بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مارس 2020

قُبْلة تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي

قُبْلة
تأليف: يوكيو ميشيما
ترجمة: ميسرة عفيفي

(يوكيو ميشيما؛ أسطورة الأدب الياباني على مر العصور، فعلى الرغم من عدم حصوله على جائزة نوبل وفوز أستاذه كاواباتا بها إلا أن ميشيما يعتبر هو الأشهر من بين أدباء اليابان وكذلك الأكثر انتشارا، فحسب إحصاءات مكتب ساكاي الذي يتولى إدارة حقوق ميشيما الفكرية، فقد باعت كتب ميشيما أكثر من 24 مليون نسخة بكل لغات العالم حتى نهاية عام 2010. وهو أيضا الكاتب الياباني الأكثر حظا في ترجمة أعماله للغة العربية. وُلد ميشيما في طوكيو عام 1925 مع ميلاد عصر شوا وتولي هيروهيتو عرش اليابان؛ وبدأ في عام 1945 السير على درب الشهرة مع أول أعماله "غابة في ريعان الشباب" التي أرسلها إلى كاواباتا فهام بها وبه إعجابا ونشرها على الفور في المجلة التي كان يرأس تحريرها ولتبدأ علاقة قوية من الصداقة بين كاواباتا الأستاذ وميشيما التلميذ، تستمر حتى وفاة ميشيما عام 1970 منتحرا بخنجره؛ وليلحق به أستاذه عام 1972 منتحرا كذلك بعد أقل من عامين عاشهما في حزن واكتئاب. ميشيما يعتبر كذلك من أكثر الأدباء اليابانيين غزارة في الإنتاج حيث أنه خلال ربع قرن هي فترة إبداعه من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى انتحاره في 25 نوفمبر من عام 1970 ترك ميشيما ثروة هائلة من الكتب تتراوح بين 35 رواية و150 قصة قصيرة وعشرات المسرحيات، وعدد كبير من الكتب التي احتوت على المقالات النقدية وأدب الرحلات واليوميات والمحاورات. المترجم)

لدى الشاعر (أ) عادة، هي كتابة الشعر بقلم مصنوع من ريشة أوزة. وكان عادة ما يكتب الشعر ليلا قبل خلوده إلى النوم. إذا كان الشعر الغنائي هو الشعر الذي يتغنى بمشاعر الحب من قديم الأزل، فليس من الخطإ اعتبار أن ما يكتبه شاعرنا حاليا، هو من هذا النوع.

يغيب الهلال - الذي يشبه شفتيكِ المبتسمة قليلا -
في التلة البعيدة
شفتاك التي تبتسم لك يا غابة
لك أنت أيتها الغابة الواقعة فوق التلة

تتباعد أشجار الغابة
لتشبه ثنايا المِرْوَحَة
تشِفُّ من خلفها ابتسامة شفتيك
تلك المِرْوَحَة ....

ما الذي يفكر فيه هذا الشاعر على وجه التحديد؟
فالأمر لا يقتصر على أن قمر الليلة ليس هلالا فقط، بل إنه بدر جميل متلألأ بشكل يندر وجوده. ثم أليست المِرْوَحَة غريبة هنا؟ فنحن الآن في فصل الخريف وبالتأكيد تحس يده التي يكتب بها ببعض البرودة في الليل.
لو كان الشعر قد اكتمل سريعا، لكان يمكن غض الطرف عن عدم التوافق الزمني هذا. ولكن وصوله إلى طريق مسدودة بعد كتابته "المِرْوَحَة ...."، يجعلنا نعتقد أن الشعر بأكمله مثل مِرْوَحَة الخريف، رديء تماما ويأتي في موسم ليس موسمه. بالإضافة إلى أن هذا الشاعر ليس من ضمن من يُطلق عليهم "شعراء موهوبين"، إذا جاء الخريف عاش ليكتب فقط أشعار الخريف. لقد أُنهك الشاعر تماما في التفكير دون نتيجة، فوضع ريشة القلم فوق شفتيه.
كانت حركة مفاجأة. وكان يُعتقد أن مثل هذه الحركة يمكنها أن تقوده إلى إلهام ما. ولكن الذي نتج عن ذلك لم يكن إلهاما. انزلقت ريشة الأوزة اللامعة برطوبة فوق شفتيه. وعندها تولد في شفتيه شعور غريب حلو، يشبه الترنح.
وقف فجأة من على المقعد، وأدار البصر حوله في ملل. ثم بمشاعر مشمئزة التقط قلم الريشة، الذي كان مرميا فوق المكتب ووضعه في جيبه. ذهب إلى جوار النافذة وهو يتعثر في زجاجة الويسكي الفارغة الملقاة على الأرض. ثم فتح تلك النافذة الصغيرة، وأخذ يتأمل الأنوار الحمراء التي تنير وتنطفئ لتدل على موضع "مزلقان" قطار الضواحي. وكأنه قد حسم أمره، سحب الشاعر معطف الخريف المعلق في مسمار على الحائط، وأدخل فيه يديه بعنف، ثم دون أن يصلح من شعر رأسه المشعث، نظر لنصف ثانية فقط في المرآة، وأنطلق خارجا من غرفته.
رغم أنها ليلة ينيرها البدر، إلا أن هذه الناحية من المدينة كانت هادئة تماما. لقد كان البدر ينير السحاب البارز في السماء فيجعله يبدو وكأنه عملا منحوتا. وكان الشاعر يفكر وهو يمشي في أن أشعة ذلك البدر الباهرة لا بد وأن لها تأثير مثل تأثير أشعة إكس. أي أنها تُظهِر بوضوح فقط ما يوجد في قلب الإنسان، ولكنها لا تفيد مطلقا في علاجه بأي حال.
ثم بدأ يصعد تلك التلة التي يوجد ذلك البيت على قمتها.
تسكن فتاة غريبة الأطوار قليلا في البيت الذي يوجد فوق تلك التلة. الفتاة تقول عن نفسها إنها رسّامة. ثم أن لديها عادة غريبة، هي أنها لا ترسم إلا في الليل تحت أضواء المصباح. حقا إن الفاكهة تكون أجمل في الليل. مثلها مثل المرأة تماما.
كانت تلك الفتاة لديها عدد كبير من الأصدقاء الذكور. وكان هؤلاء الذكور كذلك يطيعونها كأنهم ألعوبة في يدها. كانت الفتاة لا تغلق مطلقا مفتاح الباب الذي يؤدي من الحديقة إلى مرسمها مباشرة، وتتركه بلا قفل من أجل من يرغب من أصدقائها الذكور في المجيء لزيارتها ليلا. ولكن هؤلاء الأصدقاء الذكور إذا قالت الفتاة لأحد منهم عُد لمنزلك، فهو يعود، وإذا قالت له نَم حتى الصباح، فهو يبات في المرسم على سرير متهالك تصنعه له بصف مقاعد المرسم بجوار بعضها البعض. ربما يُعتقد أن هذه الجلافة (هذا ليس سباب فأرجو المعذرة) شيئا لا يطاق، ولكنها كانت فتاة نقية وبريئة قلبا وقالبا.

عندما دفع البوابة المنخفضة الملونة بصبغة بيضاء، انساب صوت الجرس كقطرات الندى. كانت الحديقة تمتلئ بزهور الأضاليا وكرز الخريف. تبدو ألوان كرز الخريف الحمراء والبنفسجية في الليل وكأنها شديدة السواد.
فُتحت ستائر المرسم ونظرت الفتاة على الحديقة. وجهها مظلم وحواف شعرها فقط هي التي انعكست بشدة في عيون (أ). وعندما عرفت أنه (أ) فتحت الفتاة الباب من ناحيتها وقالت:
"... أنا الآن أرسم أشياء ساكنة. إنه عمل ممتع للغاية. ماذا تفعل عندك؟ أسرع بالدخول!"
ألقى الشاعر تحية بلهاء قائلا:
"مساء الخير."
كان المرسم ذا إضاءة شديدة مبهرة، وفوق المنضدة كانت عدة القهوة التي اعتاد رؤيتها، تلمع متلألئة بفتور. وفوق المنضدة الأخرى التي وُضع عليها مفرش مخطط بخطوط فظة، بحيث تتكوّن عمدا تجاعيد، توجد فواكه، مثل تفاح، وكمثرى، وبرتقال لازال أخضرا، وثمرة كاكا، وعنب، مكدسة بلا نظام ولا ترتيب.
"ماذا لو جعلتيها تفاح وكمثرى فقط؟ بهذا الشكل ستصبح اللوحة وكأنها دعاية لمحل فاكهة."
عندما قال تلك الدعابة دون أي تفكير، أحس الشاعر أن الشيء الثمين الذي أحضره معه من غرفته بحرص بالغ، وقع منه وتفتت إلى شظايا متفرقة. ولكنه لم يكن يعرف ما هو ذلك "الشيء الثمين". ولكن الأمر المؤكد أنه فجأة أصبح في حالة من الضعف النفسي، خالية من أي أمل.
"اخرس وانظر في صمت أيها الشاعر البليد. فشعرك الرديء لا يمكن يصبح ولا حتى كدعاية لحانوتي."
ردت الفتاة بهذا الرد القاسي والعنيف وهي تخفي ضحكاتها بإمالة فكها اللين - الذي على وشك أن يصير مزدوجا من السمنة - لأسفل. جلستْ على المقعد المنخفض ذي الثلاث أرجل، وعلقت لوح الألوان في أصبع يديها اليسرى. كان رأي الشاعر أن اللوحة التي استمرت الفتاة في رسمها غنية بالبراءة مثل اللوحات التي يرسمها تلاميذ المدارس الابتدائية. ولكن من ناحية الجمال مهما نظرنا إليها فيبدو لوح الألوان المعلق في يديها، والذي يشبه رسما لقوس قزح على خزف زجاجي أبيض، أكثر جمالا بمراحل عديدة. بل ويضاف إلى الرسمة عنصر لوني جمالي آخر هو إصبع بلون وردي في غاية الحيوية يطل من فتحة لوح الألوان.
اعتبر الشاعر شدة انشغال الفتاة في رسم لوحتها أمرا جيدا، وانتهز تلك الفرصة في التلصص على شفتيها وهي تميل لأسفل. تلك الشفاه التي يبدو أن لها طعم فاكهة، أكثر بكثير من أية فاكهة. هل يا ترى توافق لي الفتاة؟ فأنا أرضى ولو حتى بقبلة لمدة ثانية واحدة فقط. بعد القبلة سأهرب على الفور.
يبدو أن الفتاة أصبحت في حيرة من أمرها تجاه ذلك الضيف الثقيل. فلقد أصبحت طريقة إذابة الألوان أكثر حدة. ولا يوجد أي تقدم في رسم اللوحة. ويبدو أنها شخص به قليل من النزعة الهستيرية، فقد وضعت فجأة الريشة التي لم تبلل بعد، على فمها وأخذت تعض عليها. ويبدو أن تلك علامة على التوقف عن الرسم. وفجأة أبعدت الفتاة رأس الريشة عن أسنانها وبدون وعي بدأت تمسح بها على شفتيها.
وظهرت على وجه الشاعر بشكل عفوي ملامح سُكْر.
قالت الفتاة بصوت ينقصه الرطوبة، وهي تنظر إلى الأمام كما هي دون أن تلتفت إليه.
"لماذا جئت في هذا الوقت المتأخر؟"
وفي غفلة من الزمن، كانت الريشة قد نُقعت بلون قرمزي، ثم صبغت بشرة التفاحة.
"الشعر ... لأنني لم أستطع كتابة الشعر بإتقان."
"مثلي تماما. ولكن كما المتوقع إن وجودنا كلٍ على حدة يجعلنا نعمل بشكل أفضل. هل يمكن أن تعود لبيتك؟"
نظرت الفتاة إلى الشاعر وعلى وجهها ابتسامة متميزة ليس بها أية نوايا سيئة. ولكن توقفت عينها على ريشة الأوزة الطويلة التي تطل من جيب جاكته فقالت:
"ما هذا! هل كنت تنوي كتابة الشعر هنا؟"
"لماذا؟"
للحظة لم ينتبه، ولكنه عندما تتبع مسار نظراتها ورأى قلم الريشة، توردت خدوده بطريقة غير طبيعية وزائدة عن المعتاد، طريقة لا تحدث إلا للشباب صغير السن.
"آه ... قصدك هذا، لقد أحضرته هدية لكِ."
"حقا! شكرا لك."
ضحكت الفتاة بطريقة ماكرة.
"مقابلها سأعطيك كل هذه الفاكهة عندما أنتهي من رسمها."
"لا ... في الواقع ... أنا أريد هذه ... هذه الريشة."
قالها الشاعر بحزم بعد تخليه عن الحذر. وعندها تحول لون وجهه للشحوب قليلا.
"أتعني هذه؟"
ونظرت الفتاة من جديد إلى الريشة التي تمسكها بين أصابعها الرفيعة وقالت:
"هذا أمرٌ مزعج قليلا. .... ولكن، حسنا، لو تريدها خذها."
وهكذا ترك الشاعر قلم الريشة المحبب إليه، وأخذ ريشة الرسم الوردية التي لثمتها بشفتيها، وعاد بخطوٍ وئيد وتمهل، إلى منزله عبر طريق ينيرها البدر الذي كان على وشك الغياب. ولم يحدث غير ذلك من أحداث. وإذا سألنا لماذا عَنْوَن المؤلف هذه القصة بعنوان "قبلة"؟ فربما يوجد من يفهم ذلك، ويوجد من لا يفهم. وكلا الأمرين لا غبار عليهما، ولكن يريد المؤلف أن يذيّل القصة بما يشبه الدرس المعهود في حكايات أيْسوب التعليمية للأطفال. وهو كما يلي:
"يا أيتها الفتيات، صاحبن الشعراء. لماذا؟ لأنه لا يوجد بين الجنس البشري من هو أأمن من الشاعر!"



ليست هناك تعليقات: