بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مارس 2020

بعد الموت تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


بعد الموت

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي


... لدي عادة، وهي أنني لا أستطيع النعاس بعد الدخول في الفراش، إلا إذا قرأتُ كتابا أو شيئا ما قبل النوم. ليس هذا فقط، بل ومن النادر أن يأتي النعاس مهما قرأتُ من كتب. ولأنني على هذا الحال، فأنا أضع عند فراشي دائما مصباحا للقراءة وقارورة بها حبوب الأدالين المنوّمة. وفي تلك الليلة أيضا أخذت معي داخل "الناموسية" كتابين أو ثلاثة كتب كما هي العادة، ثم أضَأتُ مصباح القراءة بجوار الوسادة.
"كم الساعة الآن؟"
كان هذا صوت زوجتي التي سبقتني للنوم منذ مدة في الفراش المجاور. كانت زوجتي تنظر نحوي مباشرة، وقد جعلت من ذراعها وسادة لطفلنا الرضيع.
"إنها الساعة الثالثة"
"أحقا؟ الثالثة؟ لقد كنت أعتقدُ إنها لم تزد عن الواحدة"
بعد إجابتي على ذلك بكلام لا معنى له، توقفتُ عن الحوار معها.
"اسكتي، اسكتي ونامي في صمت"
كانت زوجتي تحاكي نبرة صوتي وهي تخفي ضحكاتها. ولكن بعد مرور فترة من الوقت. كانت قد دفعت بأنفها في وجه الطفل، وراحت فجأة في نوم عميق.
كنت كما أنا أوْلي وجهي تجاهها وأقرأ في كتاب "فصول في إزالة الغفول من العقول". وهو عبارة عن كتاب من ثمانية مجلدات يحتوي على حكايات من الصين والهند واليابان في شكل كتابة حرة جمعها راهب في الفترة من عام 1716م حتى عام 1735م، ولكن بالطبع كانت الحكايات الممتعة أو النادرة، منعدمة تقريبا.
مع قراءتي لحكايات الجزء الخاص بالخمسة فضائل، طاعة ولي الأمر، وبر الوالدين، والمودة بين الزوجين إلخ، بدأتُ تدريجيا أشعر بالنعاس. أطفأتُ مصباح القراءة، ونمتُ على الفور. ...
كنت أمشي داخل حلم، مع "س" في مدينة شديدة الحرارة. عرض رصيف المشاة المفروش بالزلط والأحجار الصغيرة، أقل من مترين أو تسعة أقدام. ورغم ذلك يُعلّق كل بيت على واجهته مظلة لونها كاكي.
"لم أعتقد أنك تموت"
هكذا تحدث "س" إليَّ وهو يستخدم مروحة اليد. كانت طريقته في الحديث تُظهر أنه لا يريد الإعراب عن مشاعر الإشفاق علنا حتى ولو كان يشعر بها فعلا.
"فأنت كان يبدو عليك أنك ستعيش طويلا"
"أحقا كنت أبدو كذلك؟"
"كلنا قلنا ذلك. آه ... أنت أصغر مني بخمس سنوات"
عد "س" على أصابعه ثم قال:
"34 سنة؟ رحلتَ وأنت في الرابعة والثلاثين تقريبا"
... بعد ذلك توقف تماما عن الحديث.
لم يكن "س" يشعر تجاه موتي بأي درجة من الأسف. ولكني شعرتُ أنه يحس بالخجل بشكل ما.
تحدث "س" بشكل يغلب عليه الحياء:
"ألم تكن قد بدأت لتوك عملا ما؟"
"بالفعل. لقد كنت قد بدأت كتابة عمل طويل"
"ماذا عن زوجتك؟"
"بصحة جيدة جدا. وحتى طفلي لم يعد يمرض في الفترة الأخيرة"
"هذا أفضل شيء. ... أنا لا أدري متى سوف يحين موتي"
تأملتُ لحظة وجه "س". كان كما توقعتُ، سعيد بموتي أنا وعدم موته هو، ... أحسست بذلك بشكل واضح جدا. وعندها بدا أن "س" أحس بما أشعرُ به، فاكفهر وجهه وامتنع عن الكلام.
بعد أن مشينا لفترة دون حديث، توقف "س" أمام محل كبير لبيع المعلبات، وهو يستظل من الشمس مستخدما المروحة.
"حسنا، سأستأذن أنا هنا"
كان داخل محل المعلبات المعتم عددا من أزهار الأقحوان الأبيض. عندما نظرتُ سريعا على ذلك المحل، تذكرت أن والد "س" كان يملك فرعا لسلسلة محلات "أوكي دو".
"هل تسكن الآن في بيت والدك"
"آه ... منذ فترة من الزمن"
"حسنا إلى اللقاء"
بعد فراقي مع "س"، انعطفت على الفور في الحارة التالية. كانت توجد آلة أورغن موضوعة في شرفة زينة عند ركن الحارة. كان اللوح الجانبي للأورغن مخلوع بحيث ظهرت أجزاؤه الداخلية للعيان، وظهر داخلها عدد من أنابيب الخيزران الأخضر مرصوصة بالطول. عندما رأيت ذلك فكرت قائلا:
"آه فهمت ... هكذا يتم استخدام أنابيب الخيزران"
وبعد ذلك ... وجدت نفسي فجأة أقف أمام بوابة منزلي.
لا يوجد أي تغيير في المكان، البوابة القديمة ذات المزلاج والسور الأسود كانا كما العهد بهما دائما. لا بل فرع شجرة الكرز الذي فوق البوابة كان كما رأيته أمس. لكن، توجد لوحة جديدة مكتوب عليها اسم "منزل كُشِيبِه". عندما تأملت تلك اللوحة، أحسست أنني مُتُّ فعلا. ولكني لم أشعر مطلقا أن دخولي من البوابة عمل لا أخلاقي، وبالطبع ولا دخولي إلى عمق البيت.
كانت زوجتي تجلس في غرفة المعيشة في الجانب المطل على الحديقة، تصنع درعا من لحاء الخيزران. ولذلك يحيط بها الكثير من اللحاء الجاف. ولكن الدرع الذي فوق ركبتيها لم يكتمل منه إلا الهيكل ولوح واحد فقط من الجزء الحامي للخصر.
سألتها وأنا أجلس:
"أين الطفل؟"
"جعلته يذهب مع جدته وخالته إلى كوغينوما أمس"
"والجد؟"
"الجد ذهب إلى البنك"
"حسنا، هل هذا يعني أنه لا أحد هنا؟"
"أجل، أنا وشيزويا فقط"
كانت زوجتي كما هي تنظر إلى الأسفل، وتلج الإبرة في لحاء الخيزران. ولكني أحسست على الفور في ذلك الصوت أنه صوت زوجتي، فقلت بنبرة صوت غاضبة قليلا:
"لماذا إذن ثمة لوحة باسم [منزل كُشِيبِه] في الخارج؟"
رفعت زوجتي وجهها لتنظر لي مندهشة. كانت عيناها لها نفس ملامح الحيرة التي تكون عليها دائما عندما تُلام.
"موجودة، أليس كذلك؟"
"بلى"
"حسنا، فهذا بيته"
"أجل"
اغتمت زوجتي للغاية، وظلت صامتة تعبث بدرع الخيزران.
"أنا لا أمانع من وجوده. فأنا قد مت وانتهى أمري ..."
واصلتُ الكلام وكأنني أحاول إقناع نفسي.
"أنتِ أيضا ما زلتِ شابة. فلن أُكثر الحديث حول ذلك. فقط لو كان ذلك الرجل رجلا صالحا، ..."
رفعت زوجتي عينيها مرة أخرى لتنظر إلى وجهي. وعندما تأملتُ أنا ذلك الوجه، شعرت أنه حدث ما لا يمكن إصلاحه. وفي نفس الوقت أحسستُ أنا بشحوب في وجهي.
"إنه ليس رجلا صالحا، أليس كذلك؟"
"أنا لا أعتقد أنه رجل سيئ بأي حال، ..."
ولكني أدركتُ تماما أن زوجتي نفسها لا تحترم هذا الرجل الذي يُسمى كُشِيبِه. حسنا لماذا إذن تزوجته؟ يبدو أن زوجتي بقدر ما يُسمح لها، اكتشفت على العكس راحة البال في جشع هذا الذي يُسمى كُشِيبِه، ... وعندها أحسستُ أنني لا أستطيع تحمّل مقدار التقزز العميق الذي انتابتني.
"هل هو جدير بأن يناديه طفلنا بكلمة يا أبي؟"
"لا جدوى من قول هذا الكلام، ..."
"مهما حاولتِ الدفاع فلن يفيد"
حتى قبل أن أصيحُ أنا غضبا كانت زوجتي قد أخفت وجهها بالفعل بين أكمام رداءها، وارتعش كتفاها بشدة.
"يا لك من حمقاء! لقد جعلتني بصنيعك هذا الحال لا أقدر حتى على الموت وأنا مرتاح البال"
أصبحتُ لا أستطيع تحمل الموقف، ولذا توجهتُ إلى مكتبي على الفور بدون النظر إلى العاقبة. وعندها كان إزميل معقوف ملعقا على حافة الجدار في غرفة المكتب. كانت يد الإزميل الخشبية مطلية بدهان لاكيه باللونين الأسود والأحمر. هناك من حمل ذلك الإزميل يوما ما، ... وأنا أحاول تذكر من، اكتشفتُ فجأة أنني لم أعد في غرفة المكتب ولا في أي مكان من المنزل، بل كنت أسير في طريق بجوار سور مصنوع من أشجار برتقال.
كانت الطريق على وشك الدخول في الظلام، ورماد الفحم المفروش في الطريق كان مبتّلا تماما بسبب رذاذ المطر، أو ربما بسبب الندى. سرت في طريقي بخطوات مسرعة وداخلي بقية من غضب. ولكن مهما ذهبتُ ومهما مشيتُ، كان سور أشجار البرتقال يستمر بطول الطريق ولا ينتهي.
استيقظتُ من تلقاء نفسي. وبدا لي أن زوجتي وطفلي نائمين في هدوء بلا أي تغيير. وبدأ نور الصباح يهجم على الليل، ويُسمع صوت هادئ لحشرات الزيز تقف على الأشجار في مكان بعيد. قررت وأنا أسمع ذلك الصوت، النوم سريعا خوفا من الإصابة بصداع في الغد (الذي أصبح اليوم بالفعل). ولكن ليس فقط صَعُب علي النوم ولكن تذكرت كذلك وبشكل واضح للغاية ما حلمتُ به الآن. في الحلم، كانت زوجتي المسكينة تحاول جاهدة لعب دور صعب الأداء. ربما كان "س" في الواقع كما هو في الحلم. وأنا أيضا ... كنت أنا قد أصبحت في غاية الأنانية تجاه زوجتي بشكل مرعب. وخاصة لو فكرنا أنني في الحلم بنفس شخصيتي في الواقع، أكون قد أصبحت أنانيا بشكل أكثر رعبا. ولا يوجد بالضرورة ما ينفي أنني مثل شخصيتي في الحلم. تناولت نصف جرام من حبوب "الأدالين" المنوّمة، من ناحية للحصول على قسط من النوم، ومن ناحية أخرى من أجل تجنّب حدوث صحوة مَرَضية للضمير، فغرقتُ في نعاس عميق. ...
(سبتمبر 1925)


ليست هناك تعليقات: