بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 15 أبريل 2020

الفصل الأول والثاني من رواية «الموسيقى» تأليف يوكيو ميشيما ترجمة ميسرة عفيفي



تمهيد من الناشر




هذا تقرير عن حالة مريضة ببرود جنسي كتبه الدكتور كازونوري شيومي ووضع له عنوانا باسم «الموسيقى». يعتمد التقرير على وقائع وسجلات حقيقية تماما مع إخفاء أسماء أبطالها الحقيقيين. ويُمثّل مدى إخلاص هذا الطبيب لروح البحث العلمي، ويوضح كذلك تفانيا نادر المثال لمحاولة إنسانية هادئة للتفكير ومحاسبة النفس. وبمجرد أن وصلت مخطوطة التقرير إلينا، لم نتردد في النشر مطلقا، إلا أنه ظهر رأي يقول إنه يجب قبل النشر لفت انتباه القرّاء مسبقا لنقطتين:
النقطة الأولى تتعلق بسياق الحديث عن الجنس عند المرأة في التقرير، ربما يُثير موقف الطبيب وتعامله المطلق بصفته عالِم دون أية مراعاة لذلك السياق، مشاعرَ غضبٍ واعتراضٍ، وخاصة من القارئات. لو كان ذلك التقرير عملا أدبيا، فلا خوف من أن يُعامل الجنس على أنه أمر موضوعي إلى هذا الحد، ولكن من المعتاد أن يتخفى بغض النظر عن صحة ذلك أو خطأه وراء حجاب من الزخرفة لإثارة خيال القرّاء، ولكن يفتقر هذا التقرير مثل تلك المراعاة، ربما تظهر وسط الكلام زخرفة باستخدام أسطورة من الأساطير الرمزية للجنس، وهي صادرة جميعها من تأثر الكاتب بأوهام المريضة.
والنقطة الثانية، أن محتوى تقرير الطبيب ينحرف انحرافا شديدا عن المنطق السليم، ويبعد تماما عن الحياة العاطفية للمرأة الطبيعية، مما يدعو إلى الخوف أن يُعد التقرير بأكمله عملا مختلقا غير قابل للتصديق. ولكن لا مفر لدينا من الإقرار على كره منا أن هذا التقرير كله يعتمد على حقائق واقعية، وإن اعترفنا بذلك، فلا مفر من الإقرار بعمق واتساع الجنس الذي لا يعرف له قاع أو حدود عند البشر. ولا يقتصر ذلك على ما يُسعِد القلب دائما، بل هو يمثل غابة من غابات الأساطير، إذا ظهر فيها أي نوع من أنواع الوحوش المخيفة فلن يستدعي ذلك اندهاش أحد أو تعجبه، وليس من يختزن ذلك داخل قلبه أنثى واحدة هي ريْكو بطلة هذا العمل، بل كل أنثى من القرّاء هي كذلك حقا.






الموسيقى


دراسة حالة لمصابة ببرود جنسي
من خلال طريقة التحليل النفسي


كتب التقرير: كازونوري شيومي






1


مرت خمس سنوات سريعا منذ أن افتتحتُ عيادة في الطابق الرابع بإحدى مباني منطقة هيبيا. ولقد تعودتْ الأعين والآذان تدريجيا على وظيفة المحلل النفسي التي لم يكن يعرفها في البداية إلا القليل، مع ذلك لا يجب بالطبع مقارنة الوضع في اليابان بالوضع المزدهر في أمريكا. إن قدرتي على تدبير عيشي ودفع إيجار باهظ الثمن وسط العاصمة، لهو أمر يدعو للسرور، ليس من أجلي فقط، ولكن من أجل مهنة التحليل النفسي عامة.
وأعتقدُ أن سبب النجاح الأول في ذلك، هو افتتاح عيادة في وسط العاصمة، مع خلق بيئة تساعد أي شخص أن يدخل العيادة بسهولة، وأن يستشير عن حالته استشارة سريعة. وحاليا ليس من النادر أن يزور العيادة فجأة وبدون موعد (مع الإقرار بالصراع النفسي)، موظفون وموظفات في طريق عودتهم من العمل، ببساطة وبدون تكلف، مثل من يذهب لقارئي الكف.
وكان واضحا وضوح الشمس أن زيادة عدد المرضى باضطراد، كان نتيجة تطور المجتمع بدرجة عالية، فالإنسان يُعامل معاملة الترس الذي يُركّب في آلة عملاقة، ولا يُسمح له بمقاومة. وأعتقد أن ذلك كان سببا كافيا لزيادة أعراض العُصاب أكثر وأكثر في اليابانيين، وخاصة من يسكن في المدن الكبرى، حتى وإنْ انعدم الصراع مع الضمير البيوريتاني المتأزم، كما الحال مع الأمريكيين.
ولذلك كما ذكرت منذ قليل فمن بين مرضاي موظفين وموظفات، ومنهم نادلات الحانات وربات البيوت ذوات الوقت الفارغ الطويل، ومنهم منتجو برامج تلفزيونية ولاعبو كرة البيسبول المحترف. ولن أكون مبالغا إذا قلت إنَّ المرضى يغطون جميع الوظائف الرائدة في العصر الحالي.
منهم من يأتي عبر مريض آخر، ومنهم من يأتي بتوصية من زملائي الأطباء. وفي كل الأحوال، يُعد انعدام شعور الْخِزْي والعار للعائلة كلها من تردد أحد أفرادها على مستشفى للأمراض النفسية، الموجود منذ القدم، تطورا كبيرا. ومع ذلك، يختلف الأمر بالتأكيد عن الذهاب إلى طبيب الأسنان، ويبدي الأغلبية خجلا من أعين الناس. ولكن الاتجاه الجديد مؤخرا، وما أعاني منه شخصيا هو كثرة عدد المرضى الذين يزورون عيادتي من أجل إرضاء ما يجب وصفه بمرض الاستعراض النفسي وعادة الاعتراف بلا داعي، وخاصة من النساء.
كنتُ أحصل على الأجر الكافي طبقا لما تقتضيه القواعد من أي مريض كان. وفي الواقع يُعدّ هذا جزءا من العلاج بالتحليل النفسي. فأنا أستهدف ضبط وتنظيم الحالة النفسية للمريض باستخدام وظيفة المال في اللاوعي. أتجنب أخذ التكاليف مرة واحدة قبل العلاج أو بعده، ووضعت قاعدة لدفع الأجرة بعد نهاية كل جلسة على حدة، عبر الدفع مباشرة للمعالج النفسي يدا بيد، وهو ما علّمني إياه أستاذي البروفيسور (ف)[1].
وإن قيل لي: «أعطنا مثالا من بين هذا العدد الكبير من المرضى، ترك انطباعا لا ينمحي من ذاكرتك» مع وجود أنواع متعددة من المرضى أصحاب المرض العضال، ومع وجود مرضى يشكون من أعراض غريبة، لا أَجِد مفرا من ذكر ريْكو يوميكاوا في البداية.
فعندما زارت عيادتي، لم تكن تشتكي، كما سأذكر فيما بعد، من مشكلة مخيفة. ولكنها جعلتني في النهاية أرتعد رعبا من غرابة روح الإنسان وجسده.
لقد تعاملت في عملي بالتحليل النفسي مع حالات متنوعة، وكنت أظن أن تراكم خبراتي وتدريبي لن يجعلني أندهش من أي حالة. ولكن كلما ازدادت معرفتي أجد أن عالم الجنس عند البشر عالم واسع لا حدود له، ويتعمق إحساسي بأنه ليس عاديا ولا يسري على نمط واحد. ففي عالم الجنس ما من سعادة واحدة تناسب جميع البشر. وأريد من القرّاء التأكد من وضوح ذلك الأمر في ذهنهم عند قراءة هذا التقرير.


2


صُممت جميع غرف التحليل النفسي الثلاثة الموجودة في عيادتي بجدران بحيث تمنع تسرب الصوت منعا صارما. ولكيلا يعيق تتبع المرضى الطبيعي لذاكرتهم من خلال محفّز غير مرغوب فيه، لم أزين أي منها بمزهرية واحدة أو لوحة. وبديلا عن ذلك جعلتُ غرفة الانتظار تعطي الزوار شعورا بأكثر أنواع الراحة قدر الإمكان، بنوافذها الواسعة جدا والتناسق بين ألوان الجدران والمقاعد المريحة، وجمّعتُ في رفوف المجلات جميع المجلات المصورة من الشرق والغرب وحرصتُ على ألا تنقطع الورود والزهور من المزهريات. وحدث عندما وضعت زهور الأقحوان في غرفة الانتظار أن أكلها أحد المرضى بعد أن غضب من طول فترة الانتظار، ولكن ذلك استثناء نادر حتى بين الاستثناءات ذاتها.
ذكرني موقف الأقحوان هذا أن الصباح الذي جاءت فيه ريْكو يوميكاوا لأول مرة كانت مزهرية غرفة الانتظار تتزين بزهور الأقحوان أيضا، فلا شك أنه كان صباح يوم خريفي مشمس.
حجزتْ ريْكو موعدا بالهاتف في اليوم السابق، وكانت أول زائر في ذلك اليوم. والانطباع الذي أخذته عنها من مكالمة الهاتف أمس أن صوتها منخفض قليلا، وبه نضارة محببة للنفس، ولاحظتُ في نبرة صوتها قلقا إلى حد ما، ولكنها أعطت لي انطباعا بأنها طبيعية. ولقد كانت تحمل معها خطابا يُعرّف بحالتها من أحد أصدقائي القدامى وهو طبيب باطنة بإحدى المستشفيات. وعند النظر إلى حالتها من عدة نقاط بدا لي أنها ليس بها مشكلة عويصة.
في ذلك الصباح وصلتُ إلى عيادتي، وألقيتُ تحية على المساعد كوداما والممرضة ياماؤتشي ثم ارتديتُ المعطف الأبيض، فجاء موعد ريْكو يوميكاوا سريعا. دخلتْ العيادة متأخرة سبع دقائق تقريبا وهي ترتدي معطفا بلون أحمر فاقع. وإلى حدٍ ما يُخفي تفضيلها لهذا اللون الذي يلفت أنظار الناس إليها، معنى نفسيا.
أذهلني جمالها، عمرها بين 24 و25 عاما، ومقابل المعطف الأحمر فاقع اللون، كانت مساحيق وجهها راقية وغير ملفتة وأعتقد أن سبب ذلك هو ثقتها الشديدة بجمال تقاطيع وجهها الأصلية.
ملامح وجهها متناسقة، ولكنها تخلو من برودة التناسق. أنفها الجيد يجعل وجهها الجانبي جميلا ولكن لم تكن أنفا مفرطة في النتوء مطلقا، وتحمل لطافة بدرجة مناسبة. ومع اكتناز شفتيها كان فكها دقيقا ورقيقا ويبدو رهيفا وحساسا. لا يُرى في عيناها الصافيتين وحركتهما غرابة أو شذوذ.
ولكن عندما خرجتُ لاستقبالها وإلقاء التحية عليها، كان واضحا أنها تحاول أن تُظهر على وجهها ابتسامة مشرقة، ولكن في تلك اللحظة ذاتها، جرت في خدها رجفة (tic).
رأيت تلك الرعشة في الوجه على الفور، وهي بدون أدنى شك بوادر الهستيريا ولكنني تعمدت إظهار عدم رؤيتي لها. ولم تكن رجفة شديدة بل مجرد رعشة مرتين أو ثلاث مرات مثل تموجات ضئيلة.
وعرفتُ فورا ما في داخل قلب ريْكو من اضطراب. فمع أنني ظننتُ أنني أتقنتُ التظاهر بعكس ذلك لإلا أنها استشفّتْ سريعا رؤيتي لتلك الرجفة. ربما كان تشبيها وقحا، ولكن كانت ريْكو في تلك اللحظة تشبه الجميلة التي اكتُشِف بنظرة سريعة أنها الثعلب المتنكر.
لا يتناسب مطلقا هذا الخيال الوهمي الذي طرأ على ذهني، مع غرفة الانتظار التي ينبهر بها كل من يراها متيقنا أنها عيادة حديثة جدا، ولا يتناسب أيضا مع المكاتب والمسارح والفنادق المتراصة في طريق آواخر هذا الخريف المشرق كأسنان المشط خارج النافذة.
أدخلتها غرفة التحليل النفسي، وبعد أن أقنعتها تماما أنه لا قلق من أن يراها أو يسمعها أحد، عرضتُ عليها الجلوس على المقعد المريح الذي يمكن من خلال ضبطه أن يصبح أريكة صالحة للنوم، وأما أنا فقد جلست على مقعد صغير، وأمامي المفكرة التي فوق مكتبي وتظاهرت أنني لا أنوي وضع أهمية مطلقا لتلك المفكرة.
بدأتْ بعد أن أصبحنا بمفردنا في شرح حالتها بصوت مريح للنفس فقالت:
«منذ بداية هذا الصيف، فقدتُ شهيتي للطعام نوعا ما، وفكرتُ أنه لا حيلة في ذلك بسبب الصيف، ثم تحول الأمر تدريجيا إلى الإصابة بالغثيان والرغبة في القيء. لم يحدث مرة واحدة فقط، ولكن عندما تأتيني تلك الرغبة مرة، تستمر مرة بعد مرة بإلحاح شديد، لذا اشتريت دواء للمعدة مما يباع في الأسواق وتناولته ولكنه لم يأت بنتيجة. وعند هذا الحد انتبهتُ إلى أمر فجأة فأصابني الرعب»
توقفت ريْكو عن الكلام وهي تبلل شفتها العليا بطرف لسانها الذي جعلته مدببا صلدا.
«فكرتُ: ألا يكون السبب هو الحمل؟»
فسألتها دون تردد: «وهذا يعني وجود سبب لهذا الشك، أليس كذلك؟»
«بلى»
هذه المرة أجابت ريْكو بجراءة بل على العكس بنبرة فخر ثم أضافت:
«... سوف أتحدث عن ذلك فيما بعد بالترتيب. ولهذا السبب ذهبتُ إلى الطبيب، فأخبرني أنه لم يعثر على مؤشر للحمل، وحوّلني على الطبيب (ر) أخصائي الباطنة، وبعد أن أجريت عنده فحوصات متنوعة، لم يصل إلى نتيجة، وبناء على ما شرحت له من أعراض حوّلني هذه المرة إليك»
ثم بدأت ريْكو تحكي قصة حياتها منذ نشأتها دون أن تُسئل عنها، وحرصتُ على أن أترك لها المجال تحكي ما تريد دون أن أقاطعها. وكان محتوى حديثها كما يلي: عائلة يوميكاوا، عائلة شهيرة من أثرياء مدينة قوفو ويمثل والدها الجيل السابع عشر في سلالة العائلة، ولكن بعد أن تخرجت ريْكو في مدرسة ثانوية للبنات في المدينة، وبرغبة شديدة منها واصلت الدراسة في جامعة (س) للبنات في طوكيو وأقامت في بيت الطالبات التابع للجامعة. ومع أنها وعدت والديها بالعودة مباشرة إلى بيت العائلة بعد تخرجها، إلَّا أنَّها رفضت بعناد العودة إلى بلدتها، لأنها تكره خطيبها (وهو قريب لها من نفس العائلة) والمقرر زواجهما منذ كانا أطفالا، واستطاعت إقناع والدها بضرورة الاستمرار في دراسة المجتمع والحياة من خلال العمل بوظيفة إدارية في شركة كبرى للاستيراد والتصدير. ومر عامان على ذلك، ولكن لأنها إن عادت إلى بلدتها لا ينتظرها إلا الزواج من خطيبها الذي تكره، فهي ما زالت تمدد إقامتها هنا حتى الآن، وتعيش في شقة بمفردها كما يحلو لها، ويحرص والدها، الذي يكتفي بإبداء غضبه بالكلام فقط، على عدم التأخر في تحويلاته المالية الكبيرة إليها. هذا هو وضعها الحالي.
أي أنها تعيش حياة جيدة ولا تأمل في حياة أفضل منها. تستخدم مرتب الشركة في مصاريفها اليومية وليس عليها واجب إرسال دعم مالي لأهلها في بلدتها، بل هم الذين يرسلون إليها تكاليف معيشتها المرهفة. على ما يبدو أن والدها لم يستطع التخلي تماما عن فكرة أن حصولها على حياة مترفة قادر على حمياتها من الوقوع في الخطإ.
... ولكن بعد أن دخل الخريف إضافة إلى فقدان الشهية والغثيان، بدأت الرجفة التي ظهرت عليها منذ قليل، تهاجمها.
«إنه أمر غريب جدا! وكأن وجهي يتحرك من نفسه حتى قبل أن أنتبه أنا إلى ذلك»
إن هذا تعبير نفسي ماهر جدا ويبرهن على قدراتها العقلية والمعرفية الجيدة، ولكن أثناء قولها هذا أيضا سرت الرجفة على وجهها. أحسستُ وكأن ريْكو تغمز لي بعينها لأنها في محاولتها لمقاومة الرجفة ظلت تحافظ على ابتسامة جامدة. وهكذا كلما حاولتْ أن تتفادى حدوث تلك الرجفة، كانت تحدث رغما عنها. وتلك هي مشاكسة الإرادة العكسية للهيستريا التقليدية.
وأثناء ذلك بدأت ريْكو فجأة في قول أمر مبهم وغامض تماما:
«ما السبب يا دكتور؟ إنني لا أستطيع سماع الموسيقى!»






[1] يُعتقد أن المؤلف هنا يشير إلى العالم النمساوي سيغموند فرويد (1856 ~ 1939) رائد علم التحليل النفسي، انظر الهامش الأول في آخر صفحة من الرواية / المترجم

ليست هناك تعليقات: