بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 22 يونيو 2021

ملخص الحقول الذابلة تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

 

ملخص الحقول الذابلة

 

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

«دعا باشو، جوسو وكيوراي، وتحدّث إليهما عن الأرق الذي أصابه ليلة أمس بسبب فكرة طارئة، فنادى على دونشو وأملاها عليه، وطلب من الجميع أن يقرأها:

مريض في ترحالي، فأسرعت أحلامي، تجول في الحقول الذابلة»

يوميات محل بيع الزهور

 

عصر اليوم الثاني عشر من الشهر العاشر في العام السابع من عصر غِنروكو. أغرت السماء التي احترقت لوقت قليل بوهج الصباح، عيني تاجر أوساكا بالنظر إلى الجهة الأخرى من سطح القرميد البعيد مظنة أن المطر سيهطل كما هطل أمس هطولاً متقطعاً، ولكن لحسن الحظ ما من أمطار لدرجة انبعاث دخان من أغصان شجر الصفصاف التي تهتز أوراقها. ومع الغيوم أضحت السماء أخيراً منيرة إنارة خافتة فغدا الظهر شتائيّاً هادئاً. حتى مياه النهر الذي ينساب انسياباً عادياً بين بيوت المدينة المتراصة جنباً إلى جنب، أطفأت لمعانها اليوم بغموض، مما يجعلك تظن أن لونَ نفايات البصل الأخضر الطافية في تلك المياه بارد. ناهيك عن شرود ذهن المارين على الضفة وهم يضعون غطاءً على رؤوسهم، ويلبسون حذاءً جلديّاً، وكأنهم جميعا في غمرة نسيان هبوب رياح الشتاء الباردة. ألوان ستائر المحلات، وحركة مرور العربات، وصوت آلة الشاميسن الآتية من مسرح العرائس البعيد، كل ذلك يحمي في سكون ظهيرة يوم شتائي هادئ وخافت الإضاءة لدرجة لا تحرك تراب المدينة المتراكم فوق زينة الجسر. ...

في ذلك الوقت، في الغرفة الخلفية لمحل بيع الزهور نيزائمون في حي كيوتارو الجنوبي لبلدة ميدوماى، كان باشو ماتسوو الذي يُبجل بصفته المعلم الأكبر لشعر الهايكو، يحتضر في هدوء «كنارٍ تبرد تحت الرماد» بعد حياة بلغت أحداً وخمسين عاماً، محاطاً برعاية تلاميذه الذين تجمعوا من كل أنحاء البلاد. يقترب الوقت من الساعة الرابعة عصراً. أُزيلت الحواجز والأبواب التي بين الغرف فاتسعت الغرفة اتساعاً بالغاً ليرتفع بخور عطري حُرق لتوه عند الوسادة في خيط رفيع. وتحجز الأبواب الورقية الجديدة الشتاء عند حافة الحديقة، ولكن ظلال لونها تخلق ظلاماً يجعل البرودة تخترق العظام. رقد باشو في وحدة تامة ووسادته في اتجاه ذلك الباب الورقي، ويحيط به: أولاً الطبيب موكوستسو، الذي وضع يده تحت الغطاء ليجس نبضه المضطرب بجبين مقضّب. ولا شك أن من يجلس خلفه منكمشاً وما ينفك يسبّح باسم بوذا في صوت خافت، هو الخادم العجوز جيروبيه الذي جاء معه خصيصاً من مدينة إيغا. وهنا أيضاً لا تخطئ العين كيكاكو الذي يجلس بجوار موكوستسو بجسده البدين المتين وقد انتفخ جيب الكيمونو الحريري بسخاء يراقب وضع المعلم الصحي مع كيوراي مهيب الطلعة الذي يرتدي كيمونو أسود اللون. وخلف كيكاكو، يجلس جوسو جلسة الراهب المتمرس واضعاً في رسخه سبحة من خشب الجميز، وبجواره أوتوكوني الذي بات لا يحتمل حزنه الجياش فلا ينقطع النشيج الصادر من أنفه. ويتأمله بنظرات اشمئزاز الراهب إينن قصير القامة الذي يرتدي رداء رهبان أسود عتيق مرقع الأكمام وقد أشاح ذقنه في غلظة، وهو يشترك في الجلوس بجوار موكوستسو مع شيقو ذي الطباع الشرسة والبشرة السمراء. ويحيط بفراش المعلم عدد آخر من التلاميذ يجلسون يميناً ويساراً في هدوء تام لا يند عنهم جميعاً نفس واحد، تملؤهم حسرة لا حدود لها على فراقه. والشخص الوحيد الذي يتسرب منه صوت النحيب هو سيشو القابع في ركن الغرفة يكاد يكون جاثياً تماماً فوق حصير التاتامي. ولكن صمت الغرفة الباردة قليلاً لجم ذلك النحيب، فلم يصدر صوت يشوش على رائحة البخور الخافتة عند الوسادة.

ألقى باشو وصية مضطربة منذ قليل بصوت مبحوح بسبب البلغم، ثم دخل في غيبوبة بعينين شاخصتين. نحفت عظام وجنتي الوجه المليء بالبقع الخفيفة فظهرت بارزة، وشحب لون شفتيه المحيطتين بالتجاعيد تماماً. وما يثير الألم أكثر هو لون تنيك العينين إذ انبعث منهما شعاع شارد ينظر بلا طائل إلى مكان بعيد وكأنه يتأمل السماء الباردة برودة لا حد لها على الجانب الآخر من السقف. «مريض في ترحالي، فأسرعت أحلامي، تجول في الحقول الذابلة» هكذا بالضبط كما رثى نفسه بنفسه بذلك الهايكو قبل ثلاثة أو أربعة أيام، وسط تلك النظرات التي بلا ضابط ولا رابط، ربما كان الشفق وقتها يطفو كالحلم في الحقول الذابلة ذات الاتساع اللانهائي وقد انعدم أي ضوء للقمر.

التفت موكوستسو أخيراً إلى جيروبيه الجالس خلفه ثم قال له في هدوء:

-        أحضر الماء.

وكان ذلك الخادم العجوز قد أعد من قبل كوباً من الماء مع عود ينتهي بريشة. رصهما الخادم بوجل على مقربة من وسادة سيده، ثم وكأنه تذكر فجأة عاد للتسبيح بتركيز باسم بوذا المقدس. وربما السبب في ذلك أن قلب جيروبيه البسيط الذي نشأ في بيت جبلي، قد رسخ في جذوره إيمان لا يتزعزع بوجوب تضرع الجميع - سواء باشو أو غيره - إلى بوذا بمساواة عند الانتقال إلى حالة النيرڤانا بمساواة.

على الجانب الآخر، في لحظة نطق الطبيب موكوستسو بكلمة «أحضر الماء»، وقع في براثن شكه الدائم الذي يجعله يتساءل: هل استنفد حقاً كل الوسائل والطرق المتاحة له؟ ولكنه على الفور شعر بالرغبة في تشجيع نفسه فنظر إلى كيكاكو الجالس بجواره، وأعطاه إشارة صامتة. انبعث في تلك اللحظة التوتر سريعاً في قلوب جميع المتحلقين حول فراش باشو لإحساسهم باقتراب الأجل. ولا خلاف أنهم شعروا – قبل وبعد لحظة الشعور بذلك التوتر – بما يشبه الاطمئنان، أي أنهم شعروا بنوع من الاسترخاء لأن ما يجب أن يأتي قد أتى أخيراً. ولكن بسبب طبيعته المريبة لم يحاول أي منهم الاعتراف بذلك الوعي داخله. حتى أن كيكاكو وهو أكثر الحاضرين واقعية، والذي كان يتبادل النظرات من حين لآخر مع موكوستسو، عندما قرأ بريبة نفس المشاعر في عينه، لم يحتمل الإحساس بالفزع. فأشاح عينيه جانباً وأخذ منه الريشة، وحيّا كيوراي المجاور له بقوله:

-        حسناً، اسمح لي بالسبق.

ثم غمس تلك الريشة في كوب الماء ولوي ركبته السميكة وألقى نظرة عميقة على وجه معلمه في لحظة احتضاره. وإن تحدثنا بصدق فلا يعني ذلك عدم تفكيره بما يشبه التوقّع أن لحظة فراقه مع أستاذه في هذه الدنيا ستكون مؤلمة حقاً قبل حدوثها. بيْد أنه لمّا أخذ في يده ماء الاحتضار أخيراً، خانت مشاعره الفعلية ذلك التوقع المسرحي تماماً فكانت صافية صفاءً بارداً. ليس هذا فقط، بل ما لم يتوقعه هو أن منظر معلمه المُريع في لحظة احتضاره وقد أمسى نحيلاً ذابلاً، جلداً على عظم حرفياً، أيقظ داخله مشاعر كراهية عنيفة لدرجة أنه لم يطق النظر إليه وأشاح وجهه بعيداً عنه. كلا، مجرد وصفها بالعنف فقط لا يكفي. إنها الكراهية الأصعب احتمالاً على الإطلاق، إذ يصل تأثيرها إلى الضرر بوظائف أعضاء الجسم كأنها سُمّ لا يُرى. تُرى هل سقطتْ كراهيته لكل أنواع القبح، على جسد معلمه المريض لسببٍ عارض وقتها؟ أم تُراه وهو المُلتذ «بالحياة» رأى في حقيقة «الموت» التي رُمِز لها هنا تهديداً طبيعيّاً يجب لعنه بشدة؟ في أي حال، شعر كيكاكو بنفور يصعب وصفه من وجه باشو وهو على شفا الموت، ولم يشعر بأي قدر من الحزن تقريباً، فانتهى من تبليل تلك الشفاه القرمزية الذابلة بالماء من خلال لمسة سريعة من الريشة ثم قضّب وجهه وتقهقر للخلف. ولاح على مشاعره لحظياً إحساس يشبه تأنيب الضمير بالضبط في الوقت الذي تقهقر فيه، ولكن يبدو أن الكراهية التي شعر بها آنفاً كانت أقوى من يضع اعتباراً لهذا الحس الأخلاقي.

بعد كيكاكو، أخذ الريشة كيوراي الذي بدا أنه فقد اتزان مشاعره بالفعل منذ أن أعطى موكوستسو إشارة البدء قبل قليل. انحنى كيوراي المتواضع عادةً، للحاضرين انحناءة خفيفة، ثم زحف مقترباً من وسادة باشو، ولكنه عندما تأمل وجه شاعر الهايكو العجوز الراقد هناك وقد ذبل جراء المرض، اضطر على كرهٍ منه أن يتذوق مشاعر عجيبة يختلط فيها الرضا بالندم. رضا وندم ينوءان بحمل الذرائع والأسباب التي لا تنفصل عن بعضها البعض كالضوء والظلال، والواقع أنه لم يتوقف، وهو الجبان صاحب القلب الضعيف، عن الاضطراب والقلق منذ أربعة أو خمسة أيام. فهو لم يكسل عن تمريض معلمه يوماً واحداً منذ أن وصله نبأ مرضه بمرض الموت فركب على الفور مركباً من مدينة فوشيمي ثم طرق باب محل بيع الزهور هذا غير مبالٍ بتأخر الوقت ليلاً. فبعد أن طلب من شيدو توفير الخدم، قام هو وحده تقريباً بكل أمور الرعاية الواجبة، كأن يرسل إلى معبد سوميوشي من يُدعو له للشفاء من مرضه، وكأن يستشير نيزائمون بائع الزهور لشراء ما يلزم من أدوات وتجهيزات. وكل ذلك بالطبع بمبادرة شخصية من كيوراي نفسه، فالحقيقة أنه ليس لديه أي نية البتة في تحميل ذلك الجميل لأحد. ولكن وعيه الذاتي بانغماسه الكامل وحده في رعاية وتمريض أستاذه، نثر بذور كبيرة للرضا في أعماق قلبه. ولم يكن يعي بهذا الرضا وسط المشاعر الدافئة التي امتدت في خلفية نشاطه، ويبدو أنه من الأصل لم يشعر بأي حاجة له في حياته اليومية. وإن لم يكن الأمر كذلك، لم يكن ليقضي وقتاً طويلاً ساهراً تحت ضوء المصباح غارقاً مع شيقو في أحاديث متفرقة يبوح فيها عمّا في داخله من أفكار، متعمداً شرح فضيلة البر، وأنه يخدم معلمه كما لو أنه يبر بوالده. ولكنه لحظة أن لمح ابتسامة ساخرة تلمع على وجه شيقو سيئ الطباع، أدرك خللاً مفاجئاً في التوافق الذي وجد حتى تلك اللحظة. ثم اكتشف أن سبب الخلل هو وجود ذلك الرضا عن النفس الذي لاحظه لأول مرة وتقييمه الذاتي له. إنه يمرّض معلمه في مرضٍ قد يؤدي بحياته ربما غداً، فينظر إليه بعين راضية عمّا بذله من جهد في تمريضه وليس بعين جزعة على حالته الصحية. وبالتأكيد هذا يؤنب ضمير إنسان صادق مثله ولا شك. وبسبب التناقض بين الرضا والندم بدأ كيوراي منذ ذلك الحين يشعر تلقائياً بقيد في كل ما يفعله. وفي اللحظة التي يرى فيها صدفة داخل عيني شيقو وجههاً مبتسماً، وعيه الذاتي بذلك الرضا يزداد وضوحاً فتكون النتيجة في النهاية هي إحساسه بالخزي تجاه وضاعته. استمر ذلك لعدة أيام متواصلة، واليوم أمام مثل هذا التناقض النفسي كان اضطرابه، وهو الموسوس أخلاقيّاً وذو الأعصاب الحساسة على غير المتوقع، عند تقديم ماء الاحتضار لمعلمه، أمر يؤسف له ولكن لا حيلة فيه. ولذلك لحظة إمساك كيوراي بالريشة تصلّب جسمه كله صلابة مريبة، واجتاحه هياج غير طبيعي لدرجة أن طرف الريشة الأبيض المحتوي على الماء، اهتز عدة مرات وهو يلمس شفتي باشو. ولكن لحسن الحظ رافق ذلك أن تجمعت قطرات دموع في رموش عينيه، فعلى الأرجح أن جميع التلاميذ الناظرين إليه، حتى شيقو شديد القسوة ذاته، فسروا ذلك الهياج بأنه نتيجة حتمية لحزنه الشديد.

وأخيراً رفع كيوراي كتفي ردائه مرة أخرى، وعاد إلى مكانه متوجساً، ثم سلّم الريشة إلى جوسو الجالس خلفه. ولا ريب أن هيئة هذا التلميذ المخلص في المعتاد وقد نكّس رأسه متمتماً داخل فمه بصلاة هامسة، وهو يبلل في هدوء شفتي معلمه قد انعكست هيبة وجلالاً في عيون الجميع. ولكن في لحظة الهيبة تلك سُمع فجأة صوت ضحكة مريبة من أحد أركان الغرفة. كلا، على الأقل يُعتقد أنه سُمعت في ذلك الوقت. كان صوتاً يشبه قهقهة صاخبة ترتفع من قاع البطن ومع احتجاز الحنجرة والشفاه لها، إلا أنها لم تقدر على تحمل الفكاهة، فانفجرت خارجة من فتحي الأنف خروجاً متقطعاً. ولكن، لا داعي بالتأكيد للقول إن لا أحد في هذه الحالة قد أفلتت من فمه الضحكات. إن الصوت في الواقع هو نحيب مكتوم بأقصى درجات الكتمان لسيشو الذي حيرته دموعه منذ برهة، فشقّت صدره وانفجر نحيبه. وبالطبع لا خلاف على أن ذلك النحيب وصل لأقصى درجات الحزن. وربما أغلب تلاميذ باشو تذكروا شعر أستاذهم الشهير: «حرّك الجثوة، صوت بكائي، قبض الريح». ولكن إزاء ذلك النحيب الرهيب، لم يستطع أوتوكوني وهو على وشك أن تختنق عبراته أيضاً، إلا أن يشعر بالاستياء قليلاً، بسبب المبالغة فيه، وإن لم يكن ذلك وصفاً لطيفاً، فبسبب نقص قوة الإرادة التي يجب أن تسيطر عليه. إلا أن طبيعة ذلك الاستياء، على الأرجح ليس إلا مجرد شيئاً فكريّاً محضاً. وفي نهاية المطاف امتلأت عيناه بالدموع، إذ تأثر قلبه على الفور بصوت نحيب سيشو الحزين على الرغم من رفض عقله له. ومع ذلك لم يتغير إحساسه بالاستياء من نحيب سيشو، ناهيك عن عدم شجاعة دموعه شخصيّاً. بل سالت دموع أوتوكوني أكثر، وفي النهاية بكى بنشيج عفويّ ويديه فوق ركبتيه. ولم يكن أوتوكوني هو الوحيد وقتها الذي تسربت منه بوادر النشيج والنحيب. بل سُمع في نفس الوقت تقريباً نشيجاً متقطعاً للأنوف يهز هواء الغرفة المغلف بالحزن، من عدد من التلاميذ المتحلقين حول فراش باشو.

وأثناء الأصوات الحزينة المؤلمة تلك، عاد جوسو الذي وضع في رسخه مسبحة خشب الجميز إلى مكانه الأصلي بهدوء، ثم تقدم شيقو الجالس في مواجهة كيكاكو وكيوراي مقترباً من الوسادة. ولكن يبدو أن شيقو المعروف بسخريته لم تغره مشاعر المحيطين لكي يكون عصبيّاً وحساساً بحيث يذرف دموعه بلا طائل. فعلت وجهه الأسمر كالمعتاد ملامح استغباء الآخرين كالمعتاد، وأظهر وهو يبلل شفتي المعلم بعشوائية غطرسة مريبة كالمعتاد أيضاً. ولكن لا خلاف على أنه في موقفٍ مثل هذا حتى هو تأثر إلى حد ما بالطبع.

جمجمة في العراء، قلب في الرياح، تُرى هل الجسم ارتاح!

كان معلمه يكرر منذ بضعة أيام شكرهم بقوله: «منذ زمن، وأنا أفكرُ أنني سأموت مفترشاً الحشائش ووسادتي التراب، ولكن ما يسعدني أكثر من أي شيء آخر هو قدرتي على تحقيق أمنية الرحيل للأرض الطاهرة فوق هذا الفراش الجميل» ولكن من المؤكد أن الأمر لا يختلف كثيراً سواء كان في هذه الغرفة الخلفية لمحل بيع الزهور، أو في منتصف الحقول الذابلة. وواقعياً ها هو الذي يُبلل فمه الآن، ظل قلقاً قبل ثلاثة أو أربعة أيام لعدم تأليفه هايكو لشكر المعلم. ثم وضع أمس خطة لجمع أشعار المعلم بعد رحيله. وها هو اليوم في النهاية، يتأمل معلمه الذي يقترب مع كل لحظة من الموت، بعيون فاحصة وكأنه يحمل عناية خاصة بتلك المراحل. لو تقدمنا للأمام خطوة وفكرنا بسخرية نستطيع أن نقول إنه ربما توقّع خلف هذا التأمل حتى الجملة التي سيكتبها بنفسه فيما بعد في «تسجيل وقائع الموت». في هذه الحالة فإن ما سيطر على عقله تماماً أثناء رعايته للمعلم في أواخر حياته، أمور ليس لها أي علاقة مباشرة بموته مثل سمعته بين مدارس الشعر الأخرى، ومصالح التلاميذ المتضاربة، أو اهتماماته هو شخصياً. ولذلك يمكن القول إن المعلم يموت مهملاً في الحقول الذابلة كما توقع بشجاعة في الكثير من أشعاره. فتلاميذه لا ينعون معلمهم في نهاية حياته بل ينعون أنفسهم لفقدهم المعلم. لا يأسون على القائد الذي يعاني من عذاب الموت في الحقول الذابلة، بل يأسون على أنفسهم لأنهم فقدوا القائد في حلكة الظلام. ولكن مهما انتقدنا ذلك من الناحية الأخلاقية، فما العمل في البشر الذين خُلقوا من الأصل بلا مشاعر؟ ومع غرقه في مثل هذه المشاعر المتشائمة، وهو البارع حقاً في الغرق فيها، انتهى شيقو من تبليل شفتي أستاذه، وأعاد الريشة إلى مكانها الأصلي في الكوب، ثم دار ببصره على التلاميذ الذين ينتحبون بالدموع في نظرات حادة وكأنه يسخر منهم، فوقف وعاد إلى مقعده ببطء شديد. تعرُّض رجل طيب السريرة مثل كيوراي لهذا التعامل البارد منذ البداية جدد لديه قلقه السابق مرة أخرى. ويبدو أن إحساس كيكاكو بانزعاج قليل من طبيعة تصرفات شيقو تلك إذ يحاول إنجاز كل شيء بوقاحة هو سبب ظهور ملامح دغدغة على وجهه بمفرده.

بعد شيقو، زحف الراهب إينن مسافة قصيرة ساحباً أطراف رداء الرهبنة الأسود فوق حصير التاتامي، وأجل باشو يقترب حثيثاً. شحب وجهه أكثر من ذي قبل، وكأنه قد نسى التنفس، تتسرب أنفاس من حين لآخر من بين الشفتين اللتين بللهما الماء. تتحرك حنجرته حركة كبيرة وكأنها تذكرت عملها، فيمر خلالها هواء بلا حول ولا قوة. وفي عمق تلك الحنجرة، يتردد صدى خافت للبلغم مرتين أو ثلاث مرات. ويبدو أن التنفس بات هادئاً تدريجيّاً. أوشك الراهب إينن لمس الشفتين بطرف الريشة الأبيض، فبدأ يجتاحه فجأة رعب لا علاقة بالحزن على فراق الموت. إنه رعب بلا سبب تقريباً جعله يسأل: أليس هو التالي بعد المعلم؟ حتى وإن كان بلا سبب، ولكنه إذ بدأ ذلك الرعب يجتاحه مرة، فما من حيلة تجعله يصبر أو يقاوم. إنه في الأصل إنسان يرتعد قلبه رعباً عند ذكر الموت. ومنذ زمن بعيد يشعر برعب هائل يجعل العرق ينز من جسده كله عندما يفكر في لحظة موته، وحدث له ذلك حتى وقت ترحاله لصقل حِسّه الشعري. ولذا عندما يسمع بموت أحد، يطمئن أن الموت لم يختاره. وفي نفس الوقت، يشعر بالقلق من جهة أخرى، وهو يتساءل ماذا سيحدث عندما يموت؟ ولم تكن حالة باشو استثناء، أثناء ما كان الاحتضار بعيداً، حيث تنصب أشعة شمس الشتاء المشرقة على الباب الورقي، وتفوح رائحة النرجس النقية التي ترسلها سونوميه تلميذة باشو، ويتجمعون حول فراش معلمهم لتأليف هايكو يواسون به المعلم في مرضه، كان وقتها يتسكع تدريجيّاً بلا هدف بين فراغ هذين النوعين من المشاعر كالنور والظلام. ولكن، عند اقتراب النهاية شيئاً فشيئاً – في يوم لا يُنسى بدأ فيه مطر الشتاء – عندما رأى معلمه غير قادر على أكل حتى ثمار الكمثرى التي يحبها كثيراً، وأمال موكوستسو عنقه في قلق، منذ ذلك الوقت وقعت الطمأنينة في فخ القلق، وفي النهاية نشر ذلك القلق ببرودة خفيفة ظل الرعب الخطير فوق قلبه، رعبه من احتمالية موته هو في المرة القادمة. ولذلك جلس عند الوسادة، تطارده لعنة ذلك الرعب وهو يبلل شفتي أستاذه باجتهاد، فلم يستطع تقريباً النظر مباشرة إلى وجه باشو في لحظات الاحتضار. كلا، بل نظر مباشرة مرة واحدة فقط، وفي تلك اللحظة بالضبط سمع صوتاً خافتاً لانسداد حنجرة باشو من البلغم، فأدى ذلك إلى رِدّته عن الشجاعة التي واتته موّقتاً. «ربما أنا مَن يموت بعد المعلم» انكمش الراهب إينن بجسده الصغير خوفاً وهو يسمع ذلك الصوت النبوءة في أعماق أذنيه بلا انقطاع حتى بعد أن عاد إلى مكانه، فجعل وجهه العابس أكثر عبوساً، ونظر فقط لأعلى لكيلا يشاهد بقدر المستطاع وجه أي من الحاضرين.

ثم بلل تلاميذ المعلم المحيطون بفراش المرض شفتي معلمهم بالترتيب، أوتوكوني، سيشو، شيدو، وأخيراً موكوستسو. وأثناء ذلك كانت أنفاس باشو تذبل مع كل نفس وعددها ينخفض تدريجيّاً. والآن لم تعد الحنجرة تتحرك. تجمّدت ملامحه كلها في برودة إنسانية، وجه صغير يشبه الشمع مليء بالبقع الخفيفة، ومقلتان زائغتان شحب بريقهما تشخصان إلى مكان بعيد، ثم لحية بيضاء كالفضة امتدت حتى الفك السفلي، ويُعتقد أنه يرى أحلام الأرض الطاهرة المحتم عليه الذهاب إليها. في ذلك الوقت، بدا جوسو الذي حل محل كيوراي في مقعده، منكّس الرأس في صمت تام، جوسو راهب الزن المتمرس، بدأت تنساب داخل صدره ببطء مشاعر السكينة مع حزن لا حدود له وهو يتتبّع أنفاس باشو شديدة الخفوت. ولا داعي أصلاً لإضاعة الوقت في شرح مدى حزنه. كانت مشاعر السكينة تلك مشرقة لدرجة عجيبة، وكأنها ضوء فجر بارد يتمدد تدريجيّاً ليشق ظلام الليل. يُبعد في كل لحظة جميع أنواع الأفكار الدنيوية، بل حتى دموعه نفسها تتحول إلى حزن صافي بلا أدنى ألم يطعن القلب. تُرى هل فرح أن روح أستاذه تخطت مرحلة الموت والحياة ذات الأحلام العدمية، وعاد إلى أرض الجواهر في نيرڤانا أبدية؟ كلا، فهو نفسه لا يستطيع إثبات هذا السبب. لو كان الأمر كذلك ... آه، يا له من شخص متذبذب مشاكس، يحاول متعمداً أن يخدع نفسه بغباء. إن مشاعر السكينة تلك التي أحس بها جوسو، هي فرحة روحه الحرة التي خضعت عبثاً على مدى طويل لأغلال شخصية باشو القوية، التحرر الذي سيجعله قادراً على أن يمد أطرافه أخيراً من خلال قوته الحقيقية. ووسط تلك الفرحة الحزينة المشبعة بالنشوة، علت شفتيه ابتسامة خافتة وكأنه يزيل بها رفاقه المحيطين به الذين ينتحبون من مقلتيه، وصلى في مهابة وتبجيل وهو يسبّح بالمسبحة المصنوعة من خشب الجميز من أجل باشو المحتضر.

وهكذا لفظ باشو ماتسوو أعظم شعراء الهايكو على مر العصور، أنفاسه الأخيرة فجأة محاطاً «بحزن وأسى» لانهائيين من تلاميذه.

(سبتمبر 1918)

 

هامش 1: تغريدات للأستاذ عدي الحربش عن هذه القصة وعن الشاعر باشو ماتسوو هنا

هامش 2: مقالة للمؤلف ريونوسكيه أكوتاغاوا عن مراحل تأليفه للقصة هنا

 

الجمعة، 9 أبريل 2021

مراحل تطور الكتابة حتى يكتمل العمل تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

 مراحل تطور الكتابة حتى يكتمل العمل

مثال: "قصة الحقول الذابلة"، "موت مسيحي"

 

 

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

عندما أفكر في كتابة عمل، هناك عمل يسير في عدة منحنيات حتى يتكمل، وعمل يسير مباشرة نحو الاكتمال طبقا للخطة التي وضعتُها. على سبيل المثال أريد أن أكتب قنينة من الخزف، ولكن في غفلة من الزمن ينتج عن الكتابة قنينة من الحديد، وفي بعض الأحيان أفكر من البداية في كتابة قنينة من الخزف فينتج في النهاية قنينة من الخزف كما هي الخطة. ولكن حتى قنينة الخزف تلك، أفكر في أن تكون تعليقتها من الروطان، فتصبح التعليقة في النهاية من الخيزران. وإذا أعطيت أمثلة من أعمالي التي كتبتها، فقصة "راشومون" من النوع الأول، وقصتي "قصة الحقول الذابلة"، و"موت مسيحي" من النوع الأخير.

تصف قصة "قصة الحقول الذابلة" مشاعر تلاميذ الشيخ باشو؛ كيكاكو، وكيوراي وجوسو تجاه احتضار معلمهم الأكبر. وجعلتُ مراجعي عند كتابة تلك القصة كتاب "يوميات بائع الزهور" الذي كتبه باشو عند احتضاره، ويوميات الاحتضار التي كتبها تلاميذه مثل شيكاي وكيكاكو، كانت فكرتي أن أكتب عن الفترة من قبل موت باشو بأسبوعين وحتى موته. بالطبع عند كتابة هذه القصة كنتُ شخصيا أشعر إلى حد الألم بمشاعر التلميذ الذي يعيش فترة احتضار أستاذه. وفكرتُ أن أعبر عن مشاعري تلك على لسان تلاميذ باشو. ولكن أثناء كتابة صفحة أو صفحتين على هذا المنوال، ولكنني في ذلك الوقت بالضبط عرفت أن السيد "يكون نونامي" يكتب رواية (؟) مشابهة، ففقدتُ تماما حماسي لكتابة ما خططتُ له حتى الآن.

وهذه المرة، فكرتُ أن آخذُ لقطة نقل جثمان باشو على إحدى المراكب والصعود به إلى مقبرة فوشيمي، وأكتب عن مشاعر تلاميذ أثناء تلك الرحلة. وكان يفترض أن تُنشر تلك القصة في عدد مجلة "الرواية الجديدة" وقتها (سبتمبر 1918م)، ولكن لأنني غيرتُ الخطة الأصلية، لم أستطع الكتابة مهما فعلت حتى مع اقتراب آخر موعد حُدد لي. فشعرتُ بالاكتئاب بعد أن جاء الموعد المحدد وأنا لم أفعل خلال تلك الفترة إلا إضاعة أوراق الكتابة بلا طائل. كان محرر مجلة "الرواية الجديدة" هو السيد جيسوكيه نومورا محرر مجلة "الإنسان" الحالي، فلما رآني على هذه الحال لا أستطيع الكتابة، تعاطف معي تعاطفا شديدا، ومع أنه سيقع في مأزق حقيقي بسبب عدم تسليمي مسودة القصة، إلا أنه مدد لي الموعد بأريحية للنشر في عدد الشهر التالي من المجلة. بدأت الكتابة من أجل النشر في العدد التالي مباشرة، ولكن في ذلك الحين، اقتنى أحد معارفي "رسم باشو في النيرڤانا" وهي اللوحة التي كتبها بوسون. وكانت تلك اللوحة أكبر من "رسم باشو في النيرڤانا" التي رأيتها من قبل في معبد كيتاين في مدينة كاواغوي، علاوة على أن جودتها كانت أكثر متعة. وعند النظر إلى ذلك فلقد تغيرت خطتي مرة ثانية. وهنا، هذه المرة أخذت تلميحا من "رسم باشو في النيرڤانا"، وكتابة مشهد إحاطة تلاميذ باشو به حول فراش المرض، وأخيرا حققت الهدف الأول الذي وضعته.

ومن النادر جدا أن تدور القصة هكذا لتعود إلى أصلها، ففي الأغلب كانت عادتي التفكير قبل أن أمسك قلم الكتابة، وأكتب سائرا في طريقي كما فكرت فيه تماما.

وكلمة كانت عادتي تلك في حالة كتابة أعمال قصيرة على الأغلب، ولكن من بين الأعمال الطويلة التي أكتبها، يحدث كثيرا أثناء الكتابة أن تتطور أحداث العمل أو شخصياته فتختلف عن الخطة الموضوعة.

الكثير من البشر يسألون: لو كان الله هو الذي خلق العالم، فلماذا وُجد الشر ولماذا وُجد الحزن؟ ولكن ربما كان الأمر مثل رواياتي، أثناء خلق الله للعالم، تطور العالم من نفسه ولم يُخلق كما خُطط له.

بالطبع هذا مزاح، ولكن في حالة تطور الأحداث أو الشخصيات هكذا خلافا لما كنتُ أتوقع، لا أستطيع أن أقول بدون قيد أو شرط إن ذلك الاختلاف جعل العمل أفضل أو جعله أسوء. ولكن حتى لو كان هناك اختلاف، فهو اختلاف تقريبي، فلا يمكن أن أنوي كتابة فرس فيصبح فرس النبي. ولكن الاختلاف بدرجة أن يصبح بقرة أو خروف. ولكن عندما يكون الابتعاد عن المسار الأصلي كبيرا، أصل أثناء الكتابة إلى أفكار متنوعة، لذا يكون الاختلاف كبيرا. على سبيل المثال القصة التي بعنوان "موت مسيحي"، تدور الحبكة عن امرأة مسيحية في الماضي أصبحت رجلا، وتلاقي مشاق عديدة. وبعد أن تحملت وصبرت على تلك المشاق، تموت، وعندما ماتت يُعرف أنها امرأة للمرة الأولى. يحدث حريق في نهاية تلك القصة. في البداية لم يكن في نيتي كتابة مشهد هذا الحريق بتاتا، بل كانت خطتي أن يمرض البطل بمرض ما ويموت في هدوء. ولكن أثناء الكتابة طرأ على ذهني مشهد الحريق ذلك فكتبته. ومع ذلك ثمة شك؛ هل كان مشهد الحريق جيد أم سيئ؟

 

(مارس 1920م)

الاثنين، 1 مارس 2021

معضلات الترجمة

فيه حرف في اللغة اليابانية اسمه "نو" ينطق بدون مد نو

no

هو حرف الملكية والانتساب في اللغة اليابانية.

يعني لو وضعناه بين اسمين يدل على ملكية أو انتساب أحدهما للآخر.

مثال: نضعه بين أنا وقلم يصبح قلمي

واتاشي نو بِن

私のペン

watashi no pen

أي القلم الذي أملكه القلم بتاعي أو متاعي أو ديالي أو حقي إلخ

ولو وضعناه بين أنا ووطن يصبح وطني

واتاشي نو كوني

أي الوطن الذي أنتمي إليه أو أنتسب إليه

私の国

watashi no kuni

حلو الكلام دا.

المشكلة لو عكسنا الاسمين.

سيحدث أمر غريب وعجيب

بِن نو واتاشي

ペンの私

pen no watashi

أو

كوني نو واتاشي

国の私

kuni no watashi

هنا صعب يكون المعنى القلم الذي يملكني أو الوطن الذي ينتسب إليّ أو ينتمي إليّ (طبعا في الفانتازيا كل شيء ممكن ولكن أنا أتحدث عن المنطلق الطبيعي للغة)

المعنى المراد هو الانتماء العكسي بمعنى أنا الذي أنتمي للقلم أو أنا ناتج القلم أو أنا وليد هذا القلم بالبلدي لو ما كانش القلم ما كنتش أنا.

وهذا كان مراد الأديب الياباني ياسوناري كاواباتا أول أديب ياباني يفوز بجائزة نوبل من عنوان المحاضرة التي ألقاها في الأكاديمية السويدية بمناسبة تسلمه الجائزة.

كانت المحاضرة بعنوان أوتسوكوشيي نيهون نو واتاشي

美しい日本の私

utsukushii nihon no watashi

أوتسوكوشيي يعني جميل ونيهون يعني اليابان ونو الحرف بتاعنا وواتاشي يعني أنا.

هنا المثال تعقد قليلا لأنه أضاف صفة جميل أو بمعنى أصح جميلة إلى الاسم الأول اليابان فأصبح المعني المراد أنا الذي أنتمي لليابان الجميلة أو أنا ناتج اليابان الجميلة: لو ما كانتش اليابان الجميلة ماكنتش أنا. وهنا كاواباتا يريد أن يعرف العالم الذي اشتهر فيه أنه أديب الجمال والأسلوب الجميل الشاعري أن اليابان الجميلة هي التي أنتجته وأنه ينتمي إليها في أدبه وفي أسلوبه.

لو نظرنا إلى موقع جائزة نوبل سنجد ترجمة لمحاضرة كاواباتا باللغة الإنجليزية. ولكنهم ترجموا العنوان

Japan, the Beautiful and Myself

وهو ما تُرجم إلى اللغة العربية: اليابان الجميلة وأنا

طبعا حرف العطف موجود في اللغة اليابان وهو حرف تو ينطق بدون مد وكما هو معروف حرف العطف لا فرق إن جاءت اليابان الجميلة أولا أو أنا أولا فقط مجرد الأهمية للمتقدم ولو كان كاواباتا الأديب الحاصل على نوبل يريد العطف لاستخدم حرف العطف الياباني تو، ثم قدم اليابان أو قدم نفسه حسب ما يريد إعطائه الأهمية ولكنه كان يريد ما سبق شرحه وما يجعل المترجم حائر في اختيار ترجمة لحرف جر مجرد أن قلبت الاسمين الأول والأخير يتغير المعني بهذا الشكل.

ما حثني على كتابة هذا الكلام هو أنني انتهيت من ترجمة قصة قصيرة للأديب كِنزابرو أويه كتبها عام 1958 أي قبل عشر سنوات من محاضرة كاواباتا واستخدم في عنوانها نفس الأسلوب بأن كتب معركة ثم حرف نو ثم اليوم.

تاتاكاي نو كيو

戦いの今日

tatakai no kyo

وهو هنا لا يريد معني معركة اليوم أي معركة النهاردة ولا يوم المعركة ولا اليوم والمعركة ولا المعركة واليوم.

ولكنه يريد المعنى الذي شرحته وهو أن اليوم أي النهاردة ناتج عن المعركة أو وليد المعركة بمعنى لو لم تكن المعركة لما كان اليوم. كل ده في اسمين وبينهم حرف جر يدل على الانتساب. أنا فكرت في ترجمتين للعنوان الأول تمخضت المعركة فكان اليوم والثاني اليوم يوم المعركة.

بالمناسبة كما هو معروف كِنزابرو أويه هو ثاني أديب ياباني يحصل على جائزة نوبل بعد ربع قرن من حصول كاواباتا عليها. وعند إلقاء أويه محاضرته عند تسلم الجائزة استخدم نفس الأسلوب واستعار عنوان كاواباتا بعد أن غير فيه كلمة واحدة فقط هي الصفة جعلها من جميلة إلى غامضة

أيماينا نيهون نو واتاشي

曖昧な日本の私

aimaina nihon no watashi

وبعد ربع قرن ترجمت الأكاديمية السويدية نفس الترجمة وجعلت المحاضرة باللغة الإنجليزية بعنوان

Japan, The Ambiguous, and Myself

وترجم للغة العربية إلى اليابان الغامضة وأنا

ولكن هنا على النقيض من كاواباتا كان أويه يشرح للعالم سبب وجوده في ذلك المكان وسبب غموضه وغموض رواياته وهو أنه ناتج عن اليابان الغامضة التي نشأ فيها على العكس من كاواباتا. فهو قد نشأ واليابان في مرحلة من الإبهام والغموض في كل شيء بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، فلا تدري هل الإمبراطور إله أم إنسان، هل يحكم أم لا يحكم، هل اليابان رأسمالية أم اشتراكية، هل هي ديمقراطية أو دكتاتورية؟ وغيرها من الأمور الغامضة المبهمة التي تكتنف الأوضاع في اليابان في الفترة التي نشأ فيها أويه وتربى.

الجمعة، 19 فبراير 2021

رسالة إلى صديق ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

 

رسالة إلى صديق

ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

لم يكتب أحد من المنتحرين حتى الآن عن حالته النفسية وقت انتحاره. وعلى الأرجح أن ذلك بسبب كبرياء المنتحر وعزة نفسه، أو ربما بسبب قلة اهتمامه شخصيًّا بالتحليل النفسي لذاته. وأريد أن أذكر لك بوضوح هذا التحليل النفسي في آخر رسائلي إليك. لا داعي أصلًا لأن أُبلغكَ بصفة خاصة عن دوافع انتحاري. لقد كتب هنري رينيه في إحدى قصصه القصيرة عن منتحر. وفيها لا يعرف بطل القصة نفسه سبب انتحاره. ويمكنك أن تكتشف دوافع متنوعة للانتحار من صفحة الحوادث في الجرائد مثل صعوبة المعيشة أو المعاناة من المرض أو المعاناة النفسية. ولكن من خلال خبرتي ليس هذه هي الدوافع كلها. ليس هذا فقط، فغالبًا هي تشير فقط إلى معالم الطريق إلى الدافع وليس الدافع نفسه. وعلى الأرجح أن المنتحر ذاته كما وصفه رينيه لا يدري غالبًا لماذا ينتحر. يحتوي الانتحار مثل كل أفعالنا على دوافع معقّدة. ولكن على الأقل في حالتي أنا هو مجرد قلق غامض. قلق غامض تجاه المستقبل. ومن المؤكد أنك لن تصدق كلامي هذا. وأنا لا ألومك على ذلك لأن خبرتي خلال عشرة سنين علّمتني أن كلماتي تلك سوف تذهب أدراج الرياح ما لم يكن سامعها يعيش في نفس البيئة التي أعيشها ويحيط به نفس البشر الذين يحيطون بي.

لم أفكر إلا في الموت فحسب طوال العامين الماضيين. وهو الوقت الذي قرأت فيه ماينلندر بتعمّق شديد. لا ريب أن ماينلندر كان يصف معالم الطريق المتجه إلى الموت باستخدام كلمات تجريدية في منتهى البراعة. ولكن أريد أن يكون وصفي أكثر تحديدًا. ولن أجعل مشاعر التعاطف مع أسرتي  تقف عقبة في سبيل تحقيق ذلك مطلقًا. ومن المؤكد أنك ستصف ذلك بكلمة Inhuman (لا إنساني) وإذا تعلق الأمر باللاإنسانية، فأنا حقًا لا إنساني!

أنا ملزم أن أكتب كل شيء بصدق. (لقد شرحتُ معنى كلمة قلق غامض تجاه المستقبل. فعلت ذلك على الأغلب في قصة "حياة أحد الحمقى" بأقصى ما أستطيع. ولكنني تعمدتُ ألا أكتب في ذلك العمل الظروف الاجتماعية الخاصة بي، أي تأثير حقبة الحكم الإقطاعي في اليابان عليَّ. وسبب تعمدي عدم الكتابة عن ذلك لأننا نحن البشر ما زلنا حتى اليوم إلى حد ما تحت تأثير عصور الإقطاع. ولكنني حاولت الكتابة عن أفعالي وتصرفاتي أنا على الأغلب بغض النظر عن مسرح الأحداث والخلفية والأضواء والشخصيات التي تظهر على المسرح. وليس هذا فقط بل من المؤكد أن ثمة شك كبير أنني أنا نفسي أستطيع أن أدرك جيّدًا الظروف الاجتماعية و أنا في خضمها).

في البداية أول ما فكرت فيه كان؛ كيف أموت دون معاناة. والوسيلة المثلى لتحقيق ذلك هو الموت شنقًا. ولكنني عندما تخيلت منظري وأنا أموت شنقًا وجدتُ متسعًا من الرفاهية لكي أشعرُ بكراهية ذلك المنظر لعدم جماله. (أتذكر أنني أحببت فتاة، ولكني فقدت حبي لها فجأة عندما عرفت أن خطها في الكتابة رديء). وكذلك الموت غرقًا لن يؤدي الغرض لأنني أجيد السباحة. ليس هذا فقط بل حتى لو افترضنا تحقيق المعجزة، فالموت غرقًا أكثر عذابًا من الشنق. وهناك الموت دهسًا تحت عجلات قطار أو سيارة، ولكنه سيكون أكثر كراهية لي من الناحية الجمالية السابق ذكرها. وسيكون احتمالية فشلي كبيرة عند الموت بالمسدس أو بالسكين لأني يدي ستهتز. وأيضًا الموت من خلال القفز من فوق بناية عالية سيكون قبيح المنظر. ولهذه الأسباب قررت أن أموت باستخدام الأدوية. وعلى الأرجح أن الموت بالأدوية أكثر عذبًا من الموت شنقًا. ولكنه علاوة على عدم كونه كريه المنظر مثل الموت شنقًا فله أيضًا ميزة انعدام خطر النجاة. ولكن بالتأكيد الحصول على تلك الأدوية صعب بالنسبة لي. لقد قررت قرارًا حاسمًا أن أنتحر، فقررت استغلال كل فرصة للحصول على تلك الأدوية. وفي نفس الوقت أيضًا حاولت اكتساب معرفة بعلم السموم.

ثم فكرتُ بعد ذلك في مكان الانتحار. ستعتمد أسرتي على ما سأتركه لهم بعد موتي لكي تقيم عيشها. وتتكون تركتي من أرض بمساحة 330 مترًا مربعًا والبيت الذي عليها والحقوق الفكرية لمؤلفاتي، ومدخراتي في البنك التي تبلغ ألفي ينًّا يابانيًّا فقط. وشعرتُ بالعذاب من ألا يمكن بيع هذا البيت لو انتحرت فيه. وبالتالي شعرتُ بالغيرة من البرجوازيين الذين يملكون بيتًا آخر في الضواحي أو المنتجعات. قد تستغربَ كلامي هذا، بل حتى أنا أشعر الآن بالدهشة. ولكن عندما فكرتُ في الأمر في الحقيقة شعرتُ بالضيق الشديد. ولا يمكنني أن أتفادي هذا الضيق مطلقًا. ولكنني أريد أن أنتحر بحيث لا يرى أحد جثتي بقدر الإمكان إلا أسرتي فقط.

ولكن بعد أن اخترت الوسيلة زاد تعلّقي بالحياة نسبيًا. وبناء على ذلك ثمة حاجة إلى محفّز ليكون قاعدة انطلق منها إلى الموت. (إنني لا أؤمن كما يؤمن الغربيون أن الانتحار إثم أو شر. فعلى أرض الواقع بوذا في كتاب آغاما المقدس أيد انتحار أحد تلاميذه. وقد يقول علماء السوء الذين يبيعون علمهم للعامة بثمن بخس عن هذا التأييد إنه فقط في حالة "ضرورة قصوى" لا يمكن تفاديها. ولكن من وجهة نظر طرف محايد، حالة "الضرورة القصوى" تلك ليست هي حالة الطوارئ غير الطبيعية التي يجب أن يموت المرء فيها موتًا مأسويًّا وهو مكتوف الأيدي. إن كل منتحر ينتحر في حالة ضرورة قصوى بالنسبة له لا يمكنه تفاديها. وعلى العكس من ينتحر بجراءة قبل ذلك، يكون في منتهى الشجاعة). مهما قلنا فأفضل محفز مفيد هو المرأة. لقد عرض هاينريش فون كلايست قبل أن ينتحر، على أصدقائه مرات كثيرة أن يرافقوه في طريق (الرجال). وكذلك راسين عرض على موليير وبوالو أن يقذفوا معه في نهر السين. ولكنني لسوء حظي ليس لدي مثل هؤلاء الأصدقاء. فقررت أن أموت مع امرأة أعرفها. ولكن بات ذلك أمرًا لا أستطيع أن أستشير فيه واحدة منهن من أجلنا. وأثناء ذلك تولدت لدي ثقة بنفسي أنني أستطيع الموت بدون وجود محفّز. ولم يكن ذلك بسبب يأسي من العثور على من يموت معي. ولكن على العكس كان السبب أنني - أنا الذي بدأت تدريجيًّا أغدو عاطفيًّا - راعيتُ مشاعر زوجتي حتى وإن كنتُ سأفترق عنها بالموت. وفي الوقت نفسه عرفت أن انتحار شخص واحد أسهل من انتحار شخصين معًا. ولا شك كذلك أن هذا يُسهل الأمر من خلال حرية اختيار الوقت المناسب للانتحار.

آخر شيء هو كيفية الانتحار بمهارة دون أن تنتبه أسرتي. بعد تجهيزات لعدة أشهر وصلتُ إلى ثقة بالنفس في أي حال. (لا يمكنني أن أكتب تفاصيل ذلك من أجل الناس الذين يحملون تجاهي مشاعر طيبة. وفي الأصل حتى وإن كتبتُ التفاصيل هنا فمن المؤكد أنها لن تُشكّل تُهمة المساعدة على الانتحار قانونيًّا [لا أجد اسم تهمة أكثر إضحاكًا من هذه التهمة! تُرى إلى أي مدى سيزيد عدد المجرمين لو طُبق هذا القانون بحذافيره؟ الصيدليات، ومحلات بيع الأسلحة، وبائعي أمواس الحلاقة، حتى وإن قلنا إنهم "لا يعلمون"، فكلامنا نحن البشر ومشاعرنا ما لم تظهر إرادتنا، يجب أن تتلقى بعض الاتهام قل أو كثر. ليس هذا فقط بل إن المجتمع والقوانين ذاتها تساعد على الانتحار. وفي النهاية من المؤكد أن هؤلاء المجرمين لديهم قلوب طيبة بدرجة كبيرة]) انتهيت من تلك التجهيزات ببرود، وأنا الآن ألهو مع الموت فقط. وعلى الأرجح أن مشاعري بعد ذلك هي غالبًا نفس مشاعر ماينلندر.

إننا نحن البشر حيوانات بشرية، ولذا نخاف من الموت خوف غريزي حيواني. إن ما يُسمّى بقوة الحياة في الواقع لا يزيد عن مرادف للقوة الحيوانية. أنا أيضًا إنسان حيواني. ولكن عند النظر إلى مللي من الطعام فعلى الأرجح أنني أفقد القوة الحيوانية تدريجيًّا. إن ما أعيش فيه حاليًّا هو عالم الأعصاب المرضي الشفاف كالثلج. في الليلة الماضية كنتُ أتحدث مع إحدى العاهرات عن أجرتها (!) فشعرتُ حتى النخاع بالشفقة لنا نحن البشر الذين "نعيش من أجل أن نعيش". لو استطعنا أن نغرق في نوم أبدي مذعنين، حتى ولو لم يكن في ذلك سعادة فلا شك أنه سيكون سلامًا. ثمة شك في متى أستطيع الانتحار بشجاعة! ولكن في حالتي تلك دائمًا ما تكون الطبيعة أكثر جمالًا عن المعتاد. من المؤكد أنك ستضحك على تناقضي لأنني أحب جمال الطبيعة ومع ذلك أخطط لكي أنتحر. ولكن ذلك لأن جمال الطبيعة ينعكس في عيوني عند الاحتضار. لقد رأيت وأحببت بل وفهمت أكثر من الآخرين. وهذا وحده يجعلني وسط تراكم المعاناة والعذاب راضيًا إلى حد ما. أرجو منك أن تحتفظ بهذه الرسالة لديك ولا تنشرها لعدة أعوام بعد موتي. لأنه ربما لا يعدم الأمر أن أنتحر وكأنني قد متُ من مرض ما.

 

إضافة: لقد قرأت سيرة أمبادوقليس وشعرت إلى أي مدى قِدم الرغبة في أن يصبح الإنسان إلهًا. في حدود ما أعي فرسالتي هذه تهدف إلى عدم الرغبة في أن أكون إلهًا. كلا، بل أريد أن أكون أقل من الإنسان العادي. من المؤكد أنك تتذكر عندما تناقشنا قبل عشرين عامًا حول "أمبادوقليس جبل إتنا" تحت شجرة الزيزفون؟ لقد كنتُ وقتها أحد الذين يرغبون في أن يكونوا آلهة.

 

(مخطوطة وجدت بعد موت المؤلف يوليو 1927م)

الإله أجني تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

الإله أجني

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي


1

 

حي في مدينة شانغهاي بالصين. في الطابق الثاني لبيت يظل معتمًا حتى في النهار، تتحدث عجوز هندية بملامح وجه كريهة مع تاجر أمريكي.

قال الأمريكي وهو يشعل النار في سيجارة جديدة:

"أتيتُ إليك أيها العجوز لكي أطلب منك قراءة الطالع. ..."

فقالت العجوز وهي تنظر إلى وجه محدثها بإمعان وكأنها تسخر منه:

"قراءة طالع؟ لقد قررت ألا أقرأ الطالع لأحد أبدًا. ففي الآونة الأخيرة لا أحد يقدم لي شكره بعد قراءة الطالع له"

"بالتأكيد أنا سأقدم لك الشكر"

وضع التاجر الأمريكي أمام العجوز شيكًا بمبلغ ثلاثمئة دولار دون أي تردد ولا ندم.

"في البداية سأترك لك هذا. وبالطبع لو تحققت نبوءاتك سأقدم لك المزيد من الشكر ..."

عندما رأت العجوز شيكًا بمبلغ ثلاثمئة دولار انفرجت أسارير وجهها.

"إن إعطائي مثل هذا المبلغ الكبير، على العكس يجعلك أنت المسكين! ولكن ما الذي تريد أن أقرأ لك الطالع بشأنه؟"

"إن ما أريد معرفته هو ..."

وضع التاجر الأمريكي السيجارة في فمه وعلى الفور ظهرت ابتسامة تردد على وجهه.

"متى ستبدأ الحرب بين أمريكا واليابان؟ إذا علمنا فقط هذا الأمر، فنحن التجار نستطيع أن نحقق أرباحًا خيالية فورًا"

"إذن تعال غدًا. وحتى ذلك الوقت سأكون قد قرأت طالعك"

"حسنًا، أرجو منكِ عدم الخطأ ..."

لوّحت العجوز الهندية بصدرها للخلف في مباهاة.

"إن نبوءاتي لم تخطأ مرة واحدة على مدى خمسين عامًا. فإن الإله أجني هو الذي يبلغني تلك النبوءات بنفسه"

غادر التاجر الأمريكي، فذهبت العجوز إلى باب الغرفة التالية.

ونادت قائلة: "يا إرين! إرين!"

خرجت من الغرفة فتاة صينية جميلة استجابة لذلك النداء. ولكن كانت خدود تلك الفتاة الممتلئة ذات لون يشبه الشمع، ربما بسبب المعاناة.

"ما هذا التباطؤ! يا لك من فتاة لئيمة. من المؤكد أنك كنت تنامين جالسة في المطبخ مرة أخرى أليس كذلك؟"

مع كل التوبيخ، ظلت إرين واقفة منكسة الرأس.

"اسمعيني جيدًا. إنني الليلة سأوجه أسئلة للإله أجني بعد غياب طويل، كوني على أهب الاستعداد"

رفعت الفتاة عينيها الحزينة إلى وجه العجوز حالك السواد.

"الليلة؟"

"في الساعة الثانية عشرة الليلة. هل تفهمين؟ حذار من النسيان!"

رفعت العجوز الهندية أصبعها وكأنها تهددها.

"إن حدث مثل المرة السابقة وكنتِ سببًا لإزعاجي، هذه المرة بحق ستفقدين حياتك! إنني إن أردتُ أن أقتلك فالأمر أسهل من خنق عنق فرخ طير! ..."

قالت العجوز ذلك ثم عبس وجهها سريعًا. وعندما نظرت فجأة إلى الطرف الآخر كانت إرين قد ذهبت إلى جوار النافذة وأخذت تتأمل الطريق المجهور من زجاج النافذة التي كانت مفتوحة بالضبط.

"إلى ماذا تنظرين؟"

شحب وجه إرين في النهاية، فنظرت عاليًا مرة أخرى إلى وجه العجوز.

"إن كنتي تظنين أنني غبية، فأنت لم تكتفي بعد من العذاب الأليم؟"

لوّحت العجوز بالمنكسة التي كانت بجوارها وعيونها تمتلئ بالغضب.

وفي ذات اللحظة بدا أن شخصًا أتى في الخارج، وفجأة سُمع صوت طرق عنيف على الباب.

 

2

 

في نفس اليوم، وتقريبًا في نفس التوقيت، كان شاب ياباني يسير في الطريق خارج ذلك البيت. ولا يُعرف في ماذا كان يفكر! ولكنه عندما نظر نظرة واحدة إلى الفتاة الصينية التي يظهر وجهها من نافذة الطابق الثاني، وكأنه قد أُخذ على حين غرة ظل واقفًا في شرود دون أن يحرك ساكنًا.

وتصادف أن مر في الطريق عجوز صيني يعمل حوذي لعربة ريكشا.

فسأل الياباني ذلك الحوذي العجوز فجأة:

"مهلًا، ألا تعرف من الذي يسكن في الطابق الثاني من هذا البيت؟"

نظر الحوذي عاليًا تجاه الطابق الثاني العالي وهو يمسك كما هو بذراع الريكشا، ورد ردًا وهو يشعر بالنفور: "أين؟ هذا البيت؟ تسكن فيه فلانة العجوز الهندية" ثم كان على وشك الرحيل سريعًا.

"انتظر من فضلك! وماذا تعمل تلك العجوز؟"

"قارئة طالع. ولكن شائعات هذا الحي أنها تستخدم كل أنواع السحر. ولذا إن كنت تخاف على حياتك فمن الأفضل لك عدم الذهاب إليها"

بعد أن رحل الحوذي الصيني، شبك الشاب الياباني ذراعيه وبدا أنه يفكر في أمر ما، ثم بدا أنه أخذ قراره ودخل على الفور إلى ذلك البيت. وعندها سمع فجأة صوت العجوز الذي يصب اللعنات مختلطًا بصوت بكاء الفتاة الصينية. وبمجرد سماع الياباني لذلك أسرع بصعود درجات السلم المعتم درجتين وثلاث درجات في كل خطوة.  ثم بدأ يطرق باب بيت العجوز بكل قوته.

فُتح الباب فورًا. ولكن عندما دخل الرجل الياباني، كانت العجوز الهندية فقط تقف وحيدة تمامًا، والفتاة الصينية ليس لها وجود ولا أثر، ربما تكون قد اختبأت في الغرفة التالية.

نظرت العجوز محدقة في وجه الطرف الآخر بارتياب شديد وقالت:

"هل تريد شيء؟"

أعاد الرجل الياباني النظر شزرًا إلى العجوز وهو يشبك ذراعيه كما هو وقال:

"ألستِ تقرأين الطالع؟"

"بلى"

"إذن ألا تعرفين ماذا أريد دون توجيه سؤال؟ أنا أيضًا جئت لكي تقرأين لي الطالع"

"تريد أن أقرأ لك الطالع بشأن ماذا؟"

فحصت العجوز هيئة الرجل الياباني بعد أن زادت شكوكها.

"إن ابنة سيدي مفقودة لا نعرف مصيرها منذ ربيع العام الماضي. وأريد منك أن تعرفيه لنا ..."

قال الرجل الياباني ذلك وهو يضع كل قوته في كلامه حرفًا، حرفًا.

"إن سيدي هو قنصل اليابان في هونغ كونغ. واسم ابنته هو تايكو. وأنا اسمي إيندو السكرتير. ... ما رأيك؟ أين تلك الابنة؟"

قال ذلك ووضع يده في الجيب السري لمعطفه، ثم أخرج منه مسدسًا.

"أليست موجودة بجوارنا؟ بناء على تحريات شرطة هونغ كونغ فمن خطف الابنة شخص هندي، ... لن يفيدك الإخفاء"

ولكن لم يُبد على العجوز الهندية مظهر من مظاهر الخوف ولو قليلًا. كلا ليس هذا فقط بل على العكس برزت على شفتيها ابتسامة استهانة.

"ماذا تقول؟ إنني لم أر وجه تلك الابنة في حياتي قط"

"لا تكذبي. فبالتأكيد من رأيتها تقف عند هذه النافذة هي الآنسة تايكو"

كان إيندو يمسك بإحدى يديه المسدس ويشير باليد الأخرى على باب الغرفة التالية.

"ومع ذلك، إن كنتِ تصرين على قولك، اذهبي وأحضري لي الفتاة الصينية التي هناك"

"إنها ابنتي بالتبني"

ضحكت العجوز بينها وبين نفسها ضحكات ماكرة كأنها تسخر منه.

"سنعرف من نظرة واحدة إن كانت ابنتك بالتبني أم لا. إن لم تأتي بها فسوف أذهب أنا وأراها"

كان إيندو على وشك الدخول للغرفة التالية، فوقفت العجوز الهندية وحجبت عنه الباب بسرعة.

"إن هذا بيتي. ولا أسمح لشخص غريب لا أعرفه مثلك أن يدخله"

"ابعدي! إن لم تبعدي سأقتلك بالرصاص"

رفع إيندو المسدس. كلا، بل حاول أن يرفعه. ولكن في لحظة أصدرت تلك العجوز صوتًا كنعيق الغربان، فسقط المسدس من يده وكأن تيار كهربائي صعقه. ومن المؤكد أن حتى إيندو الذي تصرف بشجاعة قد أصابه ذهول شديد فظل لفترة من الوقت ينظر بدهشة في المكان من حوله، ولكنه استعاد سريعًا شجاعته مرة أخرى.

ثم انقض على العجوز كالنمر وهو يلعنها: "أيتها الساحرة الشريرة!"

ولكن العجوز لم تكن إنسانًا عاديًّا. فحركت جسمها برشاقة لتتفاداه ثم أمسكت المكنسة التي كانت بجوارها وكنست بها قمامة الأرضية على وجه إيندو التي كان ما زال يحاول الإمساك بها. وعندها تحولت القمامة كلها إلى شرارات نارية تحرق وجهه دون التفرقة بين عينيه وفمه.

وفي النهاية لم يستطع إيندو المقاومة فتوجه للخارج هاربًا وهو يتدحرج والشرارات النارية تلاحقه على شكل رياح دوامة.

 

3

 

اقترب الوقت من الثانية عشرة في تلك الليلة، كان إيندو يقف وحيدًا أمام بيت العجوز، وهو يتأمل بحسرة ظلال النيران المنعكسة على زجاج نافذة الطابق الثاني.

"من الأسف أنني لا أستطيع استعادة سيدتي الصغيرة رغم استطاعتي الوصول إلى مكان وجودها. هل من الأفضل إبلاغ الشرطة؟ كلا، كلا، لقد عانينا كثيرًا من بطء الشرطة الصينية حتى في هونغ كونغ. لو افترضنا جدلًا أن هربت مننا هذه المرة بالبحث عنها مجددًا سيكون معاناة شديدة. ومع قول ذلك فهذه الساحرة العجوز حتى المسدس لا يفيد معها ..."

مع تفكير إيندو هكذا، سقطت من النافذة قطعة من الورق.

همس إيندو لنفسه: "أوه! لقد سقطت قطعة من الورق، ... تُرى هل هي رسالة من سيدتي الصغيرة؟"

ثم التقط الورقة خفية وأخرج خُفية مصباح الجيب ونظر إليها تحت أشعة الضوء الدائرية. فكانت الرسالة المكتوبة في قطعة الورق بها آثار قلم رصاص يكاد أن ينمحي هو خط تايكو بلا أي شك.

 

"سيد إيندو! إن العجوز صاحبة هذا البيت ساحرة مخيفة. فهي تجعل إله هندي يُدعى أجني في مرات عديدة يحل في جسمي في منتصف الليالي. وأكون أنا نائمة كالميتة في الفترة التي يحل فيها ذلك الإلهة في جسمي، ولذلك لا أدري ما الذي يحدث أثناء ذلك، ولكن طبقًا لما تقوله العجوز، فالإله أجني يستعير فمي ويتنبأ بالعديد من الأمور. وستقوم العجوز الليلة أيضًا بإنزال الإله أجني في الساعة الثانية عشرة. ما يحدث دئمًا أنني أغيب عن الوعي تدريجيًّا دون أن أدري، ولكن الليلة قبل أن يحدث ذلك، سأتظاهر متعمدة بأنني وقعت في السحر. ثم سأقول للعجوز إن لم تعيدني إلى أبي فإن الإله أجني سيقتلها. أعتقد أن العجوز إن سمعت ذلك ستعيدني لأبي بالتأكيد، لأنها لا تخاف من شيء أكثر من الإله أجني. أرجو منك أن تأتي مرة ثانية في صباح غدٍ إلى العجوز. فليس لدينا وسيلة للهرب إلا هذه الخطة أمام قدرات تلك العجوز. الوداع"

 

بعد أن انتهى إيندو من قراءة الرسالة، أخرج ساعة الجيب ونظر فيها. الساعة الآن الثانية عشرة إلا خمس دقائق.

"لقد حان الوقت المحدد، فالطرف الآخر هي تلك العجوز! وسيدتي الصغيرة ما زالت طفلة، ما لم يكن لها مقدار عظيم من الحظ ..."

قبل أن ينهي إيندو كلماته على الأرجح بدأ السحر بالفعل. نافذة الطابق الثاني التي كانت مضاءة حتى الآن، فجأة أظلمت تمامًا. وفي نفس الوقت، فاحت في هدوء رائحة بخور عجيبة لدرجة أنها تغلغلت في أحجار الطريق المبلط به شوارع المدينة.

 

4

 

في ذلك الوقت، كانت العجوز الهندية، تفرد فوق المكتب غرفة الطابق الثاني التي أُطفأ مصباحها كتاب السحر، وتردد طلاسم وتعاويذ مرة بعد مرة. كان الكتاب يجعل حروفه فقط تبرز عالية في غموض حتى في عتمة الغرفة التي ليس بها إلا أشعة نيران المبخرة.

تجلس إرين الذي بدا عليها القلق، بلا حراك على المقعد أمام العجوز ... كلا، بل هي تايكو التي أُلبست ملابس صينية. تُرى هل وصلت الرسالة التي ألقيتُ بها من النافذة منذ قليل إلى يد السيد إيندو بسلام؟ أعتقد أن ظل ذلك الرجل الذي رأيته في الطريق هو السيد إيندو بالتأكيد، ولكن أليس من المحتمل أنني أخطأت الشخص المطلوب؟ ... شعرت تايكو أنها لا تطيق هذه الفكرة. ولكن إن لمحت العجوز عليها هذا التفكير الآن في تلك اللحظة ستكتشف على الفور خطتها تلك للهروب من بيت الساحرة المرعب هذا. ولذا ضمت تايكو يديها المرتعشتين، وظلت تنتظر اللحظة التي خططت لها سابقًا بفارغ الصبر لكي تتظاهر أن الإله أجني انتقل إلى جسمها.

رددت العجوز التعاويذ ثم بدأت تشير بيدها بحركات متنوعة وهي تدور حول تايكو. تقف أحيانًا أمامها وهي ترفع كلتا اليدين على اليمين وعلى الشمال، ثم في أحيان أخرى تأتي خلفها وكأنها تغمي عينيها فتضع يدها بهدوء على جبهة تايكو. وفي ذلك الوقت، لو أن أحدًا كان يشاهد منظر العجوز من خارج الغرفة، فمن المؤكد أنه كان سيبدو له الأمر كما لو أن وطواط أو ما شابه يدور طائرًا داخل أشعة نيران المبخرة.

وأثناء ذلك كانت تايكو، كما جرت العادة دائمًا بدأت تظهر عليها بوادر النعاس. ولكنها لا يجب أن تنام الآن، فمن المنطقي أن نومها سيجعل غير قادرة على تنفيذ الخطة التي وضعها. ولا ريب أن عدم قدرتها على تنفيذ الخطة سيجعلها غير قادرة على العودة إلى أبيها مرة أخرى.

"يا آلهة اليابان! أتوسل إليكِ أن تحفظيني ولا تدعيني أنام. ومقابل ذلك لو استطعت أن أرى وجه أبي مرة واحدة فقط فلا مانع من أن أموت بعدها على الفور. يا آلهة اليابان، أتوسل إليكِ أن تعطيني القوة لكي أخدع تلك العجوز"

استمرت تايكو تدعو في قلبها مرات ومرات. ولكن كان شعورها بالنعاس يتواصل ويزداد أكثر وأكثر. وفي نفس الوقت بالضبط بدأ تصل إلى سمعها أصوات موسيقيّة خافتة مجهولة المصدر وكأنها تطرق ناقوسًا نحاسيًّا مسطحًا. من المؤكد أنها تلك الأصوات التي تسمعها دائمًا عندما ينزل الإله أجني من السماء.

وعند هذا الحد مهما اجتهدت في الصبر على النوم لم تقدر إلا على النعاس! وعلى أرض الواقع كانت نيران المبخرة التي أمام عينيها بل حتى العجوز بدأت هيئتها تختفي تدريجيًّا مثلما تذبل صور الأحلام البغيضة.

"أيها الإله أجني أتوسل إليكَ أن تسمع ما أقول!"

أخيرًا عندما رفعت الساحرة صوتها المبحوح وهي جاثية على ركبتيها فوق الأرض، دخلت تايكو في نعاس عميق دون أن تدري وهي جالسة على المقعد كما هي في حالة لا يُعرف تقريبًا هل هي حية أم ميتة!

 

5

 

لا ريب أن تايكو وبالطبع العجوز كذلك كانتا تعتقدان أن لا أحد يشاهد مشهد السحر هذا. ولكن في الواقع كان هناك رجل خارج الغرفة يتلصص عليهما من خلال ثقب مفتاح الباب. تُرى من يكون هذا الرجل؟ ... لا داعي بالطبع للقول إنه السكرتير إيندو ولا أحد غيره!

بعد أن قرأ رسالة تايكو، وقف لفترة في الطريق وقد قرر أن ينتظر إلى أن تشرق الشمس. ولكنه، عندما فكر في أمر سيدته الصغيرة، لم يستطع مواصلة الوقوف. وفي النهاية تسلل إلى داخل البيت خفية كاللصوص ووصل إلى تلك الغرفة بالطابق الثاني، وأخذ يتلصص عليها منذ فترة.

ولكن مهما قلنا إنه يتلصص، ففي أي حال هو مجرد ثقب مفتاح في الباب، ولذا ما أستطاع رؤيته هو مجرد وجه تايكو من الواجهة وقد بدت كالميتة وتنصب عليها أشعة نيران المبخرة البيضاء الشاحبة. بخلاف ذلك لا تستطيع عين إيندو أن ترى لا المكتب ولا كتاب السحر ولا هيئة العجوز الجاثية على الأرض. ولكنه كان يسمع بوضوح صوت العجوز المبحوح كأنه في متناول يده.

"أيها الإله أجني، أيها الإله أجني، أتوسل إليكَ أن تسمع ما أقول!"

عندما انتهت العجوز من قول ذلك، بدأت تايكو الجالسة وكأنها لا تتنفس تتكلم فجأة وعينيها مغمضة كما هي. بل كان ذلك الصوت صوتًا رجاليًّا غليظًا لا يمكن تصديق أنه يصدر عن فتاة رقيقة مثل تايكو مطلقًا.

"كلا! إنني لن أستمع إلى توسلاتك! فأنتِ قد خالفت ما أقوله لكِ وترتكبين الشر دائمًا! إنني قررت أن أتخلى عنك بعد الليلة. كلا! بل علاوة على ذلك قررت أيضًا أن أعاقبك على شرورك!"

من المؤكد أن العجوز قد أصابها الذهول! فقط ظلت لفترة لا تجيب بشيء بل تصدر عنها أنفاس لاهثة فقط. ولكن استمرت تايكو تواصل الحديث بمهابة دون أي مبالاة بالعجوز.

"لقد اختطفت هذه الفتاة من يد أبيها المسكين. إن كنتِ تشفقين على نفسك ولا تريدين الموت، فمن الأفضل أن تعيدي تلك الفتاة بأقصى سرعة، لن أقول غدًا، بل الليلة"

ظل إيندو يتلصص من ثقب مفتاح الباب منتظرًا رد العجوز. وهنا بدلًا من أن تندهش العجوز وقفت فجأة أمام تايكو وهي تضحك ضحكات حاقدة.

"كفي عن الاستهانة بي! ماذا تفكرينني؟ إنني لم أخرف بعد للدرجة أن أنخدع لكِ! أعيدك لأبيك بأقصى سرعة! ... إن الإله أجني لا يمكن أن ينطق بهذا القول، فهو ليس فردًا من الشرطة!"

شرعت العجوز سكينا لا ندري من أين أخرجتها ووضعتها أمام وجه تايكو مغمضة العينين.

"حسنًا، اعترفي بصراحة! أنها أنتِ التي تتظاهر باستخدام صوت الإله أجني أليس كذلك؟"

بالتأكيد حتى إيندو الذي يشاهد الموقف من بدايته لا يعرف هل تايكو نائمة حقًا أم لا! ولذا عندما رأى إيندو ذلك، ارتبك قلبه عفويًّا معتقدًا أن الخطة قد انكشفت! ولكن ظلت تايكو لا تحرك جفنًا واحدًا وأجابت وهي تضحك ساخرة:

"لقد اقتربت لحظة موتك! هل يبدو لك صوتي على أنه صوت بشري؟ إن صوتي إذا همس تشتعل منه السماء! ألا تعرفين ذلك؟ إن لم تعرفي فافعلي ما بدا لك! ولكنني سأسألك سؤالًا: هل ستعيدين تلك الفتاة على الفور؟ أم إنك ستخالفين قولي؟ ..."

احتارت العجوز قليلًا. ولكنها استعادت شجاعتها سريعًا، وجذبت تايكو ناحيتها بعنف وهي تمسكها من شعرها بيد وتمسك السكين باليد الأخرى.

"أيتها العاهرة! أما زلتِ تعاندين؟ حسنًا، حسنًا، كما وعدتك سوف أتقنص روحك بضربة واحدة!"

لوّحت العجوز السكين لأعلى. وإن تأخر لحظة فسوف تنتهي حياة تايكو. أنهض إيندو جسمه فجأة وحاول أن يفتح الباب المغلق بالمفتاح بالقوة. ولكن الباب لا ينكسر بسهولة. مهما دفعه أو طرقه يده فقط التي تُجرح.

 

6

 

فجأة تردد في الظلام صوت صراخ من داخل البيت. ثم بعد ذلك سُمع أيضًا صوت كأنه سقوط أحد على الأرض. اصطدم إيندو بالباب تقريبًا كالمجنون وهو يضع كل قوى جسمه في كتفه وينادي على اسم تايكو.

صوت انشقاق ألواح خشبية، صوت تطاير قفل حديدي، ... أخيرًا تحطم الباب. ولكن المهم أن الهدوء كان يسود الغرفة ولا أثر لبشر، بل فقط ما زالت نيران المبخرة البيضاء الشاحبة تشتعل فيه.

دار إيندو بنظره حوله برعب معتمدًا على تلك الأشعة.

وعلى الفور استطاع أن يرى تايكو التي تجلس على المقعد دون حركة كالموتى. ولسبب مجهول كانت تثير في إيندو مشاعر المهابة والجلال وكأن أشعة مبهرة تنطلق من رأسها.

"سيدتي الصغيرة!"

ذهب إيندو إلى المقعد وقرب فمه من أذن تايكو ونادى عليها بكل اجتهاد. ولكن كانت تايكو مغمضة العينين مطبقة الشفتين.

"سيدتي الصغيرة، أرجوك أن تستيقظي! أنا إيندو!"

أخيرًا فتحت تايكو عينيها فتحة ضئيلة وكأنها كانت تحلم.

"السيد إيندو؟"

أجل. أنا إيندو! لا تقلقي! أصبحتِ في أمان. هيا نسرع بالهرب من هنا!"

قالت تايكو بصوت ضعف وكأنها ما زالت بين الحلم واليقظة:

"لقد فشلت الخطة! لأنني نعستُ دون إرادتي، ... أرجو أن تصفح عني"

"لست أنت سبب انكشاف الخطة. ألم تنتهِ فعلًا من التظاهر بأن الإله أجني قد تقمصك؟ ... ولكن لا أهمية للأمر الآن. هيا نسرع بالهرب"

حضن إيندو تايكو وأنهضها من المقعد وهو في حيرة من الأمر.

"حقًا؟ لقد نمت بالفعل. ولا أدري ما قلتُ"

قالت تايكو بصوت هامس وهي تستند بجسمها على صدر إيندو.

"لقد فشلت الخطة. ولن أستطيع الهرب مطلقًا"

"لن أجعل ذلك يحدث. تعالي معي. سيكون الفشل هذه المرة مصيبة"

"أليست العجوز هنا؟"

"العجوز؟"

أدار إيندو بصره مرة أخرى على أرجاء الغرفة. كتاب السحر مفتوح فوق المكتب كما كان منذ قليل. ... وتحته كانت العجوز الهندية منبطحة على ظهرها. العجوز ميتة في بحر من الدماء تغرز بيدها السكين في صدرها.

"ماذا حدث للعجوز؟"

"ماتت"

قضبت تايكو حاجبيها وهي تنظر إلى إيندو.

"أنا لا أدري شيئًا مطلقًا. يا سيد إيندو ... هل أنت من قتل العجوز؟"

نقل إيندو عينيه من جثة العجوز ونظر إلى وجه تايكو. وكانت تلك اللحظة التي أدرك إيندو أخيرًا فيها غرابة قوة الأقدار، أنه بالرغم من فشل خطة الليلة إلا أن موت العجوز، أتاح له استرداد تايكو سالمة.

"ليس أنا من قتلها. إن من قتل تلك العجوز هو الإله أجني الذي تنزّل الليلة على هذه الغرفة"

هكذا همس إيندو بمهابة وهو يحتضن تايكو.

 

(ديسمبر 1920م)