بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 30 مارس 2020

ثلاثة "لماذا؟" ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


ثلاثة "لماذا؟"*

ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي


1
لماذا قابل فاوست الشيطان؟


كان فاوست خادما للرب. وبالتالي كانت التفاحة بالنسبة له هي نفسها "ثمرة المعرفة". ولذا كان كلما رأى تفاحة يتذكر جنة عدن ويتذكر آدم وحواء.
ولكنه في عصر يوم توقفت فيه الثلوج، تذكر فاوست لوحة زيتية وهو يتأمل تفاحة. لوحة زيتية بألوان زاهية وندية موجودة في أحد الأديرة. وبالتالي منذ ذلك الوقت أصبحت التفاحة مع كونها "ثمرة المعرفة" في الماضي، بدأت تتحول أيضا إلى "جماد" في الحاضر.
وربما بسبب أن فاوست شديد التدين فهو لم يتناول التفاح مطلقا. ولكن في ليلة عاصفة، شعر فاوست فجأة بالجوع فقرر أن يشوي تفاحة ويأكلها. وعندها تحولت التفاحة بالنسبة له إلى طعام منذ ذلك الوقت. وبالتالي كان كلما رأى تفاحة يتذكر وصايا موسى العشر، ويتذكر الجماد في ألوان الرسم الزيتية ويحس أن معدته تشتكي من الجوع.
في النهاية اكتشف فاوست في صباح يوم طفيف البرودة وهو يتأمل التفاحة أن التفاح هو بضاعة بالنسبة للتاجر. وأنه في الواقع إن باع منها 12 تفاحة سيحصل على قطعة من الفضة. بالطبع تحولت التفاحة منذ ذلك الوقت بالنسبة له إلى عملة فضية.
في عصر يوم شديد الغيوم ظل فاوست وحيدا يفكر في التفاح؟ تُرى ما التفاح؟ وكان ذلك سؤالا لا يستطيع الإجابة عليه ببساطة مثل الماضي. وظل يردد بلسانه هذا اللغو وهو جالس في غرفة مكتبه:
"تُرى ما التفاح؟"
وعندها دخل غرفة المكتب كلب أسود رفيع لا يُعرف من أين أتى؟ ليس هذا فقط بل لقد ارتعش الكلب فتحول في الحال إلى فارس وانحنى بالتحية لفاوست.
لماذا التقى فاوست بالشيطان؟ السبب هو ما ذكرته آنفا. ولكن لقاءه مع الشيطان ليس هو الفصل الخامس من مأساة فاوست. في ليلة شديدة البرد تناقش فاوست مع الشيطان الذي تحول إلى فارس حول التفاح وهما يسيران في المدينة المزدحمة بالمارة. وعندها قابلا طفلا صغيرا يمسك بيد أمه الفقيرة ووجهه مبتلا بالدموع: "اشتري لي تلك التفاحة يا أمي!"
توقف الشيطان عن السير وأشار بأصبعه إلى الطفل وقال لفاوست:
"انظر لتلك التفاحة! إنها أداة تعذيب"
وهنا بدأت بهذه الكلمات ترتفع أخيرا ستارة الفصل الخامس من مأساة فاوست.


2
لماذا لم يتقابل سليمان مع ملكة سبأ إلا مرة واحدة فقط؟


لم يتقابل سليمان مع ملكة سبأ طوال حياته إلا مرة واحدة فقط. ولم يكن سبب ذلك أن ملكة سبأ تعيش في بلاد بعيدة. فقد كانت سفن ترشيش وسفن حيرام تحمل مرة كل ثلاث سنوات الذهب والفضة والعاج والقرود والطواويس. ولكن لم يتوجه رسل سليمان بجِمالهم ولو مرة واحدة عبر الصحاري والهضاب الصخرية التي تحيط بأورشاليم متجهين إلى بلاد سبأ.
كان سليمان يجلس اليوم كما هي عادته وحيدا في عمق قصره. وكان قلبه يشعر بالوحدة. ولم تستطع واحدة من زوجاته سواء المؤابيات أو العمونيات أو الأدوميات أو الصيدونيات أو الحثيات أن تُسري عنه. فقد كان يفكر في ملكة سبأ التي قابلها مرة واحدة فقط.
لم تكن ملكة سبأ جميلة. ليس هذا فقط بل كانت تكبره في العمر. ولكنها كانت امرأة نادرة ذات مواهب. لقد شعر سليمان في كل مرة يلقى عليها سؤال أن قلبه يتراقص من الفرح. كانت فرحة لم يشعر بمثلها في حواراته مع أي ساحر أو منجم من قبل. ولا شك أنه كانت لديه رغبة في الحديث إلى ملكة سبأ المهيبة مرة ثانية وثالثة أو ربما طوال العمر.
ولكن في نفس الوقت كان سليمان يخشى ملكة سبأ. والسبب أنه كان يفقد حكمته أثناء لقائه معها. أو على الأقل لأنه لم يستطع التفرقة بين حكمتها وبين حكمته التي يفخر بها. لقد كان سليمان لديه زوجات مؤابيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات ولكن كانت زوجاته تلك بمثابة جواري له من الناحية النفسية. وحتى عندما كان يداعبهن كان يحتقرهن خفية في نفسه. ولكن كانت ملكة سبأ الوحيدة التي تجعله في بعض الأحيان يخشى أن يتحول لعبد لها.
لا شك أن سليمان كان يخشى أن يصبح عبدا لها. ولكنه أيضا كان من ناحية أخرى يشعر بالفرحة. كان ذلك التناقض يسبب لسليمان معاناة لا يمكن وصفها. كان أحيانا يطلق زفرات الأسى الغليظة من فوق عرشه العاجي الكبير الذي يقف عليه أسد من الذهب الخالص. وكانت تلك الزفرات في لحظات معينة تأخذ شكل قصيدة من شعر غنائي.
إن حبيبي بين البنين
كالتفاح بين شجر الغابة
.................................................................
رايته ترفرف فوقي بالمحبة.
أرجو أن تسندوني بالزبيب
وتنعشوني بالتفاح
فأنا أعاني من مرض الحب
في غروب أحد الأيام صعد سليمان إلى سطح قصره، وظل يتأمل في اتجاه الغرب البعيد. بالتأكيد لم يمكنه رؤية البلاد التي تسكنها ملكة سبأ. وأعطى ذلك لسليمان إحساسا أقرب إلى الراحة القلبية.
ثم ظهرت صورة وهمية فجأة وسط أشعة الشمس الغاربة لأحد أنواع الوحوش التي لم يرَ أحد مثلها من قبل. كان الوحش يشبه الأسود ولكن له رأسين ويفرد جناحيه. بل وكان أحد الرأسين رأس ملكة سبأ والرأس الآخر رأسه هو نفسه. كان الرأسان يعض كل منها الآخر وتذرفان الدمع في غرابة. وبعد أن لاحت الصورة الوهمية لبعض الوقت، اختفت سريعا وسط الهواء مرة أخرى مع صوت الرياح القوية التي يتردد صداه. تبقى بعد ذلك فقط صف من الغيوم التي تشبه سلسلة فضية براقة تهتز بميل.
ظل سليمان واقفا بلا حراك فوق السطح حتى بعد اختفاء الصورة الوهمية. كان معنى الصورة الوهمية في منتهى الوضوح. وحتى وإن لم يفهمه أحد خلاف سليمان.
بعد أن تأخر الليل في أورشاليم، تبادل سليمان الذي ما زال شابا شُرب خمر العنب مع زوجاته وخدمه. كانت الكؤوس والأطباق التي يستخدمها جميعها من الذهب الخالص. ولكن لم يكن سليمان لديه الرغبة المعتادة في الحديث والضحك. بل أنه فقط أحس بقدوم مشاعر اختناق فياضة ومريبة لم يكن يعرفها حتى ذلك اليوم.
لا تلوم زهرة الزعفران على أنها صارت حمراء
ولا تلوم أغصان الكافور على رائحة عطرها
تُرى هل أنا حزين؟
أن الزعفران يصبح كثير الحمرة
وأن أغصان الكافور تصبح عالية الرائحة
عزف سليمان على قيثار كبير وهو يغني بهذا الشعر. ليس هذا فقط بل لقد انسابت دموعه بدون توقف. كان غناؤه يفيض بالنغم الهائج الذي لا يليق به. مما جعل جميع زوجاته وخدمه ينظرون لبعضهم البعض. ولكن لم يسأله أي منهم عن معنى أغنيته. وعندما انتهى سليمان أخيرا من الغناء انحنت رأسه المتوجة بتاج الملك، وظل فترة من الوقت بلا حركة مغمض العينين. وبعد ذلك، ... بعد ذلك رفع فجأة وجهه الضاحك وبدأ يتحدث مع زوجاته وخدمه كما هي عادته.
حملت سفن ترشيش وسفن حيرام مرة كل ثلاث سنوات الذهب والفضة والعاج والقرود والطواويس. ولكن لم يتوجه رسل سليمان بجِمالهم ولو مرة واحدة عبر الصحاري والهضاب الصخرية التي تحيط بأورشاليم أبدا متجهين إلى بلاد سبأ.


3
لماذا اقتنى روبنسون قردا


لماذا كان روبنسون يقتني قردا؟ لأنه كان يريد أن يرى رسما كاريكاتوريا له شخصيا أمام عينيه. إنني أعلم ذلك جيدا. كان روبنسون الذي يحتضن سلاحه يحتضن ركبتي سرواله الرث وتبرز على محياه ابتسامة عظيمة وهو يتأمل القرد دائما. القرد الذي ينظر عاليا نحو السماء في كآبة وقد تجهم وجهه الرصاصي.

(اليوم الخامس عشر من الشهر السابع من العام الخامس عشر من عصر تايشو [15/7/1926])

* نُشرت عام 1927 بعد انتحار المؤلف

السبت، 28 مارس 2020

جسد امرأة تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


جسد امرأة

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

(ريونوسكيه أكوتاغاوا عملاق الأدب الياباني وصاحب الراشومون أشهر قصة يابانية في العصر الحديث والتي أخذ المخرج الشهير أكيرا كوروساوا اسمها وجزء منها مع قصته الأخرى "في غابة" "أو "في علم الغيب" ليصنع منهما ذلك الفيلم الرائع "راشومون" الذي حاز على جائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم في مهرجان فينسيا السنيمائي عام 1951 وكذلك على جائزة الأوسكار التقديرية لنفس العام كأول فيلم ياباني يفوز بهاتين الجائزتين، وُلد أكوتاغاوا عام 1892 أي العام الخامس والعشرون من عصر ميجي أي بعد ربع قرن من بداية حركة التحديث والتنوير اليابانية التي بدأت بإعادة الساموراي مقاليد السلطة والحكم إلى الإمبراطور. درس أكوتاغاوا الآدب الإنجليزي بجامعة طوكيو الإمبراطورية وبدأ في الكتابة والنشر وهو لا زال طالبا بالجامعة. يقول عنه أحد أصدقائه إن كان يستطيع قراءة ألف صفحة يوميا. انتحر أكوتاغاوا في سن الخامسة والثلاثين وهو في أوج مجده بتعاطي كمية كبيرة من الأقراص المنومة. بعد موته بثمان سنوات أطلق صديق عمره الكاتب والناشر "كان كيكوتشي" جائزة أدبية باسمه لتصبح أشهر جائزة أدبية في اليابان. ترك أكوتاغاوا ما يزيد على المئتين وخمسين عملا أغلبها قصص قصيرة. تعتبر أعماله قمة الأعمال الأدبية اليابانية التي كُتبت في بدايات القرن العشرين والتي لا تزال لها بريقها ورونقها حتى الآن. في هذه الأقصوصة يتضح تماما تأثره بكافكا، فيجعل بطله "يوبو" الصيني يتحول إلى قملة للحظات ليراقب جسد زوجته. / المترجم).


استيقظ الصيني "يوبو" في إحدى ليالي الصيف، بسبب حرارة الجو الشديدة والرطوبة العالية، وأثناء شروده في أوهام وخيالات لا معنى لها وهو يضع يده على خده، وهو يتكئ على أطرافه الأربعة، انتبه فجأة إلى وجود "قملة" تزحف على حافة الفراش. من خلال أشعة المصباح الخافت الذي ينير الغرفة، يشع ظهر القملة الضئيل وكأنه مسحوق من الفضة، ويبدو أنها تزحف بتلكؤ مستهدفة الوصول إلى كتف زوجته التي تنام بجواره. كانت زوجته نائمة عارية مولية وجهها من فترة تجاه "يوبو" وتصدر أنفاس نوم هادئة.
أخذ "يوبو" يفكر وهو يتأمل حركة تلك القملة شديدة البطء، في ماهية عالم تلك الحشرة الضئيلة. فما يمشيه هو في خطوتين أو ثلاثة خطوات، لا تستطيع تلك القملة سيره في إلا بعد أن تستغرق ساعة كاملة. بل ونطاق تلك المسافة التي تستطيع السير فيها هي المساحة التي فوق الفراش فقط. لو كان وُلِد كقملة، لكانت حياته بالتأكيد في غاية الممل. ...
أثناء تفكيره عديم الجدوى بهذا الشكل بدأ "يوبو" يغيب تدريجيا عن الوعي، بالطبع لم يكن ذلك الذي رآه حلما. ولكن مع ذلك لم يكن أيضا واقعا. هو فقط كان يغوص بدون غرق في قاع شعور قلبي غريب بالنشوة. وأخيرا عندما يعتقد أنه قد استيقظ وعاد إليه وعيه فجأة، وجد "يوبو" نفسه وقد دخلت روحه في جسد تلك القملة، ووجد نفسه يزحف فوق الفراش المليء برائحة العرق الكريهة. ولأن الأمر في غاية الغرابة بالنسبة لـ "يوبو" فقد توقف دون وعي فجأة من فرط الدهشة. ...
في الطريق التي أمامه يوجد جبل عالي الارتفاع. وهو يحتضن بدفء نفسه دائريا ويتدلّى منخفضا من مكان عال لا تراه عيني يوبو ويصل حتى سطح الفراش أمام عيني يوبو مكونا ما يشبه متدليات الكهوف. الجزء الملتصق بالفراش، به جزء بلون أحمر شفاف يأخذ شكل حبة من بذر الرمان، تجعلك تظن أنها تخفي بداخلها نارا مضيئة، ولو استثنينا هذه، الجبل الدائري كله، مهما نظرت في أرجائه فلا يوجد مكان غير أبيض. وذلك البياض هو بياض ذو لون سلس به لدونة مثل الشحم المتجمد، وحتى التجويف في ذلك المنحدر الذي في جنب الجبل، وكأنه تماما مثل أشعة القمر التي تشير إلى الجليد، يشع فقط ظلا أزرقا باهتا. وعلى العكس الجزء الذي يستقبل أشعة الضوء، يحمل لونا أصفر شفافا لامعا، راسما في السماء البعيدة خطا منحينا جميلا مثل القوس لا يمكن رؤيته في أي سلاسل جبلية أخرى. ......
فتح يوبو عيونه المنبهرة متأملا منظر ذلك الجبل الجميل. لكم كانت دهشته عظيمة عندما عرف أن هذا الجبل هو أحد نهديّ زوجته. لقد نسى الحب والكراهية وبل ونسى الشهوة الجنسية ذاتها، وظل يراقب ذلك الثدي العملاق الذي يشبه جبلا من العاج. ثم من فرط دهشته، ربما نسى حتى رائحة العرق الكريهة في الفراش، ولم يتحرك وكأنه قد تجمد في مكانه. ... لأول مرة يستطيع يوبو أن يراقب جسد زوجته الجميل بهذه الحيوية وهذا القرب بعد أن أصبح قملة.
ولكن بالنسبة لفنان بارع، الأشياء الجميلة التي رأها كقملة، لم يكن جمال جسد امرأته فقط.

(سبتمبر من العام السادس لعصر تايشو 1917م)

الجمعة، 27 مارس 2020

قُبْلة تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي

قُبْلة
تأليف: يوكيو ميشيما
ترجمة: ميسرة عفيفي

(يوكيو ميشيما؛ أسطورة الأدب الياباني على مر العصور، فعلى الرغم من عدم حصوله على جائزة نوبل وفوز أستاذه كاواباتا بها إلا أن ميشيما يعتبر هو الأشهر من بين أدباء اليابان وكذلك الأكثر انتشارا، فحسب إحصاءات مكتب ساكاي الذي يتولى إدارة حقوق ميشيما الفكرية، فقد باعت كتب ميشيما أكثر من 24 مليون نسخة بكل لغات العالم حتى نهاية عام 2010. وهو أيضا الكاتب الياباني الأكثر حظا في ترجمة أعماله للغة العربية. وُلد ميشيما في طوكيو عام 1925 مع ميلاد عصر شوا وتولي هيروهيتو عرش اليابان؛ وبدأ في عام 1945 السير على درب الشهرة مع أول أعماله "غابة في ريعان الشباب" التي أرسلها إلى كاواباتا فهام بها وبه إعجابا ونشرها على الفور في المجلة التي كان يرأس تحريرها ولتبدأ علاقة قوية من الصداقة بين كاواباتا الأستاذ وميشيما التلميذ، تستمر حتى وفاة ميشيما عام 1970 منتحرا بخنجره؛ وليلحق به أستاذه عام 1972 منتحرا كذلك بعد أقل من عامين عاشهما في حزن واكتئاب. ميشيما يعتبر كذلك من أكثر الأدباء اليابانيين غزارة في الإنتاج حيث أنه خلال ربع قرن هي فترة إبداعه من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى انتحاره في 25 نوفمبر من عام 1970 ترك ميشيما ثروة هائلة من الكتب تتراوح بين 35 رواية و150 قصة قصيرة وعشرات المسرحيات، وعدد كبير من الكتب التي احتوت على المقالات النقدية وأدب الرحلات واليوميات والمحاورات. المترجم)

لدى الشاعر (أ) عادة، هي كتابة الشعر بقلم مصنوع من ريشة أوزة. وكان عادة ما يكتب الشعر ليلا قبل خلوده إلى النوم. إذا كان الشعر الغنائي هو الشعر الذي يتغنى بمشاعر الحب من قديم الأزل، فليس من الخطإ اعتبار أن ما يكتبه شاعرنا حاليا، هو من هذا النوع.

يغيب الهلال - الذي يشبه شفتيكِ المبتسمة قليلا -
في التلة البعيدة
شفتاك التي تبتسم لك يا غابة
لك أنت أيتها الغابة الواقعة فوق التلة

تتباعد أشجار الغابة
لتشبه ثنايا المِرْوَحَة
تشِفُّ من خلفها ابتسامة شفتيك
تلك المِرْوَحَة ....

ما الذي يفكر فيه هذا الشاعر على وجه التحديد؟
فالأمر لا يقتصر على أن قمر الليلة ليس هلالا فقط، بل إنه بدر جميل متلألأ بشكل يندر وجوده. ثم أليست المِرْوَحَة غريبة هنا؟ فنحن الآن في فصل الخريف وبالتأكيد تحس يده التي يكتب بها ببعض البرودة في الليل.
لو كان الشعر قد اكتمل سريعا، لكان يمكن غض الطرف عن عدم التوافق الزمني هذا. ولكن وصوله إلى طريق مسدودة بعد كتابته "المِرْوَحَة ...."، يجعلنا نعتقد أن الشعر بأكمله مثل مِرْوَحَة الخريف، رديء تماما ويأتي في موسم ليس موسمه. بالإضافة إلى أن هذا الشاعر ليس من ضمن من يُطلق عليهم "شعراء موهوبين"، إذا جاء الخريف عاش ليكتب فقط أشعار الخريف. لقد أُنهك الشاعر تماما في التفكير دون نتيجة، فوضع ريشة القلم فوق شفتيه.
كانت حركة مفاجأة. وكان يُعتقد أن مثل هذه الحركة يمكنها أن تقوده إلى إلهام ما. ولكن الذي نتج عن ذلك لم يكن إلهاما. انزلقت ريشة الأوزة اللامعة برطوبة فوق شفتيه. وعندها تولد في شفتيه شعور غريب حلو، يشبه الترنح.
وقف فجأة من على المقعد، وأدار البصر حوله في ملل. ثم بمشاعر مشمئزة التقط قلم الريشة، الذي كان مرميا فوق المكتب ووضعه في جيبه. ذهب إلى جوار النافذة وهو يتعثر في زجاجة الويسكي الفارغة الملقاة على الأرض. ثم فتح تلك النافذة الصغيرة، وأخذ يتأمل الأنوار الحمراء التي تنير وتنطفئ لتدل على موضع "مزلقان" قطار الضواحي. وكأنه قد حسم أمره، سحب الشاعر معطف الخريف المعلق في مسمار على الحائط، وأدخل فيه يديه بعنف، ثم دون أن يصلح من شعر رأسه المشعث، نظر لنصف ثانية فقط في المرآة، وأنطلق خارجا من غرفته.
رغم أنها ليلة ينيرها البدر، إلا أن هذه الناحية من المدينة كانت هادئة تماما. لقد كان البدر ينير السحاب البارز في السماء فيجعله يبدو وكأنه عملا منحوتا. وكان الشاعر يفكر وهو يمشي في أن أشعة ذلك البدر الباهرة لا بد وأن لها تأثير مثل تأثير أشعة إكس. أي أنها تُظهِر بوضوح فقط ما يوجد في قلب الإنسان، ولكنها لا تفيد مطلقا في علاجه بأي حال.
ثم بدأ يصعد تلك التلة التي يوجد ذلك البيت على قمتها.
تسكن فتاة غريبة الأطوار قليلا في البيت الذي يوجد فوق تلك التلة. الفتاة تقول عن نفسها إنها رسّامة. ثم أن لديها عادة غريبة، هي أنها لا ترسم إلا في الليل تحت أضواء المصباح. حقا إن الفاكهة تكون أجمل في الليل. مثلها مثل المرأة تماما.
كانت تلك الفتاة لديها عدد كبير من الأصدقاء الذكور. وكان هؤلاء الذكور كذلك يطيعونها كأنهم ألعوبة في يدها. كانت الفتاة لا تغلق مطلقا مفتاح الباب الذي يؤدي من الحديقة إلى مرسمها مباشرة، وتتركه بلا قفل من أجل من يرغب من أصدقائها الذكور في المجيء لزيارتها ليلا. ولكن هؤلاء الأصدقاء الذكور إذا قالت الفتاة لأحد منهم عُد لمنزلك، فهو يعود، وإذا قالت له نَم حتى الصباح، فهو يبات في المرسم على سرير متهالك تصنعه له بصف مقاعد المرسم بجوار بعضها البعض. ربما يُعتقد أن هذه الجلافة (هذا ليس سباب فأرجو المعذرة) شيئا لا يطاق، ولكنها كانت فتاة نقية وبريئة قلبا وقالبا.

عندما دفع البوابة المنخفضة الملونة بصبغة بيضاء، انساب صوت الجرس كقطرات الندى. كانت الحديقة تمتلئ بزهور الأضاليا وكرز الخريف. تبدو ألوان كرز الخريف الحمراء والبنفسجية في الليل وكأنها شديدة السواد.
فُتحت ستائر المرسم ونظرت الفتاة على الحديقة. وجهها مظلم وحواف شعرها فقط هي التي انعكست بشدة في عيون (أ). وعندما عرفت أنه (أ) فتحت الفتاة الباب من ناحيتها وقالت:
"... أنا الآن أرسم أشياء ساكنة. إنه عمل ممتع للغاية. ماذا تفعل عندك؟ أسرع بالدخول!"
ألقى الشاعر تحية بلهاء قائلا:
"مساء الخير."
كان المرسم ذا إضاءة شديدة مبهرة، وفوق المنضدة كانت عدة القهوة التي اعتاد رؤيتها، تلمع متلألئة بفتور. وفوق المنضدة الأخرى التي وُضع عليها مفرش مخطط بخطوط فظة، بحيث تتكوّن عمدا تجاعيد، توجد فواكه، مثل تفاح، وكمثرى، وبرتقال لازال أخضرا، وثمرة كاكا، وعنب، مكدسة بلا نظام ولا ترتيب.
"ماذا لو جعلتيها تفاح وكمثرى فقط؟ بهذا الشكل ستصبح اللوحة وكأنها دعاية لمحل فاكهة."
عندما قال تلك الدعابة دون أي تفكير، أحس الشاعر أن الشيء الثمين الذي أحضره معه من غرفته بحرص بالغ، وقع منه وتفتت إلى شظايا متفرقة. ولكنه لم يكن يعرف ما هو ذلك "الشيء الثمين". ولكن الأمر المؤكد أنه فجأة أصبح في حالة من الضعف النفسي، خالية من أي أمل.
"اخرس وانظر في صمت أيها الشاعر البليد. فشعرك الرديء لا يمكن يصبح ولا حتى كدعاية لحانوتي."
ردت الفتاة بهذا الرد القاسي والعنيف وهي تخفي ضحكاتها بإمالة فكها اللين - الذي على وشك أن يصير مزدوجا من السمنة - لأسفل. جلستْ على المقعد المنخفض ذي الثلاث أرجل، وعلقت لوح الألوان في أصبع يديها اليسرى. كان رأي الشاعر أن اللوحة التي استمرت الفتاة في رسمها غنية بالبراءة مثل اللوحات التي يرسمها تلاميذ المدارس الابتدائية. ولكن من ناحية الجمال مهما نظرنا إليها فيبدو لوح الألوان المعلق في يديها، والذي يشبه رسما لقوس قزح على خزف زجاجي أبيض، أكثر جمالا بمراحل عديدة. بل ويضاف إلى الرسمة عنصر لوني جمالي آخر هو إصبع بلون وردي في غاية الحيوية يطل من فتحة لوح الألوان.
اعتبر الشاعر شدة انشغال الفتاة في رسم لوحتها أمرا جيدا، وانتهز تلك الفرصة في التلصص على شفتيها وهي تميل لأسفل. تلك الشفاه التي يبدو أن لها طعم فاكهة، أكثر بكثير من أية فاكهة. هل يا ترى توافق لي الفتاة؟ فأنا أرضى ولو حتى بقبلة لمدة ثانية واحدة فقط. بعد القبلة سأهرب على الفور.
يبدو أن الفتاة أصبحت في حيرة من أمرها تجاه ذلك الضيف الثقيل. فلقد أصبحت طريقة إذابة الألوان أكثر حدة. ولا يوجد أي تقدم في رسم اللوحة. ويبدو أنها شخص به قليل من النزعة الهستيرية، فقد وضعت فجأة الريشة التي لم تبلل بعد، على فمها وأخذت تعض عليها. ويبدو أن تلك علامة على التوقف عن الرسم. وفجأة أبعدت الفتاة رأس الريشة عن أسنانها وبدون وعي بدأت تمسح بها على شفتيها.
وظهرت على وجه الشاعر بشكل عفوي ملامح سُكْر.
قالت الفتاة بصوت ينقصه الرطوبة، وهي تنظر إلى الأمام كما هي دون أن تلتفت إليه.
"لماذا جئت في هذا الوقت المتأخر؟"
وفي غفلة من الزمن، كانت الريشة قد نُقعت بلون قرمزي، ثم صبغت بشرة التفاحة.
"الشعر ... لأنني لم أستطع كتابة الشعر بإتقان."
"مثلي تماما. ولكن كما المتوقع إن وجودنا كلٍ على حدة يجعلنا نعمل بشكل أفضل. هل يمكن أن تعود لبيتك؟"
نظرت الفتاة إلى الشاعر وعلى وجهها ابتسامة متميزة ليس بها أية نوايا سيئة. ولكن توقفت عينها على ريشة الأوزة الطويلة التي تطل من جيب جاكته فقالت:
"ما هذا! هل كنت تنوي كتابة الشعر هنا؟"
"لماذا؟"
للحظة لم ينتبه، ولكنه عندما تتبع مسار نظراتها ورأى قلم الريشة، توردت خدوده بطريقة غير طبيعية وزائدة عن المعتاد، طريقة لا تحدث إلا للشباب صغير السن.
"آه ... قصدك هذا، لقد أحضرته هدية لكِ."
"حقا! شكرا لك."
ضحكت الفتاة بطريقة ماكرة.
"مقابلها سأعطيك كل هذه الفاكهة عندما أنتهي من رسمها."
"لا ... في الواقع ... أنا أريد هذه ... هذه الريشة."
قالها الشاعر بحزم بعد تخليه عن الحذر. وعندها تحول لون وجهه للشحوب قليلا.
"أتعني هذه؟"
ونظرت الفتاة من جديد إلى الريشة التي تمسكها بين أصابعها الرفيعة وقالت:
"هذا أمرٌ مزعج قليلا. .... ولكن، حسنا، لو تريدها خذها."
وهكذا ترك الشاعر قلم الريشة المحبب إليه، وأخذ ريشة الرسم الوردية التي لثمتها بشفتيها، وعاد بخطوٍ وئيد وتمهل، إلى منزله عبر طريق ينيرها البدر الذي كان على وشك الغياب. ولم يحدث غير ذلك من أحداث. وإذا سألنا لماذا عَنْوَن المؤلف هذه القصة بعنوان "قبلة"؟ فربما يوجد من يفهم ذلك، ويوجد من لا يفهم. وكلا الأمرين لا غبار عليهما، ولكن يريد المؤلف أن يذيّل القصة بما يشبه الدرس المعهود في حكايات أيْسوب التعليمية للأطفال. وهو كما يلي:
"يا أيتها الفتيات، صاحبن الشعراء. لماذا؟ لأنه لا يوجد بين الجنس البشري من هو أأمن من الشاعر!"



جزء من رواية ثلج الربيع المجلد الأول من رباعية "البحر الخصيب" تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي


جزء من رواية ثلج الربيع
المجلد الأول من رباعية
"البحر الخصيب"

تأليف: يوكيو ميشيما
ترجمة: ميسرة عفيفي

"منذ فترة وأنا أفكر فيما يُسمى الفردية الذاتية. على الأقل في هذا العصر وهذا المجتمع وهذه المدرسة أنا أعتقد أنني شخص متفرد وأيضا أريد أن أفكر أنني متفرد. ألا تفكر أنت أيضا كذلك؟"
"بلى"
كانت إجابة كيوأكي بلا روح ولا حماس ولكن تفوح من صوته العذوبة المتميزة جدًا.
"ولكن ماذا بعد مرور مئة عام؟ ليس أمامنا إلا النظر إلى اندماجنا داخل تيار العصر بلا موافقتنا. إن تاريخ الفن يبرهن على ذلك من خلال عدم اهتمامه بالطرازات المختلفة داخل كل عصر. عندما تعيش داخل طراز أحد العصور، لا يمكن لأحد النظر إليك إلا من خلال ذلك الطراز"
"ولكن هل يوجد طراز لهذا العصر؟"
"هل تريد أن تقول إن طراز عصر ميجي يحتضر فقط؟ لا شك أننا داخل طراز معين. ولكن مَن يعيش داخل طراز ما، لا يمكنه مطلقا رؤية ذلك الطراز. مثل السمكة الذهبية، هي لا تعلم أنها تعيش داخل حوض سمك.
أنت تعيش في عالم المشاعر فقط. ويعتبرك الآخرون غريب الأطوار، وأنت نفسك تعتقد أنك تعيش مخلصا لفرديتك الذاتية. ولكن ما من برهان على فرديتك الذاتية تلك. ولا يمكن الاعتماد على شهادة من معاصريك. وربما يكون [عالم مشاعرك] يُظهر الشكل الأكثر نقاءً لطراز العصر. ... ولكن أيضا ما من برهان على ذلك"
"حسنا ما البرهان الذي تقصده؟"
"الزمن. إنه الزمن فقط. إن مرور الزمن هو الذي يعطي خُلاصة لي ولك ويدمج بقسوة العناصر المشتركة لنا مع العصر بدون وعي منا، ... ثم يمزجنا معا في القول التالي: [كان شباب بدايات عصر تايشو يفكرون بتلك الطريقة، ويرتدون مثل هذه الملابس. ويتحدثون بطريقة الكلام تلك]. أنت تكره لاعبي فريق الكِندو في المدرسة، أليس كذلك؟ وتمتلأ بمشاعر الرغبة في احتقارهم، أليس ذلك؟"
"بلى"
رد كيوأكي بهذا الشكل وهو يشعر بامتعاض بسبب البرودة التي بدأت تنفذ تدريجيا من خلال بنطلونه، وهو يتوقف بنظره على أوراق شجر الكاميليا المجاورة تماما لحافة التعريشة وهي تتألق في أشعة جذابة بعد أن انزلق الجليد الذي كان متراكما عليها.
"بلى، أنا أكرههم بشدة وأحتقرهم"
لم يندهش هوندا الآن وبعد كل ذلك من إجابة كيوأكي تلك عديمة الروح. فأكمل حديثه.
"حاول أن تتخيل أنه بعد عشرات السنين ستُدمج مع مَن تحتقرهم أنت أشد الاحتقار وتُعامَل بنفس التعامُل. أدمغتهم البلهاء، وقلوبهم الضيقة التي تكيل السباب للآخرين على أنهم ليّنون ضعفاء، وتحكّمهم في زملائهم الأحدث سنا منهم، وعبادتهم التي بها مس من الجنون للقائد نوغي، وأعصابهم التي تشعر بسعادة لا مثيل لها تجاه تنظيفهم المنطقة المحيطة بشجرة السَكاكي اليابانية المقدسة التي زرعها الإمبراطور ميجي بنفسه ... ستختصر كل تلك الصفات بعشوائية وتُعامل نفس تعامل [حياة المشاعر] الخاصة بك.
وكأن الحقيقة الشاملة للعصر الذي نعيش فيه نحن الآن يمكن الإمساك بها في سهولة ويُسر. وكأن الماء الذي ينثر الآن قد توقف نثره، وبرز على الفور على سطح الماء قوس قزح من الزيت في غاية الوضوح. حقا إنه كذلك. إن حقيقة عصرنا تنفصل بسهولة كبيرة بعد موتنا وتصير مفهومة بوضوح في عيون الجميع. ثم يُفهم ذلك الشيء الذي يُدعى [الحقيقة] بعد مئة عام، أنه فكرة مختلفة تمام الاختلاف، ويتم إجمالنا في مقولة: إنهم أناس عاشوا في عصر ما بأفكار خاطئة.
ما الذي تعتقد أنه معيار مثل هذه النظرة الشاملة؟ هل تعتقد أنه أفكار عباقرة ذلك العصر؟ أم تعتقد أنه أفكار العظماء؟ لا الأمر مختلف. فيما بعد سيتم وضع تعريف معيار لهذا العصر، عصرنا نحن ولاعبي الكِندو العامل المشترك بيننا بلا وعي منا، بمعنى إن الشيء الذي يُسمى العصر، يتم إجماله تحت مظلة الإيمان الأكثر عمومية ووسطية. أي الإيمان بإله غبي"
لم يفهم كيوأكي ما يحاول هوندا قوله. ولكن مع استماعه له، نما برعم التفكير تدريجيا داخل ذهنه.
لاحت بالفعل رؤوس عدد من الطلاب في نافذة الفصل في الطابق الثاني. وانعكست على زجاج النوافذ المغلقة للفصول الأخرى أشعة شمس الصباح الزاهية عاكسة صورة السماء الزرقاء. إنها المدرسة في الصباح. قارن كيوأكي ذلك بصباح الثلوج أمس، فأحس بشكل ما أن قلبه يُجذب بقوة من الاهتزازات الشهوانية المظلمة تلك، إلى حديقة النقاش العقلي الأبيض المشرق الحالية.
"إنه التاريخ"
قال كيوأكي ذلك، وهو يحاول اقتحام تفكير هوندا مع إحساسه بالتحسر على نفسه بسبب أنه في كل مرة يخوض نقاشا تبدو طريقة كلامه طفولية جدا مقارنة بهوندا.
"هل تقول إنه لا يمكننا تحريك التاريخ بناء على أفكارنا وأمنياتنا ومشاعرنا؟"
"نعم هو كذلك. إن الغربيين لديهم رغبة في التفكير أن إرادة نابليون مثلا قد غيرت التاريخ. أو أن أجدادك هم الذين خلقوا ثورة إصلاح ميجي.
ولكن تُرى هل الأمر كذلك؟ هل فعلا تحرك التاريخ تبعا لإرادة إنسان ولو لمرة واحدة في الزمان؟ أنا دائما أفكر في ذلك كلما أنظر إلى حالك. فأنت لست عبقريا ولا من العظماء. ورغم ذلك تملك صفة في غاية التفرد. وهي أنه تنقصك الإرادة بشكل مطلق. ثم أفكر في علاقتك أنت بصفتك تلك مع التاريخ، وأشعر باهتمام عميق تجاه ذلك"
"هل هذه سخرية؟"
"لا، ليست سخرية إطلاقا. فأنا أفكر في التدخل التاريخي المنعدم تماما لوجود إرادة. لنفترض مثلا أنني أملك إرادة ..."
"أنت تملك إرادة بشكل مؤكد"
"ولنفترض كذلك أنني أملك إرادة تغيير التاريخ. وأبذل كل جهدي مضحيا بحياتي ومستخدما كل ثروتي في جعل التاريخ ينحرف عن مساره طبقا لإرادتي. وكذلك أنني حاولت الحصول على المنصب والمرتبة الاجتماعية والسلطات التي تمكنني من ذلك ثم حصلت فعلا عليها جميعا. ولكن رغم ذلك ليس بالضرورة أن يستجيب التاريخ ويحوّل مساره حسب ما أريد.
بعد مئة أو مئتي عام، أو ثلاثمئة عام، ربما يأخذ التاريخ فجأة شكلا يطابق أحلامي ومثاليتي وإرادتي تماما، ولكن بدون أية علاقة بي. ربما يأخذ حقا الشكل الذي رأيته في أحلامي أنا قبل مئة أو مئتي عام. وكأنه ينظر إليَّ من علٍ ساخرا من إرادتي مع ابتسامة وبرود في شكل الجمال الذي أراه أنا فعلا في عيني جميلا.
ربما يقول الناس إن هذا هو التاريخ"
"ألا يكون الأمر مجرد فقط تيار المد؟ ألا يكون فقط أنه جاء الوقت أخيرا لتنضج الفرصة المواتية لذلك؟ لا نقول مئة عام، بل يحدث ذلك كثيرا حتى خلال ثلاثين عام وخمسين عام. لأن التاريخ عندما يتجه لأخذ ذلك الشكل، تموت إرادتك لمرة، ثم تصير خيطا مخفيا غير مرئي، وربما تنجز ذلك الإنشاء. إذا كنت لم تحصل على حياة في هذا العالم لمرة، فحتى لو انتظرت لعشرات الآلاف من السنين ربما لم يكن التاريخ ليأخذ هذا الشكل"
بفضل هوندا عرف كيوأكي هذا الاهتياج الذي يستطيع الإحساس به يشعل جسده بغزارة وسط الغابة الباردة لكلمات تجريدية لا يألفها بشكل ما. كان ذلك وحتى النهاية بالنسبة له متعة لم يقصدها، ولكن عند إلقاء النظر على ظلال الأشجار الذابلة التي تسقط طويلا على أحواض الزهور الثلجية، وعلى المناطق البيضاء الممتلئة بأصوات قطرات الماء المشرقة، أحس كيوأكي بالسرور لذلك القرار الحاسم الذي يشبه بياض ذلك الثلج ألا وهو تجاهل هوندا لشعور السعادة الفاتنة الملتهبة لذكريات كيوأكي أمس، رغم تخمينه لها. سقطت من فوق سطح مبنى المدرسة مساحة من الثلوج تساوي حوالي مساحة حصيرة واحدة من حصير التاتامي في شكل انهيار جليدي، فبرز قرميد السطح الأسود المبتل بالماء.
تابع هوندا كلامه قائلا:
"ثم عند ذلك الوقت، بعد مئة عام، عندما يأخذ التاريخ شكلا يوافق رغبتي تماما، هل يمكن أن تسمي أنت ذلك [إنجازا]؟"
"إنه إنجاز ولا شك في ذلك"
"حسنا، إنجاز لمن؟"
"لإرادتك أنت"
"لا تمزح! فأنا وقتها قد مت بالفعل. ألم أقل منذ قليل؟ إن ذلك أمر حدث دون أن علاقة بي بتاتا"
"ألا تعتقد أن ذلك إنجاز لإرادة التاريخ؟"
"وهل توجد إرادة للتاريخ؟ إن أنسنة التاريخ خطرة دائما. الذي أعتقده أنا أن التاريخ ليس له إرادة، وليس له أية علاقة بإرادتي أنا مطلقا. ولذلك فتلك النتيجة التي لم تولد من خلال أية إرادة لا يمكن تسميتها [إنجازا]. والبرهان على ذلك أن ما يشبهه لنا التاريخ في شكل إنجازات يبدأ في الانهيار في اللحظة التالية.
إن التاريخ في انهيار دائم، من أجل أن يستعد لبلورة العبث التالي. ويبدو أن تشكيل التاريخ وانهياره ليس له إلا نفس المعنى.
هذا الأمر مفهوم لي بمنتهى الوضوح. مفهوم ولكني خلافا لك، لا يمكنني الامتناع عن أن أكون إنسانا له إرادة. ربما ما نطلق عليه إرادة ليس إلا جزء من شخصيتي التي جُبلتُ عليها. لا يمكن لأحد أن يقول شيئا مؤكدًا. ولكن ربما يمكن القول إن إرادة البشر بشكل جوهري [هي الإرادة التي تحاول التدخل في التاريخ]. لا أقول إن تلك هي [إرادة التدخل في التاريخ]، فتدخل الإرادة في التاريخ أمر مستحيل تقريبا، بل هي فقط [تحاول التدخل في التاريخ]. وهذا مرة أخرى قدر مهيئ في الإرادة بجميع أنواعها. ولكن بالطبع الإرادة لا تحاول الاعتراف بأي نوع من الأقدار مطلقا.
ولكن إذا نظرنا على المدى الطويل، فإن كل إرادة للبشر تفشل. فالبشر وضعهم الدائم ألا تسير الأمور كما يشتهون. في ذلك الوقت، كيف يفكر الغربيون؟ يفكرون كما يلي: [إن إرادتي هي إرادة حقيقية والفشل مجرد صدفة]. إن الصدفة هي إلغاء لكل أنواع السببية، وهي الغائية اللاعقلانية الوحيدة التي يمكنها الاعتراف بالإرادة الحرة.
ولذلك كما أقول، لا يمكن أن تستقيم فلسفة الإرادة من المنظور الغربي دون الاعتراف [بالصدفة]. فالصدفة هي المهرب الأخير للإرادة، وهي مقامرة ذات مكسب وخسارة، ... بدون ذلك لا يمكن أن يفسر الغربيون توالي انكسارات وفشل الإرادة. وأنا أعتقد أن تلك الصدفة، تلك المقامرة هي بحق الجوهر الحقيقي لمعبود الغربيين. إذا كان الإله هو المهرب الأخير للإرادة الحرة كصدفة، فهو في نفس الوقت لديه القدرة على تحفيز إرادة البشر.
ولكن ماذا يحدث إذا أنكرنا تماما وجود الصدفة؟ ماذا يحدث إذا كان يمكن التفكير أنه لم يكن يوجد أي مساحة مطلقا لكي تعمل الصدفة؟ إذن، في هذه الحالة سيختفي تماما المهرب الأخير للإرادة الحرة بجميع أنواعها. وفي مكان لا وجود للصدفة به، ستفقد الإرادة العمود الأساسي التي تستند عليه.
يحسن التفكير في المشهد التالي:
في هذه الساحة تقف الإرادة بمفردها وحيدة في وضح النهار. وتتظاهر أنها تقف معتمدة تماما على قوتها الذاتية، وأيضا هي نفسها تنخدع بذلك الأمر. تنصّبُ أشعة الشمس بلا توقف، ولا يوجد أية أشجار ولا حشائش، ولا تملك الإرادة في هذه الساحة العملاقة إلا ظلها فقط.
وعندها تسمع الإرادة صوتا مثل الرعد يأتي من مكان ما في السماء الصافية التي لا يوجد بها سحابة واحدة:
[لقد ماتت الصدفة. لا يوجد ما يُسمى صدفة. أيتها الإرادة لقد فقدتِ إلى الأبد وسيلة الدفاع عن نفسك]
في لحظة سماع ذلك الصوت، تنهار الإرادة وتبدأ في الذوبان. يفسد لحمها ويسقط، وتظهر العظام تدريجيا، وينساب سائل الجسم المصلي الشفاف، وحتى تلك العظام تلين وتبدأ في الذوبان. تتشبث الإرادة بالوطء بقدميها على الأرض، ولكن تلك الجهود لا طائل لها.
تنشق السماء المفعمة بالأشعة البيضاء محدثة صوتا رهيبا، وذلك بالضبط هو الوقت الذي يظهر فيه وجه الإله الضرورة من فتحة ذلك الشق ...
... أنا لا أستطيع تخيل وجه ذلك الإله الضرورة الذي تكون رؤيته مرعبة ومؤلمة، إلا بهذا الشكل. ومن المؤكد أن تلك هي نقطة الضعف في شخصيتي التي تملك إرادة. ولكن إذا انعدمت الصدفة تماما، تكون الإرادة بلا معنى، ولا يزيد التاريخ عن كونه مجرد صدأ نبت على سلسلة كبيرة تخفي السببية أحيانا وتظهرها أحيانا، ويكون الشيء الوحيد الذي يتدخل في التاريخ هو عنصر بلا إرادة مثل قطرة واحدة جميلة متألقة لا تتبدل إلى الأبد، ومن المفترض أن وجود البشر ليس له معنى إلا في هذا الشكل. ولا يوجد افترض أنك أنت تعرف ذلك. ولا يوجد افتراض أنك تؤمن بتلك الفلسفة. على الأرجح أنت تؤمن بشكل مبهم {بلا شخصيتك} أكثر من إيمانك بجمالك أو مشاعرك المتغيرة أو ذاتك المتفردة أو شخصيتك. أليس كذلك؟"
لم يكن كيوأكي قادرًا على الرد، ولكنه لم يعتقد مطلقا أنه يُوجه إليه إهانة أو احتقار. ثم وبدون أن يكون بيده حيلة ابتسم.
"إن هذا هو أكبر لغز بالنسبة لي"
قال هوندا ذلك مع تسرب تنهيدة أسى مبجلة بدت وكأنها هزلية، ولكن نظر كيوأكي إلى تلك التنهيدة التي قد فاحت متحولة إلى بخار أبيض داخل شمس الصباح على أنها مظهر من مظاهر اهتمام صديقه به قد اتخذت شكلا ضئيلا. وقوي داخله إحساس سري وخفي بالسعادة.
عند ذلك الحد انطلقت دقات الجرس معلنة بداية الحصة الأولى من الدراسة، فنهض الشابان. ومن نافذة الطابق الثاني، قُذفت كرات الجليد المتجمدة التي تكومت في محيط النافذة، إلى موضع أقدامهما وهي ترفع رذاذا لامعا.

بعد الموت تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


بعد الموت

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي


... لدي عادة، وهي أنني لا أستطيع النعاس بعد الدخول في الفراش، إلا إذا قرأتُ كتابا أو شيئا ما قبل النوم. ليس هذا فقط، بل ومن النادر أن يأتي النعاس مهما قرأتُ من كتب. ولأنني على هذا الحال، فأنا أضع عند فراشي دائما مصباحا للقراءة وقارورة بها حبوب الأدالين المنوّمة. وفي تلك الليلة أيضا أخذت معي داخل "الناموسية" كتابين أو ثلاثة كتب كما هي العادة، ثم أضَأتُ مصباح القراءة بجوار الوسادة.
"كم الساعة الآن؟"
كان هذا صوت زوجتي التي سبقتني للنوم منذ مدة في الفراش المجاور. كانت زوجتي تنظر نحوي مباشرة، وقد جعلت من ذراعها وسادة لطفلنا الرضيع.
"إنها الساعة الثالثة"
"أحقا؟ الثالثة؟ لقد كنت أعتقدُ إنها لم تزد عن الواحدة"
بعد إجابتي على ذلك بكلام لا معنى له، توقفتُ عن الحوار معها.
"اسكتي، اسكتي ونامي في صمت"
كانت زوجتي تحاكي نبرة صوتي وهي تخفي ضحكاتها. ولكن بعد مرور فترة من الوقت. كانت قد دفعت بأنفها في وجه الطفل، وراحت فجأة في نوم عميق.
كنت كما أنا أوْلي وجهي تجاهها وأقرأ في كتاب "فصول في إزالة الغفول من العقول". وهو عبارة عن كتاب من ثمانية مجلدات يحتوي على حكايات من الصين والهند واليابان في شكل كتابة حرة جمعها راهب في الفترة من عام 1716م حتى عام 1735م، ولكن بالطبع كانت الحكايات الممتعة أو النادرة، منعدمة تقريبا.
مع قراءتي لحكايات الجزء الخاص بالخمسة فضائل، طاعة ولي الأمر، وبر الوالدين، والمودة بين الزوجين إلخ، بدأتُ تدريجيا أشعر بالنعاس. أطفأتُ مصباح القراءة، ونمتُ على الفور. ...
كنت أمشي داخل حلم، مع "س" في مدينة شديدة الحرارة. عرض رصيف المشاة المفروش بالزلط والأحجار الصغيرة، أقل من مترين أو تسعة أقدام. ورغم ذلك يُعلّق كل بيت على واجهته مظلة لونها كاكي.
"لم أعتقد أنك تموت"
هكذا تحدث "س" إليَّ وهو يستخدم مروحة اليد. كانت طريقته في الحديث تُظهر أنه لا يريد الإعراب عن مشاعر الإشفاق علنا حتى ولو كان يشعر بها فعلا.
"فأنت كان يبدو عليك أنك ستعيش طويلا"
"أحقا كنت أبدو كذلك؟"
"كلنا قلنا ذلك. آه ... أنت أصغر مني بخمس سنوات"
عد "س" على أصابعه ثم قال:
"34 سنة؟ رحلتَ وأنت في الرابعة والثلاثين تقريبا"
... بعد ذلك توقف تماما عن الحديث.
لم يكن "س" يشعر تجاه موتي بأي درجة من الأسف. ولكني شعرتُ أنه يحس بالخجل بشكل ما.
تحدث "س" بشكل يغلب عليه الحياء:
"ألم تكن قد بدأت لتوك عملا ما؟"
"بالفعل. لقد كنت قد بدأت كتابة عمل طويل"
"ماذا عن زوجتك؟"
"بصحة جيدة جدا. وحتى طفلي لم يعد يمرض في الفترة الأخيرة"
"هذا أفضل شيء. ... أنا لا أدري متى سوف يحين موتي"
تأملتُ لحظة وجه "س". كان كما توقعتُ، سعيد بموتي أنا وعدم موته هو، ... أحسست بذلك بشكل واضح جدا. وعندها بدا أن "س" أحس بما أشعرُ به، فاكفهر وجهه وامتنع عن الكلام.
بعد أن مشينا لفترة دون حديث، توقف "س" أمام محل كبير لبيع المعلبات، وهو يستظل من الشمس مستخدما المروحة.
"حسنا، سأستأذن أنا هنا"
كان داخل محل المعلبات المعتم عددا من أزهار الأقحوان الأبيض. عندما نظرتُ سريعا على ذلك المحل، تذكرت أن والد "س" كان يملك فرعا لسلسلة محلات "أوكي دو".
"هل تسكن الآن في بيت والدك"
"آه ... منذ فترة من الزمن"
"حسنا إلى اللقاء"
بعد فراقي مع "س"، انعطفت على الفور في الحارة التالية. كانت توجد آلة أورغن موضوعة في شرفة زينة عند ركن الحارة. كان اللوح الجانبي للأورغن مخلوع بحيث ظهرت أجزاؤه الداخلية للعيان، وظهر داخلها عدد من أنابيب الخيزران الأخضر مرصوصة بالطول. عندما رأيت ذلك فكرت قائلا:
"آه فهمت ... هكذا يتم استخدام أنابيب الخيزران"
وبعد ذلك ... وجدت نفسي فجأة أقف أمام بوابة منزلي.
لا يوجد أي تغيير في المكان، البوابة القديمة ذات المزلاج والسور الأسود كانا كما العهد بهما دائما. لا بل فرع شجرة الكرز الذي فوق البوابة كان كما رأيته أمس. لكن، توجد لوحة جديدة مكتوب عليها اسم "منزل كُشِيبِه". عندما تأملت تلك اللوحة، أحسست أنني مُتُّ فعلا. ولكني لم أشعر مطلقا أن دخولي من البوابة عمل لا أخلاقي، وبالطبع ولا دخولي إلى عمق البيت.
كانت زوجتي تجلس في غرفة المعيشة في الجانب المطل على الحديقة، تصنع درعا من لحاء الخيزران. ولذلك يحيط بها الكثير من اللحاء الجاف. ولكن الدرع الذي فوق ركبتيها لم يكتمل منه إلا الهيكل ولوح واحد فقط من الجزء الحامي للخصر.
سألتها وأنا أجلس:
"أين الطفل؟"
"جعلته يذهب مع جدته وخالته إلى كوغينوما أمس"
"والجد؟"
"الجد ذهب إلى البنك"
"حسنا، هل هذا يعني أنه لا أحد هنا؟"
"أجل، أنا وشيزويا فقط"
كانت زوجتي كما هي تنظر إلى الأسفل، وتلج الإبرة في لحاء الخيزران. ولكني أحسست على الفور في ذلك الصوت أنه صوت زوجتي، فقلت بنبرة صوت غاضبة قليلا:
"لماذا إذن ثمة لوحة باسم [منزل كُشِيبِه] في الخارج؟"
رفعت زوجتي وجهها لتنظر لي مندهشة. كانت عيناها لها نفس ملامح الحيرة التي تكون عليها دائما عندما تُلام.
"موجودة، أليس كذلك؟"
"بلى"
"حسنا، فهذا بيته"
"أجل"
اغتمت زوجتي للغاية، وظلت صامتة تعبث بدرع الخيزران.
"أنا لا أمانع من وجوده. فأنا قد مت وانتهى أمري ..."
واصلتُ الكلام وكأنني أحاول إقناع نفسي.
"أنتِ أيضا ما زلتِ شابة. فلن أُكثر الحديث حول ذلك. فقط لو كان ذلك الرجل رجلا صالحا، ..."
رفعت زوجتي عينيها مرة أخرى لتنظر إلى وجهي. وعندما تأملتُ أنا ذلك الوجه، شعرت أنه حدث ما لا يمكن إصلاحه. وفي نفس الوقت أحسستُ أنا بشحوب في وجهي.
"إنه ليس رجلا صالحا، أليس كذلك؟"
"أنا لا أعتقد أنه رجل سيئ بأي حال، ..."
ولكني أدركتُ تماما أن زوجتي نفسها لا تحترم هذا الرجل الذي يُسمى كُشِيبِه. حسنا لماذا إذن تزوجته؟ يبدو أن زوجتي بقدر ما يُسمح لها، اكتشفت على العكس راحة البال في جشع هذا الذي يُسمى كُشِيبِه، ... وعندها أحسستُ أنني لا أستطيع تحمّل مقدار التقزز العميق الذي انتابتني.
"هل هو جدير بأن يناديه طفلنا بكلمة يا أبي؟"
"لا جدوى من قول هذا الكلام، ..."
"مهما حاولتِ الدفاع فلن يفيد"
حتى قبل أن أصيحُ أنا غضبا كانت زوجتي قد أخفت وجهها بالفعل بين أكمام رداءها، وارتعش كتفاها بشدة.
"يا لك من حمقاء! لقد جعلتني بصنيعك هذا الحال لا أقدر حتى على الموت وأنا مرتاح البال"
أصبحتُ لا أستطيع تحمل الموقف، ولذا توجهتُ إلى مكتبي على الفور بدون النظر إلى العاقبة. وعندها كان إزميل معقوف ملعقا على حافة الجدار في غرفة المكتب. كانت يد الإزميل الخشبية مطلية بدهان لاكيه باللونين الأسود والأحمر. هناك من حمل ذلك الإزميل يوما ما، ... وأنا أحاول تذكر من، اكتشفتُ فجأة أنني لم أعد في غرفة المكتب ولا في أي مكان من المنزل، بل كنت أسير في طريق بجوار سور مصنوع من أشجار برتقال.
كانت الطريق على وشك الدخول في الظلام، ورماد الفحم المفروش في الطريق كان مبتّلا تماما بسبب رذاذ المطر، أو ربما بسبب الندى. سرت في طريقي بخطوات مسرعة وداخلي بقية من غضب. ولكن مهما ذهبتُ ومهما مشيتُ، كان سور أشجار البرتقال يستمر بطول الطريق ولا ينتهي.
استيقظتُ من تلقاء نفسي. وبدا لي أن زوجتي وطفلي نائمين في هدوء بلا أي تغيير. وبدأ نور الصباح يهجم على الليل، ويُسمع صوت هادئ لحشرات الزيز تقف على الأشجار في مكان بعيد. قررت وأنا أسمع ذلك الصوت، النوم سريعا خوفا من الإصابة بصداع في الغد (الذي أصبح اليوم بالفعل). ولكن ليس فقط صَعُب علي النوم ولكن تذكرت كذلك وبشكل واضح للغاية ما حلمتُ به الآن. في الحلم، كانت زوجتي المسكينة تحاول جاهدة لعب دور صعب الأداء. ربما كان "س" في الواقع كما هو في الحلم. وأنا أيضا ... كنت أنا قد أصبحت في غاية الأنانية تجاه زوجتي بشكل مرعب. وخاصة لو فكرنا أنني في الحلم بنفس شخصيتي في الواقع، أكون قد أصبحت أنانيا بشكل أكثر رعبا. ولا يوجد بالضرورة ما ينفي أنني مثل شخصيتي في الحلم. تناولت نصف جرام من حبوب "الأدالين" المنوّمة، من ناحية للحصول على قسط من النوم، ومن ناحية أخرى من أجل تجنّب حدوث صحوة مَرَضية للضمير، فغرقتُ في نعاس عميق. ...
(سبتمبر 1925)