بدأت أمطار شديدة تهطل فجأة قبل منتصف الليل. كنتُ
أحيانا أستيقظ وأتأمل منظر الطريق السريع في الليل من بين ستائر الباص الرخيصة. تضرب قطرات المطر زجاج النافذة بعنف مصدرة صوتا، جاعلة أضواء أعمدة النور
المتراصة على طول الطريق تبرز. تستمر أعمدة الإضاءة إلى ما لا نهاية محتفظة بمسافة موحدة بين بعضها البعض وكأنها مسطرة تقيس العالم بأكمله. يدخل شعاع ضوء
جديد وفي اللحظة التالية يصبح شعاعا قديما ويرحل مغادرا خلف ظهري. وعندما انتبهت
كانت الساعة قد تخطت الثانية عشرة بعد منتصف الليل. أي جاء يوم عيد ميلادي الخامس عشر
وكأنه يُدفع به للأمام دفعا آليا.
قال الفتى الذي يُدعى كاراسو: "عيد ميلاد
سعيد"
قلتُ: "شكرا"
لقد أصبحت النبوءة ظلا يلازمني حيث أكون. تأكدتُ من أن
الحائط الذي بنيته حولي لم ينهار بعد، فأغلقت ستائر النافذة ونمت مجددا.
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو بنبرة حديثه البطيئة جدا كالمعتاد: "وبعد، استطعتَ
بشكل ما تدبير أمر المال، أليس كذلك؟" وكأنه استيقظ لتوه من نوم عميق وعضلات
فمه ثقيلة فلا يستطيع تحريكها بمهارة. ولكن كان ذلك تظاهرا منه، فهو في الواقع في
كامل تيقظه ووعيه. كما هو دائما.
أومئ.
"كم
تقريبا؟"
تأكدتُ
من الرقم داخل رأسي مرة أخرى ثم أجبت: "أربعمئة ألف ينا نقدا. وغير ذلك كمية
مدخرات قليلة في البنك يمكن سحبها بالبطاقة. بالتأكيد لا يمكن القول إنه كافي،
ولكن يمكنني تدبير أمري به مؤقتا"
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "ليس سيئا. مؤقتا طبعا"
أومئ.
يقول:
"ولكن على ما يبدو أن ذلك المال لم يعطه لك بابا نويل في عيد ميلاد المسيح
العام الماضي، أليس كذلك؟"
أقول
له: "بلى، الأمر مختلف"
يدور
الفتى الذي يُدعى كاراسو ببصره في المكان لاويا شفتيه خفيفا في سخرية ثم يقول:
"أعتقد أن مصدر المال درج من أدراج هذه الغرفة يملكه شخص ما، أليس
كذلك؟"
لا
أجيب. فمن المؤكد أنه يعرف من البداية مصدر هذا المال. وليس في حاجة أن يسأل
أسئلته الملتوية تلك. إنه فقط يريد السخرية مني بطريقة سؤاله تلك.
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "حسنا لا عليك، فأنت على أي حال في حاجة لذلك
المال. حاجة ملحة جدا. ثم ها أنت تحصل عليه. بغض النظر عن طريقة الحصول عليه ...
سواء استلفته أو اقترضته في صمت أو سرقته. فهو في كل الأحوال مال أبيك. سيكون هذا
المبلغ كافيا لكي تدبر أمرك مؤقتا فقط. ولكن، ماذا تنوي عندما تستهلك مبلغ
الأربعمئة ألف ينا هذا كله؟ فعلى ما أعرف، المال الذي تضعه في حافظة أموالك من
المستحيل أن يزيد من تلقاء نفسه مثل الفطريات التي في الغابات. وأنت في حاجة إلى
المأكل والمسكن. وسيأتي وقت ينتهي فيه المال"
أقول:
"سأفكر في ذلك في حينه"
يكرر
الفتى الذي يُدعى كاراسو كلماتي كما هي وكأنه يضعها على راحة يده ويزن ثقلها:
"ستفكرفيذلكفيحينه"
أومئ.
"أن
تعثر على عمل مثلا؟"
أقول:
"ربما"
يهز
الفتى الذي يُدعى كاراسو رأسه. "اسمع. يجب عليك معرفة الحياة أكثر من ذلك.
وإلا فقل لي: ما نوع ذلك العمل الذي تعتقد أن يعثر عليه طفل في الخامسة عشرة من
عمره في أرض بعيدة لا يعرف عنها شيئا؟ فأنت حتى لم تنتهِ من تعليمك الإلزامي بعد.
من ذا الذي يوظّف إنسانا في ظروفك؟"
يتوّرد
خداي قليلا. إن خديّ سريعا التوّرد.
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "حسنا لا عليك، فلم يبدأ شيء بعد. ولا فائدة من رص
الأمور السوداء فقط أمام عينيك. فأنت قد حسمت قرارك. ويتبقى فقط الانتقال إلى
التنفيذ. وبشكل أساسي ليس بوسعنا إلا فعل ما تريده"
أجل،
فمهما كان الأمر، إن هذه هي حياتي أنا.
"ولكن
يجب عليك من الآن فصاعدا أن تصبح شديد القوة"
أقول:
"أبذل جهدي"
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "هذا مؤكد. لقد أصبحت قويا جدا خلال الأعوام
القليلة الماضية. وما أقوله ليس معناه عدم اعترافي بذلك"
أومئ.
يقول
الفتى الذي يُدعى كاراسو: "ولكن مهما قلنا فأنت لا تزال في الخامسة عشرة من
العمر، وحياتك – إن قلنا بمنتهى التحفظ – قد بدأت لتوها. إن العالم يمتلئ بالعديد
من الأشياء التي لم يسبق لك رؤيتها من قبل. أشياء لا يمكن لك الآن حتى أن تتخيلها"
كنا
نجلس متجاورين فوق الأريكة الجلدية القديمة في غرفة مكتب أبي كما نفعل دائما. إن الفتى
الذي يُدعى كاراسو معجب بهذا المكان. إنه يحب جدا تفاصيل جميع الأشياء الموجودة
هنا. إنه يلعب الآن داخل راحت يده بثقالة أوراق زجاجية على شكل نحلة. بالتأكيد نحن
لا نقترب من هنا عندما يكون أبي في البيت.
أقول:
"ولكن مهما حدث يجب عليَّ أن أغادر هذا البيت. وهذا قرار لن يحركه شيء"
يوافقني
الفتى الذي يُدعى كاراسو على رأيي بالقول: "ربما كان ذلك صحيحا" ثم يضع
ثقالة الأوراق على المكتب ويشبك يديه خلف رأسه. ويضيف: "ولكن لن يحل ذلك كل
شيء. يبدو وكأنني مرة أخرى أُلقي بماء بارد على حماسك، ولكنك مهما ذهبت بعيدا، فلن
نعرف أستستطيع من الهرب من هذا المكان أم لا؟ وأشعر أننا من الأفضل ألا نأمل كثيرا
في أشياء مثل المسافات البعيدة"
أفكر
مرة ثانية في المسافات. يتنهد الفتى الذي يُدعى كاراسو تنهيدة واحدة، ثم يضغط ببطن
أنامله على جفنيه. ثم يغمض عينيه ويستمر في الحديث إليَّ من أعماق ذلك الظلام
الحالك.
يقول:
"لنلعب لعبتنا الدائمة"
أقول:
"لا مانع" ثم أغمض أنا أيضا عينيّ مثله وآخذ نفسا عميقا في هدوء.
يقول:
"هل أنت مستعد؟ تخيّل عاصفة رملية شديدة العنف والقسوة. وانس كل ما
عداها"
أتخيّلُ
كما قيل لي، عاصفةرمليةشديدةالعنفوالقسوة.
وأنسى تماما كل ما عداها. أنسى حتى نفسي ذاتها. أصبحُ أنا نفسي فراغ. ثم تبرز الأشياء
على الفور في ذهني. ومثلما نفعل دائما أنا والفتى، نتشارك تلك الأشياء معنا فوق المقعد
الجلدي الطويل القديم في غرفة مكتب أبي.
يتحدث
الفتى الذي يُدعى كاراسو إليّ قائلا: "في بعض الحالات يصبح ما يُسمى القدر
مشابها لعاصفة رملية محلية تتقدم في طريقها وهي لا تتوقف عن تغيير اتجاهاتها"
في
بعض الحالات يصبح ما يُسمى القدر مشابها لعاصفة رملية محلية تتقدم في طريقها وهي
لا تتوقف عن تغيير اتجاهها. فتغيّر أنت أيضا اتجاه خطواتك في محاولة لتفاديها. وعندها
تغير العاصفة اتجاهها لتلاحقك. فتغير أنت اتجاهك مرة ثانية. وعند ذلك أيضا تغير
العاصفة بالمثل من اتجاهها. يتكرر ذلك مرات ومرات، وكأنه مثل رقصة مشؤومة مع إله
الموت في الفجر. والسبب أن تلك العاصفة ليست شيئا أتى من مكان بعيد بدون أن
يكون له علاقة بك. بمعنى إنها هي أنت ذاتك. إنها كل ما داخلك. ولكن إنْ بحثنا عن
شيء تستطيع أن تفعله، فهو فقط أن تيأس وتغوص داخل العاصفة مباشرة وتغلق عينيك وأذنيك
جيدا حتى لا تدخلها الرمال ثم تخترق تلك العاصفة وتمر خلالها خطوة بعد خطوة. فعلى
الأرجح أن داخلها ليس به شمس ولا قمر ولا اتجاهات، وفي بعض الحالات ليس بها حتى
الزمن نفسه. إن ما داخلها هو فقط رمال دقيقة ناصعة البياض تشبه مسحوق عظام طُحنت،
ترقص متطايرة وهي ترتفع في الهواء. يجب عليك أن تتخيّل عاصفة رملية بهذا الوصف.
أتخيّلُ
عاصفة رملية بذلك الوصف. ترتفع دوامة بيضاء في اتجاه السماء مباشرة وكأنها حبل غليظ.
أسدُّ عينيّ وأذنيّ بإحكام بكلتا يديّ. لكيلا تدخل تلك الرمال الدقيقة إلى جسمي.
تقترب تلك العاصفة الرملية باطراد مستهدفة مكاني. يستطيع جلدي أن يشعر من بعيد
بضغط الرياح ذلك. إنها الآن بالضبط على وشك أن تبتلعني.
في
النهاية يضع الفتى الذي يُدعى كاراسو يده برفق فوق كتفي. وعندها تختفي العاصفة
الرملية. ولكنني أظل مغمض العينين كما أنا.
"يجب
عليك من الآن أن تصبح أقوى فتى في الخامسة عشرة من عمره في العالم. مهما حدث ومهما
كان. لأنه ليس أمامك طريق أخرى لكي تستطيع الاستمرار حيا في هذا العالم غير هذه
الطريق. ثم من أجل ذلك، يجب أن تدرك أنت نفسك، أأنت قوي حقيقة أم لا؟ هل
تفهم؟"
أظل
صامتا فقط. وتأتني رغبة في النعاس ببطء كما أنا بحالتي تلك وأنا أشعر بيد الفتى
فوق كتفي. يصل إلى إذني صوت خافت لرفرفة أجنحة.
يكرر الفتى
الذي يُدعى كاراسو بهدوء داخل أذني أنا الذي على وشك النعاس: "ستصبح من الآن أقوى
فتى في الخامسة عشرة من عمره في العالم" وكأنه ينقش تلك الكلمات بخط أزرق
غامق في قلبي كالوشم.
ثم
بعد ذلك بالطبع ستستطيع أن تخترقها بالفعل. تخترق تلك العاصفة الرملية العنيفة. تخترق
تلك العاصفة الرملية الميتافيزيقية الرمزية. ولكنها مع كونها ميتافيزيقية ورمزية
إلا أنها في نفس الوقت تشق اللحم وتقطعه بحدة مثل ألف شفرة من المواسي. إن أناس
عديدين نزفوا هناك الكثير من الدماء، وعلى الأرجح أنت شخصيا ستنزف دماءك. دماء حمراء
حارة. وعلى الأرجح أنك ستتلقى في يديك تلك الدماء. إنها دماؤك وكذلك دماء الآخرين.
ثم
عندما تنتهي تلك العاصفة الرملية، يُفترض أنك لن تعرف مطلقا كيف استطعت اختراقها وكيف
استطعت البقاء بعدها على قيد الحياة. كلا بل ويُفترض كذلك أنك لن تكون متأكدا أرحلت
تلك العاصفة وانتهت بالفعل أم لا؟ ولكن سيكون هناك أمر واحد فقط في منتهى الوضوح. هو
أنك حين خرجت من تلك العاصفة، لم تكن الشخص نفسه الذي دخلها. أجل، إن هذا هو معنى
العاصفة.
عندما
يأتي عيد ميلادي الخامس عشر، أهرب من البيت، وأذهب إلى مدينة بعيدة لا أعرفها وأقيم
في ركن من مكتبة عامة صغيرة.
بالطبع
إن تحدثتُ بالتفصيل متتبعا الأحداث بترتيبها، على الأرجح أستطيع الاستمرار في
الحديث على مدى أسبوع كامل. ولكن إن ذكرت فقط النقاط الهامة فهذا هو ما حدث. عندما
أتي عيد ميلادي الخامس عشر، هربت من البيت، وذهبت إلى مدينة بعيدة لا أعرفها وأقمت
في ركن من مكتبة عامة صغيرة.
ربما
يُسمع ذلك وكأنه حكاية قبل النوم للأطفال. ولكنها ليست حكاية للأطفال. ليست كذلك
بأي معنى من المعاني.
[1]كاراسو باللغة اليابانية تعني غرابا. ويُذكر أن اسم كافكا أيضا يعني غرابا
باللغة التشيكية اللغة الأم لعائلة فرانز كافكا / المترجم
قرأتُ منذ فترة مضت، في
جريدة أو مجلة ما، مقالة تشكو فيها العجائز الإنجليزيات أنه مع أنهن كُن في الماضي
يعظمّن كبار السن ويحترمنهن، إلا أن الفتيات الشابات الآن لا يُبدين تجاه كبار
السن أي اهتمام، بل وكبار السن بالنسبة لهن شيء قذر لا يقربن منهن، وتتباكى
العجائز من الاختلاف بين الشباب في الماضي والحاضر. ولقد تأثرتُ إذ عرفت أن كبار
السن يشكون نفس الشكوى في كل الدول بلا استثناء. وعلى ما يبدو أن الإنسان مع تقدمه
في العمر، يظن واهما أن الماضي أفضل من الحاضر بلا استثناء. وعلى هذا فالعجوز الذي
كان يعيش قبل مئة عام، يشتاق إلى الحياة قبل مئتي عام، والعجوز الذي كان يعيش قبل
مئتي عام يشتاق إلى الحياة قبل ثلاثمئة عام، ولا يرضى أحد في أي عصر بعصره الذي
يعيش فيه، ولكن علاوة سرعة تقدم الحضارة فبلدنا حالة خاصة جدا حيث أن التحولات
التي حدثت فجأة منذ ثورة ميجي تساوي تطور ثلاثة أو خمسة قرون على الأقل من العهود
الماضية.
والطريف أنني أنا الذي أقول
ذلك قد بلغتُ عمرا سأبدو فيه أنني أقلّد كلام كبار السن، ولكن من المؤكد أن
المنشآت الثقافية في العصر الحالي تتملق الشباب خاصة وتصنع تدريجيا عصرا غير رحيم بكبار
السن. والمثال الأسرع على ذلك أن كبار السن لا يستطيعون الخروج من بيوتهم مطمئنين
بعد أصبح عبور تقاطعات الطرق يتم بأمر من إشارات المرور.
لا ضير لمن يتجول في الطرق
باستخدام سيارة، ولكن شخص مثلي عندما أذهب أحيانا إلى مدينة أوساكا فإن مجرد عبوري
من هذه الجهة من الطريق إلى الجهة الأخرى يتطلب استنفار جميع أعصاب جسمي. بعد أن
تم وضع إشارات: انطلق أو قف، سهل رؤية الإشارات التي توجد في منتصف مفترق الطريق
ولكن أحيانا يصعُب اكتشاف مكان الإشارات الكهربائية الخضراء والحمراء التي تضيء
وتنطفئ في السماء في جانب لا يمكن توقعه، وأحيانا نخطئ في مفترق طريق واسع بين
الإشارة الجانبية والإشارة المقابلة. لقد اعتقدتُ ذلك بالفعل عندما أصبح من
الضروري وقوف شرطي المرور في طرق كيوتو، فلم يعد يمكننا اليوم الاستمتاع بالمناظر
اليابانية العريقة إلا إذا ذهبنا إلى مدن في حجم نيشينوميا أو ساكاي أو واكاياما
أو فوكوياما.
في الطعام أيضا، إن كبار
السن يجدون مشقة بالغة في العثور على طعام يتناسب ذائقتهم في المدن الكبرى. منذ
فترة جاء إليّ أحد الصحفيين وطلب مني الحديث عن طعام لذيذ وغريب في نفس الوقت،
فتحدثتُ عن طريقة صنع السوشي بورق الكاكا الذي يـأكله أهالي قرية جبلية نائية في
يوشينو. وسأنتهز هذه الفرصة لأعرض لكم تلك الطريقة هنا. يتم سلق أرز مع مشروب
الساكي بنسبة واحد إلى عشرة، ليكن كيلوجرام ونصف أرز مع 150 جرام ساكي. ويتم وضع
الساكي بعد أن يغلي القدر. حسنا بعد أن يستوي الأرز يُترك حتى يبرد تماما ثم يتم
تشكيله باليدين على شكل السوشي بعد أن ينثر الملح على اليدين. وفي هذه الحالة يجب
ألا تكون اليدين بهما أي أثر للماء. سر الصنعة هو الاعتماد على الملح فقط أثناء
تشكيل أرز السوشي. بعد ذلك نقطّع السلمون المملح إلى شرائح رقيقة، ونضعها فوق أرز
السوشي، ثم نغلفها بورق الكاكا على أن نجعل ظهر الورقة للخارج. واستعدادا لذلك
نكون قد مسحنا أوراق الكاكا والسلمون بقطعة قماش جافة لإزالة الماء تماما منهما.
يوضع ذلك في صحن السوشي الخاص به أو علبة الأرز بعد تجفيفها بدقة من الداخل وعدم
السماح بأي فراغات بين السوشي ووضع غطاء محكم فوقها ثم إضافة الحجر الثقيل الذي
يستخدم في ضغط المخللات. إذا صنعت السوشي في المساء يصبح جاهزا للأكل في الصباح
التالي، ويكون أجود مذاق طوال ذلك اليوم ويكون صالح للأكل على مدى يومين أو ثلاثة
أيام. وعند أكله يُرش عليه خل مصنوع من أوراق نبات فلفل الماء.
لقد علمني هذه الطريقة أحد
الأصدقاء كان قد ذهب إلى يوشينو للسياحة ومن شدة إعجابه بهذا الطعام اللذيذ تعلمه
طريقة إعداده ثم نقلها لي، وهو طعام يمكن طبخه في أي مكان ما دام توجد أشجار
الكاكا والسلمون المملح. إذا كان أهم شيء هو ضرورة عدم نسيان إزالة الماء والرطوبة
تماما وأن يُبرّد الأرز وعندما جربتُ صنعه في بيتي اقتنعتُ بأنه لذيذ الطعم. فزيت
السلمون وملحه يتغلغلان إلى الأرز بدرجة رائعة، وعلى العكس يعود السلمون طريا
وكأنه طازجا بشكل لا يوصف. ويختلف طعمه تماما عن سوشي مطاعم طوكيو، ولقد قضيتُ هذا
الصيف لا أتناول إلا هذه الوجبة لما كانت تناسب ذائقتي تماما. ورغم ذلك يا لها من
طريقة لتناول السلمون المملح! لقد انبهرتُ من سكان تلك القرية الجبلية لاختراعهم
تلك الوجبة رغم فقر الموارد لديهم. ولكن عند البحث عن مثل تلك الوجبات المحلية المتنوعة
نجد أن من المؤكد أن سكان الأرياف في العصر الحالي لديهم حاسة ذوق أفضل من سكان
المدن وأنهم بمعنى من المعاني يتمتعون برفاهية لا يمكن تخيلها. ولهذا يتخلى كبار
السن عن المدن أكثر وأكثر، ويتجهون لحياة العزلة في الأرياف، ولكن حتى مدن الأرياف
وصلت إليها أعمدة المصابيح الكهربائية التي على شكل الزنبق، ومع مرور السنين أصبحت
تشبه كيوتو مما لا يدعو للاطمئنان مطلقا. توجد نظرية تقول إن الحضارة ستقفز خطوات
جبارة وعندها ستكون وسائل المواصلات في الجو وفي أنفاق تحت الأرض، وبالتالي ستعود
طرقات المدن إلى سابق عهدها من الهدوء، ولكن نحن نعرف أنه في ذلك العصر ستتولد
بالتأكيد وسائل جديدة لمضايقة كبار السن. ولذا سيكون الوضع هو أنهم يضطرون كبار
السن إلى الانسحاب من الحياة العامة، ولا يجدون أمامهم مكان إلا التقوقع في بيوتهم
يستمعون إلى المذياع وهم يشربون الساكي مع النَقْل من طعام من عمل يدهم.
عندما نعتقد أن كبار السن
فقط هم من يتبرمون بهذا الشكل، ولكن ليس الأمر كذلك على الإطلاق، فمؤخرا سخرت
جريدة أساهي طبعة أوساكا في عامودها الخاص بالتعليق على الأحداث اليومية بعنوان
"صوت السماء بكلمات بشرية"، سخرت من تقطيع بلدية المحافظة لأشجار الغابات
بعشوائية من أجل إنشاء طريق للسيارات في حدائق مينوو وبالتالي تتقلص مساحة الغابات
الجبلية. وعندما قرأتُ أنا ذلك أحسستُ بقليل من الثقة في كلامي. إن خطف الظلام
الذي يوجد تحت ظل الأشجار في عمق الجبال، أمر مجنون عديم الرحمة. ومع استمرار هذه
الوتيرة فحتى كل الأماكن المشهورة في نارا وحتى ضواحي كيوتو وأوساكا ستصبح مناطق
قاحلة مقابل أن تصبح أماكن لها شعبية.
ولكن في النهاية يعتبر هذا
أيضا أحد أنواع التبرم والشكوى، وحتى بالنسبة لي فأنا عالم وممتن بشدة لما للعصر
الحالي من أفضال، ومهما قلنا الآن من آراء فطالما بدأت اليابان بالفعل الخطو في خط
محاذي للثقافة الغربية، فليس باليد حيلة إلا التقدم بشجاعة للإمام تاركين كبار
السن وراء ظهورنا. ولكن ما لم يتغير لون بشرتنا، فليس أمامنا إلا أن نستعد لحمل
عبء الخسارة المفروضة علينا نحن فقط إلى الأبد.
ومع ذلك فهدفي من كتابة
هذا الكلام، لأنني أعتقد أنه يجب البقاء على طريق يعوض تلك الخسارة في أي منحى من
مناحي الحياة وليكن هذا المنحى مثلا الآداب والفنون. أنا أريد استدعاء عالم الظل
الذي نفقده حاليا بالتدريج ولو في نطاق الأدب. أريد أن أمدد إفريز المبنى العملاق
الذي يسمى الأدب، وأجعل حائطه معتم وأدفع إلى الظلام الأمور التي تُرى بوضوح زائد
على الحد، وأزيل من داخل حجراته أية زينة لا لزوم لها. لا أطلب أن تكون كل المباني
هكذا، ولكن من الأفضل أن يوجد ولو مبنى واحد فقط بهذا الشكل. حسنا كيف سيكون
الوضع؟ جرب أن تطفئ المصباح الكهربائي.