح. كان المترجم بوجهه المتجهم المستاء المائل للسمار، منظرًا صالحًا للفكاهة.
صرخ المترجم مهددًا: «لا تضحكوا! أليس بينكم من فعل تلك المشاغبة؟ انطقوا! من هو؟»
كف الصغار عن الضحك وبلعوا ريقهم ونظروا عاليًا تجاه المترجم. تحدث المترجم معهم وكأنه يلكمهم.
«هاه، ألم يره أحد منكم؟»
لم يجب عليه أحد. وركزوا جميعًا أنظارهم على قدمي المترجم الحافيتين وكانتا رفيعتين طويلتين بيضاوين. كانت تختلف عن أقدام أهالي القرية الذين لا يلبسون أحذية مطلقًا، فكانت ضعيفة وإلى حدٍ ما خليعة.
«ألا تعرفون؟» تحدث المترجم غاضبًا. «أنتم بلا فائدة!»
دخل الجنود الأجانب أسفل سقف المدرسة الفرعية تجنبًا لأشعة الشمس الحارة، ومن هناك راقبوا الحوار الدائر بين المترجم والصغار. وبدا أنهم مستمتعون بالتباين الغريب الظاهر بين سواد ملابس المترجم وبياض قدميه الحافيتين.
قال المترجم ضاغطًا بشدة على كلماته: «ليذهب أحدكم ويستدعي عمدة القرية. يقول له أن يأتي فورًا»
ابتعد الصبي ابن عمدة القرية عن الصغار وهرول مخترقًا الغابة عبر الطريق الحجري الصاعد بانحدار شديد. كان الأب جالسًا في أرضية مدخل البيت الترابية يعمل مع الأم في فصل الخيزران المجفف وتكوين منه حزم. وكان ذلك العمل لا يليق بأبيه ذي الكتف المتين والعنق الغليظ. ولكن مستحيل في قرية الصبي أن يظل الرجل يعمل دائمًا الأعمال الرجولية فقط. وعلى العكس تضطر النساء أحيانًا إلى أن تقوم بأعمال الرجال.
«ماذا؟»
أجاب الأب على ابنه الصبي بصوت مبحوح.
قال الصبي: «اختفى حذاء المترجم! وهو في ورطة، ويطلب منك أن تذهب إليه»
قال الأب بنبرة صوت مستاءة:
«وما أدراني بما حدث لحذاء ذلك الرجل القذر؟»
ولكنه نهض وخرج مع ابنه من البيت حيث الشمس الساطعة مما جعله يضيق من عينيه. ثم هبطا معًا إلى الوادي.
تجمع رجال الوادي حول الجيب في ساحة المدرسة يسمعون من المترجم قصة الحذاء. وصل العمدة وجبينه ينضح بقطرات العرق في اللحظة التي يكرر فيها المترجم قوله: «لقد سُرق الحذاء في هذه القرية، وما يحدث في القرية أنتم المسئولون عنه! أرجو منكم إرجاع الحذاء»
قبل أن يجيب أبو الصبي التفت للخلف تجاه رجال القرية. ثم عدل من اتجاهه ناحية المترجم ببطء وهز رأسه.
قال المترجم: «ماذا؟»
قال الأب: «لا علاقة لنا بهذا الأمر!»
ألحَّ المترجم: «لقد سُرق في قريتكم! وهذه مسئولية القرية»
قال الأب: «وكيف تعرف أنه سُرق؟ ربما سحبه تيار النهر»
«لقد خلعته ووضعته فوق الرمال مع باقي الملابس. هذا مؤكد! ويستحيل أن يقع في النهر»
التفت الأب للخلف مرة أخرى وقال موجهًا حديثه لكبار القرية وصغارها جميعًا: «هل سرق أحد منكم الحذاء؟» ثم عدّل وجهته ناحية المترجم وقال: «لا أحد»
اشتد غضب المترجم وقال: «دعك من هذه الحيل الطفولية!» كانت شفتاه الرفيعتان تختلجان خلجات بسيطة. «أحذرك من الاستهانة بي!»
ظل الأب صامتًا. فحمّله المترجم المسئولية: «الحذاء ملك الجيش. هل تدرك ماذا يحدث لمن يسرق مستلزمات الجيش أو من يتستر على السارق؟»
التفت المترجم للخلف ورفع ذراعه، واستجابة لذلك خرج الرجال فارعي الطول بشعورهم الذهبية والبنية من المدرسة الفرعية وأحاطوا بالمترجم والأب. فاختفت هيئة الأب تمامًا خلف أكتافهم العريضة العالية. كان الجنود أثناء كل هذا الوقت يُدلون بنادقهم القصيرة المتينة وكعابها تصطدم معًا بصوت عال. انفكت حلقة الجنود الأجانب ثم ظهر منها وجه الأب يقول بصوت عالٍ:
«قررنا أن نذهب للبحث عن الحذاء حول النهر. أرجو منكم التعاون»
ثم مشوا جميعًا متوجهين إلى النهر؛ المترجم والأب في المقدمة، يتبعهم الجنود الأجانب، ثم رجال القرية وصغارها. انفعل الصغار فكانوا يسيرون وأقدامهم تطأ نبات السرخس على جانبي الطريق بفظاظة. وكان البحث في النهر القصير عملًا في منتهى السهولة. ولم يحاول المترجم ولا غيره من الناس أن يفعلوا ذلك بجدية. أحد الجنود الأجانب وكان شابًا يمتلئ بالنمش، مسك بندقيته في وضع التصويب موجّهًا سبطانتها إلى غصن شجرة باولونيا. حيث انتقل في تلك اللحظة من الضفة الأخرى طائر رمادي اللون منتفخ البطن. ظل الطائر ساكنًا بلا حركة ولكن الجندي الأجنبي لم يطلق عليه الرصاص. بل خفض بندقيته وعندما حوّل عينيه تجاه ضفة النهر لمعاودة البحث عن الحذاء تنفس رجال القرية وصغارها الصعداء جميعًا. وبات أهالي القرية يشعرون أن توترهم قد زال واختفى.
ولكن التقط المترجم رباط حذائه من على الأرض فوق الأعشاب في منطقة تبعد كثيرًا عن ضفة النهر. فعادت المشاعر المختلطة بالرعب داخل صدور الأهالي مرة أخرى. تقهقر الصغار إلى الزرع حيث الخيزران والسرخس والأعشاب البرية.
وعندما صرخ المترجم عاليًا بلغة أجنبية اقترب منه الجنود الأجانب ذوي الرؤوس بنية اللون والصدور العريضة مهرولين. فشرح المترجم لهم الجزء المقطوع من الرباط وهو يشير بإصبعه إلى بُعد المكان عن ضفة النهر. وأثناء ذلك كان الأب يسمع عاقدًا حاجبيه باستياء، ولكنه كان يفكر في أمر آخر لأنه لم يكن يعلم ما يقال باللغة الأجنبية. أومأ الجنود ببطء وداروا بوجههم ينظرون إلى أهالي القرية. ثم بدأ المترجم يتحدث إلى الأب باندفاع صارخًا في وجهه:
«في قريتك لص. وأنت تعرف من هو، أليس كذلك؟ عليك أن تجعله يعترف»
قال الأب: «أنا لا أعرفه. لا أحد يسرق في هذه القرية»
بدأ لسان المترجم يتحول للسباب: «يا لك من كاذب! هل تظن أنك قادر على خداعي؟ سارق معدات الجيش يمكن أن يُقتل رميًا بالرصاص! أنت لا تمانع إذن؟»
لم يُبد الأب رد فعل. حملق فيه المترجم وهو يرفع حاجبيه في حدة. وهنا تدخل الجنود الأجانب ذوي الرؤوس البنية وقالوا لذلك المترجم شيئًا بنبرة صوت عادية جدًا. رد عليهم المترجم بإيماءة بنفس المزاج المتعكر. ثم عادوا جميعًا إلى الساحة التي أمام المدرسة الفرعية، ولكن كان منظر المترجم وهو يمشي حافيًا على الطريق المشتعل من حرارة الشمس في منتهى الهزلية. مشي المترجم وهو يقفز قفزًا ومن حين لآخر يمسح عرقه المتسخ من على عنقه.
عند الساحة الأمامية للمدرسة الفرعية تحدث المترجم للجنود ذوي الرؤوس البنية مستخدمًا حركات جسمه، ثم قال مستهدفًا بوضوح تام التأثير على اضطراب صدور جميع أهالي القرية.
«نحن مستعدون لتفتيش بيوتكم بالقوة الجبرية» قال حاشدًا في صوته كل قوته. «وسيُقبض على من أخذ الحذاء. ولكن، إذا اعترف الآن وأعاد الحذاء واعتذر، سنعفو عنه»
ولكن لم يرتبك أهالي القرية بتاتًا. فزاد غضب المترجم اشتعالًا.
«أيها الصغار! ألم ير أحد منكم الشخص الذي أخفى الحذاء؟ من رآه منكم فليخبرني، وسوف أعطيه مكافأة»
التزم الصغار الصمت. تناقش المترجم مرة أخرى مع الجنود الأجانب بحركات عصبية أعنف. أومأ الجنود الأجانب فيما يبدو أنهم يئسوا، ودخلوا المدرسة الفرعية. وعندها قال المترجم وهو يهز رأسه الغارقة في العرق: «سوف نفتش كل البيوت. ونعاقب من سرق معدات الجيش وأخفاها وصمت عن ذلك» ثم أصدر أوامره: «اتبعوني. سنفتش البيوت بيتًا، بيتًا تحت سمع وبصر الجميع بداية من الطرف الشمالي للقرية. وغير مسموح لأحد بالتحرك منفردًا حتى نعثر على الحذاء»
لم يهم أحد من أهل القرية بالتحرك. انفعل صوت المترجم: «ما هذا التباطؤ!» صرخ في وجوههم بقوة اندفاع هائلة. «أقول لكم اتبعوني! هل معنى ذلك عدم تعاونكم؟»
ذهب صوته عبثًا تمتصه السماء المشتعلة بالحرارة، ظل رجال القرية على حالهم يطوقون أذرعهم التي برزت عليها حبات العرق. تلوّى جسد المترجم من شدة غضبه، وظل جسمه يرتجف وهو ينظر شزرًا في الجهات الأربع فاتحًا عينيه الملتهبتين بالحرارة.
«اتبعوني! سنفتش بيتًا، بيتًا»
قال الأب: «هيا نذهب. لنكن شهود التفتيش»
وهكذا سار رجال القرية خلف المترجم إلى الطرف الشمالي من الوادي. كان ذلك الوقت هو الذي تصب فيه الشمس على الوادي أشد ما لديها من أشعة. أثار الصغار ضجة من الضحك لأنهم يرون المترجم يمشي كالمجنون وهو يتحمل سخونة الأحجار التي رُصف بها الطريق بطريقة مشي مضحكة حافي القدمين يتملكه الغضب. وأصدر الجنود الأجانب كذلك صوت ضحكات تُظهر ارتباكهم البالغ. وهنا تسارع معدل استعادة الصغار لشعورهم بالألفة تجاه الجنود الأجانب.
لم يستطع الجنود الأجانب الرحيل أثناء التفتيش الذي يقوم به المترجم، فظلوا أثناء ذلك يدورون حول الجيب في ملل، أو ينعزلون داخل المدرسة الفرعية. وقضى الصغار وقتًا ممتعًا في مراقبة وضع هؤلاء الجنود. أمّا الجنود فكانوا يلتقطون صورًا للبنات الصغيرات اللائي يلبسن الكيمونو أو يسجلون وصفهن في مفكراتهم وكأنهم يرون شيئًا في منتهى الندرة. ولكن طال وقت التفتيش لدرجة جعلتهم يملوا حتى من ذلك.
واصل المترجم التفتيش بإلحاح شديد. وانتظر الجنود الأجانب وهم يدوسون ألواح أرضية المدرسة الفرعية بأحذيتهم، ثم ينامون ويجلسون عليها. يبدو أنهم في حيرة من الأمر. وكان بينهم جندي شاب يحرك فكه بدون توقف، وكان يبصق من حين لآخر بصاقًا بلون وردي في الأرض التي يرتفع منها تراب بلغ أقصى درجات الجفاف من شدة حرارة الشمس.
أطاع رجال القرية المترجم في أن يكونوا شهودًا لتفتيش البيوت بيتًا، بيتًا، ولكن الصغار تجمعوا في ساحة المدرسة الفرعية يشاهدون السيارة الجيب، أو يشاهدون الجنود الذين ملوا الانتظار. وكانوا ينظرون إليهم بحماس بدون كلل أو ملل. ألقى إليهم الجندي الشاب كيسًا من الحلوى المغلفة التي يمضغها. أكل الصغار تلك الحلوى بوجوه تملؤها الابتسامة وهم فرحين متلهفين، ولكن التصقت الحلوى بأسنانهم فكانت صعبة المضغ مثل الجلد. فبصقها جميعهم على الأرض، ومع ذلك كانوا راضين.
ثم غابت الشمس فجأة فاسوّد سطح الجبل المحيط بالوادي، وهبت رياح هزت الحشائش تحت غابة الكستناء. إنه الغروب. وهنا عاد إلى الساحة المترجم ومعه رجال القرية صامتًا متعكر المزاج وقد بلغ به التعب منتهاه أخيرًا. واتسخت قدماه بالعرق والتراب فباتت وكأنها مغطاة بقماش أسود، وأكثر من ذلك كانتا كبيرتين وقبيحتين.
بدا أنه يشرح ما حدث للجنود الأجانب داخل المدرسة الفرعية. لم تعد الضحكات ترتفع بين الجنود الأجانب. وبدت ملامح العصبية عليهم أيضًا بسبب إرهاقهم من الانتظار. خرج الجنود الأجانب إلى الساحة حاملين أسلحتهم، وعدل المترجم وجهته تجاه رجال القرية معتمدًا على من خلفه.
«أرجو منكم التعاون!» قال ذلك بصوت تحول إلى الرجاء. «إن التعاون معي يعني التعاون مع قوات الاحتلال. لن يستطيع اليابانيون العيش من الآن فصاعدًا دون التعاون مع جيش الاحتلال. ألستم المنهزمون؟ أنتم في وضع لا يمكن الشكوى من الظلم حتى وإن ارتكب المنتصرون مذبحة. أليس عدم التعاون هو الجنون ذاته؟»
ظل الرجال صامتين يحملقون في المترجم. تعصّب المترجم ووضع إصبعه على صدر والد الصبي وعاد صوته إلى التهديد الضاغط صارخًا:
«لن نغادر القرية حتى يظهر ما سُرق مني. لو قلتُ للجنود إن في هذه القرية تمردًا وأسلحة مخبأة، فسوف يقيمون هنا ويبدأون تحقيقًا مع الجميع. وإن أقام الجنود هنا لن تأمن نسائكم وبناتكم الهاربات في الجبال الآن»
حملق المترجم في رجال القرية وهو يزم شفتيه بثقل وكأنه يتأكد من اضطرابهم.
«ليس لديكم النية للتعاون إذن؟»
قال والد الصبي بصبر وتحمل: «الجميع يقولون إنهم لا يعرفون شيئًا عن حذائك. ويقولون إنه ربما جرفه النهر. لا علاقة للأمر بالتعاون أو عدم التعاون»
صرخ المترجم مكشّرًا عن أنيابه: «أيها البهيم!» ثم لكم وجه الأب من المواجهة مباشرة دون سابق إنذار.
ظل الأب ممسكًا بقوة ذقنه المتين دون تأثر، ولكن جُرحت شفتاه فبدأت قطرات الدماء تتساقط منهما. غرق الابن الصغير في قلق يخنق الصدر، ونظر عاليًا تجاه وجه أبيه الذي لفحته الشمس وقد بدأت وجنتاه في الاحمرار.
قال المترجم بصوت لاهث: «أيها البهيم! أنت عمدة هذه القرية. لذا أنت المسئول. لو لم تقل اسم السارق، سوف أخبر الجنود أنك أنت السارق! ثم أجعلهم يقبضون عليك ويسلمونك إلى الشرطة العسكرية لجيش الاحتلال!»
غيّر والد الصبي اتجاهه وأعطى ظهره للمترجم ثم بدأ يمشي. شعر الصبي أن غضب والده قد بلغ منتهاه. صرخ المترجم مناديًا عليه بصوت عال ليعود، ولكن ظل الأب يمشي بلا هوادة دون أن يستجيب له.
صرخ المترجم: «توقف! إيها اللص! لا تهرب!»
ثم بعد ذلك استمر يصرخ باللغة الأجنبية.
انطلق الجندي الشاب ممسكًا بسلاحه وصرخ أيضًا باللغة الأجنبية كما هو متوقع. التفت الأب للخلف، ثم بدأ الجري وكأنه وقع فجأة في حالة ذعر. صرخ المترجم، فأطلق الجندي الشاب رصاص بندقيته بصوت مدوّي، فرد الأب ذراعيه وارتفع جسمه قليلًا عن الأرض وكأنه سيطير في الهواء، ثم سقط على الأرض. هرع أهل القرية إليه، وقبلهم قفز الصبي ابنه ليلتصق بجسد أبيه الواقع على الأرض. كان الأب قد مات وهو ينزف دماء غزيرة من عينيه وأنفه، ثم من أذنيه. دفن الصبي وجهه في ظهر أبيه الساخن لدرجة أن النار على وشك الاشتعال منه وهو يهتز بشدة من النحيب والبكاء. فهو وحده كل ما يملك. وهنا التفت باقي أهل القرية للخلف يحملقون عبر هواء الغروب المكثف في المترجم والجنود الأجانب الذين وقفوا مصعوقين. ابتعد المترجم خطوات من الجنود وخاطب الأهالي بصوت أخرق فقد السيطرة على أعصابه، ولكن لم يجبه أحد من أهالي القرية كبارًا وصغارًا. صمت الجميع وأخذوا يحدقون في المترجم فقط!
وفي وقت متأخر من الليل كان الصبي وأمه فقط بجوار الجثة القوية الممددة على أرضية البيت. تجلس الأم كالرجال مقعدتها على الأرض وتطوق ركبتيها بذراعيها ولا ينمّ عنها أية حركة. وكان الصبي صامتًا ينظر لأسفل من النافذة المطلة على الوادي، دون أن يحرك ساكنًا هو أيضًا.
ويرتفع الضباب الكثيف من النهر القابع في أعماق الوادي. ضيّق الصبي مقلتيه متأملًا رجال القرية الذين يصعدون الطريق الحجري، ويتأمل كذلك الضباب الذي يتحرك ببطء ليرتفع لأعلى ملاحقًا لهم. صعد الرجال المنحدر ببطء في صمت تام. وحدق الصبي فيهم وهو يعض على شفتيه بحزم وقلبه يزيد من خفقانه. كانوا في الحقيقة يصعدون صعودًا بطيئًا جدًا ولكنه مؤكد. كاد الصبي أن يصاب بالإغماء. ثم زحفت أمه مقتربة فجأة وألقت نظرة من النافذة. شعر الصبي أن أمه رأت الرجال. لفّت الأم ذراعيها حول كتفيه. تشنج جسد الصبي داخل ذراعي أمه.
اختفى الرجال لحظة خلف أشجار السنديان، وفي اللحظة التالية فتحوا الباب المؤدي إلى المدخل الترابي لبيت الصبي دون أن يطرقوه، وتجمعوا في المدخل يحدقّون في الصبي صامتين. شعر الصبي بارتجاف أمه التي تحتضنه بقوة وعلى الفور انتقلت إليه العدوى فبدأ جسمه يرتعش.
ولكنه فك ذراعيّ أمه عن جسده بنفسه ونهض واقفًا. ثم نزل حافيًا للمدخل الترابي وبدأ يمشي محاطًا برجال القرية. نزل الرجال الطريق شديد الانحدار المبلل بالضباب دون توقف، وسار معهم الصبي مهرولًا وجسده ما زال يرتجف من الخوف ومن برد الضباب.
يتفرع الطريق إلى فرعين عند مكان منبسط أمام محجر صغير كان قد اِفتُتح لاستخراج الحجر الجيري. يؤدي عبور الجسر إلى درجات حجرية تهبط إلى النهر في عمق الوادي. وهنا نظر الرجال تجاه الصبي بوجوههم الماكرة التي شوّهها التوتر والممتلئة بلحى نابتة الشعر. ظلوا يحملقون في الصبي في صمت.
حضن الصبي جسده بنفسه لكي يكف عن الرجفة، وجرى بمفرده متوجهًا إلى ساحة المدرسة الفرعية وهو يشعر بنظرات الرجال من خلفه. تقف الجيب في هدوء مستقبلة ضوء القمر الناعم. توقف الصبي أمامها عن المشي. يُفترض أن الجنود نائمون داخل المدرسة الفرعية. ظل الصبي يحملق في الجيب وحلقه يمتلئ باللعاب اللزج.
نهض ظل شخص قصير وسمين داخل مقعد القيادة. ثم فتح الباب وأخرج منه نصف جسده.
قال صوت المترجم: «من أنت؟ وما الذي جاء بك؟»
ظل الصبي صامتًا. ثم نظر عاليًا لرأس المترجم المائلة للسواد.
قال المترجم: «هل تعلم مكان حذائي؟ ولذا جئت تخبرني وتريد أن تحصل على مكافأتي؟»
تشنج وجه الصبي واستخدم كل ما لديه من قوة لكي يرفع وجهه عاليًا. ثم ظل صامتًا. نزل المترجم من الجيب قفزًا بحركة مفعمة بالحيوية والنشاط. خبط على كتف الصبي خبطة.
«أنت شخص جيد، حسنٌ، هيا خذني إليه. لا تقلق فلن أخبر رجال القرية»
عاد الصبي مع المترجم وجسديهما يصطدمان ببعضهما البعض. واستنفد الصبي كل إرادته لكيلا يفطن المترجم إلى رعشاته.
«تُرى ما المكافأة التي أعطيها لك؟» تحدث المترجم بطلاقة لسان. «قل لي ماذا تريد؟ هل أخذت من الجنود الحلوى؟ هل رأيت بطاقة بريدية لدولة أجنبية؟ لا مانع أن أعطيك مجلة أجنبية»
كان الصبي يمشي صامتًا منقطع الأنفاس. وحصوات الطريق تؤلم بطن قدميه الحافيتين. ويبدو أن المترجم يعاني أكثر منه بكثير. كان يتبعه وهو يمشي قفزًا متحدثًا إليه بمرح.
«هل أنت أخرس؟» قال المترجم ذلك ثم تابع: «حتى لو كنت أخرسَ، فما أحسن فهمك للأمور! إن رجال قريتك بهم مس من الجنون!»
وصل الاثنان إلى المحجر. فعبرا الجسر وهبطا درجات السلالم الحجرية التي كانت زلقة بسبب الضباب. فجأة ظهرت يد من الظلام أسفل السلالم كتمت فم المترجم. ثم أحاطت به أجساد عدد من الرجال عضلاتهم بارزة وصلبة كالصخور يغطيها شعر خشن كاشفين عن أعضائهم التناسلية المنكمشة. حوصر المترجم بأجساد الرجال العارية فلم يستطع التحرك قيد أنملة، ثم أُغرِق في الماء ببطء. من يصعب عليه التنفس منهم يبتعد عن جسم المترجم ويُخرج وجهه من سطح الماء ثم يأخذ نفسًا عميقًا فيغطس مرة أخرى، ويحضن جسد المترجم. كرر الرجال هذا الفعل واحدًا بعد آخر على مدى طويل من الوقت، ثم صعدوا إلى السلالم الحجرية تاركين المترجم وحيدًا في عمق الماء. كانوا جميعًا يرتجفون من البرد. ارتعشوا رعشات عدة بأجسامهم لإسقاط الماء المتبقي عليها ثم ارتدوا ملابسهم. وأوصل الرجال الصبي إلى مدخل طريق المنحدر الصاعد. فهرول الصبي صاعدًا غابة الفجر وكأن أصوات أقدامهم العائدة في صمت تحثه على الابتعاد.
فتح الباب، فدخل ضباب الفجر الناعم بلون رمادي غامق من الباب الذي ظل مفتوحًا فملأ المكان، وجعل الأم الجالسة في سكون تام وظهرها للمدخل الترابي تسعل. وسعل الصبي كذلك وهو يقف عند المدخل. التفتت الأم ناحيته ونظرت بعيون حادة. صعد الصبي إلى الأرضية الخشبية صامتًا ونام بجسده المقشعر من البرد في ركن الحصيرة التي يشغل أغلبها جثة أبيه الضخمة. زحفت نظرات الأم لتدور حول ظهره الضيق وقفاه الدقيق. خنقت العبرات الصبي فبكى في صمت. فقد سيطر عليه ضعفٌ من التعب الشديد مع حزن، ثم الأكثر من ذلك رعب عنيف. لمست الأم عنقه بيدها. فأبعدها بعنف شديد كالمجنون وعض على شفتيه. ثم انسابت دموعه. ارتفعت أصوات العصافير بحيوية ونشاط من الغابة البرية ذات الأشجار المتنوعة مثل أشجار الكستناء التي تصل حتى خلفية البيت مباشرة.
وفي الصباح، عثر أحد الجنود الأجانب على قدمي المترجم ناصعة البياض طافية وبارزة لأعلى في المكان العميق من نهر الوادي. نادى على رفاقه وأيقظهم ثم أخبرهم بذلك. حاولوا استخدام أهالي القرية لإخراج جثة المترجم من النهر. ولكن لم يقترب الصغار من المكان المحيط بهم مطلقًا بل ولم يبدُ أنهم يراقبوهم من بعيد كذلك.
وكان الكبار يعملون في زراعة الحقول وإصلاح خلايا النحل وحشّ الحشائش. وحتى عندما حاول الجنود الأجانب إبلاغهم برغبتهم تلك بحركات من أياديهم لم يُظهر لهم رجال القرية استجابة. بل واصلوا أعمالهم وهم يرون الجنود وكأنهم أشجار أو أحجار. اشتغل الجميع بأعمالهم في صمت. وكأنهم قد نسوا تمامًا وجود الجنود الأجانب داخل قريتهم.
وفي النهاية تعرى أحد الجنود الأجانب ونزل إلى النهر، وقرب الجثة الغارقة، وحملوها معًا في الجيب. وطوال فترة الصباح ظل الجنود الأجانب يجلسون بجوار الجيب أو يمشون حولها. وكان يبدو أنهم غاضبون غضبًا مميتًا.
ثم فجأة غيّرت السيارة الجيب وجهتها ورجعت من نفس الطريق الذي دخلت القرية منه. ولم يعرها أحد من القرية كبارًا أو صغارًا بالًا، بل ظلوا في حركاتهم اليومية العادية جدًّا. وعلى الطريق في طرف القرية، كانت طفلة تمسح بيدها على أذن كلب. رمي لها الجندي ذو العيون الزرقاء الأكثر صفاءً بكيس من الحلوى، ولكن ظلت الطفلة والكلب يواصلان لعبهما دون أن يتحركان حركة واحدة من مكانهما.
(مجلة «التيار الجديد شينتشو» عدد سبتمبر 1958م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق