بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 10 فبراير 2019

عَلتْ الرّياحُ تأليف: تاتسو هوري ترجمة: ميسرة عفيفي



عَلتْ الرّياحُ
 تأليف: تاتسو هوري

ترجمة: ميسرة عفيفي



Le vent se lève, il faut tenter de vivre.
PAUL VALÉRY
(عَلتْ الرّياحُ، لنحاول أن نحيا)
پول ڤاليري
  
تمهيد

 كنتُ دائما في تلك الأيام من الصيف، أرقدُ تحت ظل شجرة قضبان بيضاء بجانبكِ وأنتِ واقفة ترسمين بحماس لوحة لذلك المنظر الذي تملأ سطحه فيه أعشاب السُهوب اليابانية. ثم في الغروب، عندما تنهين عملك، تأتي بجانبي فيضع كل منا يده على كتف الآخر ونظل لفترة من الوقت نتطلع إلى الأفق البعيد الذي تغطيه كتل من الغيوم العالية التي اصطبغت حوافها فقط بلونٍ أرجواني. كما لو أن ذلك الأفق الذي أوشك أخيرا على الغروب، سيلدُ شيئا ما ...

في ظهيرة أحد تلك الأيام (يوم اقترب فيه الخريف بالفعل)، تركنا اللوحة الباقية التي لم تنتهِ من المرة الماضية كما هي معلقة فوق حامل اللوحات، ونمنا تحت ظل شجرة القضبان البيضاء نأكل بعض الفاكهة. كانت تجوب السماء غيوم تشبه الرمال الناعمة. وقتها عَلَت فجأة رياحٌ من حيث لا ندري. وبسببها كان لون السماء الأزرق البادي من بين أوراق الشجر فوق رأسينا يتمدد تارة وينكمش تارة أخرى. ثم تقريبا في نفس الوقت، سمعنا صوت شيء يسقط أمامنا من وسط العشب. ويبدو أن ذلك كان صوت اللوحة وحاملها اللتين تركناهما هناك. أمسكتُ بك عنوة عندما حاولتِ النهوض على الفور، مخافة أن أفقد هذه اللحظات، فلبثتِ بجواري دون أن تبعدي عني. تاركة لي حرية فعل ما أحب.

"عَلتْ الرّياحُ ... لنحاول أن نحيا"

كررتُ بيت الشعر هذا الذي طرق شفتيّ وخرج منهما فجأة وأنا أضعُ يدي على كتفك المستند عليَّ. ثم بعد ذلك نظرتِ أخيرا ناحيتي ووقفتِ. التصقت الأعشاب على كامل سطح قماش اللوحة الذي لم يكن قد جف تماما. بعد أن أصلحتِ من وضع القائم واللوحة قلتِ وأنتِ تُزيلين تلك الأعشاب التي تبدو صعبة الإزالة بسكين الرسم:
"آه، ... لو رآنا أبي على هذا الحال"
ثم نظرتِ ناحيتي وابتسمتِ ابتسامة غامضة.

"بعد يومين أو ثلاثة أيام سيأتي أبي"
قلتِ ذلك فجأة في صباح أحد الأيام، عندما كنا هائمون داخل الغابة. سكتتُ أنا بنوع من التبرم. وعندها نظرتِ ناحيتي وأنتِ تقولين بصوتٍ به قليلٌ من البحّة:
"وإن حدث ذلك فلن نستطيع بعدها القيام بمثل هذه النُزهات"
"نستطيع القيام بأية نزهة، إذا كانت لدينا الرغبة في فعل ذلك"
كنتُ ما زلتُ أُبدي التبرم، وأنا أشعر أن نظراتكِ التي تحاول مراعاة شعوري، تملأني، ولكنني كنت بلا داعي مأخوذا بصخب أفرع الأشجار التي فوقنا أكثر مما يجب.
"إن أبي لا يتركني بسهولة"
رددتُ لك النظر بعيون تبدو وكأنها قد نفذ صبرها أخيرا وقلتُ:
"أتقولين إن ذلك فراقُ بيننا؟"
"ألا ترى أنني ليس بيدي حيلة؟"
قلتِ ذلك وأنتِ تحاولين بكل جهدك إظهار الابتسام لي دليلا على استسلامك التام. آه يا للون وجهكِ وقتها، ويا للون شفتيكِ كذلك اللتين كانوا في غاية الشحوب!
"تُرى ما الذي جعلكِ تتغيرين هكذا؟ رغم أنه بدا أنك تعتمدين عليَّ تماما في كل أمر ..." قلتُ ذلك وأنا أُظهر أنني فكرتُ عميقا في الأمر، وأنا أترككِ تسبقينني قليلا مُظهرا بكل جهدي صعوبة السير في الطريق الجبلية الضيقة التي بدأت تظهر فيها بتسارع الجذور العارية متدحرجة. في ذلك المكان كانت الأشجار تبدو كثيفة، والجو باردا للغاية. وتجري بعض الجداول المائية هنا وهناك. وفجأة التمعت الفكرة التالية داخل رأسي. مثلما أطعتِ أنتِ بهذا الشكل شخصا مثلي قابلتيه صدفة في هذا الصيف لا بل أكثر من ذلك بكثير، أليس أنتِ مستسلمة بتلقائية تامة لأبيك، وكل سلطة مرتبطة به مضافة إليه وتتحكم فيكِ بلا توقف. ... {سِتْسُكو! إذا كنتِ بهذه الصفة فمن المؤكد أنني سأحبكِ أكثر وأكثر. إذا اتضحت لي معالم معيشتي بشكل حاسم أكثر من ذلك، فسأذهب لآخذك أي كان الأمر، وحتى يحدث ذلك فلا بأس أن تظلي كما أنت الآن في كنف أبيكِ} مسكتُ يدكِ فجأة كما لو أنني أطلب منك موافقة على ذلك وأنا أقول هذا الكلام لنفسي فقط. وتركتِ أنت تلك اليد لي كما هي، وهكذا توقفنا أمام أحد الجداول ونحن عاقدين يدينا كما هما، واصلنا الصمت، نتأمل بمشاعر مؤلمة نوعا، أشعة الشمس التي تتخطى الأشجار القصيرة التي لا حصر لأفرعها المتداخلة ثم تغطس من بين فراغاتها لتسقط على شكل نقاط دائرية، نتأمل تلك الأشعة المتسربة من بين فراغات الأشجار التي تصل إلى هناك وهي تتحرك مهتزة على أثر نسائم رياح تكاد تكون منعدمة تقريبا عندما تصل إلى هناك في أعماق قاع الجدول الصغير الذي يجري بعمق تحت أقدامنا، وإلى أن يصل فوق نبات السرخس النابت تحته.

في مساء أحد الأيام بعد يومين أو ثلاثة أيام، وجدتك في المطعم، أنت وأبيك الذي جاء لاستقبالك. كنتِ توليني ظهرك بشكل يبدو جافا. كانت حركاتكِ وهيئتك التي تأخذينها على الأغلب دون وعي منك أثناء وجودك بجوار والدك، تجعلني أحس بأنك فتاة صغيرة لم يسبق لي أن رأيتها من قبل على الإطلاق.
همستُ لنفسي قائلا: {حتى إن ناديتُ عليها باسمها ... فإنها من المؤكد أنها لا تلتفت إليّ وستواصل حديثها بشكل طبيعي. تماما كما لو أنها ليست الشخص الذي ناديته ...}
في تلك الليلة، بعد عودتي من النزهة المملة التي خرجتُ إليها، بقيت لبعض الوقت أتسكع داخل حديقة الفندق التي لا يوجد بها أثر لبشر. يفوح عطر زهور الزنبق الذهبية. كنتُ أحملق شاردا في نوافذ غرف الفندق الاثنتين أو الثلاث التي تتسرب منها الإضاءة. بدا أن الضباب على وشك الانتشار قليلا. فانطفأت أنوار الغرف واحدة بعد أخرى وكأنها تخاف من حدوث ذلك. ثم أخيرا غرق الفندق بأكمله في ظلام حالك، ولكن سمعتُ صوت صرير وفُتحتْ إحدى النوافذ ببطء. ثم استندتْ على حافة النافذة طويلا فتاة صغيرة ترتدي ما يبدو عليه منامة لونها وردي. كانت تلك هي أنتِ ...

أستطيع حتى الآن أن أستعيد بوضوح ذكرى شعور ذلك الحزن الذي يشبه السعادة والذي ظل قلبي منقبضا به يوما بعد يوم بعد رحيلكما.
كنتُ قد أغلقت عليَّ باب غرفتي في الفندق طوال اليوم لا أغادرها. ثم انشغلتُ لوقت طويل في إنجاز عملي الذي أهملته تماما من أجلك. استطعتُ أن اندمج في العمل تماما في هدوء لدرجة لم أستطع أنا نفسي تخيلها. وأثناء ذلك كان كل شيء قد تغير إلى فصل آخر. وأخيرا عندما جاءت الليلة التي تسبق مغادرتي، خرجتُ من الفندق في نزهة بعد غياب طويل.
كانت فوضى عارمة وكأن الخريف قد ضل طريقه داخل الغابة. ظهرت للأمام بلكونات ڤيلات المنتجعات الخالية تماما من البشر من بين الأشجار التي تناقصت أوراقها بدرجة كبيرة. واختلطت رائحة رطبة لفطريات متنوعة مع رائحة الأوراق الساقطة. أحسستُ بشيء من الغرابة لتغير الفصول بهذه الدرجة غير المتوقعة، ولمرور الوقت لهذه الدرجة بعد فراقنا بدون أشعر به. كان ثمة شيء داخل قلبي، يشبه اليقين من أن ابتعادي عنك هو مجرد أمر طارئ ومؤقت، تُرى هل من أجل ذلك أصبح حتى تغير الزمن هكذا يحمل لي معانٍ مختلفة تماما عما كانت عليه للآن؟ ... بدأتُ أفكر شاردا في ذلك الأمر حتى تأكدتُ منه بوضوح بعد ذلك مباشرة.
ثم بعد عشر وبضع دقائق من ذلك، وبعد أن انتهيتُ من التنزه في إحدى الغابات، انفتح المنظر أمامي فجأة، واستطعت النظر إلى المكان بأكمله حتى خط الأفق البعيد، ودخلتُ بقدميّ وسط غابة حشائش السُهوب النابتة في المراعي البرية. ثم رقدت بجسمي تحت ظل شجرة قضبان أبيض بدأت أوراقها بالفعل في التلون باللون الأصفر كانت بجانبي. كان ذلك المكان هو نفسه الذي كنتُ أرقد عليه في أيام الصيف تلك، أتأملك وأنتِ ترسمين. في ذلك الوقت كانت غيوم متراكمة دائما ما تحجب أغلب منطقة خط الأفق، ولكن الآن تظهر بوضوح حواف سلسلة الجبال البعيدة التي لا أعرف موقعها وهي تفرق قمة حشائش السُهوب التي تهز أطراف سنابلها شديدة البياض.
وأثناء ما كنت أحدّق في سلسلة الجبال البعيدة تلك، مركزا كل قوتي في عينيّ لدرجة أنني كدتُ أحفظها جميعا، تدريجيا بدأتْ الطبيعة تجعل اليقين المؤكد الذي اكتشفته مؤخرا، ذلك اليقين الذي كان مختفيا داخل وعيي حتى الآن، اليقين الذي وصل إلى القمة يطفو واضحا على سطح وعيي. ...





الربيع

جاء شهر مارس. وفي ظهيرة أحد الأيام، زرتُ منزل سِتْسُكو متظاهرا أني مررت عليهم صدفة استغلالا لخروجي في نزهتي الدائمة التي بلا هدف. وقتها رأيت والدها عند منطقة الأشجار التي على جانب من الحديقة بعد البوابة مباشرة يرتدي قبعة من قش كبيرة التي يرتديها العمال في العادة ويمسك مقصا في إحدى يديه، ويقوم بتقليم وتنسيق أفرع الشجرة. وعندما رأيته بحالته تلك، أزحتُ أغصان الشجر مثل طفل صغير واقتربتُ منه، وبعد أن حييته بكلمة أو كلمتين، أخذتُ أتأمل ما يفعله وكأنني أرى شيئا نادرا. ... وبهذا الشكل بإدخال جسدي في وسط مرج الزرع، كان شيء ما أبيض يطلق شعاعا من وقت لآخر أعلى أفرع الأشجار هنا وهناك. كان جميع ذلك على ما يبدو براعم الزهور ...
فجأة نظر الأب إلى أعلى ناحيتي وتحدث عن سِتْسُكو التي كنت قد خطبتها وقتها لتوي قائلا: "على ما يبدو أن صحتها تحسّنت صحتها كثيرا مؤخرا. إن أصبحت أكثر مرحا من الآن أفكر في أن أنقلها لمكان آخر، ما رأيك؟"
قلتُ مغمغما: "ربما يكون ذلك أفضل ..." وأنا ما زلت مهتما بأحد البراعم التي تتلألأ منذ قليل أمام عيني.
استمر الأب في الحديث دون أن يأبه بي قائلا: "أننا نبحث عن مكان مناسب من فترة. ويبدو أن سِتْسُكو تفضل مصحة <ف>. وسمعت أنك تعرف مدير تلك المصحة هل هذا صحيح؟"
"أجل" قلتُ ذلك وأنا شاردا وأخيرا جذبتُ بيدي الفرع الذي يحمل البرعم الأبيض التي اكتشفته منذ قليل.
"ولكن تُرى هل تستطيع سِتْسُكو الذهاب إلى هناك بمفردها؟"
"يبدو أن الجميع يذهبون إلى هناك بمفردهم"
"ولكنها لا تستطيع الذهاب لوحدها، أليس كذلك؟"
قال الأب ذلك بملامح وجه متأزم ولكنه لم ينظر نحوي بوجهه، بل قص بالمقص فجأة أحد أغصان الشجرة الذي كان أمام عينه. وعندما رأيت ذلك فقدتُ في النهاية قدرتي على التحمّل ودون وعي مني أجريتُ فمي الكلمات التي لا يبدو أن الأب ينتظر غيرها.
"إذا كان الأمر كذلك هل لي أن أذهب معها؟ حيث أنني سأستطيع إنهاء العمل الذي أقوم به حاليا، حتى ذلك الوقت..."
وأنا أقول ذلك أخيرا تركتُ من يدي مرة أخرى فرع الشجر الملتصق به البرعم الذي كنت قد أمسكته بيدي لتوي. وفي نفس الوقت رأيت وجه الأب يصير مشرقا فجأة. "لو فعلتَ ذلك لنا سيكون أفضل الحلول. ... ولكن يجب أعتذر لك بشدة ..."
"لا مطلقا، بل ربما أمكنني العمل أفضل في وسط الجبل والهدوء"
بعد ذلك واصلنا الحديث معا عن تفاصيل المنطقة الجبلية التي تقع بها المصحة. ولكن تحول محتوى الحديث على حين غرة إلى نوع الأشجار التي يقوم بتقليمها الآن. وبدا أن نوعا من التعاطف الذي يشعر به أحدانا تجاه الآخر، هو الذي أشعل فتيل الحماس في ذلك الحوار الذي لا يتوقف. ...
وبعد فترة من الوقت سألتُه محاولا أن يكون سؤالا تلقائيا غير متعمد: "تُرى هل استيقظت سِتْسُكو من النوم؟"
قال الأب: "حسنا استيقظت. ... تفضل، لا مانع أن تدخل من هنا إلى هناك ..." ثم أشار باليد التي يمسك بها المقص إلى جهة باب الحديقة المؤدي لداخل البيت. تخطيت الزرع بصعوبة، ثم فتحتُ عنوة ذلك الباب لأن نبات اللبلاب كان مشتبكا به لدرجة جعلته صعب الفتح قليلا، ودلفتُ من الحديقة مقتربا من غرفة المريضة المنفصلة التي كانت تُستخدم حتى ذلك الوقت مرسما.
كانت سِتْسُكو على ما يبدو تعلم منذ وقت طويل بوصولي، ويبدو أنها لم تتوقع دخولي كما فعلت من باب الحديقة مباشرة بتلك الطريقة، كانت ترتدي المنامة وتضع لفاعا بلون فاتح فوق جسمها. ترقد على الأريكة وتعبث بقبعة نسائية ملصق بها أنشوطة رفيعة لم يسبق لي رؤيتها من قبل.
اقتربتُ أنا منها وأنا أنظر إلى هيئتها تلك من خلال الباب الفرنسي. ويبدو أنها عرفت أخيرا بدخولي. وبدون وعي حاولتْ أن تنهض من النوم. ولكنها ظلت كما هي راقدة على جنبها وأظهرت لي ابتسامة بها قليل من الحيرة ووجهها كما هو يتجه إليّ.
قلتُ لها وأنا أخلع حذائي عند باب الحديقة بشكل فوضوي: "أكنتِ مستيقظة؟"
"لقد حاولت النهوض قليلا ولكنني تعبتُ سريعا"
وهي تقول ذلك ألقت بالقبعة التي كانت تلهو بها بعشوائية فوق منضدة المرآة التي بجوارها مباشرة بحركة يد ضعيفة توضح إلى أي مدى هي في غاية الإرهاق. ولكن لم تصل القبعة إلى ذلك المكان ووقعت فوق الأرض. اقتربتُ من تلك القبعة وانحنيت حتى كاد وجهي أن يلتصق بقدمها تقريبا والتقطتُ القبعة وهذه المرة أخذتُ ألهو بها بيدي كما كانت تفعل هي منذ قليل.
وبعد ذلك سألتُها أخيرا:
"لماذا أخرجتِ فجأة هذه القبعة وماذا كنتِ تفعلين بها؟"
"هذه القبعة! أتعلم! إن والدي اشتراها لي بالأمس رغم أنني لا أعلم متى يمكن أن أرتديها. ... ألا ترى أنه والد غريب الأطوار؟"
"هل هذه من اختيار الوالد؟ إنه حقا والد رائع. ... أريها لي! هل يمكن أن ترتديها لبرهة؟" وحاولتُ مازحا أن أضع القبعة على رأسها.
قالت: "لا! لا أريد ..."
ولكي تتفادى القبعة نهضت منزعجة بنصف جسدها الأعلى. أظهرت ابتسامة تنم على الضعف وهي تقول تلك الحجة، ثم بدأت في إصلاح شعرها الذي تشعّث وكأنها تذكرت فجأة، بيدها التي تبرز نحافتها الشديدة واضحة، ومع ذلك كانت حركة يدها تلقائية تدل على أنها فتاة صغيرة. ولقد جعلتني حركة اليد التي تبدو تلقائيا حركة يد فتاة ومع ذلك بلا أي تكلّف، أشعرُ بجاذبية شاعرية لدرجة أن تهتاج أنفاسي وكأنها بدأت في مداعبتي بتلك الحركة. وهكذا لم أستطع وقتها إلا أن أبعد نظري عنها بلا وعي ...
وأخيرا عندما وضعتُ بهدوء القبعة التي كنتُ ألهو بها بيدي حتى ذلك الوقت، فوق منضدة المرآة التي توجد على الجنب، صمتُ فجأة وكأنني بدأت أفكر في أمر ما، وكذلك ظللتُ أتلافى النظر إليها وهي على ذلك الحال.
سألتني فجأة: "هل غضبتَ؟"
وهي تنظر إلى أعلى تجاه وجهي ويبدو عليها مراعاة مشاعري.
قلتُ وأنا أنظر ناحيتها أخيرا: "لا ليس الأمر كذلك" وبعد ذلك بدون استكمال الحديث أو أي شيء آخر، قلت فجأة ما يلي: "هل حقا تنوين الذهاب إلى المصحة؟ لقد قال والدك ذلك لي منذ قليل"
"أجل. فمهما بقيت على حالتي تلك لن أعرف متى يأتي الشفاء. أنا مستعدة للذهاب إلى أي مكان إن كانت صحتي ستتحسن سريعا. ولكن ..."
"ماذا حدث؟ ماذا كنتِ تنوين قوله؟"
"لا شيء. لا عليك"
"حتى لو كان لا شيء جربي أن تقوليه لي. ... لن تقولي مهما حدث، أليس كذلك؟ حسنا هل أقوله أنا لكِ؟ أنت كنت تريدين القول تعال معي، أليس كذلك؟"
"لا ليس كذلك" ثم قامت فجأة بمحاولة مقاطعة كلامي.
ولكني لم أبالِ بذلك وبنبرة تختلف عن البداية، وأكملت قولي بشكل يبدو قلقا نوعا ما وبدأت تدريجيا أصير أكثر جدية.
"... لا، حتى لو قلتِ لي لا تذهب فأنا مع ذلك سأذهب معكِ. ولكن لقد شعرت قليلا بذلك، وقلقت من ذلك. ... قبل أن نكون هكذا معا، كنتُ أحلم بالذهاب والعيش مع فتاة لطيفة وظريفة نحن الاثنان بمفردنا في جبل موحش ومهجور نوعا ما. تُرى ألم يسبق لي أن قلتُ لك هذا الحلم من قبل؟ هل تتذكرين حديثنا في ذلك الكوخ الجبلي، عندما قلت ألا يمكن أن نعيش معا وسط هذا الجبل؟ ألا تتذكرين؟ وقتها ضحكتِ في براءة طفولية. ... في الواقع سبب قولي إنني سأذهب معكِ إلى المصحة، أنني أعتقد أن ذلك سيجعل قلبك يتأثر تدريجيا بلا وعي ولا معرفة. ... أليس الأمر كذلك؟"
كانت تسمع إلى ذلك صامتة وهي تبذل جهدا في البقاء مبتسمة، وقالت بحزم:
"أنا لا أتذكر أي شيء من ذلك"
ثم بعد ذلك كانت على العكس تنظر هي لي بنظرات مشفقة وهي تقول:
"أنت مؤخرا تفكر في أمور مستحيلة تماما ..."
وبعد مرور دقائق، رجعت ملامحنا وكأنه لم تكن بيننا أي شيء، وظهر سديم الحرارة هنا وهناك بعد أن صارت الحشائش بالفعل خضراء للغاية خلف الباب ذي المصراعين، فأخذنا نتأملها معا بتعجب.


الثلاثاء، 1 يناير 2019

آخر صفحة من الفصل الأول من رواية كافكا على الشاطئ بترجمة مباشرة من اللغة اليابانية


بدأت أمطار شديدة تهطل فجأة قبل منتصف الليل. كنتُ أحيانا أستيقظ وأتأمل منظر الطريق السريع في الليل من بين ستائر الباص الرخيصة. تضرب قطرات المطر زجاج النافذة بعنف مصدرة صوتا، جاعلة أضواء أعمدة النور المتراصة على طول الطريق تبرز. تستمر أعمدة الإضاءة إلى ما لا نهاية محتفظة بمسافة موحدة بين بعضها البعض وكأنها مسطرة تقيس العالم بأكمله. يدخل شعاع ضوء جديد وفي اللحظة التالية يصبح شعاعا قديما ويرحل مغادرا خلف ظهري. وعندما انتبهت كانت الساعة قد تخطت الثانية عشرة بعد منتصف الليل. أي جاء يوم عيد ميلادي الخامس عشر وكأنه يُدفع به للأمام دفعا آليا.
قال الفتى الذي يُدعى كاراسو: "عيد ميلاد سعيد"
قلتُ: "شكرا"
لقد أصبحت النبوءة ظلا يلازمني حيث أكون. تأكدتُ من أن الحائط الذي بنيته حولي لم ينهار بعد، فأغلقت ستائر النافذة ونمت مجددا.





الاثنين، 31 ديسمبر 2018

نافذة السماء لفرقة: رادويمبس


نافذة السماء
Sora mado
لفرقة: رادويمبس
RADWIMPS
كلمات ولحن وغناء: يوجيرو نودا

Are kara omae wa dou shite iru ka
كيف حالكِ؟ منذ ذلك الحين
Minarenu keshiki wa mou nareta ka
هل تعوّدتِ على المكان الجديد؟
Ore wa ore de sa are hodo kikinarenakatta
Hazu no kotoba ga mou ita ni tsuita yo
أما عن نفسي، فقد تعوّدت تماما على اللهجة الجديدة
التي لم أكن أألفها مطلقا
Ano toki no bokura wa nani mo wakarazu
 oyaji ga iu mama ie wo deta nda
لقد تركنا البيت وقتها دون أن ندري شيئا
بناء على أمر أبي وأبيك
Futsuka ka mitsuka de sugu kaereru mono to
 bakari omotteta ano hi kara nananen
وكنا نعتقد أننا سنعود
خلال يومين أو ثلاثة فقط
ولكن مرت 7 سنوات
Kenka shita mama wakareta tomo ya ie wo deta kiri kaeranu ani ya
Ienai mama no arigatou, gomen ga chuuburarin no mama kyou made kita yo
صديقي الذي افترقت معه ونحن على خلاف
وأخي الأكبر الذي ترك البيت ولم يرجع
لم أستطع أن أقول لهما "أسف" و"شكرا" حتى اليوم
Toki ga bokura wo ookiku suru kedo toki wa
إن الزمن يجعلنا نكبر
bokura wo ano basho kara toozakeru
إن الزمن يبعدنا أكثر عن مدينتنا
Bokura no furusato wa ima demo sa bokura wo mattete kureteru darou ka
تُرى هل تنتظر مدينتنا عودتنا حتى الآن؟
Atarashii tomo to atarashii machi de atarashii tadaima wo ima wa itteru yo
أقول "لقد عدت" جديدة في مدينة جديدة لأصدقاء جدد
Sabishisa, ureshisa to hon no sukoshi no ushirometasa to issho ni ikiteru yo
أعيش في وحدة وفرح وقليل من الإحساس بالذنب
Kaeritai ka to kikarete mo sugu kotaerarenai boku ga iru yo
أنا الذي لا أستطيع الإجابة على الفور على سؤال: "هل تريد العودة؟"
Kaeritai no wa ano basho yori ka ano hito to ano toki ni kaeritai dake
أريد العودة فقط إلى ذلك الزمان الذي أقضيه مع من رحل أكثر من العودة إلى المكان
Sayonara wo chanto ieru wakare wa shiawase nano kamo nante omotta yo
لقد أصبحت أعتقد أن الفراق بعد قول "وداعا" ربما تكون هي السعادة
Boku wa douyara tsuyoku natta
يبدو أنني أصبحت قويا
tsuyosa ga nani ka wa yoku shiranai kedo
رغم عدم معرفتي جيدا ما هي القوة
Ano toki douyara namida wa nagashi kitta
يبدو أنني ذرفت كل دموعي وقتها
Toki ga bokura wo ookiku suru kedo
 إن الزمن يجعلنا نكبر
toki wa bokura wo ano basho kara toozakeru
إن الزمن يبعدنا أكثر عن مدينتنا
Boku wa douyara tsuyoku natta
يبدو أنني أصبحت قويا
 yowasa ga nani ka wa shiranai kedo
رغم عدم معرفتي جيدا ما هو الضعف
Kokoro no futashikata wo shitta dake kamo
عرفت فقط كيف أضع غطاء على قلبي
demo sou demo shinai to yatte korenakatta
ولكني لم أكن لأنجح لو لم أفعل ذلك
Dakedo kyou dake wa kono futa wo akete
ولكنني الآن أفتح ذلك الغطاء
anata ni ai ni iku
وأذهب للقائك


空窓

RADWIMPS
作曲野田洋次郎
作詞野田洋次郎
歌詞
あれからお前は どうしているか
見慣れぬ景色は もう慣れたか
俺は俺でさ あれほど聞き馴れなかった
はずの言葉が もう板についたよ
あの時の僕らは何も分からず
親父が言うまま 家を出たんだ
2日か3日ですぐ帰れるものと
ばかり思ってた あの日から7年
ケンカしたまま別れた友や
家を出たきり帰らぬ兄や
言えないままの ありがとう、
ごめんが宙ぶらりんのまま今日まで来たよ
時が僕らを大きくするけど
時は僕らをあの場所から遠ざける
僕らの故郷は今でもさ
僕らを待っててくれてるだろうか
新しい友と新しい街で
新しいただいまを今は言ってるよ
寂しさ、嬉しさと ほんの少しの
後ろめたさと 一緒に生きてるよ
帰りたいかと聞かれても
すぐ答えられない 僕がいるよ
帰りたいのは あの場所よりか
あの人とあの時に 帰りたいだけ
さよならをちゃんと 言える別れは
幸せなのかも なんて思ったよ
僕はどうやら 強くなった
強さが何かは よく知らないけど
あの時 どうやら 涙は流し切った
時が僕らを 大きくするけど
時は僕らを あの場所から遠ざける
僕はどうやら 強くなった
弱さが何かは 知らないけど
心の蓋仕方を知っただけかも
でもそうでもしないと やってこれなかった
だけど今日だけはこの蓋を
開けてあなたに 会いに行く


السبت، 15 ديسمبر 2018

الفصل التمهيدي من رواية كافكا على الشاطئ تأليف: هاروكي موراكامي ترجمة من اليابانية مباشرة: ميسرة عفيفي


فتى يُدعى كاراسو[1]
هاروكي موراكامي

ترجمة: ميسرة عفيفي

يقول الفتى الذي يُدعى كاراسو بنبرة حديثه البطيئة جدا كالمعتاد: "وبعد، استطعتَ بشكل ما تدبير أمر المال، أليس كذلك؟" وكأنه استيقظ لتوه من نوم عميق وعضلات فمه ثقيلة فلا يستطيع تحريكها بمهارة. ولكن كان ذلك تظاهرا منه، فهو في الواقع في كامل تيقظه ووعيه. كما هو دائما.
أومئ.
"كم تقريبا؟"
تأكدتُ من الرقم داخل رأسي مرة أخرى ثم أجبت: "أربعمئة ألف ينا نقدا. وغير ذلك كمية مدخرات قليلة في البنك يمكن سحبها بالبطاقة. بالتأكيد لا يمكن القول إنه كافي، ولكن يمكنني تدبير أمري به مؤقتا"
يقول الفتى الذي يُدعى كاراسو: "ليس سيئا. مؤقتا طبعا"
أومئ.
يقول: "ولكن على ما يبدو أن ذلك المال لم يعطه لك بابا نويل في عيد ميلاد المسيح العام الماضي، أليس كذلك؟"
أقول له: "بلى، الأمر مختلف"
يدور الفتى الذي يُدعى كاراسو ببصره في المكان لاويا شفتيه خفيفا في سخرية ثم يقول: "أعتقد أن مصدر المال درج من أدراج هذه الغرفة يملكه شخص ما، أليس كذلك؟"
لا أجيب. فمن المؤكد أنه يعرف من البداية مصدر هذا المال. وليس في حاجة أن يسأل أسئلته الملتوية تلك. إنه فقط يريد السخرية مني بطريقة سؤاله تلك.
يقول الفتى الذي يُدعى كاراسو: "حسنا لا عليك، فأنت على أي حال في حاجة لذلك المال. حاجة ملحة جدا. ثم ها أنت تحصل عليه. بغض النظر عن طريقة الحصول عليه ... سواء استلفته أو اقترضته في صمت أو سرقته. فهو في كل الأحوال مال أبيك. سيكون هذا المبلغ كافيا لكي تدبر أمرك مؤقتا فقط. ولكن، ماذا تنوي عندما تستهلك مبلغ الأربعمئة ألف ينا هذا كله؟ فعلى ما أعرف، المال الذي تضعه في حافظة أموالك من المستحيل أن يزيد من تلقاء نفسه مثل الفطريات التي في الغابات. وأنت في حاجة إلى المأكل والمسكن. وسيأتي وقت ينتهي فيه المال"
أقول: "سأفكر في ذلك في حينه"
يكرر الفتى الذي يُدعى كاراسو كلماتي كما هي وكأنه يضعها على راحة يده ويزن ثقلها: "ستفكر في ذلك في حينه"
أومئ.
"أن تعثر على عمل مثلا؟"
أقول: "ربما"
يهز الفتى الذي يُدعى كاراسو رأسه. "اسمع. يجب عليك معرفة الحياة أكثر من ذلك. وإلا فقل لي: ما نوع ذلك العمل الذي تعتقد أن يعثر عليه طفل في الخامسة عشرة من عمره في أرض بعيدة لا يعرف عنها شيئا؟ فأنت حتى لم تنتهِ من تعليمك الإلزامي بعد. من ذا الذي يوظّف إنسانا في ظروفك؟"
يتوّرد خداي قليلا. إن خديّ سريعا التوّرد.
يقول الفتى الذي يُدعى كاراسو: "حسنا لا عليك، فلم يبدأ شيء بعد. ولا فائدة من رص الأمور السوداء فقط أمام عينيك. فأنت قد حسمت قرارك. ويتبقى فقط الانتقال إلى التنفيذ. وبشكل أساسي ليس بوسعنا إلا فعل ما تريده"
أجل، فمهما كان الأمر، إن هذه هي حياتي أنا.
"ولكن يجب عليك من الآن فصاعدا أن تصبح شديد القوة"
أقول: "أبذل جهدي"
يقول الفتى الذي يُدعى كاراسو: "هذا مؤكد. لقد أصبحت قويا جدا خلال الأعوام القليلة الماضية. وما أقوله ليس معناه عدم اعترافي بذلك"
أومئ.
يقول الفتى الذي يُدعى كاراسو: "ولكن مهما قلنا فأنت لا تزال في الخامسة عشرة من العمر، وحياتك – إن قلنا بمنتهى التحفظ – قد بدأت لتوها. إن العالم يمتلئ بالعديد من الأشياء التي لم يسبق لك رؤيتها من قبل. أشياء لا يمكن لك الآن حتى أن تتخيلها"
كنا نجلس متجاورين فوق الأريكة الجلدية القديمة في غرفة مكتب أبي كما نفعل دائما. إن الفتى الذي يُدعى كاراسو معجب بهذا المكان. إنه يحب جدا تفاصيل جميع الأشياء الموجودة هنا. إنه يلعب الآن داخل راحت يده بثقالة أوراق زجاجية على شكل نحلة. بالتأكيد نحن لا نقترب من هنا عندما يكون أبي في البيت.
أقول: "ولكن مهما حدث يجب عليَّ أن أغادر هذا البيت. وهذا قرار لن يحركه شيء"
يوافقني الفتى الذي يُدعى كاراسو على رأيي بالقول: "ربما كان ذلك صحيحا" ثم يضع ثقالة الأوراق على المكتب ويشبك يديه خلف رأسه. ويضيف: "ولكن لن يحل ذلك كل شيء. يبدو وكأنني مرة أخرى أُلقي بماء بارد على حماسك، ولكنك مهما ذهبت بعيدا، فلن نعرف أستستطيع من الهرب من هذا المكان أم لا؟ وأشعر أننا من الأفضل ألا نأمل كثيرا في أشياء مثل المسافات البعيدة"
أفكر مرة ثانية في المسافات. يتنهد الفتى الذي يُدعى كاراسو تنهيدة واحدة، ثم يضغط ببطن أنامله على جفنيه. ثم يغمض عينيه ويستمر في الحديث إليَّ من أعماق ذلك الظلام الحالك.
يقول: "لنلعب لعبتنا الدائمة"
أقول: "لا مانع" ثم أغمض أنا أيضا عينيّ مثله وآخذ نفسا عميقا في هدوء.
يقول: "هل أنت مستعد؟ تخيّل عاصفة رملية شديدة العنف والقسوة. وانس كل ما عداها"
أتخيّلُ كما قيل لي، عاصفة رملية شديدة العنف والقسوة. وأنسى تماما كل ما عداها. أنسى حتى نفسي ذاتها. أصبحُ أنا نفسي فراغ. ثم تبرز الأشياء على الفور في ذهني. ومثلما نفعل دائما أنا والفتى، نتشارك تلك الأشياء معنا فوق المقعد الجلدي الطويل القديم في غرفة مكتب أبي.
يتحدث الفتى الذي يُدعى كاراسو إليّ قائلا: "في بعض الحالات يصبح ما يُسمى القدر مشابها لعاصفة رملية محلية تتقدم في طريقها وهي لا تتوقف عن تغيير اتجاهاتها"

في بعض الحالات يصبح ما يُسمى القدر مشابها لعاصفة رملية محلية تتقدم في طريقها وهي لا تتوقف عن تغيير اتجاهها. فتغيّر أنت أيضا اتجاه خطواتك في محاولة لتفاديها. وعندها تغير العاصفة اتجاهها لتلاحقك. فتغير أنت اتجاهك مرة ثانية. وعند ذلك أيضا تغير العاصفة بالمثل من اتجاهها. يتكرر ذلك مرات ومرات، وكأنه مثل رقصة مشؤومة مع إله الموت في الفجر. والسبب أن تلك العاصفة ليست شيئا أتى من مكان بعيد بدون أن يكون له علاقة بك. بمعنى إنها هي أنت ذاتك. إنها كل ما داخلك. ولكن إنْ بحثنا عن شيء تستطيع أن تفعله، فهو فقط أن تيأس وتغوص داخل العاصفة مباشرة وتغلق عينيك وأذنيك جيدا حتى لا تدخلها الرمال ثم تخترق تلك العاصفة وتمر خلالها خطوة بعد خطوة. فعلى الأرجح أن داخلها ليس به شمس ولا قمر ولا اتجاهات، وفي بعض الحالات ليس بها حتى الزمن نفسه. إن ما داخلها هو فقط رمال دقيقة ناصعة البياض تشبه مسحوق عظام طُحنت، ترقص متطايرة وهي ترتفع في الهواء. يجب عليك أن تتخيّل عاصفة رملية بهذا الوصف.

أتخيّلُ عاصفة رملية بذلك الوصف. ترتفع دوامة بيضاء في اتجاه السماء مباشرة وكأنها حبل غليظ. أسدُّ عينيّ وأذنيّ بإحكام بكلتا يديّ. لكيلا تدخل تلك الرمال الدقيقة إلى جسمي. تقترب تلك العاصفة الرملية باطراد مستهدفة مكاني. يستطيع جلدي أن يشعر من بعيد بضغط الرياح ذلك. إنها الآن بالضبط على وشك أن تبتلعني.
في النهاية يضع الفتى الذي يُدعى كاراسو يده برفق فوق كتفي. وعندها تختفي العاصفة الرملية. ولكنني أظل مغمض العينين كما أنا.
"يجب عليك من الآن أن تصبح أقوى فتى في الخامسة عشرة من عمره في العالم. مهما حدث ومهما كان. لأنه ليس أمامك طريق أخرى لكي تستطيع الاستمرار حيا في هذا العالم غير هذه الطريق. ثم من أجل ذلك، يجب أن تدرك أنت نفسك، أأنت قوي حقيقة أم لا؟ هل تفهم؟"
أظل صامتا فقط. وتأتني رغبة في النعاس ببطء كما أنا بحالتي تلك وأنا أشعر بيد الفتى فوق كتفي. يصل إلى إذني صوت خافت لرفرفة أجنحة.
يكرر الفتى الذي يُدعى كاراسو بهدوء داخل أذني أنا الذي على وشك النعاس: "ستصبح من الآن أقوى فتى في الخامسة عشرة من عمره في العالم" وكأنه ينقش تلك الكلمات بخط أزرق غامق في قلبي كالوشم.

ثم بعد ذلك بالطبع ستستطيع أن تخترقها بالفعل. تخترق تلك العاصفة الرملية العنيفة. تخترق تلك العاصفة الرملية الميتافيزيقية الرمزية. ولكنها مع كونها ميتافيزيقية ورمزية إلا أنها في نفس الوقت تشق اللحم وتقطعه بحدة مثل ألف شفرة من المواسي. إن أناس عديدين نزفوا هناك الكثير من الدماء، وعلى الأرجح أنت شخصيا ستنزف دماءك. دماء حمراء حارة. وعلى الأرجح أنك ستتلقى في يديك تلك الدماء. إنها دماؤك وكذلك دماء الآخرين.
ثم عندما تنتهي تلك العاصفة الرملية، يُفترض أنك لن تعرف مطلقا كيف استطعت اختراقها وكيف استطعت البقاء بعدها على قيد الحياة. كلا بل ويُفترض كذلك أنك لن تكون متأكدا أرحلت تلك العاصفة وانتهت بالفعل أم لا؟ ولكن سيكون هناك أمر واحد فقط في منتهى الوضوح. هو أنك حين خرجت من تلك العاصفة، لم تكن الشخص نفسه الذي دخلها. أجل، إن هذا هو معنى العاصفة.

عندما يأتي عيد ميلادي الخامس عشر، أهرب من البيت، وأذهب إلى مدينة بعيدة لا أعرفها وأقيم في ركن من مكتبة عامة صغيرة.
بالطبع إن تحدثتُ بالتفصيل متتبعا الأحداث بترتيبها، على الأرجح أستطيع الاستمرار في الحديث على مدى أسبوع كامل. ولكن إن ذكرت فقط النقاط الهامة فهذا هو ما حدث. عندما أتي عيد ميلادي الخامس عشر، هربت من البيت، وذهبت إلى مدينة بعيدة لا أعرفها وأقمت في ركن من مكتبة عامة صغيرة.
ربما يُسمع ذلك وكأنه حكاية قبل النوم للأطفال. ولكنها ليست حكاية للأطفال. ليست كذلك بأي معنى من المعاني.



[1] كاراسو باللغة اليابانية تعني غرابا. ويُذكر أن اسم كافكا أيضا يعني غرابا باللغة التشيكية اللغة الأم لعائلة فرانز كافكا / المترجم

الأحد، 4 نوفمبر 2018

في مديح الظل - جونئتشيرو تانيزاكي



مديح الظل
جونئتشيرو تانيزاكي
(الفصل الأخير)
ترجمة ميسرة عفيفي



قرأتُ منذ فترة مضت، في جريدة أو مجلة ما، مقالة تشكو فيها العجائز الإنجليزيات أنه مع أنهن كُن في الماضي يعظمّن كبار السن ويحترمنهن، إلا أن الفتيات الشابات الآن لا يُبدين تجاه كبار السن أي اهتمام، بل وكبار السن بالنسبة لهن شيء قذر لا يقربن منهن، وتتباكى العجائز من الاختلاف بين الشباب في الماضي والحاضر. ولقد تأثرتُ إذ عرفت أن كبار السن يشكون نفس الشكوى في كل الدول بلا استثناء. وعلى ما يبدو أن الإنسان مع تقدمه في العمر، يظن واهما أن الماضي أفضل من الحاضر بلا استثناء. وعلى هذا فالعجوز الذي كان يعيش قبل مئة عام، يشتاق إلى الحياة قبل مئتي عام، والعجوز الذي كان يعيش قبل مئتي عام يشتاق إلى الحياة قبل ثلاثمئة عام، ولا يرضى أحد في أي عصر بعصره الذي يعيش فيه، ولكن علاوة سرعة تقدم الحضارة فبلدنا حالة خاصة جدا حيث أن التحولات التي حدثت فجأة منذ ثورة ميجي تساوي تطور ثلاثة أو خمسة قرون على الأقل من العهود الماضية.
والطريف أنني أنا الذي أقول ذلك قد بلغتُ عمرا سأبدو فيه أنني أقلّد كلام كبار السن، ولكن من المؤكد أن المنشآت الثقافية في العصر الحالي تتملق الشباب خاصة وتصنع تدريجيا عصرا غير رحيم بكبار السن. والمثال الأسرع على ذلك أن كبار السن لا يستطيعون الخروج من بيوتهم مطمئنين بعد أصبح عبور تقاطعات الطرق يتم بأمر من إشارات المرور.
لا ضير لمن يتجول في الطرق باستخدام سيارة، ولكن شخص مثلي عندما أذهب أحيانا إلى مدينة أوساكا فإن مجرد عبوري من هذه الجهة من الطريق إلى الجهة الأخرى يتطلب استنفار جميع أعصاب جسمي. بعد أن تم وضع إشارات: انطلق أو قف، سهل رؤية الإشارات التي توجد في منتصف مفترق الطريق ولكن أحيانا يصعُب اكتشاف مكان الإشارات الكهربائية الخضراء والحمراء التي تضيء وتنطفئ في السماء في جانب لا يمكن توقعه، وأحيانا نخطئ في مفترق طريق واسع بين الإشارة الجانبية والإشارة المقابلة. لقد اعتقدتُ ذلك بالفعل عندما أصبح من الضروري وقوف شرطي المرور في طرق كيوتو، فلم يعد يمكننا اليوم الاستمتاع بالمناظر اليابانية العريقة إلا إذا ذهبنا إلى مدن في حجم نيشينوميا أو ساكاي أو واكاياما أو فوكوياما.
في الطعام أيضا، إن كبار السن يجدون مشقة بالغة في العثور على طعام يتناسب ذائقتهم في المدن الكبرى. منذ فترة جاء إليّ أحد الصحفيين وطلب مني الحديث عن طعام لذيذ وغريب في نفس الوقت، فتحدثتُ عن طريقة صنع السوشي بورق الكاكا الذي يـأكله أهالي قرية جبلية نائية في يوشينو. وسأنتهز هذه الفرصة لأعرض لكم تلك الطريقة هنا. يتم سلق أرز مع مشروب الساكي بنسبة واحد إلى عشرة، ليكن كيلوجرام ونصف أرز مع 150 جرام ساكي. ويتم وضع الساكي بعد أن يغلي القدر. حسنا بعد أن يستوي الأرز يُترك حتى يبرد تماما ثم يتم تشكيله باليدين على شكل السوشي بعد أن ينثر الملح على اليدين. وفي هذه الحالة يجب ألا تكون اليدين بهما أي أثر للماء. سر الصنعة هو الاعتماد على الملح فقط أثناء تشكيل أرز السوشي. بعد ذلك نقطّع السلمون المملح إلى شرائح رقيقة، ونضعها فوق أرز السوشي، ثم نغلفها بورق الكاكا على أن نجعل ظهر الورقة للخارج. واستعدادا لذلك نكون قد مسحنا أوراق الكاكا والسلمون بقطعة قماش جافة لإزالة الماء تماما منهما. يوضع ذلك في صحن السوشي الخاص به أو علبة الأرز بعد تجفيفها بدقة من الداخل وعدم السماح بأي فراغات بين السوشي ووضع غطاء محكم فوقها ثم إضافة الحجر الثقيل الذي يستخدم في ضغط المخللات. إذا صنعت السوشي في المساء يصبح جاهزا للأكل في الصباح التالي، ويكون أجود مذاق طوال ذلك اليوم ويكون صالح للأكل على مدى يومين أو ثلاثة أيام. وعند أكله يُرش عليه خل مصنوع من أوراق نبات فلفل الماء.
لقد علمني هذه الطريقة أحد الأصدقاء كان قد ذهب إلى يوشينو للسياحة ومن شدة إعجابه بهذا الطعام اللذيذ تعلمه طريقة إعداده ثم نقلها لي، وهو طعام يمكن طبخه في أي مكان ما دام توجد أشجار الكاكا والسلمون المملح. إذا كان أهم شيء هو ضرورة عدم نسيان إزالة الماء والرطوبة تماما وأن يُبرّد الأرز وعندما جربتُ صنعه في بيتي اقتنعتُ بأنه لذيذ الطعم. فزيت السلمون وملحه يتغلغلان إلى الأرز بدرجة رائعة، وعلى العكس يعود السلمون طريا وكأنه طازجا بشكل لا يوصف. ويختلف طعمه تماما عن سوشي مطاعم طوكيو، ولقد قضيتُ هذا الصيف لا أتناول إلا هذه الوجبة لما كانت تناسب ذائقتي تماما. ورغم ذلك يا لها من طريقة لتناول السلمون المملح! لقد انبهرتُ من سكان تلك القرية الجبلية لاختراعهم تلك الوجبة رغم فقر الموارد لديهم. ولكن عند البحث عن مثل تلك الوجبات المحلية المتنوعة نجد أن من المؤكد أن سكان الأرياف في العصر الحالي لديهم حاسة ذوق أفضل من سكان المدن وأنهم بمعنى من المعاني يتمتعون برفاهية لا يمكن تخيلها. ولهذا يتخلى كبار السن عن المدن أكثر وأكثر، ويتجهون لحياة العزلة في الأرياف، ولكن حتى مدن الأرياف وصلت إليها أعمدة المصابيح الكهربائية التي على شكل الزنبق، ومع مرور السنين أصبحت تشبه كيوتو مما لا يدعو للاطمئنان مطلقا. توجد نظرية تقول إن الحضارة ستقفز خطوات جبارة وعندها ستكون وسائل المواصلات في الجو وفي أنفاق تحت الأرض، وبالتالي ستعود طرقات المدن إلى سابق عهدها من الهدوء، ولكن نحن نعرف أنه في ذلك العصر ستتولد بالتأكيد وسائل جديدة لمضايقة كبار السن. ولذا سيكون الوضع هو أنهم يضطرون كبار السن إلى الانسحاب من الحياة العامة، ولا يجدون أمامهم مكان إلا التقوقع في بيوتهم يستمعون إلى المذياع وهم يشربون الساكي مع النَقْل من طعام من عمل يدهم.
عندما نعتقد أن كبار السن فقط هم من يتبرمون بهذا الشكل، ولكن ليس الأمر كذلك على الإطلاق، فمؤخرا سخرت جريدة أساهي طبعة أوساكا في عامودها الخاص بالتعليق على الأحداث اليومية بعنوان "صوت السماء بكلمات بشرية"، سخرت من تقطيع بلدية المحافظة لأشجار الغابات بعشوائية من أجل إنشاء طريق للسيارات في حدائق مينوو وبالتالي تتقلص مساحة الغابات الجبلية. وعندما قرأتُ أنا ذلك أحسستُ بقليل من الثقة في كلامي. إن خطف الظلام الذي يوجد تحت ظل الأشجار في عمق الجبال، أمر مجنون عديم الرحمة. ومع استمرار هذه الوتيرة فحتى كل الأماكن المشهورة في نارا وحتى ضواحي كيوتو وأوساكا ستصبح مناطق قاحلة مقابل أن تصبح أماكن لها شعبية.
ولكن في النهاية يعتبر هذا أيضا أحد أنواع التبرم والشكوى، وحتى بالنسبة لي فأنا عالم وممتن بشدة لما للعصر الحالي من أفضال، ومهما قلنا الآن من آراء فطالما بدأت اليابان بالفعل الخطو في خط محاذي للثقافة الغربية، فليس باليد حيلة إلا التقدم بشجاعة للإمام تاركين كبار السن وراء ظهورنا. ولكن ما لم يتغير لون بشرتنا، فليس أمامنا إلا أن نستعد لحمل عبء الخسارة المفروضة علينا نحن فقط إلى الأبد.
ومع ذلك فهدفي من كتابة هذا الكلام، لأنني أعتقد أنه يجب البقاء على طريق يعوض تلك الخسارة في أي منحى من مناحي الحياة وليكن هذا المنحى مثلا الآداب والفنون. أنا أريد استدعاء عالم الظل الذي نفقده حاليا بالتدريج ولو في نطاق الأدب. أريد أن أمدد إفريز المبنى العملاق الذي يسمى الأدب، وأجعل حائطه معتم وأدفع إلى الظلام الأمور التي تُرى بوضوح زائد على الحد، وأزيل من داخل حجراته أية زينة لا لزوم لها. لا أطلب أن تكون كل المباني هكذا، ولكن من الأفضل أن يوجد ولو مبنى واحد فقط بهذا الشكل. حسنا كيف سيكون الوضع؟ جرب أن تطفئ المصباح الكهربائي.