بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مارس 2020

جزء من رواية ثلج الربيع المجلد الأول من رباعية "البحر الخصيب" تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي


جزء من رواية ثلج الربيع
المجلد الأول من رباعية
"البحر الخصيب"

تأليف: يوكيو ميشيما
ترجمة: ميسرة عفيفي

"منذ فترة وأنا أفكر فيما يُسمى الفردية الذاتية. على الأقل في هذا العصر وهذا المجتمع وهذه المدرسة أنا أعتقد أنني شخص متفرد وأيضا أريد أن أفكر أنني متفرد. ألا تفكر أنت أيضا كذلك؟"
"بلى"
كانت إجابة كيوأكي بلا روح ولا حماس ولكن تفوح من صوته العذوبة المتميزة جدًا.
"ولكن ماذا بعد مرور مئة عام؟ ليس أمامنا إلا النظر إلى اندماجنا داخل تيار العصر بلا موافقتنا. إن تاريخ الفن يبرهن على ذلك من خلال عدم اهتمامه بالطرازات المختلفة داخل كل عصر. عندما تعيش داخل طراز أحد العصور، لا يمكن لأحد النظر إليك إلا من خلال ذلك الطراز"
"ولكن هل يوجد طراز لهذا العصر؟"
"هل تريد أن تقول إن طراز عصر ميجي يحتضر فقط؟ لا شك أننا داخل طراز معين. ولكن مَن يعيش داخل طراز ما، لا يمكنه مطلقا رؤية ذلك الطراز. مثل السمكة الذهبية، هي لا تعلم أنها تعيش داخل حوض سمك.
أنت تعيش في عالم المشاعر فقط. ويعتبرك الآخرون غريب الأطوار، وأنت نفسك تعتقد أنك تعيش مخلصا لفرديتك الذاتية. ولكن ما من برهان على فرديتك الذاتية تلك. ولا يمكن الاعتماد على شهادة من معاصريك. وربما يكون [عالم مشاعرك] يُظهر الشكل الأكثر نقاءً لطراز العصر. ... ولكن أيضا ما من برهان على ذلك"
"حسنا ما البرهان الذي تقصده؟"
"الزمن. إنه الزمن فقط. إن مرور الزمن هو الذي يعطي خُلاصة لي ولك ويدمج بقسوة العناصر المشتركة لنا مع العصر بدون وعي منا، ... ثم يمزجنا معا في القول التالي: [كان شباب بدايات عصر تايشو يفكرون بتلك الطريقة، ويرتدون مثل هذه الملابس. ويتحدثون بطريقة الكلام تلك]. أنت تكره لاعبي فريق الكِندو في المدرسة، أليس كذلك؟ وتمتلأ بمشاعر الرغبة في احتقارهم، أليس ذلك؟"
"بلى"
رد كيوأكي بهذا الشكل وهو يشعر بامتعاض بسبب البرودة التي بدأت تنفذ تدريجيا من خلال بنطلونه، وهو يتوقف بنظره على أوراق شجر الكاميليا المجاورة تماما لحافة التعريشة وهي تتألق في أشعة جذابة بعد أن انزلق الجليد الذي كان متراكما عليها.
"بلى، أنا أكرههم بشدة وأحتقرهم"
لم يندهش هوندا الآن وبعد كل ذلك من إجابة كيوأكي تلك عديمة الروح. فأكمل حديثه.
"حاول أن تتخيل أنه بعد عشرات السنين ستُدمج مع مَن تحتقرهم أنت أشد الاحتقار وتُعامَل بنفس التعامُل. أدمغتهم البلهاء، وقلوبهم الضيقة التي تكيل السباب للآخرين على أنهم ليّنون ضعفاء، وتحكّمهم في زملائهم الأحدث سنا منهم، وعبادتهم التي بها مس من الجنون للقائد نوغي، وأعصابهم التي تشعر بسعادة لا مثيل لها تجاه تنظيفهم المنطقة المحيطة بشجرة السَكاكي اليابانية المقدسة التي زرعها الإمبراطور ميجي بنفسه ... ستختصر كل تلك الصفات بعشوائية وتُعامل نفس تعامل [حياة المشاعر] الخاصة بك.
وكأن الحقيقة الشاملة للعصر الذي نعيش فيه نحن الآن يمكن الإمساك بها في سهولة ويُسر. وكأن الماء الذي ينثر الآن قد توقف نثره، وبرز على الفور على سطح الماء قوس قزح من الزيت في غاية الوضوح. حقا إنه كذلك. إن حقيقة عصرنا تنفصل بسهولة كبيرة بعد موتنا وتصير مفهومة بوضوح في عيون الجميع. ثم يُفهم ذلك الشيء الذي يُدعى [الحقيقة] بعد مئة عام، أنه فكرة مختلفة تمام الاختلاف، ويتم إجمالنا في مقولة: إنهم أناس عاشوا في عصر ما بأفكار خاطئة.
ما الذي تعتقد أنه معيار مثل هذه النظرة الشاملة؟ هل تعتقد أنه أفكار عباقرة ذلك العصر؟ أم تعتقد أنه أفكار العظماء؟ لا الأمر مختلف. فيما بعد سيتم وضع تعريف معيار لهذا العصر، عصرنا نحن ولاعبي الكِندو العامل المشترك بيننا بلا وعي منا، بمعنى إن الشيء الذي يُسمى العصر، يتم إجماله تحت مظلة الإيمان الأكثر عمومية ووسطية. أي الإيمان بإله غبي"
لم يفهم كيوأكي ما يحاول هوندا قوله. ولكن مع استماعه له، نما برعم التفكير تدريجيا داخل ذهنه.
لاحت بالفعل رؤوس عدد من الطلاب في نافذة الفصل في الطابق الثاني. وانعكست على زجاج النوافذ المغلقة للفصول الأخرى أشعة شمس الصباح الزاهية عاكسة صورة السماء الزرقاء. إنها المدرسة في الصباح. قارن كيوأكي ذلك بصباح الثلوج أمس، فأحس بشكل ما أن قلبه يُجذب بقوة من الاهتزازات الشهوانية المظلمة تلك، إلى حديقة النقاش العقلي الأبيض المشرق الحالية.
"إنه التاريخ"
قال كيوأكي ذلك، وهو يحاول اقتحام تفكير هوندا مع إحساسه بالتحسر على نفسه بسبب أنه في كل مرة يخوض نقاشا تبدو طريقة كلامه طفولية جدا مقارنة بهوندا.
"هل تقول إنه لا يمكننا تحريك التاريخ بناء على أفكارنا وأمنياتنا ومشاعرنا؟"
"نعم هو كذلك. إن الغربيين لديهم رغبة في التفكير أن إرادة نابليون مثلا قد غيرت التاريخ. أو أن أجدادك هم الذين خلقوا ثورة إصلاح ميجي.
ولكن تُرى هل الأمر كذلك؟ هل فعلا تحرك التاريخ تبعا لإرادة إنسان ولو لمرة واحدة في الزمان؟ أنا دائما أفكر في ذلك كلما أنظر إلى حالك. فأنت لست عبقريا ولا من العظماء. ورغم ذلك تملك صفة في غاية التفرد. وهي أنه تنقصك الإرادة بشكل مطلق. ثم أفكر في علاقتك أنت بصفتك تلك مع التاريخ، وأشعر باهتمام عميق تجاه ذلك"
"هل هذه سخرية؟"
"لا، ليست سخرية إطلاقا. فأنا أفكر في التدخل التاريخي المنعدم تماما لوجود إرادة. لنفترض مثلا أنني أملك إرادة ..."
"أنت تملك إرادة بشكل مؤكد"
"ولنفترض كذلك أنني أملك إرادة تغيير التاريخ. وأبذل كل جهدي مضحيا بحياتي ومستخدما كل ثروتي في جعل التاريخ ينحرف عن مساره طبقا لإرادتي. وكذلك أنني حاولت الحصول على المنصب والمرتبة الاجتماعية والسلطات التي تمكنني من ذلك ثم حصلت فعلا عليها جميعا. ولكن رغم ذلك ليس بالضرورة أن يستجيب التاريخ ويحوّل مساره حسب ما أريد.
بعد مئة أو مئتي عام، أو ثلاثمئة عام، ربما يأخذ التاريخ فجأة شكلا يطابق أحلامي ومثاليتي وإرادتي تماما، ولكن بدون أية علاقة بي. ربما يأخذ حقا الشكل الذي رأيته في أحلامي أنا قبل مئة أو مئتي عام. وكأنه ينظر إليَّ من علٍ ساخرا من إرادتي مع ابتسامة وبرود في شكل الجمال الذي أراه أنا فعلا في عيني جميلا.
ربما يقول الناس إن هذا هو التاريخ"
"ألا يكون الأمر مجرد فقط تيار المد؟ ألا يكون فقط أنه جاء الوقت أخيرا لتنضج الفرصة المواتية لذلك؟ لا نقول مئة عام، بل يحدث ذلك كثيرا حتى خلال ثلاثين عام وخمسين عام. لأن التاريخ عندما يتجه لأخذ ذلك الشكل، تموت إرادتك لمرة، ثم تصير خيطا مخفيا غير مرئي، وربما تنجز ذلك الإنشاء. إذا كنت لم تحصل على حياة في هذا العالم لمرة، فحتى لو انتظرت لعشرات الآلاف من السنين ربما لم يكن التاريخ ليأخذ هذا الشكل"
بفضل هوندا عرف كيوأكي هذا الاهتياج الذي يستطيع الإحساس به يشعل جسده بغزارة وسط الغابة الباردة لكلمات تجريدية لا يألفها بشكل ما. كان ذلك وحتى النهاية بالنسبة له متعة لم يقصدها، ولكن عند إلقاء النظر على ظلال الأشجار الذابلة التي تسقط طويلا على أحواض الزهور الثلجية، وعلى المناطق البيضاء الممتلئة بأصوات قطرات الماء المشرقة، أحس كيوأكي بالسرور لذلك القرار الحاسم الذي يشبه بياض ذلك الثلج ألا وهو تجاهل هوندا لشعور السعادة الفاتنة الملتهبة لذكريات كيوأكي أمس، رغم تخمينه لها. سقطت من فوق سطح مبنى المدرسة مساحة من الثلوج تساوي حوالي مساحة حصيرة واحدة من حصير التاتامي في شكل انهيار جليدي، فبرز قرميد السطح الأسود المبتل بالماء.
تابع هوندا كلامه قائلا:
"ثم عند ذلك الوقت، بعد مئة عام، عندما يأخذ التاريخ شكلا يوافق رغبتي تماما، هل يمكن أن تسمي أنت ذلك [إنجازا]؟"
"إنه إنجاز ولا شك في ذلك"
"حسنا، إنجاز لمن؟"
"لإرادتك أنت"
"لا تمزح! فأنا وقتها قد مت بالفعل. ألم أقل منذ قليل؟ إن ذلك أمر حدث دون أن علاقة بي بتاتا"
"ألا تعتقد أن ذلك إنجاز لإرادة التاريخ؟"
"وهل توجد إرادة للتاريخ؟ إن أنسنة التاريخ خطرة دائما. الذي أعتقده أنا أن التاريخ ليس له إرادة، وليس له أية علاقة بإرادتي أنا مطلقا. ولذلك فتلك النتيجة التي لم تولد من خلال أية إرادة لا يمكن تسميتها [إنجازا]. والبرهان على ذلك أن ما يشبهه لنا التاريخ في شكل إنجازات يبدأ في الانهيار في اللحظة التالية.
إن التاريخ في انهيار دائم، من أجل أن يستعد لبلورة العبث التالي. ويبدو أن تشكيل التاريخ وانهياره ليس له إلا نفس المعنى.
هذا الأمر مفهوم لي بمنتهى الوضوح. مفهوم ولكني خلافا لك، لا يمكنني الامتناع عن أن أكون إنسانا له إرادة. ربما ما نطلق عليه إرادة ليس إلا جزء من شخصيتي التي جُبلتُ عليها. لا يمكن لأحد أن يقول شيئا مؤكدًا. ولكن ربما يمكن القول إن إرادة البشر بشكل جوهري [هي الإرادة التي تحاول التدخل في التاريخ]. لا أقول إن تلك هي [إرادة التدخل في التاريخ]، فتدخل الإرادة في التاريخ أمر مستحيل تقريبا، بل هي فقط [تحاول التدخل في التاريخ]. وهذا مرة أخرى قدر مهيئ في الإرادة بجميع أنواعها. ولكن بالطبع الإرادة لا تحاول الاعتراف بأي نوع من الأقدار مطلقا.
ولكن إذا نظرنا على المدى الطويل، فإن كل إرادة للبشر تفشل. فالبشر وضعهم الدائم ألا تسير الأمور كما يشتهون. في ذلك الوقت، كيف يفكر الغربيون؟ يفكرون كما يلي: [إن إرادتي هي إرادة حقيقية والفشل مجرد صدفة]. إن الصدفة هي إلغاء لكل أنواع السببية، وهي الغائية اللاعقلانية الوحيدة التي يمكنها الاعتراف بالإرادة الحرة.
ولذلك كما أقول، لا يمكن أن تستقيم فلسفة الإرادة من المنظور الغربي دون الاعتراف [بالصدفة]. فالصدفة هي المهرب الأخير للإرادة، وهي مقامرة ذات مكسب وخسارة، ... بدون ذلك لا يمكن أن يفسر الغربيون توالي انكسارات وفشل الإرادة. وأنا أعتقد أن تلك الصدفة، تلك المقامرة هي بحق الجوهر الحقيقي لمعبود الغربيين. إذا كان الإله هو المهرب الأخير للإرادة الحرة كصدفة، فهو في نفس الوقت لديه القدرة على تحفيز إرادة البشر.
ولكن ماذا يحدث إذا أنكرنا تماما وجود الصدفة؟ ماذا يحدث إذا كان يمكن التفكير أنه لم يكن يوجد أي مساحة مطلقا لكي تعمل الصدفة؟ إذن، في هذه الحالة سيختفي تماما المهرب الأخير للإرادة الحرة بجميع أنواعها. وفي مكان لا وجود للصدفة به، ستفقد الإرادة العمود الأساسي التي تستند عليه.
يحسن التفكير في المشهد التالي:
في هذه الساحة تقف الإرادة بمفردها وحيدة في وضح النهار. وتتظاهر أنها تقف معتمدة تماما على قوتها الذاتية، وأيضا هي نفسها تنخدع بذلك الأمر. تنصّبُ أشعة الشمس بلا توقف، ولا يوجد أية أشجار ولا حشائش، ولا تملك الإرادة في هذه الساحة العملاقة إلا ظلها فقط.
وعندها تسمع الإرادة صوتا مثل الرعد يأتي من مكان ما في السماء الصافية التي لا يوجد بها سحابة واحدة:
[لقد ماتت الصدفة. لا يوجد ما يُسمى صدفة. أيتها الإرادة لقد فقدتِ إلى الأبد وسيلة الدفاع عن نفسك]
في لحظة سماع ذلك الصوت، تنهار الإرادة وتبدأ في الذوبان. يفسد لحمها ويسقط، وتظهر العظام تدريجيا، وينساب سائل الجسم المصلي الشفاف، وحتى تلك العظام تلين وتبدأ في الذوبان. تتشبث الإرادة بالوطء بقدميها على الأرض، ولكن تلك الجهود لا طائل لها.
تنشق السماء المفعمة بالأشعة البيضاء محدثة صوتا رهيبا، وذلك بالضبط هو الوقت الذي يظهر فيه وجه الإله الضرورة من فتحة ذلك الشق ...
... أنا لا أستطيع تخيل وجه ذلك الإله الضرورة الذي تكون رؤيته مرعبة ومؤلمة، إلا بهذا الشكل. ومن المؤكد أن تلك هي نقطة الضعف في شخصيتي التي تملك إرادة. ولكن إذا انعدمت الصدفة تماما، تكون الإرادة بلا معنى، ولا يزيد التاريخ عن كونه مجرد صدأ نبت على سلسلة كبيرة تخفي السببية أحيانا وتظهرها أحيانا، ويكون الشيء الوحيد الذي يتدخل في التاريخ هو عنصر بلا إرادة مثل قطرة واحدة جميلة متألقة لا تتبدل إلى الأبد، ومن المفترض أن وجود البشر ليس له معنى إلا في هذا الشكل. ولا يوجد افترض أنك أنت تعرف ذلك. ولا يوجد افتراض أنك تؤمن بتلك الفلسفة. على الأرجح أنت تؤمن بشكل مبهم {بلا شخصيتك} أكثر من إيمانك بجمالك أو مشاعرك المتغيرة أو ذاتك المتفردة أو شخصيتك. أليس كذلك؟"
لم يكن كيوأكي قادرًا على الرد، ولكنه لم يعتقد مطلقا أنه يُوجه إليه إهانة أو احتقار. ثم وبدون أن يكون بيده حيلة ابتسم.
"إن هذا هو أكبر لغز بالنسبة لي"
قال هوندا ذلك مع تسرب تنهيدة أسى مبجلة بدت وكأنها هزلية، ولكن نظر كيوأكي إلى تلك التنهيدة التي قد فاحت متحولة إلى بخار أبيض داخل شمس الصباح على أنها مظهر من مظاهر اهتمام صديقه به قد اتخذت شكلا ضئيلا. وقوي داخله إحساس سري وخفي بالسعادة.
عند ذلك الحد انطلقت دقات الجرس معلنة بداية الحصة الأولى من الدراسة، فنهض الشابان. ومن نافذة الطابق الثاني، قُذفت كرات الجليد المتجمدة التي تكومت في محيط النافذة، إلى موضع أقدامهما وهي ترفع رذاذا لامعا.

ليست هناك تعليقات: