بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 1 أبريل 2020

جحيم الوحدة تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي


جحيم الوحدة

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

لقد سمعتُ هذه الحكاية من أمي. وقتها قالت لي أمي إنها سمعتها من جدها الكبير. ولا أعلم مدى صحة تلك الحكاية.
ولكنني فقط أعتقد من خلال معرفتي بشخصية جدي الكبير وسلوكه، أن تلك الحكاية ممكنة الحدوث بشكل كبير.
كان جدي الكبير محبا للفن والفنانين، وله عدد كبير من الأصدقاء بين الأدباء والفنانين والمشاهير في نهاية عصر إيْدو. على سبيل المثال موكوامي كاواتاكيْه، وتانيكازو ريوكاتيْه، وإيْكي زِنزايان، وكذلك توئيه زنزايان، ودانجيرو العاشر، وشيبون أوجي، وسنتشو مياكو، وريوساي كِنْكونبو وغيرهم الكثير. ومن بينهم اتخذ موكوامي جدي الكبير ذلك نموذجا له عند كتابته شخصية بونزائيمون كينوكونيا في قصة "إيدوزاكورا كيوميزوسيغن". لقد مر خمسون عاما تقريبا على وفاته، ولكن أثناء حياته أُطلق عليه لفترة لقب إيماكيبون، ولذا حتى الآن ربما هناك من الناس من سمع باسمه فقط. كان لقب عائلته سايكي واسمه طوجيرو. واسمه الشعري كوي، واسم الشهرة تسوطو ياماشيروغاشي.
يوما ما تقرّب تسوطو هذا من أحد الرهبان في محل تامايا الكائن بحي يوشيهارا. كان اسم الراهب على ما سمعت زِنْتشو وهو الراهب المقيم بأحد معابد الزِنْ في منطقة هونغو. كان من زبائن تامايا الدائمين وعلى علاقة وثيقة بفتاة غيشا اسمها نيشيكيغي. ولأنه في ذلك العصر كان محرما على الرهبان أكل اللحم والزواج لذا فقد كان في العلن أنه خارج سلك الرهبان الرسمي. وكان يرتدي كيمونو أصفر من الحرير وفوق عباءة نصفية عليها شعار عائلته ويقول للناس إنه طبيب. ومن قبيل المصادفة تقارب تسوطو منه.
الصدفة تلك كانت في إحدى الليالي أثناء فترة إضاءة القناديل، في الطابق الثاني من محل تامايا أثناء عودة تسوطو من دورة المياه وهو يمشي في الممر شاردا، وجد رجلا يتأمل القمر وهو يستند على الدرابزين. رجل حليق الرأس يميل إلى القصر والنحافة. واعتقد تسوطو في ضوء القمر أن الطبّال تشيكوناي يتنكّر في زي الأطباء.
لذا عندما مر بجانبه مد يديه وشد أذنه قليلا. لأنه كان يفكر أن يضحك عليه عندما يلتفت للخلف مندهشا.
ولكن عند النظر إلى الوجه الذي التفت للخلف على العكس كان تسوطو هو الذي أصابته الدهشة. فلو استثنينا رأس الراهب الحليقة، لا يوجد أي شبه له بتشيكوناي. ورغم أن الطرف الآخر جبهته عريضة إلا أنه مقارنة بذلك المسافة بين كل حاجب وآخر قصيرة بشكل حاد. ولابد أن سقوط لحم الوجه جعل العيون تبدو واسعة. وحتى في ذلك الوقت ظهرت بوضوح الشامة السوداء الكبيرة التي على خده الأيسر. وكانت عظام الفك مرتفعة. دخلت ملامح ذلك الوجه فقط بعنف وكثرة وبشكل متقطع نظر تسوطو.
قال ذلك الراهب بصوت يبدو عليه الغضب: "ماذا تريد؟" وبدا أنه سكران.
لقد نسيتُ كتابة ذلك فيما سبق، ولكن كان يرافق تسوطو وقتها إحدى بنات الغيشا وأحد الطبّالين. ولم يكن من المقبول في هذه الحالة أن يتقبّل الاثنان أن يعتذر تسوطو. وهنا قام الطبّال بالاعتذار لذلك الزبون عن هذا الخطأ غير المقصود نيابة عن تسوطو. وهكذا أثناء ذلك اصطحب تسوطو الغيشا وعاد سريعا إلى المحل. وبدا أن الموقف كان سيئا حتى لرجل محب للفن مثل جدي الكبير. وعندما سمع الراهب تفاصيل الخطأ من الطبّال اعتدل مزاجه وضحك ضحكا طويلا. ولا داعي للقول إن ذلك الراهب كان زنتشو ذاته.
بعد ذلك أرسل تسوطو من يحمل آنية حلوى إلى الراهب للاعتذار له. وأحس الراهب هو الآخر بالشفقة فجاء خصيصا لشكره. وبعد ذلك توثقت بين الاثنين علاقة الصداقة. ولكن رغم قول توثقت العلاقة ولكن يبدو أنهما لم يتبادلا الزيارات بل فقط يلتقيان في الطابق الثاني من محل تامايا. لا يشرب تسوطو ولو قطرة واحدة من الساكي، ولكن على العكس كان زنتشو من كبار محبي الساكي. وبعد ذلك كان الحال أن زنتشو هو الذي غرق في الرفاهية والبذخ. وأيضا كما هو متوقع كان الذي غرق لأذنيه في عشق النساء بإفراط هو زنتشو. ونقد تسوطو ذلك الأمر قائلا إنه لا يدري من فيهما الراهب الزاهد. كان تسوطو ضخم الجثة دميم الملامح وبصلعته التي تصل إلى نصف رأسه وتميمة الحماية المتدلية بسلسلة فضية على صدره، يحب في المعتاد أن يرتدي كيمونو متواضع من خيطي القطن والتيل ويربطه بحزام محل شيروكي من الكتان الأبيض.
في أحد الأيام، قابل تسوطو الراهب زنتشو، وكان زنتشو يلتحف بعباءة نيشيكيغي ويعزف على آلة الشاميسن. كان عادة شاحب الوجه يبدو عليه المرض، ولكن كان ذلك اليوم بصفة خاصة صحته أسوء. وكانت عيناه حمراء بلون الدم. وأحيانا ما يرتعش جلد بشرته على مقربة من الفم الذي فقد مرونته. وعلى الفور فكر تسوطو أن شيئا ما يقلقه. وإذا كان يمكن لشخص مثلا أن يستقبل نصيحته فهو على أتم الاستعداد لذلك. هكذا جرب أن يبوح له بمثل تلك الكلمات، ولكن لا يبدو أن ثمة ما يصارحه به. ولكنه صار قليل الكلام على غير المعتاد، وبعد مرور قليل من الوقت كان يميل إلى عدم الكلام. وهنا فسر تسوطو الأمر على أنه الملل الذي كثيرا ما يصيب فجأة الشخص كثير اللهو. إن الملل الذي يصيب شخصا غرق في لذة الخمر كما يحلو له، لا يمكن أن يشفيه إلا لذة الخمر ذاتها. من مثل تلك الحالة تحدث الاثنان بحديث من القلب للقلب أكثر من المعتاد دائما. ويبدو أن زنتشو قال ما يلي وكأنه تذكر شيئا فجأة.
طبقا لتعاليم البوذية، ثمة أنواع مختلفة من الجحيم، ولكن في الأغلب أولا يقال إنه يمكننا تقسيم الجحيم إلى ثلاثة أنواع هم: جحيم المركز، وجحيم الجوار، وجحيم الوحدة. ومنذ قديم الأزل والمعتقد غالبا أن الجحيم تقع تحت الأرض، لأنه توجد جملة تقول: "الجحيم أي المكان الذي يقع على بعد خمسمئة يوجانا تحت قارة جامبودڤيپا الجنوبية. ولكن بين أنواع الجحيم الثلاثة، يظهر جحيم الوحدة فقط فجأة في مكان ما وسط السماء الواسعة بين الجبال وتحت الأشجار. بمعنى أن منظر العالم الذي أمام أعيننا حاليا يتحول كما هو فورا إلى عذاب الجحيم. لقد سقطتُ في تلك الجحيم منذ سنتين أو ثلاثة سنوات. أفقد دائما الاهتمام المتواصل تجاه أي شيء. ولذلك أعيش دائما أطارد الحدود من حد إلى حد. ومع ذلك لا أنجو من الجحيم. وعدم تغييري الحدود يجعلني أعاني أكثر وأكثر. وهنا أعيش الحياة متنقلا بين الحدود كل يوم لأنسى تلك المعاناة اليومية. ولكن إنْ أصبحت تلك المعيشة أيضا معاناة في النهاية، فليس أمامي إلا الموت. في الماضي كنت رغم المعاناة أكره الموت ولكن الآن ...
لم يسمع تسوطو آخر جملة. وذلك لأن زنتشو تكلم بصوت خفيض وهو يدَوْزِن ثانية آلة الشاميسن. ولم يأتِ زنتشو إلى محل تامايا بعدها مرة أخرى. وما من أحد يعرف ماذا حدث لراهب الزِنْ المسرف في الضلال هذا بعد ذلك. فقط في ذلك اليوم الذي غادر الراهب زنتشو مكان نيشيكيغي، نسي هناك كتاب سوشو من سوترا كونغوكيو. وبعد سنوات عندما ذهب عن تسوطو مجده واعتزل في منطقة ساموكاوا بمقاطعة شيموسا، كان الكتاب الموضوع دائما فوق مكتبه طوال الوقت كان هو كتاب سوشو هذا. وكتب تسوطو بخط يديه على الغلاف الخلفي للكتاب بيت من الشعر من تأليفه هو:
"عمر الأربعين سنة حيث تنتبه للندى والبنفسج"
ولكن فُقد ذلك الكتاب الآن. وربما لا يتذكر أحد حتى ذلك الشعر.
كان ذلك في العام الأول لعصر "أن سيه" [1857م]. حفظتْ أمي – كما ذكرت لي – تلك الحكاية بسبب اهتمامها بكلمة الجحيم.
أما أنا الذي كنتُ أعيش أغلب ساعات اليوم في غرفة المكتبة، فلو تحدثنا من ناحية المعيشة، كنتُ إنسانا يعيش في عالم لا علاقة مطلقا بجدي الكبير أو راهب الزِنْ ذلك. وحتى لو قلنا من منطلق الاهتمام فقط، فلم يكن لدي أي اهتمام خاص بالمسرحيات واللوحات الفنية لعصر عائلة توكوغاوا. ومع ذلك ومن خلال المشاعر التي أحملها داخلي تجعلني حكاية جحيم الوحدة تلك أشعر بالتعاطف قليلا مع حياتهم المعيشية. ولا أفكر في إنكار ذلك التعاطف. وإذا سُئلت عن السبب، فلأنني بمعنى من المعاني واحد من الذين يعانون من جحيم الوحدة.

(الشهر الثاني من العام الخامس لعصر تايشو [فبراير 1916])

ليست هناك تعليقات: